البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

سورة البروج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)

الأخدود : الخد في الأرض ، وهو الشق ونحوهما بناء ، ومعنى الخق والأخقوق ، ومنه :

فساحت قوائمه في أخاقيق جردان

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ، قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ،

٤٤١

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ، فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ، وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها : لما ذكر أنه تعالى أعلم بما يجمعون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين من المكر ، والخداع ، وإذاية من أسلم بأنواع من الأذى ، كالضرب ، والقتل ، والصلب ، والحرق بالشمس ، وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ؛ ذكر أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم يعذبون بالنار ، وأن أولئك الذين أعرضوا على النار كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم أو يحرموا ، وأن أولئك الذين عذبوا عباد الله ملعونون ، فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون. فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب.

(ذاتِ الْبُرُوجِ) ، قال ابن عباس والجمهور : هي المنازل التي عرفتها العرب ، وهي اثنا عشر على ما قسمته ، وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. وقال عكرمة والحسن ومجاهد : هي القصور. وقال الحسن ومجاهد أيضا : هي النجوم. وقيل : عظام الكواكب ، سميت بروجا لظهورها. وقيل : هي أبواب السماء ؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر. (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) : هو يوم القيامة ، أي الموعود به. (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) : هذان منكران ، وينبغي حملهما على العموم لقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١) ، وإن كان اللفظ لا يقتضيه ، لكن المعنى يقتضيه ، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي. فإذا لوحظ فيها معنى العموم ، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم. وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة ، كقوله : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢) ، ولأنه إذا حمل (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) على العموم دخل فيه معنيان : الكتب الإلهية ، كالتوراة والإنجيل والقرآن ، فيحسن إذ ذاك القسم به.

__________________

(١) سورة التكوير : ٨١ / ١٤.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ١ ـ ٢.

٤٤٢

ولما ذكر واليوم الموعود ، وهو يوم القيامة باتفاق ، وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ناسب أن يكون المقسم به من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه. إن كان ذلك من الشهادة ، وإن كان من الحضور ، فالشاهد : الخلائق الحاضرون للحساب ، والمشهود : اليوم ، كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١) ، كان موعودا به فصار مشهودا ، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما.

وعن ابن عباس : الشاهد : الله تعالى ؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار : آدم عليه‌السلام وذريته ؛ وعن ابن عباس أيضا والحسن : الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة ، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة ؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة : وشاهد يوم الجمعة ؛ وعن ابن المسيب : يوم التروية ؛ وعن علي أيضا : يوم القيامة ؛ وعن النخعي : يوم الأضحى. ومشهود في هذه الأقوال يوم عرفة ؛ وعن ابن عمر : يوم الجمعة ، ومشهود يوم النحر ؛ وعن جابر : يوم الجمعة ، ومشهود الناس ؛ وعن محمد بن كعب : ابن آدم ، ومشهود الله تعالى ؛ وعن ابن جبير : عكس هذا ؛ وعن أبي مالك : عيسى ، ومشهود أمته ، وعن علي : يوم عرفة ، ومشهود يوم النحر ؛ وعن الترمذي : الحكيم الحفظة ، ومشهود عليهم : الناس ؛ وعن عبد العزيز بن يحيى : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومشهود عليه أمته ؛ وعنه : الأنبياء ، ومشهود أممهم ؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة ، ومشهود أصحابها. وقيل : هما يوم الاثنين ويوم الجمعة. وقيل : الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر. وقيل : النجم والليل والنهار. وقيل : الله والملائكة وأولو العلم ، ومشهود به الوحدانية ، و (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢). وقيل : مخلوقاته تعالى ، ومشهود به وحدانيته. وقيل : هما الحجر الأسود والحجيج. وقيل : الليالي والأيام وبنو آدم. وقيل : الأنبياء ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك ، وللصوفية أقوال غير هذه. والظاهر ما قلناه أولا ، وجواب القسم قيل محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه. وقال الزمخشري : يدل عليه (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ). وقيل : الجواب مذكور فقيل : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا). وقال المبرد : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). وقيل : قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل ، وحسن حذفها كما حسن في قوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (٣) ، ثم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٤) ، أي لقد

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٩.

