البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

وتعديد هذه النعم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب ، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم. وكان الكفار أيضا يعيرون المؤمنين بالفقر ، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) : أي مع الضيق فرجا. ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر. ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان ، جعل كأنه معه ، وفي ذلك تبشيرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحصول اليسر عاجلا. والظاهر أن التكرار للتوكيد ، كما قلنا. وقيل : تكرر اليسر باعتبار المحل ، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة. وقيل : مع كل عسر يسر ، إن من حيث أن العسر معرف بالعهد ، واليسر منكر ، فالأول غير الثاني. وفي الحديث : «لن يغلب عسر يسرين». وضم سين العسر ويسرا فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى ، وسكنهما الجمهور.

ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعده بتيسير ما عسره ، أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر. وقال ابن مسعود : (فَإِذا فَرَغْتَ) من فرضك ، (فَانْصَبْ) في التنفل عبادة لربك. وقال أيضا : (فَانْصَبْ) في قيام الليل. وقال مجاهد : قال (فَإِذا فَرَغْتَ) من شغل دنياك ، (فَانْصَبْ) في عبادة ربك. وقال ابن عباس وقتادة : (فَإِذا فَرَغْتَ) من الصلاة ، (فَانْصَبْ) في الدعاء. وقال الحسن : (فَإِذا فَرَغْتَ) من الجهاد ، (فَانْصَبْ) في العبادة. ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة. وقرأ الجمهور : (فَرَغْتَ) بفتح الراء ؛ وأبو السمال : بكسرها ، وهي لغة. قال الزمخشري : ليست بفصيحة. وقرأ الجمهور : (فَانْصَبْ) بسكون الباء خفيفة ، وقوم : بشدها مفتوحة من الأنصاب. وقرأ آخرون من الإمامية : فانصب بكسر الصاد بمعنى : إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة. قال ابن عطية : وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم ، انتهى. وقرأ الجمهور : (فَارْغَبْ) ، أمر من رغب ثلاثيا : أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة : فرغت ، أمر من رغب بشد الغين.

٥٠١

سورة التّين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)

التين : هو الفاكهة المعروفة ، واسم جبل ، وتأتي أقوال المفسرين فيه.

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ، فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ).

هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة : مدنية. ولما ذكر فيما قبلها من كمله الله خلقا وخلقا وفضله على سائر العالم ، ذكر هنا حالة من يعاديه ، وأنه يرده أسفل سافلين في الدنيا والآخرة ، وأقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق ، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة. والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم ، وفي الحديث : «مدح التين وأنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» ، وقال تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) (١) ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي. وقال كعب وعكرمة : أقسم تعالى بمنابتهما ، فإن التين ينبت كثيرا بدمشق ، والزيتون بإيليا ، فأقسم بالأرضين. وقال قتادة : هما جبلان

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٠.

٥٠٢

بالشام ، على أحدهما دمشق وعلى الآخر بيت المقدس ، انتهى. وفي شعر النابغة ذكر التين وشرح بأنه جبل مستطيل. قال النابغة :

صهب الظلال أبين التين عن عرض

يزجين غيما قليلا ماؤه شبها

وقيل : هما مسجدان ، واضطربوا في مواضعهما اضطرابا كثيرا ضربنا عن ذلك صفحا. ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام ، وهو الذي كلم الله تعالى موسى عليه‌السلام عليه. ومعنى (سِينِينَ) : ذو الشجر. وقال عكرمة : حسن مبارك. وقرأ الجمهور : (سِينِينَ) ؛ وابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء : بفتح السين ، وهي لغة بكر وتميم. قال الزمخشري : ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب ، انتهى. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن : سيناء بكسر السين والمد ؛ وعمر أيضا وزيد بن علي : بفتحها والمد ، وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب. وقال الأخفش : سينين : شجر واحده سينينة.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : هو مكة ، وأمين للمبالغة ، أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان ، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين ، وأمانته حفظه من دخله ولا ما فيه من طير وحيوان ، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين ، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل. كما وصف بالآمن في قوله : (حَرَماً آمِناً) (١) بمعنى ذي أمن. ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين. فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه‌السلام ومولد عيسى ومنشأه ، والطور هو المكان الذي نودي عليه موسى عليه‌السلام ، ومكة مكان مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين. (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، قال النخعي ومجاهد وقتادة : حسن صورته وحواسه. وقيل : انتصاب قامته. وقال أبو بكر بن طاهر : عقله وإدراكه زيناه بالتمييز. وقال عكرمة : شبابه وقوته ، والأولى العموم في كل ما هو أحسن. والإنسان هنا اسم جنس ، وأحسن صفة لمحذوف ، أي في تقويم أحسن.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ، قال عكرمة والضحاك والنخعي : بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئا. أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥٧.

