البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

وهو أب لهم ، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ولده. أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه. فإن قلت : لم نكر؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد؟ قلت : فيه ما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) (١) : أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعا عجيب الشأن. انتهى. وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله : (ما طابَ لَكُمْ) (٢) ، (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) ، وهو الخالق للذكر والأنثى. انتهى. وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له. جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) : هذه الجملة المقسم عليها. والجمهور : على أن الإنسان اسم جنس ، وفي كبد : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره ، إما في جنة فتزول عنه المشقات ؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده. وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد : (فِي كَبَدٍ) معناه : منتصب القامة واقفا ، ولم يخلق منكبا على وجهه ، وهذا امتنان عليه. وقال ابن كيسان : منتصبا رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له بالخروج ، قلب رأسه إلى قدمي أمه. وعن ابن عمر : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضراء. وقال ابن زيد : (الْإِنْسانَ) : آدم ، (فِي كَبَدٍ) : في السماء ، سماها كبدا ، وهذه الأقوال ضعيفة ، والأول هو الظاهر. والظاهر أن الضمير في (أَيَحْسَبُ) عائد على (الْإِنْسانَ) ، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد ، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده. يقول على سبيل الفخر : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) : أي في المكارم وما يحصل به الثناء ، أيحسب أن أعماله تخفى ، وأنه لا يراه أحد ، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء. وقيل : الضمير في (أَيَحْسَبُ) لبعض صناديد قريش. وقيل : هو أبو الأسد أسيد بن كلدة ، كان يبسط له الأديم العكاظي ، فيقوم عليه ويقول : من أزالني

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٣.

(٣) سورة الليل : ٩٢ / ٣.

٤٨١

عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعا ، ويبقى موضع قدميه. وقيل : الوليد بن المغيرة. وقيل : الحرث بن عامر بن نوفل ، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأمره بالكفارة ، فقال : لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الجمهور : لبدا ، بضم اللام وفتح الباء ؛ وأبو جعفر : بشدّ الباء ؛ وعنه وعن زيد بن علي : لبدا بسكون الباء ، ومجاهد وابن أبي الزناد : بضمهما.

ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما ، (وَلِساناً) يفصح عما في باطنه ، (وَشَفَتَيْنِ) يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : طريق الخير والشر. وقال ابن عباس أيضا ، وعليّ وابن المسيب والضحاك : الثديين ، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) : أي لم يشكر تلك النعم السابقة ، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل ، وهو ما صعب منه ، وكان صعودا ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها. واقتحمها : دخلها بسرعة وضغط وشدّة ، والقحمة : الشدّة والسنة الشديدة. ويقال : قحم في الأمر قحوما : رمى نفسه فيه من غير روية. والظاهر أن لا للنفي ، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج ، كأنه قال : وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل ، فما فعل خيرا ، أي فلم يقتحم. قال الفرّاء والزجاج : ذكر لا مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد ، كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (١) ، وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، قائما مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل : هو جار مجرى الدعاء ، كقوله : لا نجا ولا سلم ، دعاء عليه أن لا يفعل خيرا. وقيل : هو تحضيض بألا ، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض ، وليس معها الهمزة. وقيل : العقبة : جهنم ، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال ، قاله الحسن. وقال ابن عباس ومجاهد وكعب : جبل في جهنم. وقال الزمخشري ، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج : هي بمعنى لا متكررة في المعنى ، لأن معنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ انتهى ، ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلا ماضيا.

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٣١.

