البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

وقال بعض اللغويين : يبيس العرفج إذا تحطم. وقال الزجاج : هو نبت كالعوسج. وقال الخليل : نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. النمارق : الوسائد ، واحدها نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما.

وقال زهير :

كهولا وشبانا حسانا وجوههم

على سرر مصفوفة ونمارق

الزرابي : بسط عراض فاخرة. وقال الفراء : هي الطنافس المخملة ، وواحدها زريبة بكسر الزاي وبفتحها. سطحت الأرض : بسطت ووطئت.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ، فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ، فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ، فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ، إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

هي مكية. ولما ذكر فيما قبلها (فَذَكِّرْ) (١) ، وذكر النار والآخرة ، قال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ). والغاشية : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم القيامة ، قاله سفيان والجمهور. وقال ابن جبير ومحمد بن كعب : النار ، قال تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٢). وقال : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (٣) ، فهي تغشى سكانها. وهذا الاستفهام توقيف ، وفائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر. وقيل : المعنى هل كان هذا من عملك لو لا ما علمناك؟ وفي هذا تعديد النعمة. وقيل : هل بمعنى قد. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ غشيت ، والتنوين عوض من الجملة ، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضا منها ، لكن لما تقدّم لفظ الغاشية ، وأل موصولة باسم الفاعل ، فتنحل للتي غشيت ، أي للداهية التي غشيت. فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها ، وإلى الموصول الذي هو التي. (خاشِعَةٌ) : ذليلة. (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) ، قال ابن عباس والحسن

__________________

(١) سورة الأعلى : ٨٧ / ٩.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٥٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٤١.

٤٦١

وابن جبير وقتادة : (عامِلَةٌ) في النار ، (ناصِبَةٌ) تعبة فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا. قيل. وعملها في النار جر السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود نار وهبوطها في حدور منها. وقال ابن عباس أيضا وزيد بن أسلم وابن جبير : عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى ، فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار ؛ والآية في القسيسين وعباد الأوثان وكل مجتهد في كفره. وقال عكرمة والسدي : عاملة ناصبة بالنصب على الذم ، والجمهور برفعهما.

وقرأ : (تَصْلى) بفتح التاء ؛ وأبو رجاء وابن محيصن والأبوان : بضمها ؛ وخارجة : بضم التاء وفتح الصاد مشدّد اللام ، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء (حامِيَةً) : مسعرة آنية قد انتهى حرها ، كقوله : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (١) ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. وقال ابن زيد : حاضرة لهم من قولهم : آنى الشيء حضر. والضريع ، قال ابن عباس : شجر من نار. وقال الحسين : وجماعة الزقوم. وقال ابن جبير : حجارة من نار. وقال ابن عباس أيضا وقتادة وعكرمة ومجاهد : شبرق النار. وقيل : العبشرق. وقيل : رطب العرفج ، وتقدم ما قيل فيه في المفردات. وقيل : واد في جهنم. والضريع ، إن كان الغسلين والزقوم ، فظاهر ولا يتنافى الحصر في (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٢) ، و (إِلَّا مِنْ) ضريع. وإن كانت أغيارا مختلفة ، والجمع بأن الزقوم لطائفة ، والغسلين لطائفة ، والضريع لطائفة.

وقال الزمخشري : (لا يُسْمِنُ) مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع ، يعني أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك ، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به ، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ، ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه ، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة ، والسمن في البدن ، انتهى. فقوله : مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع. أما جره على وصفه لضريع فيصح ، لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع. وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح ، لأن الطعام منفي ولا يسمن ، منفي فلا يصح تركيبه ، إذ يصير التقدير : ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع ، فيصير المعنى : أن لهم طعاما يسمن ويغني من جوع من غير ضريع ، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو ، فمعناه أن له مالا ينتفع به من غير مال عمرو. ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في (إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) كان صحيحا ، لأنه في موضع رفع على أنه بدل من اسم ليس ، أي ليس لهم طعام إلا كائن

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤٤.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٣٦.