٥٠٣

منقطع ، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا ، بل في الجنس من يعتريه ذلك. وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضا : (أَسْفَلَ سافِلِينَ) في النار على كفره ، ثم استثنى استثناء متصلا. وقرأ الجمهور : سافلين منكرا ؛ وعبد الله : السافلين معرفا بالألف واللام. وأخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتقاء ألفاظه فقال : في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه ، ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية ، إذ رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا ، يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار. وأسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل ، حيث نكسناه في خلقه ، فقوس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن جلده وكان بضا ، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين ، وتغير كل شيء فيه ، فمشيه دلف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف ،. انتهى ، وفيه تكثير. وعلى أن ذلك الرد هو إلى الهرم ، فالمعنى : ولكن الصالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم. وفي الحديث : «إذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة» ، وفيه أيضا : «أن المؤمن إذا رد لأرذل العمر كتب له ما كان يعمل في قوته» ، وذلك أجر غير ممنون وممنوع مقطوع ، أي محسوب يمن به عليهم. والخطاب في (فَما يُكَذِّبُكَ) للإنسان الكافر ، قاله الجمهور ، أي ما الذي يكذبك ، أي يجعلك مكذبا بالدين تجعل لله أندادا وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل؟ وقال قتادة والأخفش والفراء : قال الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي توجب النظر فيها صحة ما قلت. (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) : وعيد للكفار وإخبار بعد له تعالى.

٥٠٤

سورة العلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)

السفع ، قال المبرد : الجذب بشدة ، وسفع بناصية فرسه : جدب ، قال عمرو بن معد يكرب :

قوم إذا كثر الصياح رأيتهم

من بين ملجم مهره أو سافع

وقال مؤرج : معناه الأخذ بلغة قريش ، النادي والندى : المجلس ، ومنه قول الأعرابية : سيد ناديه وثمال عافيه ، وقال زهير :

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

الزبانية : ملائكة العذاب ، فقيل : جمع لا واحد له من لفظه ، كعباديد. وقيل : واحدهم زبنية على وزن حدرية وعفرية ، قاله أبو عبيدة. وقال الكسائي : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ثم غير للنسب ، كقولهم : أنسي وأصله زباني. قال عيسى بن عمر والأخفش : واحدهم زابن ، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه ، ومنه قول الشاعر :

٥٠٥

ومستعجب مما يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم

وقال عتبة بن أبي سفيان : وقد زنبتنا الحرب وزبناها.

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ، إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ، عَبْداً إِذا صَلَّى ، أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى ، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ، كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).

هذه السورة مكية ، وصدرها أول ما نزل من القرآن ، وذلك في غار حراء على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره. وقول جابر : أول ما نزل المدثر. وقول أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل : أول ما نزل الفاتحة لا يصح. وقال الزمخشري ، عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت ، وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم ، انتهى. ولما ذكر فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك ، ذكره هنا منبها على شيء من أطواره ، وذكر نعمته عليه ، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك وما يؤول إليه حاله في الآخرة.

