البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حدا ولا عذابا. وقال ابن عباس أيضا وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام.

وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (١). وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور. وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه. وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود. وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب. وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد. وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع. وقيل : نظرة الفجأة. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة. انتهى ، وفيه نزغة الاعتزال.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله. وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل. وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها. كان مكيا راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ، والظاهر أن المراد بأنشأكم : أنشأ أصلكم ، وهو آدم. ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم.

وكثيرا ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل. وترى لبعضه في جبينه سوادا يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مرارا ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئا بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية. وبعضهم يقول في حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الوسواس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٣.

٢١

هو عارضها. وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضا تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع. وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة.

والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولدا أو سقطا. وقوله : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجنّ ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر. (بِمَنِ اتَّقى) : قيل الشرك. وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية.

قوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ، وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى ، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ، وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا ، وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ، وَثَمُودَ فَما أَبْقى ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ، فَغَشَّاها ما غَشَّى ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ، هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ، أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا).

(أَفَرَأَيْتَ) الآية ، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجلس إليه ووعظه ، فقرب من الإسلام ، وطمع فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم إنه عاتبة رجل من المشركين ، فقال له : أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه ، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال. فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عن ما هم به من الإسلام ، وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عنه وشح. وقال الضحاك : هو النضر بن الحارث ، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه ، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه. وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، كان ربما يوافق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب : في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق. وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه ؛ كان يتصدق ، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحوا من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به. وذكر القصة

٢٢

بتمامها الزمخشري ، ولم يذكر في سبب النزول غيرها. قال ابن عطية : وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي‌الله‌عنه منزه عن مثله. انتهى.

وأ فرأيت هنا بمعنى : أخبرني ، ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ). و (تَوَلَّى) : أي أعرض عن الإسلام. وقال الزمخشري : (تَوَلَّى) : ترك المركز يوم أحد. انتهى. لما جعل الآية نزلت في عثمان ، فسر التولي بهذا. وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن ، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان. (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) ، قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم عصى. وقال مجاهد : أعطى قليلا من نفسه بالاستماع ، ثم أكدى بالانقطاع. وقال الضحاك : أعطى قليلا من ماله ثم منع. وقال مقاتل : أعطى قليلا من الخير بلسانه ثم قطع. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) : أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره ، أم هو جاهل؟ وقال الزمخشري : (فَهُوَ يَرى) : فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق. وقيل : يعلم حاله في الآخرة. وقال الزجاج : يرى رفع مأثمه في الآخرة. وقيل : فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل. وقال الكلبي : أنزل عليه قرآن ، فرأى ما منعه حق. وقيل : (فَهُوَ يَرى) : أي الأجزاء ، واحتمل يرى أن تكون بصرية ، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب ، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم ، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) : أي بل ألم يخبر؟ (بِما فِي صُحُفِ مُوسى) ، وهي التوراة. (وَإِبْراهِيمَ) : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه ، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام. قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده. فأول من خالفهم إبراهيم ، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما ، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره. (الَّذِي وَفَّى) ، قرأ الجمهور : وفى بتشديد الفاء. وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي : بتخفيفها ، ولم يذكر متعلق وفى ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقا له ، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة ، والصبر على ذبح ولده ، وعلى فراق إسماعيل وأمه ، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه. وكان يمشي كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به. وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقا. وقال ابن

٢٣

عباس والربيع : وفي طاعة الله في أمر ذبح ابنه. وقال الحسن وقتادة : وفي بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله. وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات : (أَلَّا تَزِرُ) فما بعدها. وقال ابن عباس أيضا وقتادة : وفي ما افترض عليه من الطاعة على وجهها ، وكملت له شعب الإيمان والإسلام ، فأعطاه الله براءته من النار. وقال ابن عباس أيضا : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهما ، يعني : عشرة في براءة التائبون إلخ ، وعشرة في قد أفلح ، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين. وقال أبو أمامة : ورفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي أربع صلوات في كل يوم. وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادّعى ، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، فطالبه بصحة دعواه ، فابتلاه في ماله وولده ونفسه ، فوجده وافيا. انتهى ، وللمفسرين أقوال غير هذه. وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفى ، لا على سبيل التعيين ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وهي بدل من ما في قوله : (بِما فِي صُحُفِ) ، أو في موضع رفع ، كأن قائلا قال : ما في صحفهما ، فقيل : لا تزر وازرة وزر أخرى ، وتقدم شرح (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) : الظاهر أن الإنسان يشمل المؤمن والكافر ، وأن الحصر في السعي ، فليس له سعي غيره ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها ، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لأمي ، إن تطوعت عنها؟ قال : نعم. وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره. وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (١) ، فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين. وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح ، لأنه خبر لم يتضمن تكليفا ؛ وعند الجمهور : إنها محكمة. قال ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله : (لِلْإِنْسانِ). فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا ، لم تجده إلا سعيه ، وما تم بعد من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله ، فليس هو للإنسان ، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة. واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن أو مال ، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال. انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦١.