٤٨٢

وقرأ ابن كثير والنحويان : فك فعلا ماضيا ، رقبة نصب ، أو أطعم فعلا ماضيا ؛ وباقي السبعة : فك مرفوعا ، رقبة مجرورا ، وإطعام مصدر منون معطوف على فك. وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير ، إلا أنهما قرأ : ذا مسغبة بالألف. وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضا : أو إطعام في يوم ذا بالألف ، ونصب ذا على المفعول ، أي إنسانا ذا مسغبة ، ويتيما بدل منه أو صفة. وقرأ بعض التابعين : فك رقبة بالإضافة ، أو أطعم فعلا ماضيا. ومن قرأ فك بالرفع ، فهو تفسير لاقتحام العقبة ، والتقدير : وما أدراك ما اقتحام العقبة. ومن قرأ فعلا ماضيا ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ، ويجيء فك بدلا من اقتحم ، قاله ابن عطية. وفك الرقبة : تخليصها من الأسر والرق. (ذا مَقْرَبَةٍ) : ليجتمع صدقة وصلة ، وأو هنا للتنويع ، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع. (ذا مَتْرَبَةٍ) ، قال : هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب ، لا بيوت لهم. وقال ابن عباس : هو الذي يخرج من بيته ، ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) : هذا معطوف على قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ) ؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة ، لا للتراخي في الزمان ، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع ، أو يكون المعنى : ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات ، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل : ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي ، (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) : أي بالتعاطف والتراحم ، أو بما يؤدي إلى رحمة الله. والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : (مُؤْصَدَةٌ) بالهمز هنا وفي الهمزة ، فيظهر أنه من آصدت قيل : ويجوز أن يكون من أوصدت ، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا. وقرأ باقي السبعة بغير همز ، فيظهر أنه من أوصدت. وقيل : يجوز أن يكون من آصدت ، وسهل الهمزة ، وقال الشاعر :

قوما تعالج قملا أبناءهم

وسلاسلا حلقا وبابا مؤصدا

٤٨٣

سورة الشمس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)

طحا ودحا بمعنى واحد ، أي بسط ووطأ ، ويأتي طحا بمعنى ذهب. قال علقمة : طحا بك قلب في الحسان طروب ويقال : ما أدري أين طحا : أي ذهب ، قاله أبو عمرو ، وفي أيمان العرب لا ، والقمر الطاحي : أي المشرق المرتفع ، ويقال : طحا يطحو طحوا ، ويطحى طحوا. التدسية : الإخفاء ، وأصله دسس فأبدل من ثالث المضاعفات حرف علة ، كما قالوا في نقصص نقص ، قال الشاعر :

وأنت الذي دسست عمرا فأصبحت

حلائله منه أرامل صيعا

وينشد أيضا :

ودسست عمرا في التراب

٤٨٤

دمدم عليه القبر : أطبقه. وقال مؤرج : الدمدمة : إهلاك باستئصال. وقال في الصحاح : دمدمت الشيء : ألزقته بالأرض وطحطحته.

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ، وَالسَّماءِ وَما بَناها ، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها ، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ، فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها ، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها ، وَلا يَخافُ عُقْباها).

هذه السورة مكية. ولما تقدّم القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها ، أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم والسفلي ، وبما هو آلة التفكر في ذلك ، وهو النفس. وكان آخر ما قبلها مختتما بشيء من أحوال الكفار في الآخرة ، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا ، وفي ذلك بمآلهم في الآخرة إلى النار ، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل. وتقدم الكلام على ضحى في سورة طه عند قوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (١). وقال مجاهد : هو ارتفاع الضوء وكماله. وقال مقاتل : حرها لقوله (وَلا تَضْحى) (٢). وقال قتادة : هو النهار كله ، وهذا ليس بجيد ، لأنه قد أقسم بالنهار. والمعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلا ، فإذا زاد فهو الضحاء ، بالمد وفتح الضاد إلى الزوال ، وقول مقاتل تفسير باللازم. وما نقل عن المبرد من أن الضحى مشتق من الضح ، وهو نور الشمس ، والألف مقلوبة من الحاء الثانية ؛ وكذلك الواو في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية لعله مختلق عليه ، لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا ، وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) ، قال الحسن والفراء : تلاها معناه تبعها دأبا في كل وقت ، لأنه يستضيء منها ، فهو يتلوها لذلك. وقال ابن زيد : يتلوها في الشهر كله ، يتلوها في النصف الأول من الشهر بالطلوع ، وفي الآخر بالغروب. وقال ابن سلام : في النصف الأول من الشهر ، وذلك لأنه يأخذ موضعها ويسير خلفها ، إذا غابت يتبعها القمر طالعا. وقال قتادة : إنما ذلك البدر ، تغيب هي فيطلع هو. وقال الزجاج وغيره : تلاها معناه : امتلأ واستدار ، وكان لها تابعا للمنزل من الضياء والقدر ، لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥٩.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١١٦.