وقرأ الجمهور : (اقْرَأْ) بهمزة ساكنة ؛ والأعشى ، عن أبي بكر ، عن عاصم : بحذفها ، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول : قرأ يقرا ، كسعى يسعى. فلما أمر منه قيل : أقر بحذف الألف ، كما تقول : اسع ، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة ، ومفعول اقرأ محذوف ، أي اقرأ ما يوحى إليك. وقيل : (بِاسْمِ رَبِّكَ) هو المفعول وهو المأمور بقراءته ، كما تقول : اقرأ الحمد لله. وقيل : المعنى اقرأ في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرّحمن الرحيم. وقال الأخفش : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم الله ، كما قالوا في قوله : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ) (١) ، أي على اسم الله. وقيل : المعنى اقرأ القرآن مبتدئا باسم ربك. وقال الزمخشري : محل باسم ربك النصب على الحال ، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك ، قل بسم الله ثم اقرأ ، انتهى. وهذا قاله قتادة. المعنى : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحا باسم ربك. وقال أبو عبيدة : الباء صلة ، والمعنى اذكر ربك. وقال أيضا : الاسم صلة ، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه. وجاء باسم

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤.

٥٠٦

ربك ، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك. وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس ، أي ليس لك رب غيره. ثم جاء بصفة الخالق ، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أربا. أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها ، ولم يذكر متعلق الخلق أولا ، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق ، فاقتصر أو حذف ، إذ معناه خلق كل شيء.

ثم ذكر خلق الإنسان ، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه ، وهو أشرف. قال الزمخشري : أشرف ما على الأرض ، وفيه دسيسة أن الملك أشرف. وقال : ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان ، كما قال : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ) (١) ؛ فقيل : الذي خلق مبهما ، ثم فسره بقوله : خلق تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته ، انتهى. والإنسان هنا اسم جنس ، والعلق جمع علقة ، فلذلك جاء من علق ، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به ، ولم يذكر أصلهم آدم ، لأنه ليس متقررا عند الكفار فيسبق الفرع ، وترك أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم.

ثم جاء الأمر ثانيا تأنيسا له ، كأنه قيل : امض لما أمرت به ، وربك ليس مثل هذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص. والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم ، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى ، ويحلم على الجاني ، ويقبل التوبة ، ويتجاوز عن السيئة. وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال : (الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به. ولبعضهم في الأقلام :

ورواقم رقش كمثل أراقم

قطف الخطا نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجد مسيرها

إلا إذا لعبت بها بيض المدى

انتهى. من كلام الزمخشري. ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ١ ـ ٣.

٥٠٧

صفة لله تعالى : الأكرم ، والرشيد ، وفخر السعداء ، وسعيد السعداء ، والشيخ الرشيد ، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها. يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال ، ومفعولا علم محذوفان ، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى. وقدر بعضهم (الَّذِي عَلَّمَ) الخط ، (بِالْقَلَمِ) : وهي قراءة تعزى لابن الزبير ، وهي عندي على سبيل التفسير ، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف. والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم. وقال الضحاك : إدريس ، وقيل : آدم لأنه أول من كتب. والإنسان في قوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ) ، الظاهر أنه اسم الجنس. عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها وقيل : الرسول عليه الصلاة والسلام.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) : نزلت بعد مدة في أبي جهل ، ناصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العداوة ، ونهاه عن الصلاة في المسجد ؛ فروي أنه قال : لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه. فيروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رد عليه وانتهره وتوعده ، فقال أبو جهل : أيتوعدني محمد! والله ما بالوادي أعظم ناديا مني. ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة ، فكف عنه. (كَلَّا) : ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) : أي يجاوز الحد ، (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) : الفاعل ضمير الإنسان ، وضمير المفعول عائد عليه أيضا ، ورأى هنا من رؤية القلب ، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول : رأيتني صديقك ، وفقد وعدم بخلاف غيرها ، فلا يجوز : زيد ضربه ، وهما ضميرا زيد. وقرأ الجمهور : (أَنْ رَآهُ) بألف بعد الهمزة ، وهي لام الفعل ؛ وقيل : بخلاف عنه بحذف الألف ، وهي رواية ابن مجاهد عنه ، قال : وهو غلط لا يجوز ، وينبغي أن لا يغلطه ، بل يتطلب له وجها ، وقد حذفت الألف في نحو من هذا ، قال :