٢٤

والسعي : التكسب ، ويرى مبني للمفعول ، أي سوف يراه حاضرا يوم القيامة. وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء ، والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي ، والجزاء مصدر. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : (الْجَزاءَ الْأَوْفى). وإذا كان تفسيرا للمصدر المنصوب في يجزاه ، فعلى ماذا انتصابه؟ وأما إذا كان بدلا ، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر ، وهي مسألة خلاف ، والصحيح المنع. وقرأ الجمهور : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ) وما بعدها من (وَأَنَّهُ) ، وأن بفتح الهمزة عطفا على ما قبلها. وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن ، وفي قوله : (الْأَوْفى) وعيد للكافر ووعد للمؤمن ، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه ، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله ، كما قال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١) : أي إلى جزائه وحسابه ، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار ؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية. وعن أبي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، لا فكرة في الرب. وروى أنس عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا ذكر الرب فانتهوا».

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) : الظاهر حقيقة الضحك والبكاء. قال مجاهد : أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار. وقيل : كنى بالضحك عن السرور ، وبالبكاء عن الحزن. وقيل : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر. وقيل : أحيا بالإيمان ، وأبكى بالكفر. وقال الزمخشري : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) : خلق قوتي الضحك والبكاء. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، إذ أفعال العباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم ، لا لله تعالى ، فلذلك قال : خلق قوتي الضحك والبكاء. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان ، (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) : أي إذا تدفق ، وهو المني. يقال : أمنى الرجل ومنى. وقال الأخفش : إذا يمنى : أي يخلق ويقدر من مني الماني ، أي قدر المقدر. (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) : أي إعادة الأجسام : أي الحشر بعد البلى ، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله : (عَلَيْهِ) بوجودها لا محالة ، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورة العنكبوت. وقال الزمخشري : وقال (عَلَيْهِ) ، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) : أي أكسب القنية ، يقال : قنيت المال : أي كسبته ، وأقنيته

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٨ ، وسورة النور : ٢٤ / ٤٢ ، وسورة فاطر : ٣٥ / ١٨.

٢٥

إياه : أي أكسبته إياه ، ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى. وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولا ، كقولهم : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، وكل قول منها لا دليل على تعينه ، فينبغي أن تجعل أمثلة. والشعرى التي عبدت هي العبور. وقال السدّي : كانت تعبدها حمير وخزاعة. وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة ، أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من قبل أمهاته ، وكان اسمه عبد الشعرى ، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه‌السلام : ابن أبي كبشة ، ومن ذلك كلام أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها ، ويعتقد تأثيرها في العالم ، وأنها من الكواكب الناطقة ، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وهي تقطع السماء طولا ، والنجوم تقطعها عرضا. وقال مجاهد وابن زيد : هو مرزم الجوزاء.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) : جاء بين أن وخبرها لفظ هو ، وذلك في قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ) ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ) ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى) ، (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى). ففي الثلاثة الأول ، لما كان قد يدعي ذلك بعض الناس ، كقول نمروذ : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) (١) ، احتيج إلى تأكيد في أن ذلك إنما هو لله لا غيره ، فهو الذي يضحك ويبكي ، وهو المميت المحيي ، والمغني ، والمقني حقيقة ، وإن ادّعى ذلك أحد فلا حقيقة له. وأما (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) ، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى ، نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها. ولما كان خلق الزوجين ، والإنشاء الآخر ، وإهلاك عاد ومن ذكر ، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك. وعاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى إرم. وقيل : الأولى : القدماء لأنهم أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه‌السلام. وقيل : الأولى : المتقدّمون في الدنيا الأشراف ، قاله الزمخشري. وقال ابن زيد والجمهور : لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة. وقال الطبري : وصفت بالأولى ، لأن عادا الآخرة قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهو بنو لقيم بن هزال. وقال المبرد : عاد الأخيرة هي ثمود ، والدليل عليه قول زهير :

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

ذكره الزهراوي. وقيل : عاد الأخيرة : الجبارون. وقيل : قبل الأولى ، لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل : ثمود من قبل عاد. وقيل : عاد الأولى : هو عاد بن إرم بن عوص بن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٨.