٤٦٢

من ضريع ، إذ الإطعام من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع ، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح ، وقال الزمخشري : أو أريد أن لا طعام لهم أصلا ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس ، لأن الطعام ما أشبع وأسمن ، وهو منهما بمعزل. كما تقول : ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد نفي الظل على التوكيد. انتهى. فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظة طعام ، إذ ليس بطعام. والظاهر الاتصال فيه. وفي قوله : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (١) ، لأن الطعام هو ما يتطعمه الإنسان ، وهذا قدر مشترك بين المستلذ والمكروه وما لا يستلذ ولا يستكره.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) : صح الابتداء في هذا وفي قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل ، ناعمة لحسنها ونضارتها أو متنعمة. (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) : أي لعملها في الدنيا بالطاعة ، راضية إذا كان ذلك العمل جزاؤه الجنة. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) : أي مكانا ومكانة. وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم. (لا تَسْمَعُ) مبنيا للمفعول ، (لاغِيَةً) : رفع ، أي كلمة لاغية ، أو جماعة لاغية ، أو لغو ، فيكون مصدرا كالعاقبة ، ثلاثة أقوال ، الثالث لأبي عبيدة وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك ، إلا أنهم قرأوا بالياء لمجاز التأنيث ، والفضل والجحدري كذلك ، إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها ، أي أحد من قولك : أسمعت زيدا ؛ والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين ونافع في رواية خارجة وأبو عمرو بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : لا تسمع بتاء الخطاب عموما ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام ، أو الفاعل الوجود. لاغية : بالنصب ، (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) : عين اسم جنس ، أي عيون ، أو مخصوصة ذكرت تشريفا لها. (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) : من رفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما خوله ربه من الملك والنعيم ، أو مخبوءة من رفعت لك هذا ، أي خبأته. (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) : أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء ، أو موضوعة بين أيديهم ، أو موضوعة على حافات العيون. (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) : أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها. (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : متفرقة هنا وهنا في المجالس.

ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء ، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم ، أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل ، وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائما فقال : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) ، وهي الجمال ،

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٣٦.

٤٦٣

فإنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها ، من أكل لحمها ، وشرب لبنها ، والحمل عليها ، والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة ، وعيشها بأي نبات أكلته ، وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر ، وطواعيتها لمن يقودها ، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال ، وكثرة حنينها ، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها ، وهي لا شيء من الحيوان جميع هذه الخصال غيرها. وقد أبان تعالى امتنانه عليهم بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (١) ، الآيات. ولكونها أفضل ما عند الغرب ، جعلوها دية القتل ، ووهبوا المائة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه ، وذكرها الشعراء في مدح من وهبها ، كما قال :

أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية

وقال آخر :

الواهب المائة الهجان برمتها

وناسب التنبيه بالنظر إليها وإلى ما حوت من عجائب الصفات ، ما ذكر معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم ، وليدل على الاستدلال على إثبات الصانع ، وأنه ليس مختصا بنوع دون نوع ، بل هو عام في كل موجوداته ، كما قيل :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وقال أبو العباس : المبرد : الإبل هنا السحاب ، لأن العرب قد تسميها بذلك ، إذ تأتي إرسالا كالإبل ، وتزجى كما تزجى الإبل ، وهي في هيئتها أحيانا تشبه الإبل والنعام ، ومنه قوله :

كأن السحاب ذوين السماء

نعام تعلق بالأجل

وقال الزمخشري : ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة ، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل كثيرا في أشعارهم ، فجوّز أن يراد بها السحاب على طريقة التشبيه والمجاز ، انتهى. وقرأ الجمهور : (الْإِبِلِ) بكسر الباء وتخفيف اللام ؛

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ١٧١.

٤٦٤

والأصمعي عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعليّ وابن عباس : بشد اللام. ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا : إنها السحاب ، عن قوم من أهل اللغة. وقال الحسن : خص الإبل بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن ، فقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، وقال العرب : بعيدة العهد بالفيل ، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره ولا يحلب دره. والإبل لا واحد له من لفظه وهو مؤنث ، ولذلك إذا صغر دخلته التاء فقالوا : أبيلة ، وقالوا في الجمع : آبال. وقد اشتقوا من لفظه فقالوا : تأبل الرجل ، وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا : ما آبل زيدا. وإبل اسم جاء على فعل ، ولم يحفظ سيبويه مما جاء على هذا الوزن غيره. وكيف خلقت : جملة استفهامية في موضع البدل من الإبل ، وينظرون : تعدى إلى الإبل بواسطة إلى ، وإلى كيف خلقت على سبيل التعليق ، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم : عرفت زيدا أبو من هو على أصح الأقوال ، على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف ، فحكى أنهم قالوا : انظر إلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت ، وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام ، لم يبق الاستفهام على حقيقته ، وقد بينا ذلك في كتابنا المسمى بالتذكرة وفي غيره.