وصاني العجاج فيما وصني

يريد : وصاني ، فاحذف الألف ، وهي لام الفعل ، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم : أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة ، وهو حذف لا ينقاس ؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله ، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها. (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) : أي الرجوع ، مصدر على وزن فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وفيه وعيد للطاغي المستغني ، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه. (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ، عَبْداً إِذا صَلَّى) : تقدم أنه أبو جهل. قال ابن عطية : ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل ، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٥٠٨

انتهى. وفي الكشاف ، وقال الحسن : هو أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة. وقال التبريزي : المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر. قيل : هي أول جماعة أقيمت في الإسلام ، كان معه أبوبكر وعليّ وجماعة من السابقين ، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر ، فقال له : صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورا ، وأنشأ أبو طالب يقول :

إن عليا وجعفرا ثقتي

عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا

يخذله من يكون من حسبي

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما

أخي لأمّي من بينهم وأبي

ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. والخطاب في (أَرَأَيْتَ) الظاهر أنه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا (أَرَأَيْتَ) الثاني ، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم. وقيل : (أَرَأَيْتَ) خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال : أرأيت يا كافر ، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمرا بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك؟ والضمير في (إِنْ كانَ) ، وفي (إِنْ كَذَّبَ) عائد على الناهي. قال الزمخشري : ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، وكان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح ، كما نقول نحن.

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة ، فيجازيه على حسب ذلك ، وهذا وعيد ، انتهى. وقال ابن عطية : الضمير في (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) عائد على المصلي ، وقاله الفراء وغيره. قال الفراء : المعنى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) ، وهو على الهدى وآمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الذكر ، أي فما أعجب هذا! ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله؟ فهذا تقرير وتوبيخ ، انتهى. وقال : من جعل الضمير في (إِنْ كانَ) عائدا على المصلي ، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى ، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمران : الصلاة والدعاء إلى الله تعالى ، ولأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يوجد إلا في أمرين : إصلاح نفسه بفعل الصلاة ، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى. وقال ابن عطية : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) : إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها ، يجاء بها في نسق. ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصارا واقتضابا ، ومع كل تقرير تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها ، وألم يعلم دال عليها مغن.

٥٠٩

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما متعلق (أَرَأَيْتَ)؟ قلت : (الَّذِي يَنْهى) مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين. فإن قلت : فأين جواب الشرط؟ قلت : هو محذوف تقديره : (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) ، (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. فإن قلت : فكيف صح أن يكون (أَلَمْ يَعْلَمْ) جوابا للشرط؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت : فما (أَرَأَيْتَ) الثانية وتوسطها بين مفعولي (أَرَأَيْتَ)؟ قلت : هي زائدة مكررة للتوكيد ، انتهى.

وقد تكلمنا على أحكام (أَرَأَيْتَ) بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام ، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل. وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه ، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد ، والموصول هو الآخر ، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية ، كقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ، وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) (١) ، (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) (٢) ، (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) (٣) ، وهو كثير في القرآن ، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون ، ويجعل مفعول (أَرَأَيْتَ) الأولى هو الموصول ، وجاء بعده (أَرَأَيْتَ) ، وهي تطلب مفعولين ، وأ رأيت الثانية كذلك ؛ فمفعول (أَرَأَيْتَ) الثانية والثالثة محذوف يعود على (الَّذِي يَنْهى) فيهما ، أو على (عَبْداً) في الثانية ، وعلى (الَّذِي يَنْهى) في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير ، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب ، فنقول : حذف المفعول الثاني لأرأيت ، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه. حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه. وحذفا معا لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول ، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر. وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع ، لا ، الجمل لا يصح إضمارها ، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع. وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط بغير فاء ، فلا أعلم أحدا أجازه ، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر.