٢٦

سام بن نوح ؛ وعاد الثانية : من ولد عاد الأولى. وقرأ الجمهور : (عاداً الْأُولى) ، بتنوين عادا وكسره لالتقائه ساكنا مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعد اللام. وقرأ قوم كذلك ، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة. وقرأ نافع وأبو عمرو : بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاد هذه القراءة للمازني والمبرد. وقالت العرب في الابتداء بعد النقل : الحمر ولحمر ، فهذه القراءة جاءت على الحمر ، فلا عيب فيها ، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة. ولما لم يكن بين الضمة والواو حائل ، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها ، كما قال :

أحب المؤقدين إليّ مؤسى

وكما قرأ بعضهم : على سؤقه ، وهو توجيه شذوذ ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة ، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية ، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى. وقرأ الجمهور : وثمودا مصروفا ، وقرأه غير مصروف : الحسن وعاصم وعصمة. (فَما أَبْقى) : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معا ، أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم. وقيل : (فَما أَبْقى) : أي فما أبقى منهم عينا تطرف. وقال ذلك الحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفا من نسل ثمود ، فقال : قال الله تعالى : (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) ، وهؤلاء يقولون : بقيت منهم بقية ، والظاهر القول الأول ، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه‌السلام ، فما أهلكهم الله مع الذين كفروا به.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل عاد وثمود ، وكانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، ونوح عليه‌السلام أول الرسل. والظاهر أن الضمير في (إِنَّهُمْ) عائد على قوم نوح ، وجعلهم (أَظْلَمَ وَأَطْغى) لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه‌السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه. وقال قتادة : دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه ، يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل : الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمود وقوم نوح ، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى ، ففي ذلك تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهم يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ، ويجوز أن يكون فصلا ، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول بعد الواقع خبرا لكان ، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ ، وحذفه فصيح فيه ، فكذلك في خبر كان.

٢٧

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ) : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين ، وسميت بذلك لأنها انقلبت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذبا ، أفكه فأئتفك. قيل : ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة : كل ما انقلبت مساكنه ودبرت أماكنه. (أَهْوى) : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء ، رفعها جبريل عليه‌السلام ، ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد : جعلها تهوي. وقرأ الحسن : والمؤتفكات جمعا ، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة ، وأخر العامل لكونه فاصلة. ويجوز أن يكون (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) معطوفا على ما قبله ، و (أَهْوى) جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم ، أي وإهلاك المؤتفكة مهويا لها. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم ، لما قلبها جبريل عليه‌السلام اتبعت حجارة غشيتهم. واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد ، فيتعدى إلى واحد ، فيكون الفاعل ما ، كقوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (١).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) : الباء ظرفية ، والخطاب للسامع ، وتتمارى : تتشكك ، وهو استفهام في معنى الإنكار ، أي آلاؤه ، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع ، وقد سبق ذكر نعم ونقم ، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر. وقرأ يعقوب وابن محيصن : ربك تمارى ، بتاء واحدة مشددة. وقال أبو مالك الغفاري : إن قوله : (أَلَّا تَزِرُ) إلى قوله : (تَتَمارى) هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام. (هذا نَذِيرٌ) ، قال قتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر : الإشارة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، افتتح أول السورة به ، واختتم آخرها به. وقيل : الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك : إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم ، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة ، والنذير يكون مصدرا أو اسم فاعل ، وكلاهما من أنذر ، ولا يتقاسان ، بل القياس في المصدر إنذار ، وفي اسم الفاعل منذر ؛ والنذر إما جمع للمصدر ، أو جمع لاسم الفاعل. فإن كان اسم فاعل ، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة.

ولما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره ، وذكر قوله : (هذا نَذِيرٌ) ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع فقال : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (٢) ، وهي القيامة. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) : أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه ، قاله الطبري والزجاج. وقال القاضي منذر بن سعيد : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس لها من يكشف خطبها وهو لها. انتهى. ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة.

