البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

استعارة ، ولهذا قيل : دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ) ، قال ابن عباس والضحاك : القيامة. وقال ابن عباس أيضا والحسن : النفخة الثانية. وقال القاسم : وقت سوق أهل الجنة إليها ، وأهل النار إليها ، وهو معنى قول مجاهد. (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) : أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا. وقرأ الجمهور : (وَبُرِّزَتِ) مبني للمفعول مشدد الراء ، (لِمَنْ يَرى) بياء الغيبة : أي لكل أحد ، فيشكر المؤمن نعمة الله. وقيل : (لِمَنْ يَرى) هو الكافر ؛ وعائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار : مبنيا للفاعل مخففا وبتاء ، يجوز أن يكون خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لمن ترى من أهلها ، وأن يكون إخبار عن الجحيم ، فهي تاء التأنيث. قال تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (١). وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو : وبرزت مبنيا ومخففا ، و (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) : بدل من (فَإِذا) ؛ وجواب إذا ، قال الزمخشري : فإن الأمر كذلك. وقيل : عاينوا وعلموا. ويحتمل أن يكون التقدير : انقسم الراؤول قسمين ، والأولى أن يكون الجواب : فأما وما بعده ، كما تقول : إذا جاءك بنو تميم ، فأما العاصي فأهنه ، وأما الطائع فأكرمه.

(طَغى) : تجاوز الحد في عصيانه ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة ، وهي مبتدأ أو فصل. والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين ، أي المأوى له ، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة. وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير. وقال الزمخشري : والمعنى فإن الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد طرفك ؛ وليس الألف واللام بدلا من الإضافة ، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره ، تركت الإضافة. ودخول حرف التعريف في المأوى ، والطرف للتحريف لأنهما معرفان. انتهى. وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدر ضميرا محذوفا ، كما قدره البصريون ، فرام حصول الربط بلا رابط.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) : أي مقاما بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء ؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعا عظيما. قال ابن

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٢.

٤٠١

عباس : خافه عند ما هم بالمعصية فانتهى عنها. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) : أي عن شهوات النفس ، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود. قال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين. وقال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقال عمران الميرتليّ :

فخالف هواها واعصها إن من يطع

هوى نفسه تنزع به كل منزع

ومن يطع النفس اللجوجة ترده

وترم به في مصرع أي مصرع

وقال الفضيل : أفضل الأعمال خلاف الهوى ، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار. وعن ابن عباس : نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري ، رضي الله تعالى عنه. وعنه أيضا : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ، فهو أخ لمصعب بن عمير ، أسر فلم يشدوا وثاقه ، وأكرموه وبيتوه عندهم ؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعبا ، فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا فأوثقوه. (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السهام. فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متشحطا في دمه قال : «عند الله أحتسبك» ، وقال لأصحابه : «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما ، وإن شراك نعله من ذهب». قيل : واسم أخيه عامر. وفي الكشاف ، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ، ووقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه. انتهى.

(يَسْئَلُونَكَ) : أي قريش ، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة ، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك ، فنزلت هذه الآية. (أَيَّانَ مُرْساها) : متى إقامتها؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها؟ وقيل : أيان منتهاها ومستقرها؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه. (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن الساعة كثيرا ، فلما نزلت هذه الآية. انتهى. والمعنى : في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها؟ أي لست من ذلك في شيء ، (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ). (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) : أي انتهاء علم وقتها ، لم يؤت علم ذلك أحدا من خلقه. وقيل : (فِيمَ) إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال؟ ثم قال : (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) ، وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلا على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها.

٤٠٢

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) : أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفا به في الخشية منها. انتهى. وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه ، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم ، ولم يخله من دسيسة الاعتزال. وقرأ الجمهور : (مُنْذِرُ مَنْ) بالإضافة. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم : منذر بالتنوين. وقال الزمخشري : وقرىء منذر بالتنوين ، وهو الأصل والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ؛ فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذر زيد أمس. انتهى. أما قوله وهو الأصل ، يعني التنوين ، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم. وقد قررنا في هذا الكتاب ، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة ، لأن العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة هي أصل في الأسماء. وأما قوله : فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو. وخص (مَنْ يَخْشاها) لأنه هو المنتفع بالإنذار. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) : تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا. (لَمْ يَلْبَثُوا) : لم يقيموا في الدنيا ، (إِلَّا عَشِيَّةً) : يوم أو بكرته ، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار. بدأ بذكر أحدهما ، فأضاف الآخر إليه تجوّزا واتساعا ، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٤٠٣