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٣٣ ـ ٣٥.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٥٨ ـ ٥٩.

٥١٠

(كَلَّا) : ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عن ما هو فيه ، وعيد شديد (لَنَسْفَعاً) : أي لنأخذن ، (بِالنَّاصِيَةِ) : وعبر بها عن جميع الشخص ، أي سحبا إلى النار لقوله : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (١) ، واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة ، إذ علم أنها ناصية الناهي. وقرأ الجمهور : بالنون الخفيفة ، وكتبت بالألف باعتبار الوقف ، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفا ، وكثر ذلك حتى صارت رويا ، فكتبت ألفا كقوله :

ومهما تشأ منه فزارة تمنعا

وقال آخر :

بحسبه الجاهل ما لم يعلما

ومحبوب وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : بالنون الشديدة. وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس ، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد. وقال التبريزي : قيل : أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد ، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة. وقرأ الجمهور : (ناصِيَةٍ ، كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) ، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة. قال الزمخشري : لأنها وصفت فاستقلت بفائدة ، انتهى. وليس شرطا في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافا لمن شرط ذلك من غيرهم ، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضا خلافا لزاعمه. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي : بنصب الثلاثة على الشتم ؛ والكسائي في رواية : برفعها ، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة ، وصفها بالكذب والخطأ مجازا ، والحقيقة صاحبها ، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال : ناصية كاذب خاطئ ، لأنها هي المحدث عنها في قوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ). (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) : إشارة إلى قول أبي جهل : وما بالوادي أكبر ناديا مني ، والمراد أهل النادي. وقال جرير :

لهم مجلس صهب السبال أذلة

أي أهل مجلس ، ولذلك وصف بقوله : صهب السبال أذلة ، وهو أمر تعجبي ، أي لا يقدره الله على ذلك ، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عيانا. وقرأ الجمهور : (سَنَدْعُ) بالنون مبنيا للفاعل ، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن أبي عبلة :

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤٣١.

٥١١

سيدعى مبنيا للمفعول الزبانية رفع. (كَلَّا) : ردع لأبي جهل ، ورد عليه في : (لا تُطِعْهُ) : أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه. (وَاسْجُدْ) : أمر له بالسجود ، والمعنى : دم على صلاتك ، وعبّر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى ، (وَاقْتَرِبْ) : وتقرّب إلى ربك. وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) ، وفي هذه السورة ، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه.

__________________

(١) سورة الانشقاق : ٨٤ / ١.

سورة العلق / الآيات : ١ ـ ١٩.

٥١٢

سورة القدر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.

هذه السورة مدنية في قول الأكثر. وحكى الماوردي عكسه. وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وفي الحديث : «أن أربعة عبدوا الله تعالى ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين : أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع» ، فعجب الصحابة من ذلك ، فقرأ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة ، فسروا بذلك. ومناسبتها لما قبلها ظاهر. لما قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (١) ، فكأنه قال : اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا ، (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى ، وهو ضمير القرآن. قال ابن عباس وغيره : أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نجمه على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عشرين سنة. وقال الشعبي وغيره : إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر. وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان. وقيل المعنى : إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها. ولما كانت السورة من القرآن ، جاء الضمير للقرآن تفخيما وتحسينا ، فليست ليلة

__________________

(١) سورة العلق : ٩٦ / ١.