٤٨٥

المعنى غير القمر. وقيل : من أول الشهر إلى نصفه ، في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو ؛ وفي النصف الآخر يتحاوران ، وهو أن تغرب هي فيطلع هو. وقال الزمخشري : تلاها طالعا عند غروبها أخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) : الظاهر أن مفعول جلاها هو الضمير عائد على الشمس ، لأنه عند انبساط النهار تنجلي الشمس في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل : يعود على الظلمة. وقيل : على الأرض. وقيل : على الدنيا ، والذي يجلي الظلمة هو الشمس أو النهار ، فإنه وإن لم تطلع الشمس لا تبقى الظلمة ، والفاعل بجلاها ضمير النهار. قيل : ويحتمل أن يكون عائدا على الله تعالى ، كأنه قال : والنهار إذا جلى الله الشمس ، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) : أي يغشى الشمس ، فبدخوله تغيب وتظلم الآفاق ، ونسبة ذلك إلى الليل مجاز. وقيل : الضمير عائد على الأرض ، والذي تقتضيه الفصاحة أن الضمائر كلها إلى قوله : (يَغْشاها) عائدة على الشمس. وكما أن النهار جلاها ، كان النهار هو الذي يغشاها. ولما كانت الفواصل ترتبت على ألف وهاء المؤنث ، أتى (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) بالمضارع ، لأنه الذي ترتب فيه. ولو أتى بالماضي ، كالذي قبله وبعده ، كان يكون التركيب إذا غشيها ، فتفوت الفاصلة ، وهي مقصودة. وقال القفال ما ملخصه : هذه الأقسام بالشمس في الحقيقة بحسب أوصاف أربعة : ضوءها عند ارتفاع النهار وقت انتشار الحيوان ، وطلب المعاش ، وتلو القمر لها بأخذه الضوء ، وتكامل طلوعها وبروزها وغيبوبتها بمجيء الليل. وما في قوله : (وَما بَناها) ، و (ما طَحاها) ، و (ما سَوَّاها) ، بمعنى الذي ، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة ، واختاره الطبري ، قالوا : لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم. وقيل : مصدرية ، قاله قتادة والمبرد والزجاج ، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم.

وقال الزمخشري : جعلت مصدرية ، وليس بالوجه لقوله : (فَأَلْهَمَها) ، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا ، انتهى.

أما قوله : وليس بالوجه لقوله : (فَأَلْهَمَها) ، يعني من عود الضمير في (فَأَلْهَمَها) على الله تعالى ، فيكون قد عاد على مذكور ، وهو ما المراد به الذي ، ولا يلزم ذلك لأنا إذا

٤٨٦

جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام ؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى ، أي وبناها هو ، أي الله تعالى ، كما إذا رأيت زيدا قد ضرب عمرا فقلت : عجبت مما ضرب عمرا تقديره : من ضرب عمر؟ وهو كان حسنا فصيحا جائزا ، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير ، وقوله : وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك ، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر ، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية ، لأنهما لا يوصف بهما ، بخلاف الذي ، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما ، فلا ينفرد به ما دون من ، وقوله : وفي كلامهم إلخ. تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية.

وقال الزمخشري : فإن قلت : الأمر في نصب إذا معضل ، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين ، وفي نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ؛ وأما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه. قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحا كليا ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معا ، والواوات العواطف نوائب عن هذه ، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعا ، كما تقول ؛ ضرب زيد عمرا وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، انتهى. أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار ، أعني أن يكون حرف العطف عاملا لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك. وقوله : فتقع في العطف على عاملين ، ليس ما في الآية من العطف على عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب ، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : امرر بزيد قائما وعمرو جالسا؟ وقد أنشد سيبويه في كتابه :

فليس بمعروف لنا أن نردها

صحاحا ولا مستنكران تعقرا

فهذا من عطف مجرور ، ومرفوع على مجرور ومرفوع ، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب ، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ، وهذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : مررت بزيد أمس وعمرو اليوم ، ونحن نجيز هذا. وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل يدل على المنع. قال الخليل : في قوله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ

٤٨٧

وَالْأُنْثى) (١) ، الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء ، انتهى. وأما قوله : إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحا كليا ، فليس هذا الحكم مجمعا عليه ، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : أقسم أو أحلف والله لزيد قائم. وأما قوله : والواوات العواطف نوائب عن هذه إلخ ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار.