وقرأ الجمهور : (خُلِقَتْ) : رفعت ، (نُصِبَتْ) سطحت بتاء التأنيث مبنيا للمفعول ؛ وعليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بتاء المتكلم مبنيا للفاعل ، والمفعول محذوف ، أي خلقتها ، رفعتها ، نصبتها ؛ رفعت رفعا بعيد المدى بلا عمد ، نصبت نصبا ثابتا لا تميل ولا تزول ؛ سطحت سطحا حتى صارت كالمهاد للمتقلب عليها. وقرأ الجمهور : (سُطِحَتْ) خفيفة الطاء ؛ والحسن وهارون : بشدّها. ولما حضهم على النظر ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتذكيرهم فقال : (فَذَكِّرْ) ولا يهمنك كونهم لا ينظرون. (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ، كقوله تعالى : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (١). (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) : أي بمسلط ، كقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٢). وقرأ الجمهور : بالصاد وكسر الطاء ، وابن عامر في رواية ، ونطيق عن قنبل ، وزرعان عن حفص : بالسين ؛ وحمزة في رواية : بإشمام الزاي ؛ وهارون : بفتح الطاء ، وهي لغة تميم. وسيطر متعد عندهم ويدل عليه فعل المطاوعة وهو تسطر ، وليس في الكلام على هذا الوزن إلا مسيطر ومهيمن ومبيطر ومبيقر ، وهي أسماء فاعلين من سيطر وهيمن وبيطر. وجاء مجيمر اسم واد ومديبر ، ويمكن أن يكون أصلهما مدبر ومجمر فصغرا. وقرأ الجمهور : ألا حرف استثناء فقيل متصل ، أي فأنت مسيطر عليه. وقيل : متصل من فذكر ،

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٨.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ٤٥.

٤٦٥

أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر ، وما بينهما اعتراض. وقيل : منقطع ، وهي آية موادعة نسخت بآية السيف. وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ وقتادة وزيد بن أسلم : ألا حرف تنبيه واستفتاح ، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم.

وقرأ الجمهور : (إِيابَهُمْ) بتخفيف الياء مصدر آب ؛ وأبو جعفر وشيبة : بشدّها مصدرا لفعيل من آب على وزن فيعال ، أو مصدرا كفوعل كحوقل على وزن فيعال أيضا كحيقال ، أو مصدر الفعول كجهور على وزن فعوال كجهوار فأصله أوواب فقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ؛ واجتمع في هذا البناء والبناءين قبله واو وياء ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ، وأدغم ولم يمنع الإدغام من القلب لأن الواو والياء ليستا عينين من الفعل ، بل الياء في فيعل والواو في فعول زائدتان. وقال صاحب اللوامح ، وتبعه الزمخشري : يكون أصله إوابا مصدر أوّب ، نحو كذّب كذابا ، ثم قيل إوابا فقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها. قال الزمخشري : كديوان في دوان ، ثم فعل به ما فعل بسيد ، يعني أنه اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الواو ، فأما كونه مصدر أوب فإنه لا يجوز ، لأنهم نصوا على أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة ، ومثلوا بأخرواط مصدر اخروّط ، ومثلوا أيضا بمصدر أوب نحو أوّب إوابا ، فهذه وضعت على الإدغام ، فحصنها من الإبدال ولم تتأثر للكسر.

وأما تشبيه الزمخشري بديوان فليس بجيد لأنهم لم ينطقوا بها في الوضع مدغمة ، فلم يقولوا دوّان ، ولو لا الجمع على دواوين لم يعلم أن أصل هذه الياء واو ، وأيضا فنصوا على شذوذ ديوان فلا يقاس عليه غيره. وقال ابن عطية : ويصح أن يكون من أأوب ، فيجيء إيوابا ، سهلت الهمزة ، وكان اللازم في الإدغام يردها إوابا ، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس ، انتهى. فقوله : وكان اللازم في الإدغام بردها إوابا ليس بصحيح ، بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا ، لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل. وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة ، فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إيابا.

ولما كان من مذهب الزمخشري أن تقديم المعمول يفيد الحصر ، قال معناه : أن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه تعالى ، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير ، ومعنى الوجوب : الوجوب في الحكمة ، والله أعلم.

٤٦٦

سورة الفجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)

الحجر : العقل ، قال الفراء : العرب تقول : إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه حافظا

٤٦٧

لها ، كأنه من حجرت على الرجل ، إرم : أمّة قديمة ، وقيل : اسم أبي عاد كلها ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام. وقيل : مدينة ، وعلى أنه اسم قبيلة. قال زهير :

وآخرين ترى الماذيّ عدتهم

من نسج داود أو ما أورثت إرم

وقال الرقيات :

مجدا تليدا بناه أوله

أدرك عادا وقبله إرم

جاب : خرق وقطع ، تقول جبت البلاد أجوبها ، إذا قطعتها وجاوزتها ، قال :

ولا رأيت قلوصا قبلها حملت

ستين وسقا ولا جابت بها بلدا

السوط : آلة للضرب معروفة. قال بعض اللغويين : وهو مصدر من ساط يسوط إذا اختلط. وقال الليث : ساطه إذا خلطه بالسوط ، ومنه قول الشاعر :

أحارث أنا لو تساط دماؤنا

تزايلن حتى لا يمس دم دما

وقال أبو زيد : يقال أموالهم سويطة بينهم : أي مختلطة اللحم الجمع واللف. قال أبو عبيدة : لممت ما على الخوان ، إذا أكلت جميع ما عليه بأسره. وقال الحطيئة :

إذا كان لما يتبع الذم ربه

فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا

ومنه : لممت الشعث ، قال النابغة :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

الجم : الكبير.