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٧٨.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ١.

٢٨

وقال الرماني وجماعة : ويحتمل أن يكون مصدرا ، كالعاقبة ، و (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) ، أي ليس لها كشف من دون الله. وقيل : يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة. (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ). وهو القرآن ، (تَعْجَبُونَ) فتنكرون ، (وَتَضْحَكُونَ) مستهزئين ، (وَلا تَبْكُونَ) جزعا من وعيده. (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) ، قال مجاهد : معرضون. وقال عكرمة : لاهون. وقال قتادة : غافلون. وقال السدّي : مستكبرون. وقال ابن عباس : ساهون. وقال المبرد : جامدون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه. وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكا بعد نزولها.

فاسجدوا : أي صلوا له ، (وَاعْبُدُوا) : أي أفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام. وخرّج البغوي بإسناد متصل إلى عبد الله ، قال : أول سورة نزلت فيها السجدة النجم ، فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، والرجل أمية بن خلف. وروي أن المشركين سجدوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي حرف أبي وعبد الله : تضحكون بغير واو. وقرأ الحسن : تعجبون تضحكون ، بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء. وفي قوله : (وَلا تَبْكُونَ) ، حض على البكاء عند سماع القرآن. والسجود هنا عند كثير من أهل العلم ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ووردت به أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك هنا. وعن زيد بن ثابت : أنه قرأ بها عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يسجد ، والله تعالى أعلم.

٢٩

سورة القمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥)

٣٠

سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)

الجدث : القبر ، وتبدل ثاؤه فاء فيقال : جدف ، كما أبدلوا في ثم فقالوا : فم. انهمر الماء : نزل بقوة غزيرا ، قال الشاعر :

راح تمريه الصبا ثم تنحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر

الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة ، واحدها دسار ، نحو كتاب وكتب. ويقال : دسرت السفينة ، إذا شددتها بالمسامير. وقال الليث وصاحب الصحاح : الدسر : خيوط تشدّ

٣١

بها ألواح السفينة. الصرصر : الشديدة الصوت ، أو البرد ، إما من صرير الباب ، وهو تصويته ، أو من الصر الذي هو البرد ، وهو بناء متأصل على وزن فعلل عند الجمهور. العجز : مؤخر الشيء. المنقعر : المنقلع : من أصله ، قعرت الشجرة قعرا : قلعتها من أصلها فانقعرت ، والبئر : نزلت حتى انتهيت إلى قعرها ، والإناء : شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره ، وأقعرته البئر : جعلت لها قعرا. الأشر : البطر. وقرأ : أشر بالكسر يأشر أشرا ، فهو أشر وآشر وأشران ، وقوم أشارى ، مثل : سكران وسكارى. سقر : علم لجهنم مشتق من سقرته النار بالسين ، وصقرته بالصاد إذا لوّحته. قال ذو الرمّة :

إذا دابت الشمس اتقى صقراتها

بأفنان مربوع الصريمة معيل

وامتنعت سقر من الصرف للعلمية ، والتأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب.

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ، خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقيل : هي مما نزل يوم بدر. وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات ، أولها : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ) ، وآخرها : (أَدْهى وَأَمَرُّ). وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين ، ووعدوه بالإيمان إن فعل. وكانت ليلة بدر ، فسأل ربه ، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان. فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر. فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي ، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح ، وإلا فقد سحر محمد أعيننا. فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر ، فأعرض أبو جهل وقال : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). وعن ابن عباس : شق القمر باشين ، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية. وعنه : انشق القمر بمكة مرتين. وعنه : انفلق فلقتين ، فلقة ذهبت وفلقة بقيت.