والذي نقوله : إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام ، كقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (٢) ، (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٣) ، (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٤) ، وما أشبهها. فإذا ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ، لأنه فعل إنشائي. فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه ، أي : وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل. فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزما ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره : والنجم كائنا إذا هوى ، والليل كائنا إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائنا أن يكون منصوبا بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولا لشيء مما فرضناه أن يكون عاملا. وأيضا فقد يكون القسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالا عن الجثث ، كما لا تكون أخبارا.

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) : اسم جنس ، ويدل على ذلك ما بعده من قوله : (فَأَلْهَمَها) وما بعده ، وتسويتها : إكمال عقلها ونظرها ، ولذلك ارتبط به (فَأَلْهَمَها) ، لأن الفاء تقتضي الترتيب على ما قبلها من التسوية التي هي لا تكون إلا بالعقل. وقال الزمخشري : فإن قلت : لم نكرت النفس؟ قلت : فيه وجهان : أحدها : أن يريد نفسا خاصة من النفوس ، وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس ، انتهى. وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها ، فلا تكون إلا للجنس. ألا ترى إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ، كيف تقتضي التغاير في المزكى وفي المدسى؟ (فَأَلْهَمَها) ، قال ابن جبير :

__________________

(١) سورة الليل : ٩٢ / ١ ـ ٣.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ١.

(٣) سورة المدثر : ٧٤ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٤) سورة الليل : ٩٢ / ١.

٤٨٨

ألزمها. وقال ابن عباس : عرفها. وقال ابن زيد : بين لها. وقال الزجاج : وفقها للتقوى ، وألهمها فجورها : أي خذلها ، وقيل : عرفها وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى. وقال الزمخشري : ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامها وإعقالها ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ، فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما. والتزكية : الإنماء ، والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) ، قال الزجاج وغيره : هذا جواب القسم ، وحذفت اللام لطول الكلام ، والتقدير : لقد أفلح. وقيل : الجواب محذوف تقديره لتبعثن. وقال الزمخشري : تقديره ليدمدمن الله عليهم ، أي على أهل مكة ، لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا. وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فكلام تابع لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، انتهى. وزكاؤها : ظهورها ونماؤها بالعمل الصالح ، ودساها : أخفاها وحقرها بعمل المعاصي. والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من ، وقاله الحسن وغيره. ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى ، وعاد الضمير مؤنثا باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث. وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل ، كان عليه‌السلام إذا قرأ هذه الآية قال : «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها». وقال الزمخشري : وأما قول من زعم أن الضمير في زكى ودسى لله تعالى ، وأن تأنيث الراجع إلى من لأنه في معنى النفس ، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه تعالى ، انتهى. فجرى على عادته في سب أهل السنة. هذا ، وقائل ذلك هو بحر العلم عبد الله بن عباس ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «وزكها أنت خير من زكاها».

وقال تعالى : (دَسَّاها) في أهل الخير بالرياء وليس منهم ؛ وحين قال : (وَتَقْواها) أعقبه بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها). ولما قال : (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ، أعقبه بأهل الجنة. ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه ، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم. (بِطَغْواها) : الباء عند الجمهور سببية ، أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها. وقال ابن عباس : الطغوى هنا العذاب ، كذبوا به حتى نزل بهم لقوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (١). وقرأ الجمهور : (بِطَغْواها) بفتح الطاء ، وهو مصدر من الطغيان ، قلبت فيه

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٥.

٤٨٩

الياء واوا فصلا بين الاسم وبين الصفة ، قالوا فيها صرنا وحدنا ، وقالوا في الاسم تقوى وشروى. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة : بضم الطاء ، وهو مصدر كالرجعى ، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا ، لكنهم شذوا فيه. (إِذِ انْبَعَثَ) : أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص ، والناصب لإذ (كَذَّبَتْ) ، و (أَشْقاها) : قدار بن سالف ، وقد يراد به الجماعة ، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عنى به جمع. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة ، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها ، انتهى. فأطلق الإضافة ، وكان ينبغي أن يقول : إلى معرفة ، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك إلا أن يكون مفردا مذكرا ، كحاله إذا كان بمن. والظاهر أن الضمير في (لَهُمْ) عائد على أقرب مذكور وهو (أَشْقاها) إذا أريد به الجماعة ، ويجوز أن يعود على (ثَمُودُ). (رَسُولُ) : هو صالح عليه‌السلام. وقرأ الجمهور : (ناقَةَ اللهِ) بنصب التاء ، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله ، لأنه قد عطف عليه ، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر ، كقولك : الأسد الأسد ، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك.

