البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

عطية : وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه ، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم. انتهى. وقال أبو العالية ومقاتل ، واختاره الفراء : يسود وجهه قبل دخول النار ، وذكر الخرطوم ، والمراد الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض. وقال أبو عبد الله الرازي : إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية ، عبر عن هذا الاختصاص بقوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ). انتهى كلامه. وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف ، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع. وتلخص من هذا أن قوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ، أهو حقيقة أم مجاز؟ وإذا كان حقيقة ، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر ، وأن معناه سنحده على شربها.

ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة ، وهم كفار قريش ، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» الحديث ، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم. كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها ، فمات فصارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى ، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم. وقيل : كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه‌السلام ، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير. فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) في السدف خفية من المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ؛ والكاف في (كَما بَلَوْنا) في موضع نصب ، وما مصدرية. وقيل : بمعنى الذي ، وإذ معمول لبلوناهم ليصر منها جواب القسم لا على منطوقهم ، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصر منها بنون المتكلمين ، والمعنى : ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) : أي ولا ينثنون عن ما عزموا عليه من منع المساكين. وقال مجاهد : معناه : لا يقولون إن شاء الله ، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره. وقال الزمخشري : متبعا قول مجاهد : ولا يقولون إن شاء الله. فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد. انتهى.

٢٤١

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ) ، قرأ النخعي : طيف. قال الفراء : والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل ، ورد عليه بقوله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) (١) ، فلم يتخصص بالليل ، وطائف مبهم. فقيل : هو جبريل عليه‌السلام ، اقتلعها وطاف بها حول البيت ، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت بالطائف ، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها. وقال ابن عباس : طائف من أمر ربك. وقال قتادة : عذاب من ربك. وقال ابن جرير : عنق خرج من وادي جهنم. (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) ، قال ابن عباس : كالرماد الأسود ، والصريم : الرماد الأسود بلغة خزيمة ، وعنه أيضا : الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت ، فشبه جنتهم بها. وقال الحسن : صرم عنها الخير ، أي قطع. فالصريم بمعنى مصروم. وقال الثوري : كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود. وقال مورج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، والرملة لا تنبت شيئا ينفع. وقال الأخفش : كالصبح انصرم من الليل. وقال المبرد : كالنهار فلا شيء فيها. وقال شمر : الصريم : الليل ، والصريم : النهار ، أي ينصرم هذا عن ذاك ، وذاك عن هذا. وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة : الصريم : الليل من حيث اسودت جنتهم. (فَتَنادَوْا) : دعا بعضهم بعضا إلى المضي إلى ميعادهم ، (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ). قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) ، وما معنى على؟ قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدو. ويجوز أن يضمن الغد ومعنى الإقبال ، كقولهم : يغدي عليه بالجفنة ويراح ، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين. انتهى. واستسلف الزمخشري أن غدا يتعدى بإلى ، ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلا فيه ويتأول ما خالفه ، والذي في حفظي أنه معدى بعلى ، كقول الشاعر :

بكرت عليه غدوة فرأيته

قعودا عليه بالصريم عوادله

(إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) : الظاهر أنه من صرام النحل. قيل : ويحتمل أن يريد : إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم ، من قولك : سيف صارم. (يَتَخافَتُونَ) : يخفون كلامهم خوفا من أن يشعر بهم المساكين. (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) : أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها ، وأن مصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : لا يدخلنها ، بإسقاط أن على إضمار يقولون ، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول ، إذ معناه : يسارون القول والنهي عن الدخول. نهى عن التمكين منه ، أي لا تمكنوهم من الدخول

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠١ / ٧.

٢٤٢

فيدخلوا. (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) : أي على قصد وقدوة في أنفسهم ، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس ، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة ، قادرين عند أنفسهم على صرامها. قال أبو عبيدة والقتبي : (عَلى حَرْدٍ) : على منع ، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها ، فجزاهم الله بأن منعهم خيرا. وقال الحسن : (عَلى حَرْدٍ) ، أي حاجة وفاقة. وقال السدي وسفيان : (عَلى حَرْدٍ) : على غضب ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض. وقيل : (عَلى حَرْدٍ) : على انفراد ، أي انفردوا دون المساكين. وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم. وقال السدي : اسم جنتهم ، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام. قيل : ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (١) ، أي مضيقين على المساكين ، إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها.