(٣) سورة الشمس : ٩١ / ١.

(٤) سورة الشمس : ٩١ / ٩.

٤٤٣

أفلح من زكاها ، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله ، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان (قُتِلَ) جوابا للقسم ، فهي جملة خبرية ، وقيل : دعاء ، فكون الجواب غيرها. وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد ، والجمهور بالتخفيف.

وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالا فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا ؛ ومضمنها أن ناسا من الكفار خدوا أخدودا في الأرض وسجروه نارا وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصرّ على الإيمان أحرقوه ؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين. وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق : بعث الله على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود ، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن ، ويكون خبرا عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم. وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه. وقرأ الجمهور : (النَّارِ) بالجر ، وهو بدل اشتمال ، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف ، أي أخدود النار. وقرأ قوم النار بالرفع. قيل : على معنى قتلهم ، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين ، وقتل على حقيقته. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى : الوقود بضم الواو وهو مصدر ، والجمهور : بفتحها ، وهو ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضا مصدر كالضم. والظاهر أن الضمير في (إِذْ هُمْ) عائد على الذين يحرقون المؤمنين ، وكذلك في (وَهُمْ) على قول الربيع يعود على الكافرين ، ويكون هم أيضا عائدا عليهم ، ويكون معنى (عَلى ما يَفْعَلُونَ) : ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين. وقيل : أصحاب الأخدود محرق ، وتم الكلام عن قوله : (ذاتِ الْوَقُودِ) ، ويكون المراد بقوله : (وَهُمْ) قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، وإذا العامل فيه قتل ، أي لعنوا وقعدوا على النار ، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كما قال الأعشى :

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندي والمحلق

(شُهُودٌ) : يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم. وقرأ الجمهور :

٤٤٤

(نَقَمُوا) بفتح القاف ؛ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (١) ، وكقول قيس الرقيات :

ما نقموا من بني أمية إلا

أنهم يحلمون أن غضبوا

جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحا حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر :

ولا عيب فيها غير شكلة عينها

كذاك عتاق الطير شكلا عيونها

وفي المنتخب : إنما قال (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) ، لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يدعوا على إيمانهم. انتهى. وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه ، حميدا منعما يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السموات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريرا لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : وعيد لهم ، أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم. والظاهر أن (الَّذِينَ فَتَنُوا) عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذابا لكفرهم ، وعذابا لفتنتهم. وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم ، (فَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم ، (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) : وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، انتهى. وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوّزه ، لأن في الآية (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) ، وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر. وقال ابن عطية : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) يقوي أن الآيات في قريش ، لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم. وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن ، انتهى. وكذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، المراد به العموم لا المطروحون في النار ، والبطش : الأخذ بقوة. (يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) ، قال ابن زيد والضحاك : يبدىء الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر. وقال ابن عباس : عام في جميع الأشياء ، أي كلّ

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٩.

٤٤٥

ما يبدأ وكل ما يعاد. وقال الطبري : يبدىء العذاب ويعيده على الكفار ؛ ونحوه عن ابن عباس قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ، ثم يعيدهم خلقا جديدا. وقرىء : يبدأ من بدأ ثلاثيا ، حكاه أبو زيد.

ولما ذكر شدّة بطشه ، ذكر كونه ، غفورا ساترا لذنوب عباده ، ودودا لطيفا بهم محسنا إليهم ، وهاتان صفتا فعل. والظاهر أن الودود مبالغة في الوادّ ؛ وعن ابن عباس : المتودد إلى عباده بالمغفرة. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد :

وأركب في الروع عريانة

ذلول الجماع لفاحا ودودا

أي : لا ولد لها تحن إليه. وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون. (ذُو الْعَرْشِ) : خص العرش بإضافة نفسه تشريفا للعرش وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات. وقرأ الجمهور : (ذُو) بالواو ؛ وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك. وقال القفال : (ذُو الْعَرْشِ) : ذو الملك والسلطان. ويجوز أن يراد بالعرش : السرير العالي ، ويكون خلق سريرا في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ، انتهى. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان : (الْمَجِيدُ) بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوّه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا. ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخبارا عن هو ، فيكون (فَعَّالٌ) خبرا. ويجوز أن يكون (الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ) صفتين للغفور ، و (فَعَّالٌ) خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) : تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم. والجنود : الجموع المعدّة للقتال. (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) : بدل من (الْجُنُودِ) ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن. وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدّمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضا. ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله :

٤٤٦

ألم تر أن الله أهلك تبعا

وأهلك لقمان بن عاد وعاديا

وأهلك ذا القرنين من قبل ما نوى

وفرعون جبارا طغى والنجاشيا

وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي من قومك ، (فِي تَكْذِيبٍ) : حسدا لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم. (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) : أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطا به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعا ، والمعنى : دنو هلاكهم.

ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كذبوه وكذبوا ما جاء به وهو القرآن ، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ) : أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ، ومجادته : شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه ، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه. وقرأ الجمهور : (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) : موصوف وصفة. وقرأ ابن السميفع : (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) بالإضافة ، قال ابن خالويه : سمعت ابن الأنباري يقول معناه : بل هو قرآن رب مجيد ، كما قال الشاعر :

ولكن الغني رب غفور

معناه : ولكن الغنى غنى رب غفور ، انتهى. وعلى هذا أخرجه الزمخشري. وقال ابن عطية : وقرأ اليماني : قرآن مجيد على الإضافة ، وأن يكون الله تعالى هو المجيد ، انتهى. ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ؛ فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع مجيد واحدا ، وهذا أولى لتوافق القراءتين. وقرأ الجمهور : (فِي لَوْحٍ) بفتح اللام ، (مَحْفُوظٍ) بالخفض صفة للوح ، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع : بضم اللام. قال ابن خالويه : اللوح : الهواء. وقال الزمخشري : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ من وصول الشياطين إليه ، انتهى. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه : محفوظ بالرفع صفة لقرآن ، كما قال تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، أي هو محفوظ في القلوب ، لا يلحقه خطأ ولا تبديل.

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٩.

٤٤٧

سورة الطّارق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)

طرق يطرق طروقا : أتى ليلا ، قال امرؤ القيس :

ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعا

وأصله الضرب ، لأن الطارق يطرق الباب ، ومنه المطرقة : وهي المبيعة ، واتسع فيه فكل ما جاء بليل يسمى طارقا ، ويقال : أطرق فلان : أمسك عن الكلام ، وأطرق بعينيه : رمى بهما نحو الأرض. دفق الماء يدفقه دفقا : صبه ، وماء دافق على النسب ، ويقال : دفق الله روحه ، إذا دعا عليه بالموت. التريبة : موضع القلادة من الصدر. قال امرؤ القيس :

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسجنجل

جمعها بما حولها فقال ترائبها ، وقال الشاعر :

والزعفران على ترائبها

شرقت به اللبات والنحر

وقال أبو عبيدة : وجمع تريبة تريب ، قال المثقب العبدي :

٤٤٨

ومن ذهب يبين على تريب

كلون العاج ليس بذي غصون

الهزل : ضدّ الجد ، وقال الكميت :

تجدّ بنا في كل يوم وتهزل

أمهلت الرجل : انتظرته ، والمهل والمهلة : السكينة ، ومهلته أيضا تمهيلا وتمهل في أمره : اتأد ، واستمهلته : انتظرته ، ويقال مهلا : أي رفقا وسكونا. رويدا : مصدر أرود يرود ، مصغر تصغير الترخيم ، وأصله إروادا. وقيل : هو تصغير رود ، من قوله : يمشي على رود : أي مهل ، ويستعمل مصدرا نحو : رويد عمرو بالإضافة : أي إمهال عمرو ، كقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) (١) ، ونعتا لمصدر نحو : ساروا سيرا رويدا ؛ وحالا نحو : سار القوم رويدا ، ويكون اسم فعل ، وهذا كله موضح في علم النحو ، والله تعالى أعلم.

