البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده. وقيل : لابتداء الغاية. وقيل : زائدة ، وهو مذهب ، قال ابن عطية : كوفي ، وأقول : أخفشي لا كوفي ، لأنهم يشترطون أن تكون بعد من نكرة ، ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره ، والأخفش يجيز مع الواجب وغيره. وقيل : النكرة والمعرفة. وقيل : لبيان الجنس ، ورد بأنه ليس قبلها ما تبينه.

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : (وَيُؤَخِّرْكُمْ) مع إخباره بامتناع تأخير الأجل؟ وهل هذا إلا تنافض؟ قلت : قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى : أي إلى وقت سماه الله تعالى وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد ، لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. انتهى. وقال ابن عطية : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مما تعلقت المعتزلة به في قولهم أن للإنسان أجلين ، قالوا : لو كان واحدا محددا لما صح التأخير ، إن كان الحد قد بلغ ، ولا المعاجلة إن كان لم يبلغ ، قال : وليس لهم في الآية تعلق ، لأن المعنى : أن نوحا عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم ، لكن قد سبق في الأزل أنهم ، إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير ، وإما ممن قضى له بالكفر والمعاجلة. ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) ، وجواب لو محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون ، لبادرتم إلى عبادته وتقواه وطاعتي فيما جئتكم به منه تعالى. ولما لم يجيبوه وآذوه ، شكا إلى ربه شكوى من يعلم أن الله تعالى عالم بحاله مع قومه لما أمر بالإنذار فلم يجد فيهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) : أي جميع الأوقات من غير فتور ولا تعطيل في وقت. ولما ازدادوا إعراضا ونفارا عن الحق ، جعل الدعاء هو الذي زادهم ، إذ كان سبب الزيادة ، ومثله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١). (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) : أي ليتوبوا فتغفر لهم ، ذكر المسبب الذي هو حظهم خالصا ليكون أقبح في إعراضهم عنه ، (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) : الظاهر أنه حقيقة ، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه ، وتغطوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه كراهة وبغضا من سماع النصح ورؤية الناصح. ويجوز أن يكون كناية عن المبالغة في إعراضهم عن ما دعاهم إليه ، فهم بمنزلة

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٥.

٢٨١

من سد سمعه ومنع بصره ، ثم كرر صفة دعائه بيانا وتوكيدا. لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ، ذكر عموم حالات الدعاء. و (كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) : يدل على تكرر الدعوات ، فلم يبين حالة دعائه أولا ، وظاهرة أن يكون دعاؤه إسرارا ، لأنه يكون ألطف بهم. ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه ، فلما لم يجد له الإسرار ، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهارا صلتا بالدعاء إلى الله لا يحاشي أحدا ، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار. قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. انتهى. وكثيرا كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد ، ولا نعلمه من كلام غيره ، وانتصب جهارا بدعوتهم ، وهو أحد نوعي الدعاء ، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى.

قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا : أي مجاهرا به ، أو مصدرا في موضع الحال ، أي مجاهرا. ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار ، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا ، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم ، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل ، كما قال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها ، نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (١) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٢) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣) الآية ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) (٤). قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا ، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها. وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم ، فبدأهم في وعده بالمطر ، ثم ثنى بالأموال والبنين. و (مِدْراراً) : من الدر ، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادرا ، فيشترك فيه المذكر والمؤنث. تقول : رجل محدامة ومطرابة ، وامرأة محدابة ومطرابة ، والسماء المطلة ، قيل : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله : إذا نزل السماء بأرض قوم البيت ، الرجاء بمعنى الخوف ، وبمعنى الأمل. فقال أبو عبيدة وغيره : (لا تَرْجُونَ) : لا تخافون ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان ، والكلام على هذا وعيد وتخويف. وقيل : لا تأملون له توقيرا : أي تعظيما. قال الزمخشري : والمعنى : ما

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ١٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٩٦.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٦٦.

(٤) سورة الجن : ٧٢ / ١٦.