٣٢

ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة ، قال : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (١) ، وقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ). وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود وجبير بن مطعم ، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس. وحين أرى الله الناس انشقاق القمر ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا» ، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد. وقال بعضهم : سحر القمر. والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) معناه : أنه ينشق يوم القيامة ، ويرده من الآية قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معينا من انشقاق القمر. وقيل : سألوا آية في الجملة ، فأراهم هذه الآية السماوية ، وهي من أعظم الآيات ، وذلك التأثير في العالم العلوي. وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر ، أي اقتربت ، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وخطب حذيفة بالمدائن ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية ، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها ، فالمعنى : ظهر الأمر ، فإن العرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح ، كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق. قال النابغة :

فلما أدبروا ولهم دويّ

دعانا عند شق الصبح داعي

وهذه أقوال فاسدة ، ولو لا أن المفسرين ذكروها ، لأضربت عن ذكرها صفحا. (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) ، وقرىء : وإن يروا مبنيا للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية. وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي ، ويقولوا : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) : أي دائم ، ومنه قول الشاعر :

ألا إنما الدنيا ليال وأعصر

وليس على شيء قويم بمستمر

لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع ، قالوا ذلك. وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل ، أي سحر قد أحكم ، ومنه قول الشاعر :

حتى استمرت على سر مريرته

صدق العزيمة لا ريا ولا ضرعا

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٥٧.

٣٣

وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ، واختاره النحاس : مستمر : مار ذاهب زائل عن قريب ، عللوا بذلك أنفسهم. وقيل مستمر : شديد المرارة ، أي مستبشع عندنا مر ، يقال : مر الشيء وأمر ، إذا صار مرا ، وأمر غيره ومره ، يكون لازما ومتعديا. وقيل : مستمر : يشبه بعضه بعضا ، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات. وقيل : مستمر : مار من الأرض إلى السماء ، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر. (وَكَذَّبُوا) : أي بالآيات وبمن جاء بها ، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : أي شهوات أنفسهم وما يهوون. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) ، بكسر القاف وضم الراء : مبتدأ وخبر. قال مقاتل : أي له غاية ينتهى إليها. وقال الكلبي : مستقرّ له حقيقة ، فما كان في الدنيا فسيظهر ، وما كان في الآخرة فسيعرف. وقال قتادة : معناه أن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر. وقيل : يستقر الحق ظاهرا ثابتا ، والباطل زاهقا ذاهبا. وقيل : كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة ، أو شقاوة في الآخرة. وقرأ شيبة : مستقر بفتح القاف ، ورويت عن نافع ؛ وقال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف. انتهى. وخرجت على حذف مضاف ، أي ذو استقرار ، وزمان استقرار. وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي : مستقر بكسر القاف والراء معا صفة لأمر. وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفا على الساعة ، أي اقتربت الساعة ، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله ، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : أكلت خبزا وضربت زيدا ، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحما ، فيكون ولحما عطفا على خبزا ، بل لا يوجد مثله في كلام العرب. وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل ، فهو مرفوع في الأصل ، لكنه جر للمجاورة ، وهذا ليس بجيد ، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، والأسهل أن يكون الخبر مضمرا لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) بالغوه ، لأن قبله : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم. وقيل : الخبر حكمة بالغة ، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة. ويكون : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) اعتراض بين المبتدأ وخبره.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) : أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة ، (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) : أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه ،

٣٤

أو موضع ازدجار وارتداع ، أي ذلك موضع ازدجار ، أو مظنة له. وقرىء مزجر ، بإبدال تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها. وقرأ زيد بن علي : مزجر اسم فاعل من أزجر ، أي صار ذا زجر ، كأعشب : أي صار ذا عشب. وقرأ الجمهور : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) برفعهما ، وجوزوا أن تكون حكمة بدلا من مزدجر أو من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم قول من جعله خبرا عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر. وقرأ اليماني : حكمة بالغة بالنصب فيهما حالا من ما ، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة ، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) مع هؤلاء الكفرة.

ثم سلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم ، فإن الإنذار لا يجدي فيهم. ثم ذكر شيئا من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه ، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة ، فقال : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ، والناصب ليوم اذكر مضمرة ، قاله الرماني ، أو يخرجون. وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما من جهة اللفظ فحذف إلى ، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغيا بيوم يدع الداع. وجوزوا أن يكون منصوبا بقوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) ، ويكون (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) اعتراضا ، وأن يكون منصوبا بقوله : (يَقُولُ الْكافِرُونَ) ، ومنصوبا على إضمار انتظر ، ومنصوبا بقوله : (فَتَوَلَ) ، وهذا ضعيف جدّا ، ومنصوبا بمستقر ، وهو بعيد أيضا. وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعا للنطق ، والياء من الداع تخفيفا أجريت أل مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين. فكما تحذف معه حذفت معها ، والداع هو إسرافيل ، أو جبرائيل ، أو ملك غيرهما موكل بذلك ، أقوال. وقرأ الجمهور : (نُكُرٍ) بضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وهو قليل في الصفات ، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة ، وناقة أجد ، ومشية سجح ، وروضة أنف. وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف ، كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر. وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ، أي جهل فنكر. وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد ، والوجل الداهية ، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله ، وهو يوم القيامة. قال مالك بن عوف النضري :