(وَالْفَجْرِ ، وَلَيالٍ عَشْرٍ ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ، هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ، فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ، كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا ، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ، كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا

٤٦٨

صَفًّا ، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ، يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ، يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي).

هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال عليّ بن أبي طلحة : مدنية. ولما ذكر فيما قبلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) (١) ، و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (٢) ، أتبعها بذكر الطوائف المتكبرين المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وأشار إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ). وأيضا لما قال : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) (٣) ، قال هنا : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، تهديدا لمن كفر وتولى. وقرأ أبو الدينار الأعرابي : والفجر ، والوتر ، ويسر بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه : هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين ، وإن كان فعلا ، وإن كان فيه ألف ولام. قال الشاعر :

أقلّي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا

انتهى. وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر ، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر ، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي. وقرأ الجمهور : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) بالتنوين ؛ وابن عباس : بالإضافة ، فضبطه بعضهم. (وَلَيالٍ عَشْرٍ) بلام دون ياء ، وبعضهم وليالي عشر بالياء ، ويريد : وليالي أيام عشر. ولما حذف الموصوف المعدود ، وهو مذكر ، جاء في عدده حذف التاء من عشر. والجمهور : (وَالْوَتْرِ) بفتح الواو وسكون التاء ، وهي لغة قريش. والأغر عن ابن عباس ، وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن : بخلاف عنه ؛ والأخوان : بكسر الواو ، وهي لغة تميم ، واللغتان في الفرد ، فأما في الرحل فالكسر لا غير. وحكى الأصمعي : فيه اللغتين ؛ ويونس عن أبي عمرو : بفتح الواو وكسر التاء. والجمهور : (يَسْرِ) بحذف الياء وصلا ووقفا ؛ وابن كثير : بإثباتها فيهما ؛ ونافع وابن عمرو : بخلاف عنه بياء في الوصل وبحذفها في الوقف ؛ والظاهر وقول الجمهور ، منهم علي وابن عباس وابن الزبير : أن الفجر هو المشهور ، أقسم به كما أقسم بالصبح ، ويراد به الجنس ، لا فجر يوم مخصوص. وقال ابن عباس ومجاهد ؛ من يوم النحر ؛ وعكرمة : من يوم الجمعة ؛

__________________

(١) سورة الغاشية : ٨٨ / ٢.

(٢) سورة الغاشية : ٨٨ / ٨.

(٣) سورة الغاشية : ٨٨ / ٢٣.

٤٦٩

والضحاك : من ذي الحجة ؛ ومقاتل : من ليلة جمع ؛ وابن عباس وقتادة : من أول يوم من المحرم. وعن ابن عباس أيضا : الفجر : النهار كله ؛ وعنه أيضا وعن زيد بن أسلم : الفجر هو صلاة الصبح ، وقرآنها هو قرآن الفجر. وقيل : فجر العيون من الصخور وغيرها. وقال ابن الزبير والكلبي وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي وعطية العوفي : هي عشر ذي الحجة ؛ وابن عباس والضحاك : العشر الأواخر من رمضان. وقال ابن جريج : الأول منه ؛ ويمان وجماعة : الأول من المحرم ومنه يوم عاشوراء ؛ ومسروق ومجاهد : وعشر موسى عليه‌السلام التي أتمها الله تعالى. قيل : والأظهر قول ابن عباس للحديث المتفق على صحته. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. قال التبريزي : اتفقوا على أنه العشر الأواخر ، يعني من رمضان ، لم يخالف فيه أحد ، فتعظيمه مناسب لتعظيم القسم. وقال الزمخشري : وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة. فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت : لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر ، بعض منها أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها. فإن قلت : فهل لا عرفت بلام العهد لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت : لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير ، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية ، انتهى. أما السؤالان فظاهران ، وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق لا يعقل منه معنى فيقبل أو يرد.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) : ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا ، وعن عمران بن حصين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هي الصلوات ، منها الشفع ومنها الوتر». وروى أبو أيوب عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر». وروى جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة». وفي هذا الحديث تفسيره عليه الصلاة والسلام الفجر بالصبح والليالي العشر بعشر النحر ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، واختاره النحاس. وقال حديث أبي الزبير عن جابر : هو الذي صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين : «صوم عرفة وتر لأنه تاسعها ، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها». وذكر ابن عطية في الشفع والوتر أربعة عشر قولا ، والزمخشري ثلاثة أقوال ، ثم قال : وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه ، انتهى.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) : قسم بجنس الليل ، ويسري : يذهب وينقرض ، كقوله : (وَاللَّيْلِ

