البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

سورة القيمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤)) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)

برق بكسر الراء : فزع ودهش ، وأصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمّة :

٣٤١

ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت

لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق

قال الأعشى :

وكنت أرى في وجه مية لمحة

فأبرق مغشيا عليّ مكانيا

وبرق بفتح الراء : شق بصره ، وهو من البريق ، أي لمع بصره من شدّة شخوصه. الوزر : ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما ، قال الشاعر :

لعمرك ما للفتى من وزر

من الموت يدركه والكبر

النضرة : النعمة وجمال البشرة وطراوتها ، قال الشاعر :

أبى لي قبر لا يزال مقابلي

وضربة فاس فوق رأسي فاقره

أي : مؤثرة. التراقي جمع ترقوة : وهي عظام الصدر ، ولكل إنسان ترقوتان ، وهو موضع الحشرجة ، قال دريد بن الصمة :

ورب عظيمة دافعت عنهم

وقد بلغت نفوسهم التراقي

رقي يرقى من الرقية ، وهي ما يستشفى به للمريض من الكلام المعد لذلك. تمطى : تبختر في مشيته ، وأصله من المطا وهو الظهر ، أي يلوي مطاه تبخترا. وقيل : أصله تمطط : أي تمدّد في مشيته ، ومد منكبيه ، قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظنى من الظن ، وأصله تظنن ، والمطيطا : التبختر ومد اليدين في المشي ، والمطيط : الماء الحاثر في أسفل الحوض ، لأنه يتمطط فيه ، أي يمتد ؛ وعلى هذا الاشتقاق لا يكون أصله من المط لاختلاف المادتين ، إذ مادة المطام ط و، ومادة تمطط م ط ط. سدى : مهمل ، يقال إبل سدى : أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع ، وأسديت الشيء : أي أهملته ، وأسديت حاجتي : ضيعتها. قال الشاعر :

فأقسم بالله جهد اليمين

ما خلق الله شيئا سدى

وقال أبو بكر بن دريد في المقصورة :

لم أر كالمزن سواما بهلا

تحسبها مرعية. وهي سدى

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ، بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ، يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ

٣٤٢

الْمَفَرُّ ، كَلَّا لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ، يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ، بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ، كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ، وَقِيلَ مَنْ راقٍ ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ، فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ، أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها : أن في آخر ما قبلها قوله : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) (١) ، وفيها كثير من أحوال القيامة ، فذكر هنا يوم القيامة وجملا من أحوالها. وتقدّم الكلام في (لا أُقْسِمُ). والخلاف في لا ، والخلاف في قراءاتها في أواخر الواقعة. أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهوله. و (لا أُقْسِمُ) ، قيل : لا نافية ، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة ، نص على هذا الحسن ؛ والجمهور : على أن الله أقسم بالأمرين. واللوّامة ، قال الحسن : هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله بها. وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد ، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه. وقيل : النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى. وقال ابن عباس وقتادة : هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها ، فهي على هذا ذميمة ، ويحسن نفي القسم بها. والنفس اللوّامة : اسم جنس بهذا الوصف. وقيل : هي نفس معينة ، وهي نفس آدم عليه‌السلام ، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة. قال ابن عطية : وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين ، مرّة تلوم على ترك الطاعة ، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت. انتهى. والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة ، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله : (أَيَحْسَبُ) الآية ، وتقديره لتبعثن. وقال الزمخشري : فإن قلت :

__________________

(١) سورة المدثر : ٧٤ / ٥٣ ـ ٥٤.