(فَكَذَّبُوهُ) ، الجمهور على أنهم كانوا كافرين ، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحا بمدة ، ثم كذبوا وعقروا ، وأسند العقر للجماعة لكونهم راضين به ومتمالئين عليه. وقرأ الجمهور : (فَدَمْدَمَ) بميم بعد دالين ؛ وابن الزبير : فدهدم بهاء بينهما ، أي أطبق عليهم العذاب مكررا ذلك عليهم ، (بِذَنْبِهِمْ) : فيه تخويف من عاقبة الذنوب ، (فَسَوَّاها) ، قيل : فسوى القبيلة في الهلاك ، عاد عليها بالتأنيث كما عاد في (بِطَغْواها). وقيل : سوى الدمدمة ، أي سواها بينهم ، فلم يفلت منهم صغيرا ولا كبيرا. وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر : فلا يخاف بالفاء ؛ وباقي السبعة ولا بالواو ؛ والضمير في يخاف الظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو ربهم ، أي لأدرك عليه تعالى في فعله بهم لا يسأل عما يفعل ، قاله ابن عباس والحسن ، وفيه ذم لهم وتعقبة لآثارهم. وقيل : يحتمل أن يعود على صالح ، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم ، إذ كان قد أنذرهم وحذرهم. ومن قرأ : ولا يحتمل الضمير الوجهين. وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي : الواو واو الحال ، والضمير في يخاف عائد على (أَشْقاها) ، أي انبعث لعقرها ، وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه ، والعقبى : خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه ، وهذا فيه بعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها.

٤٩٠

سورة الليل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ، إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ، وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ، فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ، وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ، وَلَسَوْفَ يَرْضى.

هذه السورة مكية. وقال علي بن أبي طلحة : مدنية. وقيل : فيها مدني. ولما ذكر فيما قبلها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١) ، ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١ / ٩ ـ ١٠.

٤٩١

به الفلاح وما تحصل به الخيبة ، ثم حذر النار وذكر من يصلاها ومن يتجنبها ، ومفعول يغشى محذوف ، فاحتمل أن يكون النهار ، كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) (١) ، وأن يكون الشمس ، كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٢). وقيل : الأرض وجميع ما فيها بظلامه. وتجلى : انكشف وظهر ، إما بزوال ظلمة الليل ، وإما بنور الشمس. أقسم بالليل الذي فيه كل حيوان يأوي إلى مأواه ، وبالنهار الذي تنتشر فيه. وقال الشاعر :

يجلي السرى من وجهه عن صفيحة

على السير مشراق كثير شحومها

وقرأ الجمهور : (تَجَلَّى) فعلا ماضيا ، فاعله ضمير النهار. وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير : تتجلى بتاءين ، يعني الشمس. وقرىء : تجلى بضم التاء وسكون الجيم ، أي الشمس.

(وَما خَلَقَ) : ما مصدرية أو بمعنى الذي ، والظاهر عموم الذكر والأنثى. وقيل : من بني آدم فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس والكلبي والحسن : هما آدم وحواء. والثابت في مصاحف الأمصار والمتواتر (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، وما ثبت في الحديث من قراءة. والذكر والأنثى : نقل آحاد مخالف للسواد ، فلا يعد قرآنا. وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ : وما خلق الذكر ، بجر الذكر ، وذكرها الزمخشري عن الكسائي ، وقد خرجوه على البدل من على تقدير : والذي خلق الله ، وقد يخرج على توهم المصدر ، أي وخلق الذكر والأنثى ، كما قال الشاعر :

تطوف العفاة بأبوابه

كما طاف بالبيعة الراهب

بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر ، رأى كطواف الراهب بالبيعة.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ) : أي مساعيكم ، (لَشَتَّى) : لمتفرقة مختلفة ، ثم فصل هذا السعي. (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) الآية : روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، كان عتق ضعفة عبيده الذين أسلموا ، وينفق في رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماله ، وكان الكفار بضدّه. قال عبد الله بن أبي أوفى : نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وأبي سفيان بن حرب. وقال السدّي : نزلت في أبي الدحداح الأنصاري بسبب ما كان يعلق في المسجد صدقة ، وبسبب النخلة التي اشتراها من المنافق بحائط له ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساوم المنافق في شرائها بنخلة في الجنة ، وذلك بسبب الأيتام الذين كانت النخلة تشرف

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٤ ، وسورة الرعد : ١٣ / ٣.