(فَلَمَّا رَأَوْها) : أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها ، من هلاكها وذهاب ما فيها من الخير ، (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) : أي عن الطريق إليها ، قاله قتادة. وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي ، واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها ، ثم وضح لهم أنها هي ، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها. وقيل : لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين ، فقالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) خيرها بخيانتنا على أنفسنا. (قالَ أَوْسَطُهُمْ) : أي أفضلهم وأرجحهم عقلا ، (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) : أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله ، أي ذكره وتنزيهه عن السوء ، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لا متثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهم في ذلك. فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين ، ابتلاهم الله ، وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقد إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى. وقال مجاهد وأبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله قال النحاس : جعل مجاهد التسبيح موضع إن شاء الله ، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الزمخشري : لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له. وقيل : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) : تستغفرون.

ولما أنبهم ، رجعوا إلى ذكر الله تعالى ، واعترفوا على أنفسهم بالظلم ، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا : (سُبْحانَ رَبِّنا). قال ابن عباس : أي نستغفر الله من ذنبنا. و

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٧.

٢٤٣

أقروا بظلمهم ، لام بعضهم بعضا ، وجعل اللوم في حيز غيره ، إذ كان منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف ، ومنهم من عصى الأمر. ومنهم من سكت على رضا منه. ثم اعترفوا بأنهم طغوا ، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيرا من تلك الجنة ، (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا) : أي بهذه الجنة ، (خَيْراً مِنْها) : وتقدم الكلام في الكهف ، والخلاف في تخفيف يبدلنا ، وتثقيلها منسوبا إلى القراء. (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) : أي طالبون إيصال الخير إلينا منه. والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا. وقيل : كانوا من أهل الكتاب. وقال عبد الله بن مسعود : بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا ، وعلم الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة ، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وعن مجاهد : تابوا فأبدوا خيرا منها. وقال القشيري : المعظم يقولون أنهم تابوا وأخلصوا. انتهى. وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال : أكان قولهم : (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) إيمانا ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؟.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) : هذا خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر قريش. قال ابن عطية : والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة ، أي (كَذلِكَ الْعَذابُ) : أي الذي نزل بقريش بغتة ، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا. وقال كثير من المفسرين : العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود. انتهى. وقال الزمخشري : مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أشد وأعظم منه. انتهى. وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين ، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم. وأن قريشا حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور ، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا. ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).

قوله عزوجل : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ ،

٢٤٤

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ، وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة ، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون ، فقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) : أي الكفر ، (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) : أضافها إلى النعيم ، لأن النعيم لا يفارقها ، إذ ليس فيها إلا هو ، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا.

وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ ، فنزلت : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا ، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة ، وإلا فالمشاركة ، فأجاب تعالى : (أَفَنَجْعَلُ) : أي لا يتساوى المطيع والعاصي ، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال : (ما لَكُمْ) ، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم ، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله : (ما لَكُمْ) استفهام عن كينونة مبهمة ، وفي (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) استفهام عن هيئة حكمهم.

ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال : (أَمْ لَكُمْ) ، أي : بل ألكم؟ (كِتابٌ) ، أي من عند الله ، (تَدْرُسُونَ) أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأ الجمهور : (إِنَّ لَكُمْ) بكسر الهمزة ، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل : أن معمولة لتدرسون ، أي تدرسون في الكتاب أن لكم ، (لَما تَخَيَّرُونَ) : أي تختارون من النعيم ، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر ، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة ، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو ، كقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ) (١). انتهى. وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة ، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام.

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٧٨.