٢٨٢

لكم لا تكونون على حال ما يكون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، ولله بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة ، أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا. وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة. وعن ابن عباس : لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب من وقر إذا ثبت واستقر. انتهى. وقيل : ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقارا ، ويكون على هذا منهم كأنه يقول : تؤدة منكم وتمكنا في النظر ، لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس. انتهى. وفي التحرير قال سعيد بن جبير : ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون عقابا ، وقاله ابن جبير عن ابن عباس. وقال العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة ؛ وعن مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب : هذه لغة حجازية ، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال. انتهى. (لا تَرْجُونَ) : حال ، (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) : جملة حالية تحمل على الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، إذ في هذه الجملة الحالية التنبيه على تدريج الإنسان في أطوار لا يمكن أن تكون إلا من خلقه تعالى. قال ابن عباس ومجاهد من : النطفة والعلقة والمضغة. وقيل : في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم. وقيل : صبيانا ثم شبابا ثم شيوخا وضعفاء ثم أقوياء. وقيل : معنى (أَطْواراً) : أنواعا صحيحا وسقيما وبصيرا وضريرا وغنيا وفقيرا.

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ، وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ، وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً ، قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ، وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً ، مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ، وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً).

لما نبههم نوح عليه‌السلام على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود. وتقدم

٢٨٣

شرح (طِباقاً) في سورة الملك ، والضمير في فيهن عائد على السموات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السموات ظرفا للقمر ، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف. تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة. ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته وباهر مصنوعاته. (سِراجاً) يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ، ولذلك ؛ جاء (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (١) ، والضياء أقوى من النور. والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها. وانتصاب نباتا بأنبتكم مصدرا على حذف الزائد ، أي إنباتا ، أو على إضمار فعل ، أي فنبتم نباتا. وقال الزمخشري : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم. انتهى. ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) : أي يصيركم فيها مقبورين ، (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) : أي يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي ذلك واقع لا محالة. (بِساطاً) تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه. وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة ، (سُبُلاً) : ظرفا ، (فِجاجاً) : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة الحج.

ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ، (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم : (وَأَطِيعُونِ) ، وكان قد أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (٢) ، وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين. (وَاتَّبَعُوا) : أي عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام. (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ) : أي رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سببا في خسارتهم في الآخرة ، وكان سبب هلاكهم في الدنيا. وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافع ، في رواية خارجة : وولده بضم الواو وسكون اللام ؛ والسلميّ والحسن أيضا وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ،

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ١٤.

٢٨٤

كبخل وبخل ؛ والحسن أيضا والجحدري وقتادة وزر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام. وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت :

يا بكر آمنة المبارك بكرها

من ولد محصنة بسعد الأسعد

(وَمَكَرُوا) : يظهر أنه معطوف على صلة من ، وجمع الضمير في (وَمَكَرُوا) ، (وَقالُوا) على المعنى ؛ ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه‌السلام. وقرأ الجمهور : (كُبَّاراً) بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير. قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر :

والمرء يلحقه بقنان الندى

خلق الكريم وليس بالوضاء

وقول الآخر :

بيضاء تصطاد القلوب وتستبي

بالحسن قلب المسلم القراء

ويقال : حسان وطوال وجمال. وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روى عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : كبارا ، بكسر الكاف وفتح الباء. وقال ابن الأنباري : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل. انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع. (وَقالُوا) : أي كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي جميعهم بعضهم لبعض ، (لا تَذَرُنَ) : لا تتركن ، (آلِهَتَكُمْ) : أي أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ودّ وما عطف عليه ؛ وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان. قال عروة بن الزبير : كانوا بني آدم ، وكان ودّا أكبرهم وأبرهم به. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم ونوح عليهما‌السلام ، ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت. قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها. وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب. فكان ودّ لكلب بدومة الجندل ؛ وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان ؛ ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج ؛ ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد ؛ ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير ؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ؛ وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا

٢٨٥

أصنامهم بها. قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء. انتهى. وقال الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني :

يريش الله في الدنيا ويبري

ولا يبري يغوث ولا يريش

وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود. سمي ودا لودهم له. انتهى. وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : ودا ، بضم الواو ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بفتحها ، قال الشاعر :