أقدم محاج أنه يوم نكر

مثلي على مثلك يحمي ويكر

وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعا جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعا بالإفراد. وقرأ أبيّ

٣٥

وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب. وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز. انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر :

بمطرد لذن صحاح كعربه

وذي رونق عضب يقد الوانسا

ومثال الإفراد قوله :

ورجال حسن أوجههم

من أياد بن نزار بن معد

وقال آخر :

ترمي الفجاج به الركبان معترضا

أعناق بزلها مرخى لها الجدل

وانتصب خشعا وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمي ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا. وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :

سريعا يهون الصعب عند أولي النهى

إذا برجاء صادق قابلوه البأسا

فسريعا حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون. وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وقيل : هو مفعول بيدع ، أي قوما خشعا ، أو فريقا خشعا ، وفيه بعد. ومن أفرد خاشعا وذكر ، فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعا جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم. وقال الزمخشري : وخشعا على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء. انتهى. ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة.

وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكرا ومؤنثا وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه. انتهى. وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعا بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم. والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من

٣٦

الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعا ضمير ، وأبصارهم بدل منه. وقرىء : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك.

(كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) : جملة حالية أيضا ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ، ويقال : كالذباب. وجاء تشبيههم أيضا بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما. وقيل : يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب. (مُهْطِعِينَ) ، قال أبو عبيدة : مسرعين ، ومنه قوله :

بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السماع

زاد غيره : مادّي أعناقهم ، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه. وقال قتادة : عامدين. وقال الضحاك : مقبلين. وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت. وقال ابن عباس : ناظرين. ومنه قول الشاعر :

تعبدني نمر بن سعد وقد أرى

ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع

وقيل : خافضين ما بين أعينهم. وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء. (يَوْمٌ عَسِرٌ) ، لما يشاهدون من مخايل هوله ، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) : أي قبل قريش ، (قَوْمُ نُوحٍ) وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم. ومفعول كذبت محذوف ، أي كذبت الرسل ، فكذبوا نوحا عليه‌السلام. لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا ، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. ويجوز أن يكون المحذوف نوحا أول مجيئه إليهم ، فكذبوه تكذيبا يعقبه تكذيب. كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعه قرن مكذب. وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية ، كقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) (١) ، (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) (٢). (وَقالُوا مَجْنُونٌ) : أي هو مجنون. لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن ، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون ، أي يقول ما لا يقبله عاقل ، وذلك مبالغة في تكذيبهم.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤١.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١.

٣٧

(وَازْدُجِرَ فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) ، الظاهر أن قوله : (وَازْدُجِرَ) من أخبار الله تعالى ، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (١). قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم. وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم ، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنونا ، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته. وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة ، على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين. وقرأ الجمهور : بفتحها ، أي بأني مغلوب ، أي غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني ، ويئست من إجابتهم لي. (فَانْتَصِرْ) : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم. وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشيا عليه ، وقد كان يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ومتعلق (فَانْتَصِرْ) محذوف. وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم. وقيل : فانتصر لنفسك ، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة. وللمتصوفة قول في (مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) حكاه ابن عطية ، يوقف عليه في كتابه.

(فَفَتَحْنا) : بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم. قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم. (أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ) : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها ، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح ، وكأن الماء جاء وفتح الباب ، فجعل المقصود ، وهو الماء ، مقدّما في الوجود على فتح الباب المغلق. ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي ملتبسة بماء منهمر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّدا ؛ والجمهور : مخففا ، (أَبْوابَ السَّماءِ) ، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب ، كما تقول : فتحت أبواب القرب ، وجرت مزاريب السماء. وقال عليّ ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة ، وهي سرع السماء كسرع العيبة. وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء ، ومثله مروي عن ابن عباس ، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب ، لم تغلق أربعين يوما. قال السدي : (مُنْهَمِرٍ) : أي كثير. قال الشاعر :

أعينيّ جودا بالدموع الهوامر

على خير باد من معد وحاضر

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١١٦.