(٢) سورة الشمس : ٩١ / ٤.

٤٩٢

على بيتهم ، فيسقط منها الشيء فتأخذه الأيتام ، فمنعهم المنافق ، فأبى عليه المنافق ، فجاء أبو الدحداح وقال : يا رسول الله أنا أشتري النخلة التي في الجنة بهذه ، وحذف مفعولي أعطى ، إذ المقصود الثناء على المعطى دون تعرض للمعطى والعطية. وظاهره بذل المال في واجب ومندوب ومكرمة. وقال قتادة : أعطى حق الله. وقال ابن زيد : أنفق ماله في سبيل الله. (وَاتَّقى) ، قال ابن عباس : اتقى الله. وقال مجاهد : واتقى البخل. وقال قتادة : واتقى ما نهي عنه. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، صفة تأنيث الأحسن. فقال ابن عباس وعكرمة وجماعة : هي الحلف في الدنيا الوارد به وعد الله تعالى. وقال مجاهد والحسن وجماعة : الجنة. وقال جماعة : الثواب. وقال السلمي وغيره : لا إله إلا الله.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) : أي نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة. وقابل أعطى ببخل ، واتقى باستغنى ، لأنه زهد فيما عند الله بقوله : (وَاسْتَغْنى) ، (لِلْعُسْرى) ، وهي الحالة السيئة في الدنيا والآخرة. وقال الزمخشري : فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد كقوله : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ، كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (١) ، إذ سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر العسرى لأن عاقبتها العسر ، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار ، أي فسنهديهما في الآخرة للطريقين. انتهى ، وفي أول كلامه دسيسة الاعتزال. وجاء (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) على سبيل المقابلة لقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، والعسرى لا تيسير فيها ، وقد يراد بالتيسير التهيئة ، وذلك يكون في اليسرى والعسرى. (وَما يُغْنِي) : يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية ، أي : وأي شيء يغني عنه ماله؟ و (إِذا تَرَدَّى) : تفعل من الرّدى ، أي هلك ، قاله مجاهد ، وقال قتادة وأبو صالح : تردى في جهنم : أي سقط من حافاتها. وقال قوم : تردى بأكفانه ، من الردى ، وقال مالك بن الذئب :

وخطا بأطراف الأسنة مضجعي

وردا على عينيّ فضل ردائيا

وقال آخر :

نصيبك مما تجمع الدهر كله

ردا آن تلوي فيهما وحنوط

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) : التعريف بالسبيل ومنحهم الإدراك ، كما قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) (٢). وقال الزمخشري : إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٥.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٩.

٤٩٣

وبيان الشرائع. (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) : أي ثواب الدارين ، لقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١). وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير : تتلظى بتاءين ، والبزي بتاء مشدّدة ، والجمهور : بتاء واحدة. وقال الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل : (الْأَشْقَى) ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له. وقال : (الْأَتْقَى) ، وجعل مختصا بالنجاة وكأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل : هما أبو جهل ، أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. (يَتَزَكَّى) ، من الزكاة : أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا ، لا يريد به رياء ولا سمعة ، أو يتفعل من الزكاة ، انتهى. وقرأ الجمهور : (يَتَزَكَّى) مضارع تزكى. وقرأ الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم : بإدغام التاء في الزاي ، ويتزكى في موضع الحال ، فموضعه نصب. وأجاز الزمخشري أن لا يكون له موضع من الإعراب لأنه جعله بدلا من صلة الذي ، وهو (يُؤْتِي) ، قاله : وهو إعراب متكلف ، وجاء (تُجْزى) مبنيا للمفعول لكونه فاصلة ، وكان أصله نجزيه إياها أو نجزيها إياه. وقرأ الجمهور : (إِلَّا ابْتِغاءَ) بنصب الهمزة ، وهو استثناء منقطع لأنه ليس داخلا في (مِنْ نِعْمَةٍ). وقرأ ابن وثاب : بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع ، وهي لغة تميم ، وأنشد بالوجهين قول بشر بن أبي حازم.

أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها

إلا الجاذر والظلمات تختلف

وقال الراجز في الرفع :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

وقرأ ابن أبي عبلة : (إِلَّا ابْتِغاءَ) ، مقصورا. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء وجه الله مفعولا له على المعنى ، لأن معنى الكلام لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمة ، انتهى. وهذا أخذه من قول الفراء. قال الفراء : ونصب على تأويل ما أعطيك ابتغاء جزائك ، بل ابتغاء وجه الله. (وَلَسَوْفَ يَرْضى) : وعد بالثواب الذي يرضاه. وقرأ الجمهور : (يَرْضى) بفتح الياء ، وقرىء : بضمها ، أي يرضى فعله ، يرضاه الله ويجازيه عليه.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٧.

٤٩٤

سورة الضّحى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)

سجا الليل : أدبر ، وقيل : أقبل ، ومنه :

يا حبذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النساج

وبحر ساج : ساكن ، قال الأعشى :

وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم

وبحرك ساج لا يوارى الدعامصا

وطرف ساج : غير مضطرب بالنظر. وقال الفراء : سجا الليل : أظلم وركد. وقال ابن الأعرابي : سجا الليل : اشتد ظلامه.

(وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى ، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

٤٩٥

هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) (١) ، وكان سيد الأتقين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر تعالى هنا نعمه عليه. وقرأ الجمهور (ما وَدَّعَكَ) بتشديد الدال ؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها ، أي ما تركك. واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر ، وعن اسم فاعلهما بتارك ، وعن اسم مفعولهما بمتروك ، وعن مصدرهما بالترك ، وقد سمع ودع ووذر. قال أبو الأسود :

ليت شعري عن خليلي ما الذي

غاله في الحب حتى ودعه

وقال آخر :

وثم ودعنا آل عمرو وعامر

فرائس أطراف المثقفة السمر

والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. (وَما قَلى) : ما أبغضك ، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى ، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصارا في (قَلى) ، وفي (فَآوى) وفي (فَهَدى) ، وفي (فَأَغْنى) ، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة ، حتى شق ذلك عليه ، فقالت أم جميل ، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت. وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليه‌السلام لجر وكلب كان في بيته.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) : يريد الدارين ، قاله ابن إسحاق وغيره. ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها ، وعده تعالى بالنصر والظفر ، قاله ابن عطية اهتمالا. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل قوله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) بما قبله؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، ولا نعمة أجل منه ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، قال الجمهور : ذلك في الآخرة. وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال أيضا : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم. وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره ، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في

__________________

(١) سورة الليل : ٩٢ / ١٧.

٤٩٦

الدنيا من الظفر ، ولما ادخر له من الثواب. واللام في (وَلَلْآخِرَةُ) لام ابتداء أكدت مضمون الجملة ، وكذا في (وَلَسَوْفَ) على إضمار مبتدأ ، أي ولأنت سوف يعطيك.

ولما وعده هذا الموعود الجليل ، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته. (أَلَمْ يَجِدْكَ) : يعلمك ، (يَتِيماً) : توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين ، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين ، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته. وقيل لجعفر الصادق : لم يتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبويه؟ فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق. قال الزمخشري : ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة ، وأن المعنى : ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فاواك ، انتهى. وقرأ الجمهور : (فَآوى) رباعيا ؛ وأبو الأشهب العقيلي : فأوى ثلاثيا ، بمعنى رحم. تقول : أويت لفلان : أي رحمته ، ومنه قول الشاعر :

أراني ولا كفران لله أنه

لنفسي قد طالبت غير منيل

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) : لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى ، لأن الأنبياء معصومون من ذلك. قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة ، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب. وقيل : ضلاله من حليمة مرضعته. وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور : (وَوَجَدَكَ) ، أي وجد رهطك ، (ضَالًّا) ، فهداه بك. ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١). وقرأ الجمهور : (عائِلاً) : أي فقيرا. قال جرير :