٢٤٥

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) : أي أقسام علينا ، (بالِغَةٌ) : أي متناهية في التوكيد. يقال : لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه ، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم ، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أو ببالغة : أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه. وقرأ الجمهور : (بالِغَةٌ) بالرفع على الصفة ، والحسن وزيد بن علي : بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا. وقال ابن عطية : حال من نكرة لأنها مخصصة تغليبا. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) : جواب القسم ، لأن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) : أم أقسمنا لكم ، قاله الزمخشري. وقرأ الأعرج : أإن لكم عليّ ، كالتي قبلها على الاستفهام. (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) : أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته ، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني ، لما كان السؤال سببا لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) (١) ، وقال الشاعر :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

عليم بأدواء النساء طبيب

ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء ، كما تقول : سل زيدا عن من ينظر في كذا ، ولكنه علق سلهم ، فالجملة في موضع نصب. وقرأ الجمهور : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) ؛ وعبد الله وابن أبي عبلة : فليأتوا بشركهم ، قيل : والمراد في القراءتين الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه ، أي لا أحد يقول بقولهم ، كما أنه لا كتاب لهم ، ولا عهد من الله ، ولا زعيم بذلك ، (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) : هذا استدعاء وتوقيف. قيل : في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا. وقيل : في الآخرة ، على أن يأتوا بهم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) : وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا. وقيل : اذكر ، وقيل التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث ؛ والظاهر وقول الجمهور : إن هذا اليوم هو يوم القيامة. وقال أبو مسلم : هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى) (٢) ، ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، فلا يستطيع الصلاة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٧.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٢.

٢٤٦

لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفسا إيمانها ؛ وإما حال المرض والهرم والمعجزة. (وَقَدْ كانُوا) قبل ذلك اليوم ، (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) مما بهم الآن. فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، وإما من العجز والهرم. وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل. وعند ما يدعون إلى السجود ، سلبوا القدرة عليه ، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل. وقرأ الجمهور : (يُكْشَفُ) بالياء مبنيا للمفعول. وقرأ عبد الله بن أبي عبلة : بفتح الياء مبنيا للفاعل ؛ وابن عباس وابن مسعود أيضا وابن هرمز : بالنون ؛ وابن عباس : يكشف بفتح الياء منبيا للفاعل ؛ وعنه أيضا بالياء مضمومة مبنيا للمفعول. وقرىء : يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين ، من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل : انقلبت شفته العليا ، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه. قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها. ومما جاء في الحديث من قوله : «فيكشف لهم عن ساق» ، محمول أيضا على الشدة في ذلك اليوم ، وهو مجاز شائع في لسان العرب. قال حاتم :

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها

وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال الراجز :

عجبت من نفسي ومن إشفاقها

ومن طرادي الخيل عن أرزاقها

في سنة قد كشفت عن ساقها

حمراء تبري اللحم عن عراقها

وقال الراجز :

قد شمرت عن ساقها فشدوا

وجدّت الحرب بكم فجدوا

وقال آخر :

صبرا امام إن شرباق

وقامت الحرب بنا على ساق

وقال الشاعر :

كشفت لهم عن ساقها

وبدا من الشر ألبوا

ويروى : الصداخ. وقال ابن عباس : يوم يكشف عن شدة. وقال أبو عبيدة : هذه كلمة تستعمل في الشدة ، يقال : كشف عن ساقه إذا تشمر. قال : ومن هذا تقول العرب

٢٤٧

لسنة الجدب : كشفت ساقها ، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، خارج عن المألوف ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) ، فكأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل. (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) : ظاهره أنهم يدعون ، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف. وقيل : الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين ، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه ، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون : أنت ربنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا ، فلا يستطيعون سجودا. انتهى. ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا ، كما ذهب إليه الجبائي. و (خاشِعَةً) : حال ، وذو الحال الضمير في (يُدْعَوْنَ) ، وخص الأبصار بالخشوع ، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة ، لأنه أبين فيه منه في كل جارحة ، (تَرْهَقُهُمْ) : تغشاهم ، (ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ). قيل : هو عبارة عن جميع الطاعات ، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات ، ومن حيث امتحنوا به في الآخرة. وقال النخعي والشعبي : أراد بالسجود : الصلوات المكتوبة. وقال ابن جبير : كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ، المعنى : خل بيني وبينه ، فإني سأجازيه وليس ثم مانع. وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر الآخرة وغيره ، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء. ومن في موضع نصب ، إما عطفا على الضمير في ذرني ، وإما على أنه مفعول معه. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) إلى قوله : (مَتِينٌ) : تكلم عليه في الأعراف. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) إلى : (يَكْتُبُونَ) : تكلم عليه في الطور. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر. وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف ، فنزلت : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم ، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى ، (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) : هو يونس عليه‌السلام ، (إِذْ نادى) : أي في بطن الحوت ، وهو قوله : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) (١) ، وليس النهي منصبا على الذوات ، إنما المعنى : لا يكن حالك مثل حاله. (إِذْ نادى) : فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف ، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت ،