٣٤٣

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، وكان قد أنشد قول امرئ القيس :

لا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي القوم إني أفرّ

وقول غوية بن سلمى :

ألا نادت أمامة باحتمالي

لتحزنني فلا بك ما أبالي

قال : فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفيا ، نحو قولك : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، لا تتركون سدى؟ قلت : لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقسم. ألا ترى كيف لقي (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) بقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٣) ، وكذلك (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٤) ، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٥)؟ ثم قال الزمخشري : وجواب القسم ما دل عليه قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) ، وهو لتبعثن. انتهى ، وهو تقدير النحاس. وقول من قال جواب القسم هو : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ). وما روي عن الحسن أن الجواب : (بَلى قادِرِينَ) ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما ، أي لا أقسم على شيء ، وأن التقدير : أسألك أيحسب الإنسان؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها ، بل تطرح ولا يسود بها الورق ، ولو لا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها. والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث. روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به ، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها ، فنزلت. وقيل : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أيزعم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقا جديدا؟

وقرأ الجمهور : (نَجْمَعَ) بنون ، (عِظامَهُ) نصبا ؛ وقتادة : بالتاء مبنيا للمفعول ، عظامه رفعا ، والمعنى : بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض. وقوله : (أَيَحْسَبُ) استفهام تقرير وتوبيخ ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم. (بَلى) : جواب للاستفهام المنسخب على النفي ، أي بلى نجمعها. وذكر

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٥.

(٢) سورة البلد : ٩٠ / ١.

(٣) سورة البلد : ٩٠ / ٤.

(٤) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٥.

(٥) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٨.

٣٤٤

العظام ، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة ، لأن العظام هي قالب الخلق. وقرأ الجمهور : (قادِرِينَ) بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها ؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع : قادرون ، أي نحن قادرون. (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) : وهي الأصابع ، أكثر العظام تفرّقا وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها ، وهذا عند البعث. وقال ابن عباس والجمهور : المعنى نجعلها في حياته هذه بضعة ، أو عظما واحدا كخف البعير لا تفاريق فيه ، أي في الدنيا فتقل منفعته بها ، وهذا القول فيه توعد ، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام. وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين. وقيل : (قادِرِينَ) منصوب على خبر كان ، أي بلى كنا قادرين في الابتداء.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) ، بل : إضراب ، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال. والظاهر أن (يُرِيدُ) إخبار عن ما يريده الإنسان. وقال الزمخشري : (بَلْ يُرِيدُ) عطف على (أَيَحْسَبُ) ، فيجوز أن يكون قبله استفهاما ، وأن يكون إيجابا على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب. انتهى. وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر ، وهي متكلفة ، بل المعنى : الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة ، وهي نجمعها قادرين ، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته ؛ ومفعول (يُرِيدُ) محذوف يدل عليه التعليل في (لِيَفْجُرَ). قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي : معنى الآية : أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه مطيعا أمله ومسوفا بتوبته. قال السدي أيضا : ليظلم على قدر طاقته ، وعلى هذا فالضمير في (أَمامَهُ) عائد على الإنسان ، وهو الظاهر. وقال ابن عباس : ما يقتضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة ، وبين يديه يوم القيامة خلفه ، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة ، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه ؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان ، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) : أي متى يوم القيامة؟ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت. وقرأ الجمهور : (بَرِقَ) بكسر الراء ؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو ، والحسن والجحدري : بخلاف عنهما بفتحها.

٣٤٥

قال أبو عبيدة : برق بالفتح : شق. وقال ابن إسحاق : خفت عند الموت. قال مجاهد : هذا عند الموت. وقال الحسن : هو يوم القيامة. وقرأ أبو السمال : بلق باللام عوض الراء ، أي انفتح وانفرج ، يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته ، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول : بلقه وأبلقه إذا أغلفه. وقال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك ، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه. انتهى. ويمكن أن تكون اللام بدلا من الراء ، فهما يتعاقبان في بعض الكلام ، نحو قولهم : نثره ونثلة ، ووجر ووجل. وقرأ الجمهور : (وَخَسَفَ) مبنيا للفاعل ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي : مبنيا للمفعول. يقال : خسف القمر وخسفه الله ، وكذلك الشمس. قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة : الخسوف والكسوف بمعنى واحد. وقال ابن أبي أويس : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف جميعه.