حياك ودّ فإنا لا يحل لنا

لهو النساء وأن الدين قد عزما

وقال آخر :

فحياك ودّ من هداك لعسه

وخوص باعلا ذي فضالة هجه

قيل : أراد ذلك الصنم. وقرأ الجمهور : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ) بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية. وقرأ الأشهب : ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما. قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولا ، فلذلك صرفهما. فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل. انتهى ، وهذا تخبيط. أما أولا ، فلا يمكن أن يكونا فعولا ، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق ؛ وأما ثانيا ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ، لأن يفعلا لم يجىء اسما ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه. وقال ابن عطية : وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا بالصرف ، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل. انتهى. وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره ؛ والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله (وَدًّا وَلا سُواعاً) ، وبعده (وَنَسْراً) ، كما قالوا في صرف سلاسلا (١) ، و (قَوارِيرَا قَوارِيرَا) (٢) ،

__________________

(١) سورة الإنسان ؛ ٧٦ / ٤.

(٢) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٥ ـ ١٦.

٢٨٦

لمن صرف ذلك للمناسبة. وقال الزمخشري : وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات (وَدًّا) و (سُواعاً) و (نَسْراً) ، كما قرىء : (وَضُحاها) (١) بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج. انتهى. وكان الزمخشري لم يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها.

(وَقَدْ أَضَلُّوا) : أي الرؤساء المتبوعون ، (كَثِيراً) : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح عليه‌السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال. وقال الحسن : (وَقَدْ أَضَلُّوا) : أي الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٢) ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن. ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيرا ، دعا عليهم بالضلال ، فقال : (وَلا تَزِدِ) : وهي معطوفة على (وَقَدْ أَضَلُّوا) ، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيرا ، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله : (وَقَدْ أَضَلُّوا) ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس ، خلافا لمن يدعي التناسب. وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف (وَلا تَزِدِ) على (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) ، أي قال هذين القولين. (إِلَّا ضَلالاً) ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال. قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً). وقال ابن بحر : (إِلَّا ضَلالاً) : إلا عذابا ، قال كقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ). وقيل : إلا خسرانا. وقيل : إلا ضلالا في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم.

وقرأ الجمهور : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) جمعا بالألف والتاء مهموزا ؛ وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد ؛ والجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزا ؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم ؛ وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه‌السلام

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١ / ١.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٦.

٢٨٧

قد أجيبت. وما زائدة للتوكيد ؛ ومن ، قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب. وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم. وقرأ الجمهور : (أُغْرِقُوا) بالهمزة ؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ، (فَأُدْخِلُوا ناراً) : أي جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّا وعشيا ، كما قال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) (١). قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر. انتهى. وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب.

(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ، ودعاء نوح عليه‌السلام بعد أن أوحى إليه أنه (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٢) ، قاله قتادة. وعنه أيضا : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) الآية ، فقوله : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضا محمد بن كعب والربيع وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعا في إيمانهم عاطفا عليهم. وفي الحديث : «أنه ربما ضربه ناس منهم أحيانا حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». وديارا : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد. وعن السدّي : من سكن دارا. وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار. انتهى. والدار أيضا من الدور ، وألفها منقلبة عن واو. (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر.

ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه ، ثم للمؤمنين ، فكأن هو ووالده اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات. وقرأ الجمهور : (وَلِوالِدَيَ) ، والظاهر أنهما أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش. وقيل : هما آدم وحوّاء. وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال ، فأما أن يكون خص أباه

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٤٦.

(٢) سورة هود : ١١ / ٣٦.

٢٨٨

الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه‌السلام. وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه‌السلام أب ما بينه وبين آدم عليه‌السلام. وقرأ الحسن بن عليّ ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد ، يعني ساما وحاما. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) ، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي ؛ وعن ابن عباس أيضا : شريعتي ، استعار لها بيتا ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه. وقيل : سفينته. وقيل : داره. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة. والتبار : الهلاك.