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

٢٤٨

(إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) : مملوء غيظا على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم. وقال ذو الرمة :

وأنت من حب ميّ مضمر حزنا

عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم

وتقدمت مادة كظم في قوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (١). وقرأ الجمهور : (تَدارَكَهُ) ماضيا ، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل. وقرأ عبد الله وابن عباس : تداركته بتاء التأنيث ؛ وابن هرمز والحسن والأعمش : بشد الدال. قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، والأصل في ذلك تتداركه ، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله. وقال بعض المتأخرين : هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية ، أي لو لا أن كان يقال تتداركه ، ومعناه : لو لا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، ونحوه قوله : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) (٢) ؛ وجواب (لَوْ لا) قوله : (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم ، كما قال : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) (٣) ، والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقا ، بل بقيد الحال. وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموما ، ويدل عليه (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٤). ثم أخبر تعالى أنه (فَاجْتَباهُ) : أي اصطفاه ، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي الأنبياء. وعن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه.

ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه ، أخبر بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) : أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة ، أو ليهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله. وقال الشاعر :

يتعارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزل مواطن الأقدام

وقال الكلبي : ليزلقونك : ليصرفونك. وقرأ الجمهور : (لَيُزْلِقُونَكَ) بضم الياء من أزلق ؛ ونافع : بفتحها من زلقت الرجل ، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر ، نحو شترت عينه بالكسر ، وشترها الله بالفتح. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك. وقيل : معنى (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) : ليأخذونك بالعين ، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد. قال ابن الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ، ثم يرفع

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٤.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.

(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ١٤٥.

(٤) سورة الصافات : ٣٧ / ١٤٣.

٢٤٩

جانب خبائه فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلا ثم تسقط طائفة أو عدة منها. قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجابهم ، وأنشد :

قد كان قومك يحسبونك سيدا

وأخال أنك سيد معيون

أي : مصاب بالعين ، فعصم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل عليه هذه الآية. قال قتادة : نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام. وقال الحسن : دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية. وقال القشيري : الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان ، لا مع الكراهة والبغض ، وقال : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ). وقال القرطبي : ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك. انتهى. وقد يكون في المعين ، وإن كان مبغضا عند العائن صفة يستحسنها العائن ، فيعينه من تلك الصفة ، لا سيما من تكون فيه صفات كمال. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) : من يقول لما ظرف يكون العامل فيه (لَيُزْلِقُونَكَ) ، وإن كان حرف وجوب لوجوب ، وهو الصحيح ، كان الجواب محذوفا لدلالة ما قبله عليه ، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ، والذكر : القرآن. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) تنفيرا عنه ، وقد علموا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتمهم فضلا وأرجحهم عقلا. (وَما هُوَ) : أي القرآن ، (إِلَّا ذِكْرٌ) : عظة وعبرة ، (لِلْعالَمِينَ) : أي للجن والإنس ، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به؟.

٢٥٠

سورة الحاقّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً

٢٥١

فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)

الحسوم ، قال الفراء : من حسم الداء ، أي تابع بالمكواة عليه ، قال الشاعر :

ففرق بين جمعهم زمان

تتابع فيه أعوام حسوم

وقال المبرد : حسمت الشيء : فصلته عن غيره ، ومنه الحسام. قال الشاعر :

فأرسلت ريحا بورا عقيما

فدارت عليهم فكانت حسوما

وقال الليث : الحسوم : الشؤم ، يقال : هذه ليالي الحسوم : أي تحسم الخير عن أهلها ، وقاله في الصحاح. صرعى : هلكى ، الواحد صريع ، وهي الشيء ضعف وتداعى للسقوط. قال ابن شجرة : من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ، ومن أمثالهم قول الراجز :