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) : لم تلحق علامة التأنيث ، لأن تأنيث الشمس مجان ، أو لتغليب التذكير على التأنيث. وقال الكسائي : حمل على المعنى ، والتقدير : جمع النوران أو الضياءان ، ومعنى الجمع بينهما ، قال عطاء بن يسار : يجمعان فيلقيان في النار ، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى. وقيل : يجمع بينهما في الطلوع من المغرب ، فيطلعان أسودين مكورين. وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب ، وقيل : يجتمعان ولا يتفرقان ، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر ، فكأن المعنى : يجمع حرهما. وقيل : يجمع بينهما في ذهاب الضوء ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار. وقرأ الجمهور : (الْمَفَرُّ) بفتح الميم والفاء ، أي أين الفرار؟ وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن زيد ، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري : بكسر الفاء ، وهو موضع الفرار. وقرأ الحسن : بكسر الميم وفتح الفاء ، ونسبها ابن عطية للزهري ، أي الجيد الفرار ، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ، نحو قوله :

مكر مفر مقبل مدبر معا

والظاهر أن قوله : (كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) من تمام قول الإنسان. وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية عن الإنسان. (كَلَّا) : ردع عن طلب المفر ، (لا وَزَرَ) : لا ملجأ ، وعبر المفسرون عنه بالجبل. قال مطرف بن الشخير : هو كان وزر فرار العرب في بلادهم ، فلذلك استعمل ؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح

٣٤٦

أو رجل أو غيره. (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) : أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر ، (الْمُسْتَقَرُّ) : أي الاستقرار ، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى ، يدخل من شاء الجنة ، ويدخل من شاء النار. (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) ، قال عبد الله وابن عباس : بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده. وقال ابن عباس أيضا : بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات. وقال زيد بن أسلم : بما قدم من ماله لنفسه ، وبما أخر منه للوارث. وقال النخعي ومجاهد : بأول عمله وآخره. وقال الضحاك : بما قدم من فرض وأخر من فرض ؛ والظاهر حمله على العموم ، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه. (بَصِيرَةٌ) : خبر عن الإنسان ، أي شاهد ، قاله قتادة ، والهاء للمبالغة. وقال الأخفش : هو كقولك : فلان عبرة وحجة. وقيل : أنث لأنه أراد جوارحه ، أي جوارحه على نفسه بصيرة. وقيل : بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف ، أي عين بصيرة ، وعلى نفسه الخبر. والجملة في موضع خبر عن الإنسان ، والتقدير عين بصيرة ، وإليه ذهب الفراء وأنشد :

كأن على ذي العقل عينا بصيرة

بمقعدة أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهم

من الخوف لا تخفى عليهم سرائره

وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلا بالجار والمجرور ، وهو الخبر عن الإنسان. ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبرا عن الإنسان؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث. وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة. والمعاذير عند الجمهور الأعذار ، فالمعنى : لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها. وقيل : المعاذير جمع معذرة. وقال الزمخشري : قياس معذرة معاذر ، فالمعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحو المناكير في المنكر. انتهى. وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جمع التكسير ، فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع ، بل قيل : هما جمع للمحة وذكر على قياس ، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به ، وهو مذكار وملمحة. وقال السدي والضحاك : المعاذير : الستور بلغة اليمن ، واحدها معذار ، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب. وقاله الزجاج أيضا ، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه. وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر :

ولكنها ضنت بمنزل ساعة

علينا وأطت فوقها بالمعاذر

وقيل : البصيرة : الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر ، أي وإن تستر بالستور ؛ وإذا

٣٤٧

كانت من العذر ، فمعنى (وَلَوْ أَلْقى) : أي نطق بمعاذيره وقالها. وقيل : ولو رمى بأعذاره واستسلم. وقال السدي : ولو أدلى بحجة وعذر. وقيل : ولو أحال بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (١) ؛ والعذرة والعذرى : المعذرة ، قال الشاعر :

ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت

وقال فيها : ولا عذر لمجحود. (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) : الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. وقال القفال : هو خطاب للإنسان المذكور في قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) (٢) ، وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله ، يعرض عليه كتابه فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة ، فقيل له : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك. (فَإِذا قَرَأْناهُ) عليك ، (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) بأنك فعلت تلك الأفعال. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) : أي بيان أمره وشرح عقوبته. وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل ، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة ، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت. وقال الضحاك : السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت. وقال الشعبي : كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى. والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية. (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) : أي في صدرك ، (وَقُرْآنَهُ) : أي قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر :

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

وقيل : وقرآنه : وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت : أي جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر :

ذراعي بكرة أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣١.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ١٣.

٣٤٨

(فَإِذا قَرَأْناهُ) : أي الملك المبلغ عنا ، (فَاتَّبِعْ) : أي بذهنك وفكرك ، أي فاستمع قراءته ، قاله ابن عباس. وقال أيضا هو قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي. وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى. وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ؛ فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة. وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ، قال قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه. وقيل : أن تبينه أنت. وقال قتادة أيضا : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره.

وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) : أي حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك. وقال الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك. وقيل : جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك. (فَإِذا قَرَأْناهُ) ، قال ابن عباس : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضا : فإذا يتلى عليك فاتبع ما فيه. وقال قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه. وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ. (لِتَعْجَلَ بِهِ) : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك وإثبات قراءته في لسانك. (فَإِذا قَرَأْناهُ) : جعل قراءة جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفيا له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه. انتهى.

وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن

٣٤٩

قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك. ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها.

وبضدها تتميز الأشياء

ولما كان عليه الصلاة والسلام ، لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه. كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة. لما فرغ من خطابه عليه الصلاة والسلام ، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك. وقرأ الجمهور : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ) بتاء الخطاب ، لكفار قريش المنكرين البعث ، و (كَلَّا) : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها. وقال الزمخشري : (كَلَّا) ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه. وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما.

ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، وعبر بالوجه عن الجملة. وقرأ الجمهور : (ناضِرَةٌ) بألف ، وزيد بن علي : نضرة بغير ألف. وقرأ ابن عطية : (وُجُوهٌ) رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله : (يَوْمَئِذٍ) و (ناضِرَةٌ) خبر (وُجُوهٌ). وقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) جملة هي في موضع خبر بعد خبر. انتهى. وليس (يَوْمَئِذٍ) تخصيصا للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون (يَوْمَئِذٍ) معمول لناضرة. وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و (ناضِرَةٌ) الخبر ، و (ناضِرَةٌ) صفة. وقيل : (ناضِرَةٌ) نعت لوجوه ، و (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الخبر ، وهو قول سائغ. ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا. ولما كان الزمخشري من المعتزلة ، ومذهبه أن

٣٥٠

تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعماء

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. انتهى. وقال ابن عطية : ذهبوا ، يعني المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافا محذوفا ، وهذا وجه سائغ في العربية. كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا : أي إلى صنعك في كذا. انتهى. والظاهر أن إلى في قوله : (إِلى رَبِّها) حرف جر يتعلق بناظرة. وقال بعض المعتزلة : إلى هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) : يجوز أن يكون (وُجُوهٌ) مبتدأ خبره (باسِرَةٌ) وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر. والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر ، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) : فعل هو في شدة داهية تقصم. وقال أبو عبيدة : فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار. (كَلَّا) : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في (بَلَغَتِ) عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول حاتم :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء. وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها. وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضرو المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام حقيقة. وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة

٣٥١

وابن زيد. واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ قاله ابن عباس أيضا وسليمان التيمي. وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) الآية. ووقف حفص على (مَنْ) ، وابتدأ (راقٍ) ، وأدغم الجمهور. قال أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته. وكذلك قرأ : (بَلْ رانَ) (١). انتهى. وكان حفصا قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكتا لطيفا ليشعر أنهما كلمتان. وقال سيبويه : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد ؛ والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان. ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو. وأمّا (بَلْ رانَ) فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في (بَلْ رانَ) ، صار كالوقف القليل. (وَظَنَ) ، أي المريض ، (أَنَّهُ) : أي ما نزل به ، (الْفِراقُ) : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه. وقيل : فراق الروح الجسد.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) ، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد : استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها ، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها ، لأنه بين الحالين قد اختلطا به ، كما يقول : شمرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها. وقال ابن المسيب والحسن : هي حقيقة ، والمراد ساقا الميت عند ما لفا في الكفن. وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك : التفافهما لشدّة المرض ، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه. وقال الضحاك : أسوق حاضريه من الإنس والملائكة ؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر ، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء. وقيل : التفافهما : موتهما أولا ، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء. وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) : المرجع والمصير ، والمساق مفعل من السوق ، فهو اسم مصدر ، إمّا إلى جنة ، وإمّا إلى نار. (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) ، الجمهور : إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله : (يَتَمَطَّى). فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها. وتقدم أيضا أنه قيل في قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ

__________________

(١) سورة المطففين : ٨٣ / ١٤.

٣٥٢

عِظامَهُ) أنها نزلت في أبي جهل. وقال الزمخشري : يعني الإنسان في قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ). ألا ترى إلى قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ، وهو معطوف على قوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) : أي لا يؤمن بالبعث؟ (فَلا صَدَّقَ) بالرسول والقرآن ، (وَلا صَلَّى). ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، يعني فلا زكاة. انتهى. وكون (فَلا صَدَّقَ) معطوفا على قوله : (يَسْئَلُ) فيه بعد ، ولا هنا نفت الماضي ، أي لم يصدق ولم يصل ؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه ، ومثله قوله :

وأي جميس لا أتانا نهابه

وأسيافنا يقطرن من كبشه دما

وقال الراجز :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأيّ عبد لك لا ألما

وصدق : معناه برسالة الله. وقال قوم : هو من الصدقة ، وهذا الذي يظهر نفى عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب ، كقوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١). وحمل (فَلا صَدَّقَ) على نفي التصديق بالرسالة ، فيقتضي أن يكون (وَلكِنْ كَذَّبَ) تكرارا. ولزم أن يكون لكن استدراكا بعد (وَلا صَلَّى) لا بعده (فَلا صَدَّقَ) ، لأنه كان يتساوى الحكم في (فَلا صَدَّقَ) وفي (كَذَّبَ) ، ولا يجوز ذلك ، إذ لا تقع لكن بعد متوافقين. (وَتَوَلَّى) : أعرض عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذب بما جاء به. (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ) : أي قومه ، (يَتَمَطَّى) : يبختر في مشيته. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبب أبا جهل يوما في البطحاء وقال له : «إن الله يقول لك أولى فأولى لك» ، فنزل القرآن على نحوها ، وقالت الخنساء :

هممت بنفسي كل الهمو

م فأولى لنفسي أولى لها

وتقدم الكلام على (أَوْلى) شرحا وإعرابا في قوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (٢) في سورة القتال ، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد. ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا ، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها ، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور. وقرأ الجمهور : (أَلَمْ يَكُ) بياء الغيبة ؛ والحسن : بتاء الخطاب على سبيل الالتفات. وقرأ الجمهور : تمنى ، أي النطفة يمنيها الرجل ؛ وابن محيصن

__________________

(١) سورة المدثر ٧٤ / ٤٣ ـ ٤٦.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ٢٠ ـ ٢١.

٣٥٣

والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر : بخلاف عنه بالياء ، أي يمنى هو ، أي المني ، فخلق الله منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة. (فَسَوَّى) : أي سواه شخصا مستقلا. (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ) : أي النوعين أو المزدوجين من البشر ، وفي قراءة زيد بن عليّ : الزّوجان بالألف ، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله. وقرأ أيضا : يقدر مضارعا ، والجمهور : (بِقادِرٍ) اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة.