٤٧٠

إِذْ أَدْبَرَ) (١). وقال الأخفش وابن قتيبة : يسري فيه ، فيكون من باب ليلك نائم. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : المراد ليلة جمع لأنه يسري فيها ، وجواب القسم محذوف. قال الزمخشري : وهو لنعذبن ، يدل عليه قوله : (أَلَمْ تَرَ) إلى قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ). وقال ابن الأنباري : الجواب : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ). والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية ، وهو قوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢) ، وتقديره : لإيابهم إلينا وحسابهم علينا. وقول مقاتل : هل هنا في موضع تقديره : إن في ذلك قسما لذي حجر. فهل على هذا في موضع جواب القسم ، قول لم يصدر عن تأمل ، لأن المقسم عليه على تقدير أن يكون التركيب إن في ذلك قسما لذي حجر لم يذكر ، فيبقى قسم بلا مقسم عليه ، لأن الذي قدره من إن في ذلك قسما لذي حجر لا يصح أن يكون مقسما عليه ، وهل في ذلك تقرير على عظم هذه الأقسام ، أي هل فيها مقنع في القسم لذي عقل فيزدجر ويفكر في آيات الله. ثم وقف المخاطب على مصارع الأمم الكافرة الماضية مقصودا بذلك توعد قريش ، ونصب المثل لها. وعاد هو عاد بن عوص ، وأطلق ذلك على عقبه ، ثم قيل للأولين منهم عادا الأولى وإرم ، نسبة لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة. وقال مجاهد وقتادة : هي قبيلة بعينها. وقال ابن إسحاق : إرم هو أبو عاد كلها.

وقال الجمهور : إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن. وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية. وقال ابن المسيب والمقبري : هي دمشق. وقال مجاهد أيضا :إرم معناه القديمة. وقرأ الجمهور : بعاد مصر ، وفا إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية لأنه اسم للقبيلة ، وعاد ، وإن كان اسم القبيلة ، فقد يلحظ فيه معنى الحي فيصرف أو لا يلحظ ، فجاء على لغة من صرف هندا ، وإرم عطف بيان أو بدل. وقرأ الحسن : بعاد غير ممنوع الصرف مضافا إلى إرم ، فجاز أن يكون إرم وجدا ومدينة ؛ والضحاك : إرم بفتح الراء وما بعدها ممنوعي الصرف. وقرأ ابن الزبير : بعاد بالإضافة ، أرم بفتح الهمزة وكسر الراء ، وهي لغة في المدينة ، والضحاك : بعاد مصروفا ، وبعاد غير مصروف أيضا ، أرم بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف أرم بكسر الراء ؛ وعن ابن عباس والضحاك : أرم فعلا ماضيا ، أي بلي ، يقال : رم العظم وأرم هو : أي بلي ، وأرمه غيره معدى بالهمزة من رم الثلاثي. وذات على هذه القراءة مكسورة التاء ؛ وابن عباس

__________________

(١) سورة المدثر : ٧٤ / ٣٣.

(٢) سورة الغاشية : ٨٨ / ٢٥ ـ ٢٦.

٤٧١

أيضا : فعلا ماضيا ، ذات بنصب التاء على المفعول به ، وذات بالكسر صفة لإرم ؛ وسواء كانت اسم قبيلة أو مدينة ، وإن كان يترجح كونها مدينة بقوله : (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) ، فإذا كانت قبيلة صح إضافة عاد إليها وفكها منها بدلا أو عطف بيان ، وإن كانت مدينة فالإضافة إليها ظاهرة والفك فيها يكون على حذف مضاف ، أي بعاد أهل إرم ذات العماد.

وقرىء : (إِرَمَ ذاتِ) ، بإضافة إرم إلى ذات ، والإرم : العلم ، يعني بعاد : أعلام ذات العماد. ومن قرأ : أرم فعلا ماضيا ، ذات بالنصب ، أي جعل الله ذات العماد رميما ، ويكون (إِرَمَ) بدلا من (فَعَلَ رَبُّكَ) وتبيينا لفعل ، وإذا كانت (ذاتِ الْعِمادِ) صفة للقبيلة. فقال ابن عباس : هي كناية عن طول أبدانهم ، ومنه قيل : رفيع العماد ، شبهت قدودهم بالأعمدة ، ومنه قولهم : رجل عمد وعمدان أي طويل. وقال عكرمة ومقاتل : أعمدة بيوتهم التي كانوا يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود. وقال ابن زيد : أعمدة بنيانهم ، وإذا كانت صفة للمدينة ، فأعمدة الحجارة التي بنيت بها. وقيل : القصور العالية والأبراج يقال لها عماد. وحكي عن مجاهد : أرم مصدر ، أرم يأرم إذا هلك ، والمعنى : كهلاك ذات العماد ، وهذا قول غريب ، كأن معنى (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) : كيف أهلك عادا كهلاك ذات العماد. وذكر المفسرون أن ذات العماد مدينة ابتناها شداد بن عاد لما سمع بذكر الجنة على أوصاف بعيد ، أو مستحيل عادة أن يبنى في الأرض مثلها ، وأن الله تعالى بعث عليها وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلها هلكوا جميعا ، ويوقف على قصتهم في كتاب التحرير وشيء منها في الكشاف.