٣٨

وقرأ الجمهور : (وَفَجَّرْنَا) بتشديد الجيم ؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : بالتخفيف ؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك. والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة ، مجاز في غيرها ، وهو في غير الماء مجاز مشهور ، غالب وانتصب عيونا على التمييز ، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من : وفجرنا عيون الأرض ، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالا ، ويكون حالا مقدرة ، وأعربه بعضهم مفعولا ثانيا ، كأنه ضمن (وَفَجَّرْنَا) : صيرنا بالتفجير ، (الْأَرْضَ عُيُوناً). وقيل : وفجرت أربعين يوما. وقرأ الجمهور : (فَالْتَقَى الْماءُ) ، وهو اسم جنس ، والمعنى : ماء السماء وماء الأرض. وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري : الماءان. وقرأ الحسن أيضا : الماوان. وقال الزمخشري : وقرأ الحسن ماوان ، بقلب الهمزة واوا ، كقولهم : علباوان. انتهى. شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا. وعن الحسن أيضا : المايان ، بقلب الهمزة ياء ، وفي كلتا القراءتين شذوذ. (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) : أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل. وقيل : على مقادير قد رتبت وقت التقائه ، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعا ، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعا. وقيل : كان ماء الأرض أكثر. وقيل : كانا متساويين ، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض.

وقيل : (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) : في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح عليه‌السلام بالطوفان ، وهذا هو الراجح ، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها ، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح ، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). وقرأ أبو حيوة : قدر بشد الدال ؛ والجمهور ؛ بتخفيفها ، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه‌السلام. ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة ، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ، ونحوه : قميصي مسرودة من حديد ، أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه ، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير ، قاله الجمهور. وقال الحسن وابن عباس : مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء ، أي تدفعه ، والدسر : الدفع. وقال مجاهد وغيره : بطن السفينة. وعنه أيضا : عوارض السفينة. وعنه أيضا : أضلاع السفينة ، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة ، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم.

وقال مقاتل بن سليمان : (بِأَعْيُنِنا) : بوحينا. وقيل : بأمرنا. وقيل : بأوليائنا. يقال : فلان عين من عيون الله تعالى : أي ولي من أوليائه. وقيل : بأعين الماء التي أنبعناها.

٣٩

وقيل : من حفظها من الملائكة سماهم أعينا. وقرأ زيد بن علي وأبو السمال : بأعينا بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك. (جَزاءً) : أي مجازاة ، (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) : أي لنوح عليه‌السلام ، إذ كان نعمة أهداها الله إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها ، المعنى : أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين ، ومن كناية عن نوح. قيل : يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته. وقال ابن عباس ومجاهد : من يراد به الله تعالى ، كأنه قال : غضبا وانتصارا لله تعالى ، أي انتصر لنفسه ، فأغرق الكافرين ، وأنجى المؤمنين ، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور. كفر : مبنيا للمفعول. وقرأ مسلمة بن محارب : بإسكان الفاء خفف فعل ، كما قال الشاعر :

لو عصر منه البان والمسك انعصر

يريد : لو عصر. وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى : كفر مبنيا للفاعل ، فمن يراد به قوم نوح : أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء ، وتفجر عيون الأرض ، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، كان جزاء لهم على كفرهم. وكفر : خبر لكان ، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان ، وهو مذهب البصريين وغيرهم. يقول : لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة ، أي لمن كفر ، والضمير في (تَرَكْناها) عائد على الفعلة والقصة. وقال قتادة والنقاش وغيرهما : عائد على السفينة ، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة. وقال قتادة : وكم من سفينة بعدها صارت رمادا! وقرأ الجمهور : (مُدَّكِرٍ) ، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال ؛ وقتادة : فيما نقل ابن عطية بالذال ، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول. وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة : فهل من مذكر ، فاعل من التذكير ، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص. انتهى. وقرىء : مدتكر على الأصل.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) : تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له ، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم ، فلم ينسل منهم أحد ؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري؟ والنذر : جمع نذير وهو الإنذار ، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم. وكان ، إن كانت ناقصة ، كانت كيف في موضع خبر كان ؛ وإن كانت تامة ، كانت في موضع نصب على الحال. والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته ، بل المعنى على التذكير بما حل بهم. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) : أي سهلنا ، (الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي للإذكار والاتعاظ ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، قال ابن زيد : من متعظ. وقال قتادة : فهل من

٤٠