سورة عبس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)

تصدّى : تعرّض ، قال الراعي :

تصدى لوضاح كأن جبينه

سراج الدجى يجيء إليه الأساور

وأصله : تصدّد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك ، يقال : داري صدد داره : أي قبالتها. وقيل : من الصدى ، وهو العطش. وقيل : من الصدى ، وهو الصوت الذي

٤٠٤

تسمعه إذا تكلمت من بعد في خلاء كالجبل ، والمصاداة : المعارضة. السفرة : الكتبة ، الواحد سافر ، وسفرت المرأة : كشفت النقاب ، وسفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم ، قاله الفراء ، الواحد سفير ، والجمع سفراء. قال الشاعر :

فما أدع السفارة بين قومي

وما أسعى بغش إن مشيت

القضب ، قال الخليل ، الفصفصة الرطبة ، ويقال بالسين ، فإذا يبست فهي القت. قال : والقضب اسم يقع على ما يقع من أغصان الشجرة ليتخذ منها سهام أو قسي. الغلب جمع غلباء ، يقال : حديقة غلباء : غليظة الشجر ملتفة ، واغلولب العشب : بلغ والتف بعضه ببعض ، ورجل أغلب : غليظ الرقبة ، والأصل في هذا الوصف استعماله في الرقاب ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :

يسعى بها غلب الرقاب كأنهم

بزل كسين من الشعور جلالا

الأبّ : المرعى لأنه يؤبّ ، أي يؤم وينتجع ، والأبّ والأم أخوان. قال الشاعر :

جذمنا قيس ونجد دارنا

ولنا الأبّ به والمكرع

وقيل : ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الخصيد ، وما أكله غيرهم يسمى الأب ، ومنه قول الصحابة يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

له دعوة ميمونة ريحها الصبا

بها ينبت الله الحصيدة والأبا

الصاخة ، قال الخليل : صيحة تصخ الآذان صخا ، أي تصمها لشدة وقعتها. وقيل : مأخوذة من صخه بالحجر إذا صكه. وقال الزمخشري : أصاخ لحديثه مثل أصاخ له. الغبرة : الغبار. القترة : سواد كالدخان. وقال أبو عبيدة : القتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة. وقال الفرزدق :

متوّج برداء الملك يتبعه

فوج ترى فوقه الرايات والقترا

(عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ، وَهُوَ يَخْشى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ، كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ ، قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ، وَعِنَباً

٤٠٥

وَقَضْباً ، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ، وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبًّا ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).

هذه السورة مكية. وسبب نزولها مجيء ابن أم مكتوم إليه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكر أهل الحديث وأهل التفسير قصته. ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (١) ، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجيهم في أمر الإسلام : عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ، ويدعوهم إليه.

(أَنْ جاءَهُ) : مفعول من أجله ، أي لأن جاءه ، ويتعلق بتولي على مختار البصريين في الأعمال ، وبعبس على مختار أهل الكوفة. وقرأ الجمهور ؛ (عَبَسَ) مخففا ، (أَنْ) بهمزة واحدة ؛ وزيد بن علي : بشد الباء ؛ وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى : أآن بهمزة ومدة بعدها ؛ وبعض القراء : بهمزتين محققتين ، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام ، وفيهما يقف على تولى. والمعنى : ألأن جاءه كاد كذا. وجاء بضمير الغائب في (عَبَسَ وَتَوَلَّى) إجلالا له عليه الصلاة والسلام ، ولطفا به أن يخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى. وجاء لفظ (الْأَعْمى) إشعارا بما يناسب من الرفق به والصغو لما يقصده ، ولابن عطية هنا كلام أضربت عنه صفحا. والضمير في (لَعَلَّهُ) عائد على (الْأَعْمى) ، أي يتطهر بما يتلقن من العلم ، أو (يَذَّكَّرُ) : أي يتعظ ، (فَتَنْفَعَهُ) ذكراك ، أي موعظتك. والظاهر مصب (يُدْرِيكَ) على جملة الترجي ، فالمعنى : لا تدري ما هو مترجى منه من تزك أو تذكر. وقيل : المعنى وما يطلعك على أمره وعقبى حاله.