الله نزل في الكتاب فريضة

لابن السبيل وللفقير العائل

كرر لاختلاف اللفظ. وقرأ اليماني : عيّلا ، كسيّد ، بتشديد الياء المكسورة ، ومنه قول أجيحة بن الحلاج :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

عال : افتقر ، وأعال : كثر عياله. قال مقاتل : (فَأَغْنى) رضاك بما أعطاك من الرزق. وقيل : أغناك بالقناعة والصبر. وقيل : بالكفاف. ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث ، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها. (فَلا تَقْهَرْ) ، قال مجاهد : لا تحتقره. وقال ابن سلام : لا تستزله. وقال سفيان : لا تظلمه بتضييع ماله. وقال الفراء : لا تمنعه حقه ، والقهر هو التسليط بما

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٨٢.

٤٩٧

يؤذي. وقرأ الجمهور : (تَقْهَرْ) بالقاف ؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي : بالكاف بدل القاف ، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور. (وَأَمَّا السَّائِلَ) : ظاهره المستعطي ، (فَلا تَنْهَرْ) : أي تزجره ، لكن أعطه أو رده ردا جميلا. وقال قتادة : لا تغلظ عليه ، وهذه في مقابلة (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) ؛ فالسائل ، كما قلنا : المستعطي ، وقاله الفراء وجماعة. وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما : السائل هنا : السائل عن العلم والدين ، لا سائل المال ، فيكون بإزاء (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى).

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، قال مجاهد والكلبي : معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به. وقال محمد بن إسحاق : هي النبوة. وقال آخرون : هي عموم في جميع النعم. وقال الزمخشري : التحديث بالنعم : شكرها وإشاعتها ، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك ، انتهى. ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة ، أمره بثلاثة : فذكر اليتيم أولا وهي البداية ، ثم ذكر السائل ثانيا وهو العائل ، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية ، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة ، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة ، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف ، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عزوجل في القول والفعل والعقيدة ، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف ، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف ، فهما مقصدان في الخطاب.

٤٩٨

سورة الشرح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة. وشرح الصدر : تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه ، قاله الجمهور. والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله تعالى وحده ، واحتمال المكاره من إذاية الكفار. وقال ابن عباس وجماعة : إشارة إلى شق جبريل عليه‌السلام صدره في وقت صغره ، ودخلت همزة الاستفهام على النفي ، فأفاد التقرير على هذه النعمة وصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك ، ولذلك عطف عليه الماضي وهو ووضعنا وهذا نظير قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ) (١). وقرأ الجمهور : (نَشْرَحْ) بجزم الحاء لدخول الجازم. وقرأ أبو جعفر : بفتحها ، وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه ألم نشرحن ، فأبدل من النون ألفا ، ثم حذفها تخفيفا ، فيكون مثل ما أنشده أبو زيد في نوادره من قول الراجز :

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

٤٩٩

من أي يومي من الموت أفر

أيوم لم يقدر أم يوم قدر

وقال الشاعر :

أضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسيف قونس الفرس

وقال : قراءة مرذولة. وقال الزمخشري : وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور ، وقالوا : لعله بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها ، انتهى. ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله ، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره ، وهي الجزم بلن والنصب بلم عكس المعروف عند الناس. وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد ، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما :

قد كان سمك الهدى ينهد قائمه

حتى أتيح له المختار فانعمدا

في كل ما هم أمضى رأيه قدما

ولم يشاور في إقدامه أحدا

بنصب يشاور ، وهذا محتمل للتخريجين ، وهو أحسن مما تقدم. (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) : كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس ، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك ، كما يقول القائل : رفعت عنك مشقة الزيارة ، لمن لم يصدر منه زيارة ، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه. وقال أهل اللغة : أنقض الحمل ظهر الناقة ، إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل ، وسمعت نقيض المرجل : أي صريره. قال عباس بن مرداس :

وأنقض ظهري ما تطويت منهم

وكنت عليهم مشفقا متحننا

وقال جميل :

وحتى تداعت بالنقيض حباله

وهمت بوأي زورة أن نحطها

والنقيض : صوت الانقضاض والانفكاك. (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) : هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن ، وفي تسميته نبي الله ورسول الله ، وذكره في كتب الأولين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. وقال حسان :

أغر عليه للنبوة خاتم

من الله مشهور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

٥٠٠