وقرأ الجمهور : (لَمْ يُخْلَقْ) مبنيا للمفعول ، (مِثْلُها) رفع ؛ وابن الزبير : مبنيا للفاعل ، مثلها نصبا ، وعنه : نخلق بالنون والضمير في مثلها عائد على المدينة التي هي ذات العماد في البلاد ، أي في بلاد الدنيا ، أو عائد على القبيلة ، أي في عظم أجسام وقوة. وقرأ ابن وثاب وثمود بالتنوين. والجمهور : بمنع الصرف. (جابُوا الصَّخْرَ) : خرقوه ونحتوه ، فاتخذوا في الحجارة منها بيوتا ، كما قال تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) (١). قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بالوادي ، وادي القرى. وقيل : جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه فعل ذي القوة

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٤٩.

٤٧٢

والآمال. (ذِي الْأَوْتادِ) : تقدم الكلام على ذلك في سورة ص. (الَّذِينَ) صفة لعاد وثمود وفرعون ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع على إضمارهم. (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) : أبهم هنا وأوضح في الحاقة وفي غيرها ، ويقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، واستعمل الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب ، قال :

فصب عليهم محصرات كأنها

شآبيب ليست من سحاب ولا قطر

يريد : المحدودين في قصة الإفك. وقال بعض المتأخرين في صفة الحبل :

صببنا عليهم ظالمين شياطنا

فطارت بها أيدي سراع وأرجل

وخص السوط فاستعير للعذاب ، لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره. وقال الزمخشري : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.

والمرصاد والمرصد : المكان الذي يترتب فيه الرصد ، مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المرصاد في الآية اسم فاعل ، كأنه قال : لبالراصد ، فعبر ببناء المبالغة ، انتهى. ولو كان كما زعم ، لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها ، لا زائدة ولا غير زائدة.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ) : ذكر تعالى ما كانت قريش تقوله وتستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده ، فيرون المكرم من عنده الثروة والأولاد ، والمهان ضده. ولما كان هذا غالبا عليهم وبخوا بذلك. والإنسان اسم جنس ، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ)؟ قلت : بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، كأنه قال : إن الله تعالى لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة ، وهو مرصد للعاصي ؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ، انتهى. وفيه التصريح بمذهب الاعتزال في قوله : لا يريد من الإنسان إلا الطاعة. وإذا العامل فيه فيقول : والنية فيه التأخير ، أي فيقول كذا وقت الابتداء ، وهذه الفاء لا تمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإن كانت فاء دخلت في خبر المبتدأ لأجل أما التي فيها معنى الشرط ، وبعد أما الثانية مضمر به وقع التوازن بين الجملتين تقديره : فأما إذا هو ما ابتلاه ، وفيقول خبر عن ذلك المبتدأ المضمر ، وابتلاه معناه : اختبره ، أيشكر أم يكفر إذا بسط له؟

٤٧٣

وأ يصبر أم يجزع إذا ضيق عليه؟ لقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١). وقابل ونعمه بقوله : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) ، ولم يقابل (فَأَكْرَمَهُ) بلفظ فأهانه ، لأنه ليس من يضيق عليه الرزق ، كان ذلك إهانة له. ألا ترى إلى ناس كثير من أهل الصلاح مضيقا عليهم الرزق كحال الإمام أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني رضي الله تعالى عنه وغيره ، وذم الله تعالى العبد في حالتيه هاتين.

أما في قوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، فلأنه إخبار منه على أنه يستحق الكرامة ويستوجبها. وأما قوله : (أَهانَنِ) ، فلأنه سمى ترك التفضيل من الله تعالى إهانة وليس بإهانة ، أو يكون إذا تفضل عليه أقر بإحسان الله إليه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك تفضل الله إهانة ، لا إلى الاعتراف بقوله : (أَكْرَمَنِ). وقرأ ابن كثير : أكرمني وأهانني بالياء فيهما ؛ ونافع : بالياء وصلا وحذفها وقفا ، وخير في الوجهين أبو عمرو ، وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا ، ومن حذفها وقفا سكن النون فيه. وقرأ الجمهور : (فَقَدَرَ) بخف الدال ؛ وأبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه ؛ وابن عامر : بشدها. قال الجمهور : هما بمعنى واحد بمعنى ضيق ، والتضعيف فيه للمبالغة لا للتعدي ، ولا يقتضي ذلك قول الإنسان (أَهانَنِ) ، لأن إعطاء ما يكفيه لا إهانة فيه. (كَلَّا) : رد على قولهم ومعتقدهم ، أي ليس إكرام الله وتقدير الرزق سببه ما ذكرتم ، بل إكرامه العبد : تيسيره لتقواه ، وإهانته : تيسيره للمعصية ؛ ثم أخبرهم بما هم عليه من أعمالهم السيئة. وقال الزمخشري : كلا ردع للإنسان عن قوله ، ثم قال : بل هنا شر من هذا القول ، وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدون فيها ما يلزمهم من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرة وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ويحبونه فيشحون به ، انتهى. وفي الحديث : «أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم». وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمر : يكرمون ولا يحضون ، ويأكلون ويحبون بياء الغيبة فيها ؛ وباقي السبعة ، بتاء الخطاب ، وأبو جعفر وشيبة والكوفيون وابن مقسم : تحاضون بفتح التاء والألف أصله تتحاضون ، وهي قراءة الأعمش ، أي يحض بعضكم بعضا ؛ وعبد الله أو علقمة وزيد بن عليّ وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي : كذلك إلا أنهم ضموا التاء ، أي تحاضون أنفسكم ، أي بعضكم بعضا ، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى فعل أيضا. (عَلى