ثم ابتدأ القول : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) : أي تنمو بركته ويتطهر لله. وقال الزمخشري : وقيل : الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر ، يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام. أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق ، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. انتهى. وهذا قول ينزه عنه حمل القرآن عليه. وقرأ الجمهور : (أَوْ يَذَّكَّرُ) بشد الذال والكاف ، وأصله يتذكر فأدغم ؛ والأعرج وعاصم في رواية : أو يذكر ، بسكون الذال وضم الكاف. وقرأ الجمهور :

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٤٥.

٤٠٦

(فَتَنْفَعَهُ) ، برفع العين عطفا على (أَوْ يَذَّكَّرُ) ؛ وعاصم في المشهور ، والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفرني : بنصبهما. قال ابن عطية : في جواب التمني ، لأن قوله : (أَوْ يَذَّكَّرُ) في حكم قوله (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى). انتهى. وهذا ليس تمنيا ، إنما هو ترج وفرق بين الترجي والتمني. وقال الزمخشري : وبالنصب جوابا للعل ، كقوله : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) (١). انتهى. والترجي عند البصريين لا جواب له ، فينصب بإضمار أن بعد الفاء. وأما الكوفيون فيقولون : ينصب في جواب الترجي ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) في قراءة حفص ، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) : ظاهره من كان ذا ثروة وغنى. وقال الكلبي : عن الله. وقيل : عن الإيمان بالله. قيل : وكونه بمعنى الثروة لا يليق بمنصب النبوة ، ويدل على ذلك أنه لو كان من الثروة لكان المقابل : وأما من جاءك فقيرا حقيرا. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسى والأعمش وجمهور السبعة : (تَصَدَّى) بخف الصاد ، وأصله يتصدى فحذف ؛ والحرميان : بشدها ، أدغم التاء في الصاد ؛ وأبو جعفر : تصدى ، بضم التاء وتخفيف الصاد ، أي يصدك حرصك على إسلامه. يقال : تصدى الرجل وصديته ، وهذا المستغنى هو الوليد ، أو أمية ، أو عتبة وشيبة ، أو أمية وجميع المذكورين في سبب النزول ، أقوال. قال القرطبي : وهذا كله غلط من المفسرين ، لأنه أمية والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ، وماتا كافرين ، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر معه مفردا ولا مع أحد. انتهى. والغلط من القرطبي ، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما؟ وهو وهم منه ، وكلهم من قريش ، وكان ابن أم مكتوم بها. والسورة كلها مكية بالإجماع. وكيف يقول : وابن أم مكتوم بالمدينة؟ كان أولا بمكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية. وابن أم مكتوم هو عبد الله بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهري ، من بني عامر بن لؤي ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة ، وهو ابن خال خديجة رضي‌الله‌عنها.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) : تحقير لأمر الكافر وحض على الإعراض عنه وترك الاهتمام به ، أي : وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر؟ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) : أي يمشي بسرعة في أمر دينه ، (وَهُوَ يَخْشى) : أي يخاف الله ، أو يخاف الكفار وأذاهم ، أو يخاف العثار والسقوط لكونه أعمى ، وقد جاء بلا قائد يقوده. (تَلَهَّى) :

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٣٧.

٤٠٧

تشتغل ، يقال : لها عن الشيء يلهى ، إذا اشتغل عنه. قيل : وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو. انتهى. ويمكن أن يكون منه ، لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه ياء لكسرة ما قبلها ، نحو : شقي يشقى ، فإن كان مصدره جاء بالياء ، فيكون من مادة غير مادة اللهو. وقرأ الجمهور : (تَلَهَّى) ؛ والبزي عن ابن كثير : عنهو تلهى ، بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل ؛ وأبو جعفر : بضمها مبنيا للمفعول ، أي يشغلك دعاء الكافر للإسلام ؛ وطلحة : بتاءين ؛ وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.