٥١٣

القدر ظرفا للنزول ، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه : لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة : لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن. وقال الزمخشري : عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصا به ، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وسميت ليلة القدر ، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله ، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقال الزهري : معناه ليلة القدر العظيم والشرف ، وعظم الشأن من قولك : رجل له قدر. وقال أبوبكر الوراق : سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن له قبل ، وترده عظيما عند الله تعالى. وقيل : سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر. وقيل : لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، لأمة ذات قدر. وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر. وقيل : لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (١) ، أي ضيق. وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافا متعارضا جدا ، وبعضهم قال : رفعت ، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع ، وأن العشر الأخير تكون فيه ، وأنها في أوتاره ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة». وفي الصحيح : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) : تفخيم لشأنها ، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها ، ثم بين له ذلك. قال سفيان بن عيينة : ما كان في القرآن (وَما أَدْراكَ) ، فقد أعلمه ، وما قال : وما يدريك ، فإنه لم يعلمه. قيل : وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها. والظاهر أن (أَلْفِ شَهْرٍ) يراد به حقيقة العدد ، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام. والحسن : في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور ، والمراد : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) عار من ليلة القدر ، وعلى هذا أكثر المفسرين. وقال أبو العالية : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) : رمضان لا يكون فيها ليلة القدر. وقيل : المعنى خير من الدهر كله ، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها ، قال تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢) ، يعني جميع الدهر. وعوتب الحسن بن عليّ على تسليمه الأمر لمعاوية فقال : إن الله تعالى أرى في المنام نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني أمية ينزون على مقبرة نزو القردة ،

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٩٦.

٥١٤

فاهتم لذلك ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وهي خير من مدة ملوك بني أمية ، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان. قال القاسم بن الفضل الجذامي : فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما. وخرج قريبا من معناه الترمذي وقال : حديث غريب ، انتهى. وقيل : آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان ، ولا يعارض هذا تملك بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه ، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم. وذكر أيضا في تخصيص هذه المدة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي. وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر ، فأعطوا ليلة ، إن أحيوها ، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق : ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة ، فصار ألف شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) : تقدم الخلاف في الروح ، أهو جبريل ، أم رحمة ينزل بها ، أم ملك غيره ، أم أشراف الملائكة ، أم جند من غيرهم ، أم حفظة على غيرهم من الملائكة؟ والتنزل إما إلى الأرض ، وإما إلى سماء الدنيا. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : متعلق بتنزل (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) : متعلق بتنزل ومن للسبب ، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. و (سَلامٌ) : مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي ، أي هي سلام إلى أول يومها ، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء ، وهذا على قول من قال : إن تنزلهم التقدير : الأمور لهم. وقال أبو حاتم : من بمعنى الباء ، أي بكل أمر ؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي : من كل امرئ ، أي من أجل كل إنسان. وقيل : يراد بكل امرئ الملائكة ، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة. وأنكر هذا القول أبو حاتم. (سَلامٌ هِيَ) : أي هي سلام ، جعلها سلاما لكثرة السلام فيها. قيل : لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة. وقال منصور والشعبي : سلام بمعنى التحية ، أي تسلم الملائكة على المؤمنين. ومن قال : تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة ، جعل الكلام تاما عند قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). وقال : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) متعلق بقوله : (سَلامٌ هِيَ) ، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام. وقال مجاهد : لا يصيب أحدا فيها داء. وقال صاحب اللوامح : وقيل معناه هي سلام من كل أمر ، وأمري سالمة أو مسلمة منه ، ولا يجوز أن يكون سلام

٥١٥

بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملا فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر. كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول ، انتهى.

وعن ابن عباس : تم الكلام عند قوله : (سَلامٌ) ، ولفظة (هِيَ) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر ، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة ، انتهى. ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس ، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى. وقرأ الجمهور : (مَطْلَعِ) بفتح اللام ؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو : بخلاف عنه بكسرها ، فقيل : هما مصدران في لغة بني تميم. وقيل : المصدر بالفتح ، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز.

٥١٦

سورة البيّنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ، وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية ، قاله

٥١٧

ابن عطية. وفي كتاب التحرير : مدنية ، وهو قول الجمهور. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية ، واختاره يحيى بن سلام. ولما ذكر إنزال القرآن ، وفي السورة التي قبلها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (١) ، ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها ، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك. وقرأ بعض القراء : والمشركون رفعا عطفا على (الَّذِينَ كَفَرُوا). والجمهور : بالجر عطفا على (أَهْلِ الْكِتابِ) ، وأهل الكتاب اليهود والنصارى ، والمشركون عبدة الأوثان من العرب. وقال ابن عباس : أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينة وحولها.