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٥.

٤٧٤

طَعامِ) ، يجوز أن يكون بمعنى إطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، والأولى أن يكون على حذف مضاف ، أي على بذل طعام.

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) ، كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد ، فيأكلون نصيبهم ويقولون : لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة ، والتراث تاؤه بدل من واو ، كالتكلة والتخمة من توكلت ووخمت. وقيل : كانوا يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة وهم عالمون بذلك يجمعون بين الحلال والحرام ويسرفون في إنفاق ما ورثوه لأنهم ما تعبوا في تحصيله ، كما شاهدنا الوراث البطالين. (كَلَّا) : ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه في دار الدنيا. (دَكًّا دَكًّا) : حال كقولهم : بابا بابا ، أي مكررا عليهم الدّك. (وَجاءَ رَبُّكَ) ، قال القاضي منذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك ، وليس بمجيء نقلة ، وكذلك مجيء الطامّة والصاخة. وقيل : وجاء قدرته وسلطانه. وقال الزمخشري : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وسلطانه ، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه ، انتهى. والملك اسم جنس يشمل الملائكة. وروي أنه ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض في يوم القيامة. قال الزمخشري : (صَفًّا صَفًّا) تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس ، انتهى.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) ، كقوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (١) ، (يَوْمَئِذٍ) بدل من (إِذا). قال الزمخشري : وعامل النصب فيهما يتذكر ، انتهى. ظاهر كلامه أن العامل في البدل هو العامل نفسه في المبدل منه ، وهو قول قد نسب إلى سيبويه ، والمشهور خلافه ، وهو أن البدل على نية تكرار العامل ، أي يتذكر ما فرط فيه. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) : أي منفعة الذكرى ، لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر ، لو اتعظ في الدنيا لنفعه ذلك في الأخرى ، قاله الجمهور. قال الزمخشري وغيره : أو وقت حياتي في الدنيا ، كما تقول : جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا وكذا. وقال قوم : لحياتي في قبري ، يعني الذي كنت أكذب به. قال الزمخشري : وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقا بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجورين عن الطاعات مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء والبدع ، وإلا فما معنى التحسر؟ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٣٦.

٤٧٥

وقرأ الجمهور : (لا يُعَذِّبُ) ، و (لا يُوثِقُ) : مبنيين للفاعل ، والضمير في (عَذابَهُ) ، و (وَثاقَهُ) عائد على الله تعالى ، أي لا يكل عذابه ولا وثاقه إلى أحد ، لأن الأمر لله وحده في ذلك ؛ أو هو من الشدّة في حيز لم يعذب قط أحد في الدنيا مثله ، والأول أوضح لقوله : (لا يُعَذِّبُ) و (لا يُوثِقُ) ، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد ، بل موضوع ، لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلا. ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائدا على الكافر ، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه. وقيل إلى الله ، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر ، ويضعف هذا عمل لا يعذب في يومئذ ، وهو ظرف مستقبل. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوّار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو : بفتح الذال والثاء مبنيين للمفعول ، فيجوز أن يكون الضمير فيهما مضافا للمفعول وهو الأظهر ، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ، أو يحمل أحد عذاب الإنسان لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ، وعذاب وضع موضع تعذيب. وفي اقتياس مثل هذا خلاف ، وهو أن يعمل ما وضع لغير المصدر ، كالعطاء والثواب والعذاب والكلام. فالبصريون لا يجيزونه ويقيسونه. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم : وثاقه بكسر الواو ؛ والجمهور : بفتحها ، والمعذب هو الكافر على العموم. وقيل : هو أمية بن خلف. وقيل : أبيّ بن خلف. وقيل : المراد به إبليس ؛ وقام الدليل على أنه أشد من الناس عذابا ، ويدفع القول هذا قوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ، والضمائر كلها مسوقة له.