(أَلَيْسَ ذلِكَ) : أي الخالق المسوي ، (بِقادِرٍ) ، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان : بسكون الياء من قوله : (أَنْ يُحْيِيَ) ، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف ، وقد جاء في الشعر حذفها. وقرأ الجمهور : بفتحها. وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء. قال ابن خالويه : لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي ، قالوا لسكون الياء الثانية ، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة. وأما الفراء فاحتج بهذا البيت :

تمشي بسده بينها فتعيى

يريد : فتعيي ، والله تعالى أعلم.

٣٥٤

سورة الإنسان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً

٣٥٥

(٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)

الأمشاج : الاخلاط ، واحدها مشج بفتحتين ، أو مشج كعدل ، أو مشيج كشريف وأشراف ، قاله ابن الأعرابي ، وقال رؤبة :

يطرحن كل معجل بساج

لم يكس جلدا من دم أمشاج

وقال الهذلي :

كأن النصل والفوقين منها

خلاف الريش سيط به مشيج

وقال الشماخ :

طوت أحشاء مرتجة لوقت

على مشج سلالته مهين

ويقال : مشج يمشج مشجا إذا خلط ، ومشيج : كخليط ، وممثنوج : كمخلوط. مزج الشيء بالشيء : خلطه ، وقال الشاعر :

كأن سييئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

استطار الشيء : انتشر ، وتقول العرب : استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال ، ومنه قول الشاعر :

فبانت وقد أسأت في الفؤا

د صدعا على نأيها مستطيرا

وقال الفراء : مستطير : مستطيل. ويقال : يوم قمطرير وقماطر واقمطرّ ، فهو مقمطر إذا كان صعبا شديدا ، وقال الراجز :

قد جعلت شبوة تزبئر

تكسو استها لحما وتقمطر

٣٥٦

وقال الشاعر :

ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها

وبج بها اليوم الشديد القماطر

وقال الزجاج : القمطرير : الذي يعيش حتى يجتمع ما بين عينيه ، ويقال : اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ، فاشتقه من القطر وجعل الميم زائدة ، وقال أسد بن ناعصة :

واصطليت الحروب في كل يوم

بأسد الشر قمطرير الصباح

واختلف في هذا الوزن ، وأكثر النحاة لا يثبت افمعلّ في أوزان الأفعال. الزمهرير : أشد البرد ، وقال ثعلب : هو القمر بلغة طي ، وأنشد قول الراجز :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر

القارورة : إناء رقيق صاف توضع فيه الأشربة ، قيل : ويكون من الزجاج. الزنجبيل ، قال الدينوري : نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر ، يؤكل رطبا ، وأجوده ما يحمل من بلاد الصين ، كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به ، قال الشاعر :

كأن جنبا من الزنجبيل بات

بفيها واريا مستورا

وقال المسيب بن علس :

وكأن طعم الزنجبيل به إذا ذقته وسلافة الخمر

السلسبيل والسلسل والسلسال : ما كان من الشراب غاية في السلاسة ، قاله الزجاج. وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن. ثم ظرف مكان للبعد.

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً ، إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ، إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ، فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ، وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً).

٣٥٧

هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال مجاهد وقتادة : مدنية. وقال الحسن وعكرمة : مدنية إلا آية واحدة فإنها مكية وهي : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً). وقيل : مدنية إلا من قوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) إلخ ، فإنه مكي ، حكاه الماوردي. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّا لا تحتاج إلى شرح.