٢٨٩

سورة الجن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا

٢٩٠

أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)

الجد : لغة العظمة والجلال ، وجد في عيني : عظم وجل. وقال أبو عبيدة والأخفش : الملك والسلطان ، والجد : الحظ ، والجد : أبو الأب. الحرس : اسم جمع ، الواحد حارس ، كغيب واحده غائب ، وقد جمع على أحراس. قال الشاعر :

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

كشاهد وأشهاد ، والحارس : الحافظ للشيء يرقبه. القدد : السير المختلفة ، الواحدة قدة. قال الشاعر :

القابض الباسط الهادي بطاعته

في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد

وقال الكميت :

جمعت بالرأي منهم كل رافضة

إذ هم طرائق في أهوائهم قدد

تحرى الشيء : طلبه باجتهاد وتوخاه وقصده. الغدق : الكثير. اللبد ، جمع لبدة : وهو تراكم بعضه فوق بعض ، ومنه لبدة الأسد. ويقال للجراد الكثير المتراكم : لبد ، ومنه اللبد الذي يفرش ، يلبد صوفه : دخل بعضه في بعض.

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً ، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ

٢٩١

لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً ، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).

هذه السورة مكية. ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام ، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر رسول إلى الأرض ، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح ، حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء ، وكان ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن هاديا إلى الرشد ، وقد سمعته العرب ، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم ، أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح ، تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان ، إذ كانت الجن خيرا لهم وأقبل للإيمان ، هذا وهم من غير جنس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت ، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس ، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزا ، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.

وقرأ الجمهور : (قُلْ أُوحِيَ) رباعيا ؛ وابن أبي عبلة والعتكي ، عن أبي عمرو ، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي : وحي ثلاثيا ، يقال : وحي وأوحى بمعنى واحد. قال العجاج : وحي إليها القرار فاستقرت. وقرأ زيد بن عليّ وجوية ، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضا : أحى بإبدال الواو همزة ، كما قالوا في وعد أعد. وقال الزمخشري : وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. انتهى. وليس كما ذكر ، بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ، ولكل منها أحكام ، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو. قال الزمخشري : وقد أطلقه المازني في المكسور أيضا ، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه. انتهى ، وهذا تكثير وتبجح. وكان يذكر هذا في (وِعاءِ أَخِيهِ) (١) في سورة يوسف. وعن المازني في ذلك قولان : أحدهما : القياس كما قال ، والآخر : قصر ذلك على السماع.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٧٦.

٢٩٢

و (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ؛ أي استماع (نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (١) ، وهي قصة واحدة. وقيل : قصتان ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى ، والسورة التي استمعوها ، قال عكرمة : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٢). وقيل : سورة الرحمن. ولم تتعرض الآية ، لا هنا ولا في سورة الأحقاف ، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام. ويظهر من الحديث «أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن ، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام ، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه. فلما أصبح ، إذا هو جاء من قبل حراء ، وفيه أتاني داعي الجن ، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم. والمرة الأخرى : كان معه ابن مسعود ، وقد استندب صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن ، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود ، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب ، فخط عليه خطا وقال : لا تجاوزه. فانحدر عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم». الحديث. ويدل على أنهما قصتان ، اختلافهم في العدد ، فقيل : سبعة ، وقيل : تسعة ، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق. وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل ، وأين سبعة من اثني عشر ألفا؟

(فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، ووصفوا قرآنا بقولهم (عَجَباً) وصفا بالمصدر على سبيل المبالغة ، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه ، وحسن مبانيه ، ودقة معانيه ، وغرابة أسلوبه ، وبلاغة مواعظه ، وكونه مباينا لسائر الكتب. والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره. (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) : أي يدعو إلى الصواب. وقيل : إلى التوحيد والإيمان. وقرأ الجمهور : (الرُّشْدِ) بضم الراء وسكون الشين ؛ وعيسى : بضمهما ؛ وعنه أيضا : فتحهما. (فَآمَنَّا بِهِ) : أي بالقرآن. ولما كان

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٩.

(٢) سورة العلق : ٩٦ / ١.

٢٩٣

الإيمان به متضمنا الإيمان بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً).