خل سبيل من وهي سقاؤه

ومن هريق بالفلاة ماؤه

الأرجاء : الجوانب ، واحدها رجا ، أي جانب من حائط أو بئر ونحوه ، وهو من ذوات الواو ، ولذلك برزت في التثنية. قال الشاعر :

كأن لم ترا قبلي أسيرا مقيدا

ولا رجلا يرمي به الرجوان

وقال الآخر :

فلا يرمي به الرجوان إني

أقل اليوم من يعني مكاني

هاء بمعنى خذ ، فيها لغات ذكرناها في شرح التسهيل. وقال الكسائي وابن السكيت : العرب تقول : هاء يا رجل ، وللاثنين رجلين أو امرأتين : هاؤما ، وللرجل هاؤم ،

٢٥٢

وللمرأء هاء بهمزة مكسورة من غير ياء ، وللنساء هاؤن. قيل : ومعنى هاؤم : خذوا ، ومنه الخبر في الربا إلا هاء وهاء : أي يقول كل واحد لصاحبه خذ. وقيل : تعالوا ، وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف ، وهذا ضعيف إلا إن كان عنى أنها تحل محلها في لغة من قال : هاك وهاك وهاكما وهاكم وهاكن ، فيمكن أنه بدل صناعي ، لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. وقيل : هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط. وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال ، فجاوبه عليه الصلاة والسلام : «هاؤم» ، بصولة صوته. وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ، والأصل هاء أموا ، ثم نقله التخفيف والاستعمال. وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور. القطوف جمع قطف : وهو ما يجتنى من الثمر ويقطف. السلسلة معروفة ، وهي حلق يدخل في حلق على سبيل الطول. الذراع مؤنث ، وهو معروف ، وقال الشاعر :

أرمي عليها وهي فرع أجمع

وهي ثلاث أذرع وأصبع

حض على الشيء : حمل على فعله بتوكيد. الغسلين ، قال اللغويون : ما يجري من الجراح إذا غسلت. الوتين : عرق يتعلق به القلب ، إذا انقطع مات صاحبه. وقال الكلبي : عرق بين العلباء والحلقوم ، والعلباء : عصب العنق ، وهما علباوان بينهما العرق. وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ، ومنه قول الشماخ :

إذا بلغتني وحملت رحلي

عرابة فاشرقي بدم الوتين

(الْحَاقَّةُ ، مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ، وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً ، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ، وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر شيئا من أحوال السعداء

٢٥٣

والأشقياء ، وقال : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) (١) ، ذكر حديث القيامة وما أعد الله تعالى لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وأدرج بينهما شيئا من أحوال الذين كذبوا الرسل ، كعاد وثمود وفرعون ، ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون ، فقص عليهم ذلك.

(الْحَاقَّةُ) : المراد بها القيامة والبعث ، قاله ابن عباس وغيره ، لأنها حقت لكل عامل عمله. وقال ابن عباس وغيره : لأنها تبدي حقائق الأشياء. وقيل : سميت بذلك لأن الأمر يحق فيها ، فهي من باب ليل نائم. والحاقة اسم فاعل من حق الشيء إذا ثبت ولم يشك في صحته. وقال الأزهري : حاققته فحققته أحقه : أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحقق كل محاق في دين الله بالباطل ، أي كل مخاصم فتغلبه. وقيل : الحاقة مصدر كالعاقبة والعافية ، والحاقة مبتدأ ، وما مبتدأ ثان ، والحاقة خبره ، والجملة خبر عن الحاقة ، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو : زيد ما زيد ، وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم ، وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد ، يعني التعظيم والتهويل. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) : مبالغة في التهويل ، والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها. وما استفهام أيضا مبتدأ ، و (أَدْراكَ) الخبر ، والعائد على ما ضمير الرفع في (أَدْراكَ) ، وما مبتدأ ، والحاقة خبر ، والجملة في موضع نصب بأدراك ، وأدراك معلقة. وأصل درى أن يعدى بالباء ، وقد تحذف على قلة ، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، فقوله : (مَا الْحَاقَّةُ) بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر.

والقارعة من أسماء القيامة ، لأنها تقرع القلوب بصدمتها. وقال الزمخشري : تقرع الناس بالأقراع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار ؛ فوضع الضمير ليدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدّتها. ولما ذكرها وفخمها ، أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيرا لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم. انتهى.