ولما ذكر تعالى شيئا من أحوال من يعذب ، ذكر شيئا من أحوال المؤمن فقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) ، وهذا النداء الظاهر إنه على لسان ملك. وقرأ الجمهور : بتاء التأنيث. وقرأ زيد بن علي : يا أيها بغير تاء ، ولا أعلم أحدا ذكر أنها تذكر ، وإن كان المنادى مؤنثا ، إلا صاحب البديع. وهذه القراءة شاهدة بذلك ، ولذلك وجه من القياس ، وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع ؛ فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث. (الْمُطْمَئِنَّةُ) : الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن ، أو التي كانت مطمئنة إلى الحق لم يخالطها شك. قال ابن زيد : يقال لها ذلك عند الموت وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا. وقيل : عند البعث. وقيل : عند دخول الجنة. (إِلى رَبِّكِ) : أي إلى موعد ربك. وقيل : الرب هنا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٤ ، وسورة الإسراء : ١٧ / ١٥ ، وسورة الزمر : ٣٩ / ٧.

٤٧٦

الإنسان دون النفس ، أي ادخل في الأجساد ، والنفس اسم جنس. وقيل : هذا النداء هو الآن للمؤمنين. لما ذكر حال الكفار قال : يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين ، (راضِيَةً) بما أوتيته ، (مَرْضِيَّةً) عند الله. (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) : أي في جملة عبادي الصالحين. (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم. وقيل : النفس والروح ، والمعنى : فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ الجمهور : (فِي عِبادِي) جمعا ؛ وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني : في عبدي على الإفراد ، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس ، فمدلوله ومدلول الجمع واحد. وقيل : هو على حذف خاطب النفس مفردة فقال : فادخلي في عبدي : أي في جسد عبدي. وتعدى فادخلي أولا بفي ، وثانيا بغير فاء ، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعددت إليه بفي ، دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ، ومنه : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي). وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا ، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة في. قيل : في عثمان بن عفان. وقيل : في حمزة. وقيل : في خبيب بن عدي ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

٤٧٧

سورة البلد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)

الكبد : الشدة والمشقة ، وأصله من كبد الرجل كبدا فهو أكبد ، إذا وجعه كبده وانتفخت ، فاستعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه المكابدة. وقال لبيد :

يا عين هلا بكيت أربداد

قمنا وقام الخصوم في كبد

وقال أبو الأصبع :

لو ابن عم لو أن الناس في كبد

لظل محتجرا بالنبل يرميني

الشفة معروفة ، وأصلها شفهة ، حذفت منها الهاء ، ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت ، وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء ، وإن كان تاء التأنيث. النجد : العنق

٤٧٨

وجمعه نجود ، وبه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة ، والنجد : الطريق العالي. قال امرؤ القيس :

فريقان منهم جازع بطن نحله

وآخر منهم قاطع كبكير

الفك : تخليص الشيء من الشيء ، قال الشاعر :

فيا رب مكروب كررت وراءه

وعان فككت الغل عنه فقداني

السغب : الجوع العام ، وقد يقال سغب الرجل إذا جاع. ترب الرجل ، إذا افتقر ولصق بالتراب ، وأترب ، إذا استغنى وصار ذا مال كالتراب ، وكذلك أثرى. أوصدت الباب وآصدته ، إذا أغلقته وأطبقته. قال الشاعر :

تحن إلى أجبال مكة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ، ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ).

هذه السورة مكية في قول الجمهور ، وقيل : مدنية. ولما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم وحالة التقدير ، وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر ، وما آل إليه حاله وحال المؤمن ، أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيّء وما آل إليه في الآخرة. والإشارة لهذا البلد إلى مكة.

(وَأَنْتَ حِلٌ) : جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة. وقال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال ، إحلال حرمته. وقال شرحبيل بن سعد : يعني (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) ، جعلوك حلالا مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقسم ببلده

٤٧٩

على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر.

ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : (وَأَنْتَ حِلٌ) في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله عزوجل : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ، واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال. إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ انتهى. وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولا أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ؛ فليست من الإخبار بالمستقبل. وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ؛ وهذا من مبادئ علم النحو. وأما قوله : وكفاك دليلا قاطعا إلخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل (وَأَنْتَ حِلٌ) على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيما بها ضرورة. وأيضا فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولا من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقامته فيها ، فصارت أهلا لأن يقسم بها.

والظاهر أن قوله : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) ، لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان. وقال مجاهد : آدم وجميع ولده. وقيل : والصالحين من ذريته. وقيل : نوح وذريته. وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليه‌السلام وجميع ولده. وقيل : ووالد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ولد إبراهيم عليه‌السلام. وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ، ولقراءة عبد الله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٢) ،

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٣٠.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦.

٤٨٠