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ ، إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ ، وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ ، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ، وَأَكِيدُ كَيْداً ، فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً).

هذه السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن ، نبه هنا على حقارة الإنسان ، ثم استطرد منه إلى أن هذا القرآن قول فصل جد ، لا هزل فيه ولا باطل يأتيه. ثم أمر نبيه بإمهال هؤلاء الكفرة المكذبين ، وهي آية موادعة منسوخة بآية السيف. (وَالسَّماءِ) : هي المعروفة ، قاله الجمهور. وقيل : السماء هنا المطر ، (وَالطَّارِقِ) : هو الآتي ليلا ، أي يظهر بالليل. وقيل : لأنه يطرق الجني ، أي يصكه ، من طرقت الباب إذا ضربته ليفتح لك. أتى بالطارق مقسما به ، وهي صفة مشتركة بين النجم الثاقب وغيره. ثم فسره بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) ، إظهارا لفخامة ما أقسم به لما علم فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وتنبيها على ذلك. كما قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٢).

وقال ابن عطية : معنى الآية : والسماء وجميع ما يطرق فيه من الأمور والمخلوقات. ثم ذكر بعد ذلك ، على جهة التنبيه ، أجل الطارقات قدرا وهو النجم الثاقب ، وكأنه قال :

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٤.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٥ ـ ٧٦.

٤٤٩

وما أدراك ما الطارق حتى الطارق ، انتهى. فعلى هذا يكون (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) بعضا مما دل عليه (وَالطَّارِقِ) ، إذ هو اسم جنس يراد به جميع الطوارق. وعلى قول غيره : يراد به واحد مفسر بالنجم الثاقب. والنجم الثاقب عند ابن عباس : الجدي ، وعند ابن زيد : زحل. وقال هو أيضا وغيره : الثريا ، وهو الذي تطلق عليه العرب اسم النجم. وقال علي : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد. وقال الحسن : هو اسم جنس لأنها كلها ثواقب ، أي ظاهرة الضوء. وقيل : المراد جنس النجوم التي يرمى بها ويرجم. والثاقب ، قيل : المضيء ؛ يقال : ثقب يثقب ثقوبا وثقابة : أضاء ، أي يثقب الظلام بضوئه. وقيل : المرتفع العالي ، ولذلك قيل هو زحل لأنه أرقها مكانا. وقال الفراء : ثقب الطائر ارتفع وعلا.

وقرأ الجمهور : إن خفيفة ، كل رفعا لما خفيفة ، فهي عند البصريين مخففة من الثقيلة ، وكل مبتدأ واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة ، وما زائدة ، وحافظ خبر المبتدأ ، وعليها متعلق به. وعند الكوفيين : إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، وكل وحافظ مبتدأ وخبر ؛ والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما : لما مشددة وهي بمعنى إلا ، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم. تقول العرب : أقسمت عليك لما فعلت كذا : أي إلا فعلت ، قاله الأخفش. فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون نافية ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. وحكى هارون أنه قرىء : إن بالتشديد ، كل بالنصب ، فاللام هي الداخلة في خبر إن ، وما زائدة ، وحافظ خبر إن ، وجواب القسم هو ما دخلت عليه إن ، سواء كانت المخففة أو المشددة أو النافية ، لأن كلّا منها يتلقى به القسم ؛ فتلقيه بالمشددة مشهور ، وبالمخففة (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (١) ، وبالنافية (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما) (٢). وقيل : جواب القسم (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) ، وما بينهما اعتراض ، والظاهر عموم كل نفس. وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) مكلفة ، (عَلَيْها حافِظٌ) : يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها ، فيكون في الآية وعيد وزاجر وما بعد ذلك يدل عليه. وقيل : حفظة من الله يذبون عنها ، ولو وكل المرء إلى نفسه لا ختطفته الغير والشياطين. وقال الكلبي

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٥٦.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٤١.

٤٥٠

والفراء : حافظ من الله يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير. وقيل : الحافظ : العقل يرشده إلى مصالحه ويكفه عن مضاره. وقيل : حافظ مهيمن ورقيب عليه ، وهو الله تعالى.