وقرأ الجمهور : (فَأُهْلِكُوا) : رباعيا مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن عليّ : فهلكوا مبنيا للفاعل. قال قتادة : بالطاغية : بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة. وقال مجاهد وابن

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ٤٤.

٢٥٤

زيد : بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها. وقال ابن عباس وابن زيد أيضا وأبو عبيدة ما معناه : الطاغية مصدر كالعاقبة ، فكأنه قال : بطغيانهم ، ويدل عليه (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١). وقيل : الطاغية : عاقر الناقة ، والهاء فيه للمبالغة ، كرجل راوية ، وأهلكوا كلهم لرضاهم بفعله. وقيل : بسبب الفئة الطاغية. واختار الطبري وغيره أن الطاغية هي الصيحة ، وترجيح ذلك مقابله سبب الهلاك في ثمود بسبب الهلاك في عاد ، وهو قوله : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) ، وتقدّم القول في (صَرْصَرٍ) في سورة القمر ، (عاتِيَةٍ) : عتت على خزانها فخرجت بغير مقدار ، أو على عاد فما قدروا على أن يتستروا منها ، أو وصفت بذلك استعارة لشدّة عصفها ، والتسخير هو استعمال الشيء باقتدار عليه. فمعنى (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) : أي أقامها وأدامها ، (سَبْعَ لَيالٍ) : بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوّال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر ، (حُسُوماً) ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة : تباعا لم يتخللها انقطاع. وقال الخليل : شؤما ونحسا. وقال ابن زيد : (حُسُوماً) جمع حاسم ، أي تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك ، ومنه حسم العلل والحسام. وقال الزمخشري : وإن كان مصدرا ، فإما أن ينتصب بفعل مضمر ، أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا ، أو تكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أن تكون مفعولا له ، أي سخرها عليهم للاستئصال. وقرأ السدّي : حسوما بالفتح : حالا من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة. وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء. وأسماؤها : الصين والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومصفى الجمر. وقيل : مكفى الطعن.

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها) : أي في الليالي والأيام ، أو في ديارهم ، أو في مهاب الريح ؛ احتمالات أظهرها الأول لأنه أقرب ومصرح به. وقرأ أبو نهيك : أعجز ، على وزن أفعل ، كضبع وأضبع. وحكى الأخفش أنه قرىء : نخيل خاوية خلت أعجازها بلى وفسادا. وقال ابن شجرة : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحسو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام : خلت أبدانهم من أرواحهم. وقال ابن جريج : كانوا في سبعة أيام في عذاب ، ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر ، فذلك قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ). وقال ابن الأنباري : (مِنْ باقِيَةٍ) : أي من باق ، والهاء للمبالغة. وقال أيضا : من فئة باقية. وقيل : (مِنْ باقِيَةٍ) : من بقاء مصدر جاء على فاعلة كالعاقبة. وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه ؛ وعاصم في رواية أبان ،

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١ / ١١.

٢٥٥

والنحويان : ومن قبله ، بكسر القاف وفتح الباء : أي أجناده وأهل طاعته ، وتقول : زيد قبلك : أي فيما يليك من المكان. وكثر استعمال قبلك حتى صار بمنزلة عندك وفي جهتك وما يليك بأي وجه ولى. وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة والسلمي : (وَمَنْ قَبْلَهُ) ، ظرف زمان : أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، كقوم نوح ، وقد أشار إلى شيء من حديثه بعد هذا. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) : قرى قوم لوط. وقرأ الحسن هنا : والمؤتفكة على الإفراد ، (بِالْخاطِئَةِ) : أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة ، قاله مجاهد ؛ أو بالخطأ ، فيكون مصدرا جاء على فاعلة كالعاقبة ، قاله الجرجاني.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) : رسول جنس ، وهو من جاءهم من عند الله تعالى ، كموسى ولوط عليهما‌السلام. وقيل : لوط عليه‌السلام ، أعاده على أقرب مذكور ، وهو رسول المؤتفكات. وقال الكلبي : موسى عليه‌السلام ، أعاده على الأسبق وهو رسول فرعون. وقيل : رسول بمعنى رسالة ، (رابِيَةً) : أي نامية. قال مجاهد : شديدة ، يريد أنها زادت على غيرها من الأخذات ، وهي الغرق وقلب المدائن. (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) : أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمس عشرة ذراعا. قال ابن جبير : طغى على الخزان ، كما طغت الريح على خزانها ، (حَمَلْناكُمْ) : أي في أصلاب آبائكم ، (فِي الْجارِيَةِ) : هي سفينة نوح عليه‌السلام ، وكثر استعمال الجارية في السفينة ، ومنه قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (١) ، وقال الشاعر :