(هَلْ) حرف استفهام ، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد ، لأن قد من خواص الفعل ، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض. وقال ابن عباس وقتادة : هي هنا بمعنى قد. قيل : لأن الأصل أهل ، فكأن الهمزة حذفت واجتزئ بها في الاستفهام ، ويدل على ذلك قوله :

سائل فوارس يربوع لحلتها

أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم

فالمعنى : أقد أتى على التقدير والتقريب جميعا ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا ، فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور. وما تليت عند أبي بكر ، وقيل : عند عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ليتها تمت ، أي ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئا غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف. والإنسان هنا جنس بني آدم ، والحين الذي مرّ عليه ، إما حين عدمه ، وإما حين كونه نطفة. وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه ، فإنه في تلك المدة لا ذكر له ، وسمي إنسانا باعتبار ما صار إليه. وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام ، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح. وعن ابن عباس : بقي طينا أربعين سنة ، ثم صلصالا أربعين ، ثم حمأ مسنونا أربعين ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، وسمي إنسانا باعتبار ما آل إليه. والجملة من (لَمْ يَكُنْ) في موضع الحال من الإنسان ، كأنه قيل : غير مذكور ، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين ، فيكون العائد على الموصوف محذوفا ، أي لم يكن فيه.

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) : أخلاط ، وهو وصف للنطفة. فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة. وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما. وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنسانا. وقال ابن عباس أيضا والكلبي : هي ألوان النطفة. وقيل :

٣٥٨

أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : (عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) (١) ، أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة. وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيرا له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالا لا يكون مفردا. قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسما للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه. (نَبْتَلِيهِ) : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتليا له بالتكليف في ذلك الوقت. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى. وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل : نبتليه بالإيجاد والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل. (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) نبتليه ، أي جعله سميعا بصيرا هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات.

ولما جعله بهذه المثابة ، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل ، أي أرشده إلى الطريق ، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك ، إذ أرشدناه طريق الهدى. وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة. وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم. وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا ، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوما منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. انتهى ، وهو على طريق الالتزام. وقرأ الجمهور : (إِمَّا) بكسر الهمزة فيهما ؛ وأبو السمال وأبو العاج ، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما ، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب ، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا :

يلحقها إما شمال عرية

وإما صبا جنح العشي هبوب

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٧٦.

٣٥٩

وقال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكرا بتوفيقنا ، وإما كفورا فبسوء اختياره. انتهى. فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط ، ولذلك تلقاها بفاء الجواب ، فصار كقول العرب : إما صديقا فصديق ؛ وانتصب شاكرا وكفورا على الحال من ضمير النصب في (هَدَيْناهُ). وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي عرفناه السبيل ، إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا ، كقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازا. انتهى. ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكرا : ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفورا بصيغة المبالغة. ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة : سلاسل ممنوع الصرف وقفا ووصلا. وقيل عن حمزة وأبي عمر : الوقف بالألف. وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف ، واختلف عنهم في الوقف ، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة : بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا ، وهي قراءة الأعمش ، قيل : وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء ، ثم كثر حتى جرى في كلامهم ، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا : صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف ، وقال بعض الرجاز :

والصرف في الجمع أتى كثيرا

حتى ادعى قوم به التخييرا

والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله ، وكذا قوارير. وروى هشام عن ابن عامر : سلاسل في الوصل ، وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف. وروي أن من العرب من يقول : رأيت عمرا بالألف في الوقف. (مِنْ كَأْسٍ) : من لابتداء الغاية ، (كانَ مِزاجُها كافُوراً) ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك. وقيل : هو على التشبيه ، أي طيب رائحة وبرد كالكافور. وقال الكلبي : كافورا اسم عين في الجنة ، وصرفت لتوافق الآي. وقرأ عبد الله : قافورا بالقاف بدل الكاف ، وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة ، كقولهم : عربي قح وكح ، و (عَيْناً) بدل من (كافُوراً) ومفعولا بيشربون ، أي ماء عين ، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف ، أي يشربون خمرا خمر عين ، أو نصب على الاختصاص. ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن ؛ وفي (يَشْرَبُ بِها) : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٠.

٣٦٠