ولما ذكر أن كل نفس عليها حافظ ، أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل لذلك ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته. و (مِمَّ خُلِقَ) : استفهام ، ومن متعلقة بخلق ، والجملة في موضع نصب بفلينظر ، وهي معلقة. وجواب الاستفهام ما بعده وهو : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) ، وهو مني الرجل والمرأة لما امتزجا في الرحم واتحدا عبر عنهما بماء ، وهو مفرد ، ودافق قيل : هو بمعنى مدفوق ، وهي قراءة زيد بن عليّ. وعند الخليل وسيبويه : هو على النسب ، كلا بن وتامر ، أي ذي دفق. وعن ابن عباس : بمعنى دافق لزج ، وكأنه أطلق عليه وصفه لا أنه موضوع في اللغة لذلك ، والدفق : الصب ، فعله متعد. وقال ابن عطية : والدفق : دفع الماء بعضه ببعض ، تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا. ويصح أن يكون الماء دافقا ، لأن بعضه يدفع بعضا ، فمنه دافق ومنه مدفوق ، انتهى. وركب قوله هذا على تدفق ، وتدفق لازم دفقته فتدفق ، نحو : كسرته فتكسر ، ودفق ليس في اللغة معناه ما فسر من قوله : والدفق دفع الماء بعضه ببعض ، بل المحفوظ أنه الصب. وقرأ الجمهور : (يَخْرُجُ) مبنيا للفاعل ، (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) : بضم الصاد وسكون اللام ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم : مبنيا للمفعول ، وهما وأهل مكة وعيسى : بضم الصاد واللام ؛ واليماني : بفتحهما. قال العجاج :

في صلب مثل العنان المؤدم

وتقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء ، وإعرابها صالب كما قال العباس :

تنقل من صالب إلى رحم

قال قتادة والحسن : معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه. وقال سفيان وقتادة أيضا : من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وتقدم شرح الترائب في المفردات. وقال ابن عباس : موضع القلادة ؛ وعن ابن جبير : هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب. وقيل : ما بين المنكبين والصدر. وقيل : هي التراقي ؛ وعن معمر : هي عصارة القلب ومنه يكون الولد. ونقل مكي عن ابن عباس أن الترائب أطراف المرء ، رجلاه ويداه وعيناه. قال ابن عطية : وفي هذه الأحوال تحكم على اللغة ، انتهى.

٤٥١

(إِنَّهُ) : الضمير يعود على الخالق الدال عليه خلق. (عَلى رَجْعِهِ) ، قال ابن عباس وقتادة : الضمير في رجعه عائد على الإنسان ، أي على رده حيا بعد موته ، أي من أنشأه أولا قادر على بعثه يوم القيامة لا يعجزه شيء. وقال الضحاك : على رده من الكبر إلى الشباب. وقال عكرمة ومجاهد : الضمير عائد على الماء ، أي على رد الماء في الإحليل أو في الصلب. وعلى هذا القول وقول الضحاك يكون العامل في (يَوْمَ تُبْلَى) مضمر تقديره اذكر. وعلى قول ابن عباس ، وهو الأظهر ، فقال بعض النحاة : العامل ناصر من قوله : (وَلا ناصِرٍ) ، وهذا فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، وكذلك ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور. وقال آخرون ، ومنهم الزمخشري : العامل رجعه ورد بأن فيه فصلا بين الموصول ومتعلقه ، وهو من تمام الصلة ، ولا يجوز. وقال الحذاق من النحاة : العامل فيه مضمر يدل عليه المصدر تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر. قال ابن عطية : وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل لقادر ، لأنه يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده. وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون المعنى لقادر ، وذلك أنه قال : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) على الإطلاق أولا وآخرا وفي كل وقت. ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار ، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه ، انتهى. (تُبْلَى) قيل : تختبر ، وقيل : تعرف وتتصفح وتميز صالحها من فاسدها ، و (السَّرائِرُ) : ما أكنته القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفته الجوارح من الأعمال ، والظاهر عموم السرائر. وفي الحديث : إنها التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ، وكان المذكور في الحديث هو أعظم السرائر ، وسمع الحسن من ينشد :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