تسعون جارية في بطن جارية

وقال المهدوي : المعنى في السفن الجارية يعني أن ذلك هو على سبيل الامتنان ، والمحمولون هم المخاطبون. (لِنَجْعَلَها) : أي سفينة نوح عليه‌السلام ، (لَكُمْ تَذْكِرَةً) بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة. قال قتادة : أدركها أوائل هذه الأمة. وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي. وقيل : لنجعل تلك الجملة في سفينة نوح عليه‌السلام لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح عليه‌السلام ، (وَتَعِيَها) : أي تحفظ قصتها ، (أُذُنٌ) من شأنها أن تعي المواعظ ، يقال : وعيت لما حفظ في النفس ، وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية. وقال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله ؛ وفي الحديث ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : «إني

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٢.

٢٥٦

دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي». قال علي رضي الله تعالى عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئا فنسيته ، وقرأها : وتعيها ، بكسر العين وتخفيف الياء العامة ؛ وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه ؛ وقنبل بخلاف عنه : بإسكانها ؛ وحمزة : بإخفاء الحركة ، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل. نحو : كبد وعلم. وتعي ليس على وزن فعل ، بل هو مضارع وعى ، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه. وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق : وتعيها بتشديد الياء ، قيل : وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء إحترازا ممن سكنها ، لا إدغام حرف في حرف ، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم. وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد الله العنسي : وتعيها بإسكان الياء ، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر ، واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء. وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل (أُذُنٌ واعِيَةٌ) على التوحيد والتنكير؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم عند الله تعالى ، وأن ما سواها لا يبالي بالة وإن ملأوا ما بين الخافقين. انتهى ، وفيه تكثير.

ولما ذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا ، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وبدأ بإعلام يوم القيامة فقال : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) ، وهذه النفخة نفخة الفزع. قال ابن عباس : وهي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب العالم ، ويؤيد ذلك قوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ). وقال ابن المسيب ومقاتل : هي النفخة الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ ، والواو لا ترتب. وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ، ولما كانت مرة أكدت بقوله : (واحِدَةٌ). وقرأ الجمهور : نفخة واحدة ، برفعهما ، ولم تلحق التاء نفخ ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل. وقال ابن عطية : لما نعت صح رفعه. انتهى. ولو لم ينعت لصح ، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص ، إنما هو نعت توكيد. وقرأ أبو السمال : بنصبهما ، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل. وقرأ الجمهور : (وَحُمِلَتِ) بتخفيف الميم ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى : بتشديدها ، فالتخفيف على أن تكون (الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو القدرة من غير

٢٥٧

واسطة مخلوق. ويبعد قوله من قال : إنها الزلزلة ، لأن الزلزلة ليس فيها حمل ، إنما هي اضطراب. والتشديد على أن تكون للتكثير ، أو يكون التضعيف للنقل ، فجاز أن تكون (الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) المفعول الأول أقيم مقام الفاعل ، والثاني محذوف ، أي ريحا تفتتها أو ملائكة أو قدرة. وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل ، والأول محذوف ، وهو واحد من الثلاثة المقدرة. وثني الضمير في (فَدُكَّتا) ، وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع ، لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال ، أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت ، وترجع كما قال تعالى : (كَثِيباً مَهِيلاً) (١). والدك فيه تفرق الأجزاء لقوله : (هَباءً) (٢) ، والدق فيه اختلاف الأجزاء. وقيل : تبسط فتصير أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وهو من قولهم : بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا ، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما. (فَيَوْمَئِذٍ) معطوف على (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) ، وهو منصوب بوقعت ، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أن العامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب ، وإن كان مخالفا لقول الجمهور. والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة ، وهي في التقدير : فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت ، والواقعة هي القيامة ، وقد تقدم في (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٣) أن بعضهم قال : هي صخرة بيت المقدس.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) : أي انفطرت وتميز بعضها من بعض ، (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ) انشقت ، (واهِيَةٌ) : ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة ، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (٤) ، أو منخرقة ، كما يقال : وهي السقاء انخرق. وقيل انشقاقها لنزول الملائكة ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٥). وقيل : انشقاقها لهول يوم القيامة. (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) ، قال ابن عباس : على حافاتها حين تنشق ، والظاهر أن الضمير في حافاتها عائد على السماء. وقال ابن جبير والضحاك : على حافات الأرض ، ينزلون إليها يحفظون أطرافها ، وإن لم يجر لها ذكر قريب. كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ، ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ، ثم ملائكة كل سماء ، فكلما ندّ أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها. (وَالْمَلَكُ) : اسم جنس يراد به الملائكة. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين قولك : (وَالْمَلَكُ) ، وبين أن