وقرأ الحرميان والأبوان : بفتح الهمزة من قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى) وما بعده ، وهي اثنتا عشرة آية آخرها (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) ؛ وباقي السبعة : بالكسر. فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله : (إِنَّا سَمِعْنا) ، فهي داخلة في معمول القول. وأما الفتح ، فقال أبو حاتم : هو على (أُوحِيَ) ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى. وهذا لا يصح ، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت (أُوحِيَ) ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم ، كقوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ). ألا ترى أنه لا يلائم (أُوحِيَ إِلَيَ) ، (أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) ، وكذلك باقيها؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) : أي وبأنه ، وكذلك باقيها ، وهذا جائز على مذهب الكوفيين ، وهو الصحيح. وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١). وقال مكي : هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن. وقال الزجاج : وجهه أن يكون محمولا على آمنا به ، لأنه معناه : صدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : فآمنا به أنه تعالى جد ربنا ؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال : فتحت أن لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض ، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو : صدقنا وشهدنا.

وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه ، نحو قوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) ، وتبعهما الزمخشري فقال : ومن فتح كلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي. انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا. وقرأ الجمهور : (جَدُّ رَبِّنا) ، بفتح الجيم ورفع الدال ، مضافا إلى ربنا : أي عظمته ، قاله الجمهور. وقال أنس والحسن : غناه. وقال مجاهد : ذكره. وقال ابن عباس : قدره وأمره. وقرأ عكرمة : جد منونا ، ربنا مرفوع الباء ، كأنه قال : عظيم هو ربنا ، فربنا بدل ، والجد في اللغة العظيم. وقرأ حميد بن قيس : جد بضم الجيم مضافا ومعناه العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٧.

٢٩٤

تعالى ربنا العظيم. وقرأ عكرمة : جدا ربنا ، بفتح الجيم والدال منونا ، ورفع ربنا وانتصب جدا على التمييز المنقول من الفاعل ، أصله (تَعالى جَدُّ رَبِّنا). وقرأ قتادة وعكرمة أيضا : جدا بكسر الجيم والتنوين نصبا ، ربنا رفع. قال ابن عطية : نصب جدا على الحال ، ومعناه : تعالى حقيقة ومتمكنا. وقال غيره : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : تعاليا جدا ، وربنا مرفوع بتعالى. وقرأ ابن السميفع : جدي ربنا ، أي جدواه ونفعه. وقرأ الجمهور : (يَقُولُ سَفِيهُنا) : هو إبليس. وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه ، وإبليس مقدم السفهاء. والشطط : التعدي وتجاوز الجد. قال الأعشى :

أينتهون ولن ينهى ذوو شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويقال : أشط في السوم إذا أبعد فيه ، أي قولا هو في نفسه شطط ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى. (وَأَنَّا ظَنَنَّا) الآية : أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن ، واعتقدنا أن أحدا لا يجترىء على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد ، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم. وقرأ الجمهور : (أَنْ لَنْ تَقُولَ) مضارع قال ؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم : تقول مضارع تتقول ، حذفت إحدى التاءين وانتصب (كَذِباً) في قراءة الجمهور بتقول ، لأن الكذب نوع من القول ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي قولا كذبا ، أي مكذوبا فيه. وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول ، لأنه هو الكذب ، فصار كقعدت جلوسا.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ). روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في واد نادى بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه. فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك : لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئا. قال مقاتل : أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب. والظاهر أن الضمير المرفوع في (فَزادُوهُمْ) عائد على (رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) ، إذ هم المحدث عنهم ، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير. (فَزادُوهُمْ) أي الإنس ، (رَهَقاً) : أي جراءة وانتخاء وطغيانا وغشيان المحارم وإعجابا بحيث قالوا : سدنا الإنس والجن ، وفسر قوم الرهق بالإثم. وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى :

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها

لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقا

٢٩٥

قال معناه : ما لم يغش محرما ، والمعنى : زادت الإنس الجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى. وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد : (فَزادُوهُمْ) ، أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم ، فازدروهم واحتقروهم. وقال ابن جبير : (رَهَقاً) : كفرا. وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ، فالمعنى : وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل يقول مثلا : أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي ، وهذا قول غريب. (وَأَنَّهُمْ) : أي كفار الإنس ، (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن ، يخاطب به بعضهم بعضا. وظنوا وظننتم ، كل منهما يطلب ، (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ) ، فالمسألة من باب الإعمال ، وإن هي المخففة من الثقيلة. وقيل : الضمير في وأنهم يعود على الجن ، والخطاب في ظننتم لقريش ، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن : (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) : الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق ، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر. وقيل : بعث القيامة. (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) : أصل اللمس المس ، ثم استعير للتطلب ، والمعنى : طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت. الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد ، والجملة من (مُلِئَتْ) في موضع الحال ، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين ، فملئت في موضع المفعول الثاني. وقرأ الأعرج : مليت بالياء دون همز ، والجمهور : بالهمز ، وشديدا : صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع ، كما قال :

أخشى رجيلا أو ركيبا عاديا

ولو لحظ المعنى لقال : شدادا بالجمع. والظاهر أن المراد بالحرس : الملائكة ، أي حافظين من أن تقربها الشياطين ، وشهبا جمع شهاب ، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا. قيل : ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس ، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو :

وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقوله : (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ) يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت. (مَقاعِدَ) جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة. (فَمَنْ

٢٩٦

يَسْتَمِعِ الْآنَ) ، الآن ظرف زمان للحال ، ويستمع مستقبل ، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال ، كما قال :

سأسعى الآن إذ بلغت اناها

فالمعنى : فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي ، (يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) : أي يرصده فيحرقه ، هذا لمن استمع. وأما السمع فقد انقطع ، كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (١) ، والرجم كان في الجاهلية ، وذلك مذكور في أشعارهم ، ويدل عليه الحديث حين رأى عليه الصلاة والسلام نجما قد رمي به ، قال : «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم. قال أوس بن حجر :

وانقض كالدري يتبعه

نقع يثور بحالة طنبا

وقال عوف بن الجزع :

فرد علينا العير من دون إلفه

أو الثور كالدري يتبعه الدم

وقال بشر بن أبي حازم :

والعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

قال التبريزي : وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم مخضرم ، وقال معمر : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ)؟ فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الجاحظ : القول بالرمي أصح لقوله : (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ) ، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت ، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق. وقال الزمخشري : تابعا للجاحظ ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة ، فلذلك (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) : أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها. انتهى. وهذا كله يبطل قول من قال : إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو إحدى آياته. والظاهر أن رصدا على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع.

ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وهو كفرهم بهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فينزل بهم الشر ، (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ،

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٢.

٢٩٧

فيؤمنون به فيرشدون. وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى ، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى. (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) : أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره. (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) : أي دون الصالحين ، ويقع دون في مواضع موقع غير ، فكأنه قال : ومنا غير صالحين. ويجوز أن يريدوا : ومنا دون ذلك في الصلاح ، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح ، ودون في موضع الصفة لمحذوف ، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن ، حتى في الجمل ، قالوا : منا ظعن ومنا أقام ، يريدون : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، والجملة من قوله : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) تفسير للقسمة المتقدمة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة : أهواء مختلفة ، وقيل : فرقا مختلفة. وقال الزمخشري : أي كنا ذوي مذاهب مختلفة ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة ، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله :

كما عسل الطريق الثعلب

أو كانت طرائقنا قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه ، إذ حذف ذوي ومثل. وأما التقدير الثالث ، وهو أن ينتصب على إسقاط في ، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة ، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ ، فلا يخرج القرآن عليه. (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ) : أي أيقنا ، (فِي الْأَرْضِ) : أي كائنين في الأرض ، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) : أي من الأرض إلى السماء ، وفي الأرض وهربا حالان ، أي فارين أو هاربين. (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) : وهو القرآن ، (آمَنَّا بِهِ) : أي بالقرآن ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) : أي فهو لا يخاف. وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور : (فَلا يَخافُ) ، وخرجت قراءتهما على النفي. وقيل : الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء ، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوما دون الفاء ، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة. (بَخْساً) ، قال ابن عباس : نقص الحسنات ، (وَلا رَهَقاً) ، قال : زيادة في السيئات ، (وَلا رَهَقاً) ، قيل : تحميل ما لا يطاق. وقال الزمخشري : أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد ، فلا يخاف جزاءهما. ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عزوجل : (تَرْهَقُهُمْ