فقال : ما أغفله عما في السماء والطارق ، والبيت للأحوص. ولما كان الامتناع في الدنيا إما بقوة في الإنسان ، وإما بناصر خارج عن نفسه ، نفى عنه تعالى ما يمتنع به وأتى بمن الدالة على العموم في نفي القوة والناصر. (وَالسَّماءِ) : أقسم ثانيا بالسماء وهي المظلة. قيل : ويحتمل أن يكون السحاب. (ذاتِ الرَّجْعِ) ، قال ابن عباس : الرجع : السحاب فيه المطر. وقال الحسن : ترجع بالرزق كل عام. وقال ابن زيد : الرجع مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة ، تذهب وترجع ، وقيل : الرجع : المطر ، ومنه قول الهذلي :

٤٥٢

أبيض كالرجع رسوب إذا

ما ناح في محتفل يختلي

يصف سيفا شبهه بماء المطر في بياضه وصفائه ، وسمي رجعا كما سمي إربا ، قال الشاعر :

ربا شمالا يأوي لقلتها

إلا السحاب وإلا الإرب والسبل

تسمية بمصدر آب ورجع. تزعم العرب أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض إذا أرادوا التفاؤل ، وسموه رجعا وإربا ليرجع ويؤب. وقيل : لأن الله تعالى يرجعه وقتا فوقتا ، قالت الخنساء :

كالرجع في الموجنة السارية

وقيل : الرجع : الملائكة ، سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد. وقيل : السحاب ، والمشهور عند أهل اللغة وقول الجمهور : أن الرجع هو المطر ، والصدع : ما تتصدع عنه الأرض من النبات ، ويناسب قول من قال : الرجع : المطر. وقال ابن زيد : ذات الانشقاق : النبات. وقال أيضا : ذات الحرث. وقال مجاهد : الصدع : ما في الأرض من شقاق ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره ، وهي أمور فيها معتبر ، وعنه أيضا : ذات الطرق تصدعها المشاة. وقيل : ذات الأموات لانصداعها عنهم يوم النشور. والضمير في (إِنَّهُ) ، قالوا عائد على القرآن. (فَصْلٌ) أي فاصل بين الحق والباطل ، كما قيل له فرقان. وأقول : ويجوز أن يعود الضمير في (إِنَّهُ) على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة ، وابتلاء سرائره : أي إن ذلك القول قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه ، ويكون الضمير قد عاد على مذكور ، وهو الكلام الذي تضمن الأخبار عن البعث ، وليس من الأخبار التي فيها هزل بل هو جد كله. (إِنَّهُمْ) : أي الكافرون ، (يَكِيدُونَ) : أي في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق ، (وَأَكِيدُ) : أي أجازيهم على كيدهم ، فسمى الجزاء كيدا على سبيل المقابلة ، نحو قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (١) ، (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (٢) ، (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٣).

ثم أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : أي انتظر عقوبتهم ولا تستعجل ذلك ثم أكد أمره فقال : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : أي إمهالا لما كرر الأمر توكيدا خالف بين اللفظين ، على أن الأول مطلق ، وهذا الثاني مقيد بقوله : (رُوَيْداً). وقرأ ابن عباس : مهلهم ، بفتح الميم وشدّ الهاء موافقة للفظ الأمر الأول.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٥.

٤٥٣

سورة الأعلى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)

الغثاء ، مخفف الثاء ومشدّدها : ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش ، قال الشاعر :

كأن ظميئات المخيمر غدوة

من السيل والغثاء فلك مغرل

ورواه الفرّاء : والإغثاء على الجمع ، وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال. الحوّة : سواد يضرب إلى الخضرة ، قال ذو الرّمة :

لمياء في شفتها حوّة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وقيل : خضرة عليها سواد ، والأحوى : الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض ، قال الشاعر :

٤٥٤

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن

مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد

وفي الصحاح : الحوة : سمرة ، وقال الأعلم : لون يضرب إلى السواد ، وقال أيضا : الشديد الخضرة التي تضرب إلى السواد.