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٤.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٦.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ١.

(٤) سورة النازعات : ٧٩ / ٢٧.

(٥) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٥.

٢٥٨

يقال : والملائكة؟ قلت : الملك أعم من الملائكة. ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة؟ انتهى. ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة ، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما ، ولذلك صح الاستثناء منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما. وأما دعواه أنه أعم منه بقوله : ألا ترى إلخ ، فليس دليلا على دعواه ، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد ، بخلاف من ملائكة ، فإن من دخلت على جمع منكر ، فعم كل جمع جمع من الملائكة ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة. لو قلت : ما في الدار من رجال ، جاز أن يكون فيها واحد ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد.

والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من ، وإنما جيء به مفردا لأنه أخف ، ولأن قوله : (عَلى أَرْجائِها) يدل على الجمع ، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد ، بل في أوقات. والمراد ، والله تعالى أعلم ، أن الملائكة على أرجائها ، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات. وقال الزمخشري : يعني أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها. انتهى. والضمير في فوقهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى ، لأنه يراد به الجنس ، قال معناه الزمخشري. وقيل : يعود على الملائكة الحاملين ، أي فوق رؤوسهم. وقيل : على العالم كلهم. والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله : (ثَمانِيَةٌ) أملاك ، أي ثمانية أشخاص من الملائكة ؛ وعن الضحاك : ثمانية صفوف ؛ وعن الحسن ، الله أعلم كم هم ، أثمانية صفوف أم ثمانية أشخاص؟ وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا.

(يَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ كان ما ذكر ، (تُعْرَضُونَ) : أي للحساب ، وتعرضون هو جواب قوله : (فَإِذا نُفِخَ). فإن كانت النفخة هي الأولى ، فجاز ذلك لأنه اتسع في اليوم فجعل ظرفا للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها ؛ وإن كانت النفخة هي الثانية ، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله : (فَيَوْمَئِذٍ) معطوف على (فَإِذا) ، و (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) بدل من ف (يَوْمَئِذٍ) ، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة. والخطاب في (تُعْرَضُونَ) لجميع العالم المحاسبين. وعن عبد الله : رأى موسى في القيامة عرضتان فيهما معاذير وتوقيف

٢٥٩

وخصومات ، وثالثة تتطاير فيها الصحف للإيمان والشمائل. وقرأ الجمهور : (لا تَخْفى) بتاء التأنيث ؛ وعلي وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن مقسم عن عاصم وابن سعدان : بالياء ، (خافِيَةٌ) : سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا.

قوله عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ).

أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض. ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب. وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب. قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور؟ فلا يناسب دخول النار. وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعلمون اقرأوا ، والكوفيون يعملون هاؤم ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم. وقرأ الجمهور : (كِتابِيَهْ) ، و (حِسابِيَهْ) في موضعيهما و (مالِيَهْ) و (سُلْطانِيَهْ) ، وفي القارعة : (ما هِيَهْ) (١) بإثبات هاء السكت وقفا ووصلا لمراعاة خط المصحف. وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في (ما هِيَهْ) في القارعة ؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحها حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن. وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله.

__________________

(١) سورة القارعة : ١٠١ / ١٠.

٢٦٠