(كَلَّا إِنَّها) : أي سورة القرآن والآيات ، (تَذْكِرَةٌ) : عظة ينتفع بها. (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) : أي فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره ، أتى بالضمير مذكرا لأن التذكرة هي الذكر ، وهي جملة معترضة تتضمن الوعد والوعيد ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١) ، واعترضت بين تذكرة وبين صفته ، أي تذكرة : كائنة. (فِي صُحُفٍ) ، قيل : اللوح المحفوظ ، وقيل : صحف الأولياء المنزلة ، وقيل : صحف المسلمين ، فيكون إخبارا بمغيب ، إذ لم يكتب القرآن في صحف زمان ، كونه عليه‌السلام بمكة ينزل عليه القرآن ، مكرمة عند الله ، ومرفوعة في السماء السابعة ، قاله يحيى بن سلام ، أو مرفوعة عن الشبه والتناقض ، أو مرفوعة المقدار. (مُطَهَّرَةٍ) : أي منزهة عن كل دنس ، قاله الحسن. وقال أيضا : مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقال الزمخشري : منزهة عن أيدي الشياطين ، لا تمسها إلا أيدي ملائكة مطهرة. (سَفَرَةٍ) : كتبة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ. انتهى. (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) ، قال ابن عباس : هم الملائكة لأنهم كتبة. وقال أيضا : لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه. وقال قتادة : هم القراء ، وواحد السفرة سافر. وقال وهب : هم الصحابة ، لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والعلم.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ، قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، غاضب أباه فأسلم ، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام ، فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم ابعث عليه كلبك يأكله». فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء ، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حيا ، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله. فأقبل الأسد إلى الرجال ووثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ، وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان ، والآية ، وإن نزلت في مخصوص ، فالإنسان يراد به

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٩.

٤٠٨

الكافر. وقتل دعاء عليه ، والقتل أعظم شدائد الدنيا. (ما أَكْفَرَهُ) ، الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، إذ هو مستحيل في حق الله تعالى ، أي هو ممن يقال فيه ما أكفره. وقيل : ما استفهام توقيف ، أي : أي شيء أكفره؟ أي جعله كافرا ، بمعنى لأي شيء يسوغ له أن يكفر.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) : استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه. ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) : أي فهيأه لما يصلح له. وقال ابن عباس : أي في بطن أمه ، وعنه قدر أعضاءه ، وحسنا ودميما وقصيرا وطويلا وشقيا وسعيدا. وقيل : من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) : أي ثم يسر السبيل ، أي سهل. قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان ، وتيسيره له هو هبة العقل. وقال مجاهد والحسن وعطاء وابن عباس في رواية أبي صالح عنه : السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال ، أي يسر قوما لهذا ، كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) (١) الآية ، وقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢) ؛ وعن ابن عباس : يسره للخروج من بطن أمه. (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) : أي جعل له قبرا صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع. قبره : ذفنه ، وأقبره : صيره بحيث يقبر وجعل له قبرا ، والقابر : الدافن بيده. قال الأعشى :

لو أسندت ميتا إلى قبرها

عاش ولم ينقل إلى قابر

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) : أي إذا أراد إنشاره أنشره ، والمعنى : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله ، وهو يوم القيامة. وفي كتاب اللوامح شعيب بن الحبحاب : شاء نشره ، بغير همز قبل النون ، وهما لغتان في الأحياء ؛ وفي كتاب ابن عطية : وقرأ شعيب بن أبي حمزة : شاء نشره. (كَلَّا) : ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان. (لَمَّا يَقْضِ) : يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ، (ما أَمَرَهُ) به الله تعالى ، فالضمير في يقض للإنسان. وقال ابن فورك : لله تعالى ، أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له. ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان ، ذكر النعم فيما به قوام حياته ، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم. والظاهر أن الطعام هو المطعوم ، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣.

(٢) سورة البلد : ٩٠ / ١٠.

٤٠٩

الماء وشق الأرض والإنبات ، وهذا قول الجمهور. وقال أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : (إِلى طَعامِهِ) : أي إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها. وقرأ الجمهور : إنا بكسر الهمزة ؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس : (أَنَّا) بفتح الهمزة ؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما : أني بفتح الهمزة مما لا ؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام ، والفتح قالوا على البدل ، ورده قوم ، لأن الثاني ليس الأول. قيل : وليس كما ردوا لأن المعنى : فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه ، فترتب البدل وصح. انتهى. كأنهم جعلوه بدل كل من كل ، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال. وقراءة أبي ممالا على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا. وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب ، وصب الماء هو المطر. والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به. وقيل : شق الأرض هو بالنبات. (حَبًّا) : يشمل ما يسمى حبا من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك. (وَقَضْباً) ، قال الحسن : العلف ، وأهل مكة يسمون القت القضب. وقيل : الفصفصة ، وضعف لأنه داخل في الأب. وقيل : ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات ، كالبقول والهليون. وقال ابن عباس : هو الرطب ، لأنه يقضب من النخل ، ولأنه ذكر العنب قبله. (غُلْباً) ، قال ابن عباس : غلاظا ، وعنه : طوالا ؛ وعن قتادة وابن زيد : كراما ؛ (وَفاكِهَةً) : ما يأكله الناس من ثمر الشجر ، كالخوخ والتين ؛ (وَأَبًّا) : ما تأكله البهائم من العشب. وقال الضحاك : التبن خاصة. وقال الكلبي : كل نبات سوى الفاكهة رطبها ، والأب : يابسها. (الصَّاخَّةُ) : اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان ، تقول العرب : صختهم الصاخة ونابتهم النائبة ، أي الداهية. وقال أبو بكر بن العربي : الصاخة هي التي تورث الصمم ، وأنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، كقوله :