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى ، سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) (١) ، كأن قائلا قال : من خلقه على هذا المثال؟ فقيل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ). وأيضا لما قال : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) (٢) ، قيل : هو (سَنُقْرِئُكَ) ، أي ذلك القول الفصل.

(سَبِّحِ) : نزّه عن النقائص ، (اسْمَ رَبِّكَ) : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى. وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى. وقيل : معناه نزّه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع. وقال ابن عباس : المعنى صلّ باسم ربك الأعلى ، كما تقول : ابدأ باسم ربك ، وحذف حرف الجر. وقيل : لما نزل (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٣) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم». فلما نزل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، قال : «اجعلوها في سجودكم». وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت. قالوا : (الْأَعْلَى) يصح أن يكون صفة لربك ، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوبا ، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب (الَّذِي خَلَقَ) صفة لربك ، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره. لو قلت : رأيت غلام هند العاقل الحسنة ، لم يجز ؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند ، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول : رأيت غلام هند الحسنة العاقل. فإن لم يجعل الذي صفة لربك ، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح ، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم.

__________________

(١) سورة الطارق : ٨٦ / ٥.

(٢) سورة الطارق : ٨٦ / ١٣.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٤.

٤٥٥

(الَّذِي خَلَقَ) : أي كل شيء ، (فَسَوَّى) : أي لم يأت متفاوتا بل متناسبا على إحكام وإتقان ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم. وقرأ الجمهور : (قَدَّرَ) بشد الدال ، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء. وقال الزمخشري : قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، انتهى. وقرأ الكسائي : قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة ، وهدى عام لجميع الهدايات. وقال الفرّاء : فهدى وأضل ، اكتفى بالواحدة عن الأخرى. وقال الكلبي ومقاتل : هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث. وقال مجاهد : هدى الإنسان للخير والشر ، والبهائم للمراتع. وقيل : هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص. والظاهر أن أحوى صفة لغثاء. قال ابن عباس : المعنى (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) : أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى. وقيل : أحوى حال من المرعى ، أي أحرى المرعى أحوى ، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه ، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل ، قال :

وغيث من الوسمي حوتلاعه

تبطنته بشيظم صلتان

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، قال الحسن وقتادة ومالك : هذا في معنى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) (١). وعده الله أن يقرئه ، وأخبره أنه لا ينسى ، وهذه آية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنه أمّيّ ، وحفظ الله عليه الوحي ، وأمنه من نسائه. وقيل : هذا وعد بإقراء السور ، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته ، فهو نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبتت الألف في (فَلا تَنْسى) ، وإن كان مجزوما بلا التي للنهي لتعديل رؤوس الآي.

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، الظاهر أنه استثناء مقصود. قال الحسن وقتادة وغيرهما : مما قضى الله نسخه ، وأن ترتفع تلاوته وحكمه. وقال ابن عباس : إلا ما شاء الله أن ينسيك لتسن به ، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام : «أني لأنسى وأنسى لأسن». وقيل : إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه ، ثم يذكرك به بعد ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، حين سمع قراءة عباد بن بشير : «لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا». وقيل : (فَلا تَنْسى) : أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل.

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ١٦.

٤٥٦

وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه.

وأخذ الزمخشري هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء الله ، والغرض نفي النسيان رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي ، انتهى. وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء ، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، بل ولا في كلام فصيح. وكذلك القول بأن لا في (فَلا تَنْسى) للنهي ، والألف ثابتة لأجل الفاصلة ، وهذا قول ضعيف. ومفهوم الآية في غاية الظهور ، وقد تعسفوا في فهمها. والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه ، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله ، فإنه ينساه إما النسخ ، وإما أن يسن ، وإما على أن يتذكر. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه ، فإن وقع نسيان ، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة.