٢٩٨

ذِلَّةٌ) (١). انتهى. وقرأ الجمهور : (بَخْساً) بسكون الخاء ؛ وابن وثاب : بفتحها. (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) : أي الكافرون الجائرون عن الحق. قال مجاهد وقتادة : والبأس القاسط : الظالم ، ومنه قول الشاعر :

قوم هم قتلوا ابن هند عنوة

وهمو أقسطوا على النعمان

وجاء هذا التقسيم ، وإن كان قد تقدم و (أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) ، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام. والظاهر أن (فَمَنْ أَسْلَمَ) إلى آخر الشرطين من كلام الجن. وقال ابن عطية : الوجه أن يكون (فَمَنْ أَسْلَمَ) مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيده ما بعده من الآيات. وقرأ الأعرج : رشدا ، بضم الراء وسكون الشين ؛ والجمهور : بفتحهما. وقال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعيدا ، أي فأولئك تحروا رشدا ، فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه.

قوله عزوجل : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ، وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ، قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ، قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً ، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ، قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).

هذا من جملة الموحى المندرج تحت (أُوحِيَ إِلَيَ) ، وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في (اسْتَقامُوا) ، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز : هو عائد على قوله : (فَمَنْ أَسْلَمَ) ، والطريقة : طريقة الكفر ، أي لو كفر من أسلم من الناس (لَأَسْقَيْناهُمْ) إملاء لهم واستدراجا واستعارة ، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير : هو عائد على القاسطين ، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق ، لأنعمنا عليهم ، نحو قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (٢). وقيل : الضمير

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ٤٣ ، وسورة المعارج : ٧٠ / ٤٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٦٥.

٢٩٩

في استقاموا عائد على الخلق كلهم ، وأن هي المخففة من الثقيلة. (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) : كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش. وقال بعضهم : المال حيث الماء. وقرأ الجمهور : (غَدَقاً) بفتح الدال ؛ وعاصم في رواية الأعشى : بكسرها ؛ ويقال : غدقت العين تغدق غدقا فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها. (لِنَفْتِنَهُمْ) : أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به ، أو لنمتحنهم ونستدرجهم ، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في (اسْتَقامُوا). وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو ؛ والجمهور : بكسرها. وقرأ الكوفيون : (يَسْلُكْهُ) بالياء ؛ وباقي السبعة : بالنون ؛ وابن جندب : بالنون من أسلك ؛ وبعض التابعين : بالياء من أسلك أيضا ، وهما لغتان : سلك وأسلك ، قال الشاعر :

حتى إذا أسلكوهم في قبائدة

وقرأ الجمهور : (صَعَداً) بفتحتين ، وذو مصدر صعد وصف به العذاب ، أي يعلو المعذب ويغلبه ، وفسر بشاق. يقال : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقة. وقال عمر : ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح ، أي ما يشق عليّ. وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد : جبل في النار. وقال الخدري : كلما وضعوا أيديهم عليه دابت. وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف ، أي عذاب صعد. ويجوز أن يكون صعدا مفعول يسلكه ، وعذابا مفعول من أجله. وقرأ قوم : صعدا بضمتين ؛ وابن عباس والحسن : بضم الصاد وفتح العين. قال الحسن : معناه لا راحة فيه.

وقرأ الجمهور : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) ، بفتح الهمزة عطفا على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) ، فهو من جملة الموحى. وقال الخليل : معنى الآية : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا) : أي لهذا السبب ، وكذلك عنده (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) ، (فَلْيَعْبُدُوا) (٢) ، وكذلك (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) (٣) : أي ولأن هذه. وقرأ ابن هرمز وطلحة : وإن المساجد ، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل ، فالمعنى : فلا تدعوا مع الله أحدا في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته ، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة. وقال الحسن : كل موضع سجد فيه فهو مسجد ، كان مخصوصا لذلك أو لم يكن ، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة. وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها ، واحدها

__________________

(١) سورة قريش : ١٠٦ / ١.

(٢) سورة قريش : ١٠٦ / ٣.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٥٢.

٣٠٠