أصمهم سرّهم أيام فرقتهم

فهل سمعتم بسرّ يورث الصمما

وقول الآخر :

أصم بك الناعي وإن كان أسمعا

ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. انتهى. (يَوْمَ يَفِرُّ) : بدل من إذا ، وجواب إذا محذوف تقديره : اشتغل كل إنسان بنفسه ، يدل عليه : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ، وفراره من شدّة الهول يوم القيامة ، كما جاء

٤١٠

من قول الرسل : «نفسي نفسي». وقيل : خوف التبعات ، لأن الملابسة تقتضي المطالبة. يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان قصرت في برنا ، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون لم تعلمنا وترشدنا. وقرأ الجمهور : (يُغْنِيهِ) : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء ؛ والزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع : يعنيه بفتح الياء والعين المهملة ، من قولهم : عناني الأمر : قصدني. (مُسْفِرَةٌ) : مضيئة ، من أسفر الصبح : أضاء ، و (تَرْهَقُها) : تغشاها ، (قَتَرَةٌ) : أي غبار. والأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم ، والثانية من غبار الأرض. وقيل : (غَبَرَةٌ) : أي من تراب الأرض ، وقترة : سواد كالدخان. وقال زيد بن أسلم : الغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والقترة : ما ارتفعت إلى السماء. وقرأ الجمهور : قترة ، بفتح التاء ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها.

٤١١

سورة التّكوير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)

انكدرت النجوم : انتثرت. وقال أبو عبيدة : انصبت كما تنصب القعاب إذا كسرت. قال العجاج يصف صقرا :

أبصر حرمات فلاة فانكدر

تقصي البازي إذا البازي كسر

العشار جمع عشراء ، وهي الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السنة. التعطيل : التفريغ والإهمال. الوحش : حيوان البر الذي ليس في

٤١٢

طبعه التآنس ببني آدم. الموءودة : البنت التي تدفن حية ، وأصله من النقل ، كأنها تنقل من التراب حتى تموت ، ومنه اتئد : أي توقر وأثقل ولا تخف. الكشط : التقشير ، كشطت جلد الشاة : سلخته عنها. الخنس جمع خانس ، والخنوس : الانقباض والاستخفاء. تقول خنس بين القوم وانخنس. الكنس جمع كانس وكانسه ، يقال : كنس إذا دخل الكناس ، وهو المكان الذي تأوي إليه الظباء. والخنس : تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة. عسعس ، قال الفراء : عسعس الليل وعسس ، إذا لم يبق منه إلا القليل. وقال الخليل : عسعس الليل : أقبل وأدبر. قال المبرد : هو من الأضداد. وقال علقمة بن قرط :

حتى إذا الصبح لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

وقال رؤبة :

يا هند ما أسرع ما تعسعسا

من بعد ما كان فتى ترعرعا

التنفس : خروج النسيم من الجوف ، واستعير للصبح ومعناه : امتداده حتى يصير نهارا واضحا. الظنين : المتهم ، فعيل بمعنى مفعول ، ظننت الرجل : اتهمته ، والظنين : البخيل ، قال الشاعر :

أجود بمكنون الحديث وإنني

بسرّك عن ما سألتني لضنين

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها في غاية الظهور. وتكوير الشمس ، قال ابن عباس : إدخالها في العرش. وقال مجاهد وقتادة والحسن : ذهاب ضوئها. وقال الربيع بن خيثم : رمى بها ، ومنه : كورته فتكوّر. وقال أبو صالح : نكست ؛ وعن ابن عباس أيضا : أظلمت ؛ وعن مجاهد : اضمحلت. وقيل : غوّرت ؛ وقيل : يلف بعضها ببعض ويرمى بها

٤١٣

في البحر. وقال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة. وقال القرطبي : من كار العمامة على رأسه يكورها ، أي لاثها وجمعها ، فهي تكور ، ثم يمحى ضوءها ، ثم يرمى بها. وقال الزمخشري : فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت : بل على الفاعلية ، رافعها فعل مضمر يفسره (كُوِّرَتْ) ، لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط. انتهى. ومن طريقته أنه يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا ، ولا مشاحة في الاصطلاح. وليس ما ذكر من الإعراب مجمعا على تحتمه عند النحاة ، بل يجوز رفع الشمس على الابتداء عند الأخفش والكوفيين ، لأنهم يجيزون أن تجيء الجملة الاسمية بعد إذا ، نحو : إذا زيد يكرمك فأكرمه.