ومناسبة (سَنُقْرِئُكَ) لما قبله : أنه لما أمره تعالى بالتسبيح ، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى ، استثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) : أي جهرك بالقرآن ، (وَما يَخْفى) : أي في نفسك من خوف التفلت ، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه ، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء. (وَنُيَسِّرُكَ) معطوف على (سَنُقْرِئُكَ) ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض ، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني في حفظ الوحي. وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة. وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة. ولما أخبر أنه يقرئه وييسره ، أمره بالتذكير ، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم. والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى ، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش ، أي (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) في هؤلاء الطغاة العتاة ، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى ، فهو كما قال الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك ؛ فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع. وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني. وقيل : إن بمعنى إذ ، كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ

٤٥٧

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) : أي إذ كنتم ؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم. (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) : أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف ، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه ، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق ، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له. (وَيَتَجَنَّبُهَا) : أي الذي ، (الْأَشْقَى) : أي المبالغ في الشقاوة ، لأن الكافر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله. ثم وصفه بما يؤول إليه حاله في الآخرة ، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى. قال الحسن : النار الكبرى : نار الآخرة ، والصغرى : نار الدنيا. وقال الفراء : الكبرى : السفلى من أطباق النار. وقيل : نار الآخرة تتفاضل ، ففيها شيء أكبر من شيء. (ثُمَّ لا يَمُوتُ) : فيستريح ، (وَلا يَحْيى) حياة هنيئة ؛ وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذانا بتفاوت مراتب الشدة ، لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي بالنار.

(قَدْ أَفْلَحَ) : أي فاز وظفر بالبغية ، (مَنْ تَزَكَّى) : تطهر. قال ابن عباس : من الشرك ، وقال : لا إله إلا الله. وقال الحسن : من كان عمله زاكيا. وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة : من رضخ من ماله وزكاه. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) : أي وحده ، لم يقرنه بشيء من الأنداد ، (فَصَلَّى) : أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل ، والمعنى : أنه لما تذكر آمن بالله ، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة ، واحتج بقوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى ، وأنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح ، وهو احتجاج ضعيف. وقال ابن عباس : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) : أي معاده وموقفه بين يدي ربه ، (فَصَلَّى) له. وقرأ الجمهور : (بَلْ تُؤْثِرُونَ) بتاء الخطاب للكفار. وقيل : خطاب للبر والفاجر ؛ يؤثرها البر لاقتناء الثواب ، والفاجر لرغبته فيها. وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم : بياء الغيبة.

(إِنَّ هذا) : أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا ، قاله ابن زيد وابن جرير ، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا. وقال ابن عباس وعكرمة والسدي : إلى معاني السورة. وقال الضحاك : إلى القرآن. وقال قتادة : إلى قوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٩.

٤٥٨

(لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، لم ينسخ إفلاح من تزكى ، والآخرة خير وأبقى في شرع من الشرائع. فهو في الأولى وفي آخر الشرائع. وقرأ الجمهور : الصحف بضم الحاء كالحرف الثاني ؛ والأعمش وهرون وعصمة ، كلاهما عن أبي عمرو : بسكونها ؛ وفي كتاب اللوامح العبقلي عن أبي عمرو : الصحف صحف بإسكان الحاء فيهما ، لغة تميم. وقرأ الجمهور : إبراهيم بألف وبياء والهاء مكسورة ؛ وأبو رجاء : بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معا ؛ وأبو موسى الأشعري وابن الزبير : أبراهام بألف في كل القرآن ؛ ومالك بن دينار : إبراهم بألف وفتح الهاء وبغير ياء ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكرة : إبراهيم بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن. قال ابن خالويه : وقد جاء إبراهم ، يعني بألف وضم الهاء. وتقدم في والنجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.

٤٥٩

سورة الغاشية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)

الضريع ، قال أبو حنيفة وأظنه صاحب النبات ، الضريع : الشبرق ، وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحما ولا لحما ، ومنه قول ابن عزارة الهذلي :

وحبسن في هزم الضريع فكلها

حدباء دامية اليدين حرود

وقال أبو ذؤيب :

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى

وصار ضريعا بان عنه النحائص

٤٦٠