قال مجاهد وغيره : لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة. وقال الفراء وغيره : لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة ، فتفرقوا عند ذلك. وقال الزمخشري : كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث : لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكى الله ما كانوا يقولونه. وقال ابن عطية : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أنه يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ، انتهى. وقيل : لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. والظاهر أن المعنى : لم يكونوا منفكين ، أي منفصلا بعضهم من بعض ، بل كان كل منهم مقرّا الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه ، هذا من اعتقاده في شريعته ، وهذا من اعتقاده في أصنامه ، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة.

وقيل : معنى منفكين : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وأن ينفصل فلا يلتئم ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، انتهى. ومنفكين اسم فاعل من انفك ، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر. وقال بعض النحاة : هي الناقصة ، ويقدر منفكين : عارفين أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو نحو هذا ، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصارا ولا اختصارا ، نص

__________________

(١) سورة العلق : ٩٦ / ١.

٥١٨

على ذلك أصحابنا ، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو ، وقالوا في قوله : حين ليس مجير ، أي في الدنيا ، فحذف الخبر أنه ضرورة ، والبينة : الحجة الجليلة.

وقرأ الجمهور : (رَسُولٌ) بالرفع بدلا من (الْبَيِّنَةُ) ، وأبيّ وعبد الله : بالنصب حالا من البينة. (يَتْلُوا صُحُفاً) : أي قراطيس ، (مُطَهَّرَةً) من الباطل. (فِيها كُتُبٌ) : مكتوبات ، (قَيِّمَةٌ) : مستقيمة ناطقة بالحق. (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : أي من المشركين ، وانفصل بعضهم من بعض فقال : كل ما يدل عنده على صحة قوله. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) : وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها. وقال الزمخشري : كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أيضا : أفرد أهل الكتاب ، يعني في قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بعد جمعهم والمشركين ، قيل : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه ، كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقا ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر. وقال : ليس به ومنهم من عرف وعاند. وقال ابن عطية : ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته ، فلما جاء من العرب حسدوه ، انتهى.

وقرأ الجمهور : (مُخْلِصِينَ) بكسر اللام ، والدين منصوب به ؛ والحسن : بفتحها ، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم. وانتصب (الدِّينَ) ، إما على المصدر من (لِيَعْبُدُوا) ، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين ، وإما على إسقاط في ، أي في الدين ، والمعنى : وما أمروا ، أي في كتابيهما ، بما أمروا به إلا ليعبدوا. (حُنَفاءَ) : أي مستقيمي الطريقة. وقال محمد بن الأشعب الطالقاني : القيمة هنا : الكتب التي جرى ذكرها ، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة ، كانت الألف واللام في القيمة للعهد ، كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (١). وقرأ عبد الله : وذلك الدين القيمة ، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة ، أو أنث ، على أن عنى بالدين الملة ، كقوله : ما هذه الصوت؟ يريد : ما هذه الصيحة : وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء ، والبرية : جميع الخلق.

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٥ ـ ١٦.

٥١٩

وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع : البرءة بالهمز من برأ ، بمعنى خلق. والجمهور : بشد الياء ، فاحتمل أن يكون أصله الهمز ، ثم سهل بالإبدال وأدغم ، واحتمل أن يكون من البراء ، وهو التراب. قال ابن عطية : وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ ، وهو اشتقاق غير مرضي ، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا ، وهو التراب ، فلا يجعله خطأ ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ ، وغير الهمز من البرا ؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو : أو ننساها أو ننسها ، فهو اشتقاق مرضي. وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية ، وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته ، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به ، وشر البرية ظاهره العموم. وقيل : (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) : الذين عاصروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر من هؤلاء ، كفرعون وعاقر ناقة صالح. وقرأ الجمهور : (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) مقابل (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) ؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد : خيار البرية جمع خير ، كجيد وجياد. وبقية السورة واضحة ، وتقدم شرح ذلك إفرادا وتركيبا.

٥٢٠