(انْكَدَرَتْ) ، عن ابن عباس : تساقطت ؛ وعنه أيضا : تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها ، من قولهم : ماء كدر : أي متغير. وتسيير الجبال : أي عن وجه الأرض ، أو سيرت في الجو تسيير السحاب ، كقوله : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١) ، وهذا قبل نسفها ، وذلك في أول هول يوم القيامة. والعشار : أنفس ما عند العرب من المال ، وتعطيلها : تركها مسيبة مهملة ، أو عن الحلب لاشتغالهم بأنفسهم ، أو عن أن يحمل عنها الفحول ؛ وأطلق عليها عشارا باعتبار ما سبق لها ذلك. قال القرطبي : وهذا على وجه المثل ، لأنه في القيامة لا يكون عشراء ، فالمعنى : أنه لو كان عشراء لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم. وقيل : إذا قاموا من القبور شاهدوا الوحوش والدواب محشورة وعشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم ، لم يعبأوا بها لشغلهم بأنفسهم. وقيل : العشار : السحاب ، وتعطيلها من الماء فلا تمطر. والعرب تسمي السحاب بالحامل. وقيل : العشار : الديار تعطل فلا تسكن. وقيل : العشار : الأرض التي يعشر زرعها ، تعطل فلا تزرع.

وقرأ الجمهور : (عُطِّلَتْ) بتشديد الطاء ؛ ومضر عن اليزيدي : بتخفيفها ، كذا في كتاب ابن خالويه ، وفي كتاب اللوامح عن ابن كثير ، قال في اللوامح ، وقيل : هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت ، لأن التشديد فيه التعدي ، يقال : منه عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه ، وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها الحلي ، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت وأفعلت ، والله أعلم. انتهى. وقال امرؤ القيس :

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

إذا هي نصته ولا بمعطل

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.

٤١٤

(حُشِرَتْ) : أي جمعت من كل ناحية. فقال ابن عباس : جمعت بالموت ، فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين. وعنه وعن قتادة وجماعة : يحشر كل شيء حتى الذباب. وعنه : تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض ، ثم يقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها موتي فتموت. وقيل : إذا قضى بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته ، كالطاووس ونحوه. وقال أبيّ : في الدنيا في أول الهول تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تآنسا بهم. وقرأ الجمهور : (حُشِرَتْ) بخف الشين ؛ والحسن وعمرو بن ميمون : بشدها. (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) : تقدم أقوال العلماء في سجر البحر في الطور ، والبحر المسجور ، وفي كتاب لغات القراءات ، سجرت : جمعت ، بلغة خثعم. وقال هنا ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : ملكت وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض من الهول ، فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بخف الجيم ؛ وباقي السبعة : بشدها.

قال ابن عطية : وذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند الموت. فالشمس نفسه ، والنجوم عيناه وحواسه ، وهذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى. انتهى. وهذا مذهب الباطنية ، ومذاهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية ، وقد أشرنا إليهم في خطبة هذا الكتاب ؛ وإنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام. وكتاب الله جاء بلسان عربي مبين ، لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن ، ولا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة ولا أهل الطبائع. ولقد ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة ، وذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب الله عزوجل. وكذلك ما ذكره صاحب التحرير والتحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى الصوف ويسميها الحقائق ، وفيها ما لا يحل كتابته ، فضلا عن أن يعتقد ، نسأل الله تعالى السلامة في ديننا وعقائدنا وما به قوام ديننا ودنيانا.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) : أي المؤمن مع المؤمن والكافر مع الكافر ، كقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (١) ، قاله عمرو ابن عباس ؛ أو نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور العين وغيرهن ، قاله مقاتل بن سليمان ؛ أو الأزواج الأجساد ، قاله عكرمة والضحاك

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧.

٤١٥

والشعبي. وقرأ عاصم في رواية : زووجت على فوعلت ، والمفاعلة تكون بين اثنين. والجمهور : بواو مشددة. وقال الزمخشري : وأد يئد ، مقلوب من آد يؤد إذا أثقل. قال الله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (١) ، لأنه إثقال بالتراب. انتهى. ولا يدعي في وأد أنه مقلوب من آد ، لأن كلا منهما كامل التصرف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات ادعاء القلب. والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك ، أو كونه مجردا من حروف الزيادة والآخر فيه مزيدا وكونه أكثر تصرفا والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالا من الآخر ، وهذا على ما قرروا أحكم في علم التصريف. فالأول كيئس وأيس ، والثاني كطأمن واطمأن ، والثالث كشوايع وشواع ، والرابع كلعمري ورعملي.

وقرأ الجمهور : (الْمَوْؤُدَةُ) ، بهمزة بين الواوين ، اسم مفعول. وقرأ البزي في رواية : الموؤدة ، بهمزة مضمومة على الواو ، فاحتمل أن يكون الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الواو بعد حذف الهمزة ، ثم همز الواو المنقول إليها الحركة. واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد ؛ فالاصل مأوودة ، فحذف إحدى الواوين على الخلاف الذي فيه المحذوف واو المد أو الواو التي هي عين ، نحو : مقوول ، حيث قالوا : مقول. وقرىء الموودة ، بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة ، أعني التسهيل بالحذف ، ونقل حركتها إلى الواو. وقرأ الأعمش : المودة ، بسكون الواو على وزن الفعلة ، وكذا وقف لحمزة بن مجاهد. ونقل القراء أن حمزة يقف عليها كالموودة لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سنة متبعة. وقرأ الجمهور : (سُئِلَتْ) مبنيا للمفعول ، (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) : كذلك وخف الياء وبتاء التأنيث فيهما ، وهذا السؤال هو لتوبيخ الفاعلين للوأد ، لأن سؤالها يؤول إلى سؤال الفاعلين. وجاء قتلت بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكي ما خوطبت به حين سئلت لقيل : قتلت. وقرأ الحسن والأعرج : سئلت ، بكسر السين ، وذلك على لغة من قال : سأل بغير همز. وقرأ أبو جعفر : بشد الياء ، لأن الموؤدة اسم جنس ، فناسب التكثير باعتبار الأشخاص. وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد : سألت مبنيا للفاعل ، قتلت بسكون اللام وضم التاء ، حكاية لكلامها حين سئلت. وعن أبي وابن مسعود أيضا والربيع بن خيثم وابن يعمر : سألت مبنيا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.

٤١٦

للفاعل. (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) : مبنيا للمفعول بتاء التأنيث فيهما إخبارا عنهما ، ولو حكي كلامها لكان قتلت بضم التاء.

وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ، ألبسها جبة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها : طيبيها ولينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر حفرة أو بئرا في الصحراء ، فيذهب بها إليها ويقول لها انظري فيها ؛ ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي بالأرض. وقيل : كانت الحامل إذا قرب وضعها حفرت حفرة فتمخضت على رأسها ، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابنا حبسته. وقد افتخر الفرزدق ، وهو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية ، بجده صعصعة ، إذ كان منع وأد البنات فقال :

ومنا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد ولم يوئد

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) : صحف الأعمال كانت مطوية على الأعمال ، فنشرت يوم القيامة ليقرأ كل إنسان كتابه. وقيل : الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء ، وهي صحف غير صحف الأعمال. وقرأ أبو رجاء وقتادة والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم : نشرت بخف الشين ؛ وباقي السبعة : بشدّها. وكشط السماء : طيها كطي السجل. وقيل : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة. وقرأ عبد الله : قشطت بالقاف ، وهما كثيرا ما يتعاقبان ، كقولهم : عربي قح وكح ، وتقدّمت قراءته قافورا ، أي كافورا. وقرأ نافع وابن عامر وحفص : (سُعِّرَتْ) بشد العين ؛ وباقي السبعة : بخفها ، وهي قراءة عليّ. قال قتادة : سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم ، وجواب إذا وما عطفت عليه (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) : ونفس تعم في الإثبات من حيث المعنى ، ما أحضرت من خير تدخل به الجنة ، أو من شر تدخل به النار. وقال ابن عطية : ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه. انتهى.

وقرئت هذه السورة عند عبد الله ، فلما بلغ القارئ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) ، قال عبد الله : «وا انقطاع ظهراه». (بِالْخُنَّسِ) ، قال الجمهور : الدراري السبعة : الشمس والقمر ، وزحل ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والمشتري. وقال : على الخمسة دون الشمس والقمر ، تجري الخمسة مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : تخنس في جريها التي يتعهد فيها ترى العين ،

٤١٧

وهي جوار في السماء ، وهي تكنس في أبراجها ، أي تستتر. وقال علي أيضا والحسن وقتادة : هي النجوم كلها لأنها تخنس وتكنس بالنهار حين تختفي. وقال الزمخشري : أي تخنس بالنهار وتكنس بالليل ، أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. انتهى. وقال عبد الله والنخعي وجابر بن زيد وجماعة : المراد (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) : بقر الوحش ، لأنها تفعل هذه الأفعال في كنائسها. وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : هي الظباء ، والخنس من صفة الأنوق لأنها يلزمها الخنس ، وكذا بقر الوحش.

(عَسْعَسَ) بلغة قريش ، وقال الحسن : أقبل ظلامه ، ويرجحه مقابلته بقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ، فهما حالتان. وقال المبرد : أقسم بإقباله وإدباره وتنفسه كونه يجيء معه روح ونسيم ، فكأنه نفس له على المجاز. (إِنَّهُ) : أي إن هذا المقسم عليه ، أي إن القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ؛ الجمهور : على أنه جبريل عليه‌السلام. وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفات المدح اللائقة به. (ذِي قُوَّةٍ) : كقوله : (شَدِيدُ الْقُوى) (١). (عِنْدَ ذِي) : الكينونة اللائقة من شرف المنزلة وعظم المكانة. وقيل : العرش متعلق بمكين مطاع. ثم إشارة إلى (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) : أي إنه مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم : ثم ، بضم الثاء : حرف عطف ، والجمهور : (ثَمَ) بفتحها ، ظرف مكان للبعيد. وقال الزمخشري : وقرىء ثم تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة. انتهى. وقال صاحب اللوامح : بمعنى مطاع وأمين ، وإنما صارت ثم بمعنى الواو بعد أن مواضعتها للمهلة والتراخي عطفا ، وذلك لأن جبريل عليه‌السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى ، (ثَمَّ أَمِينٍ) عند انفصاله عنهم ، حال وحيه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لجاز أن لو ورد به أثر انتهى. (أَمِينٍ) : مقبول القول يصدق فيما يقوله ، مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر. (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) : نفى عنه ما كانوا ينسبونه إليه ويبهتونه به من الجنون.

(وَلَقَدْ رَآهُ) : أي رأى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام ، وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته له ستمائة جناح. وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمى ذلك الموضع أفقا مجازا. وقد كانت له

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٥.

٤١٨

عليه‌السلام ، رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه. ووصف الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، قاله قتادة وسفيان. وأيضا فكل أفق في غاية البيان. وقيل : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة. وقال مجاهد : رآه نحو جياد ، وهو مشرق مكة. وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ، ومن السبعة النحويان وابن كثير : بظنين بالظاء ، أي بمتهم ، وهذا نظير الوصف السابق بأمين. وقيل : معناه بضعيف القوة على التبليغ من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء ، وكذا هو بالظاء في مصحف عبد الله. وقرأ عثمان وابن عباس أيضا والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وباقي السبعة : بالضاد ، أي ببخيل يشح به لا يبلغ ما قيل له ويبخل ، كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه. قال الطبري : وبالضاد خطوط المصاحف كلها.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان. (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) : استضلال لهم ، حيث نسبوه مرة إلى الجنون ، ومرة إلى الكهانة ، ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه. وقال الزمخشري : كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق : أي تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل. انتهى. (ذِكْرٌ) : تذكرة وعظة ، (لِمَنْ شاءَ) : بدل من (لِلْعالَمِينَ) ، ثم عذق مشيئة العبيد بمشيئة الله تعالى. قال ابن عطية : ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفا وتنبيها وذكرا لتلبسهم بأفعال الاستقامة. ثم بين تعالى أن تكسب العبد على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء. انتهى. وقال الزمخشري : وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعا. (وَما تَشاؤُنَ) الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله تعالى ولطفه ، أو ما تشاءونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه. انتهى. ففسر كل من ابن عطية والزمخشري المشيئة على مذهبه. وقال الحسن : ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها.

٤١٩

سورة الانفطار

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)

بعثرت المتاع : قلبته ظهرا لبطن ، وبعثرت الحوض وبحثرته : هدمته وجعلت أعلاه أسفله.

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ، يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ، كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

٤٢٠