البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

موضع نصب ، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١) ، وانتصب (طِباقاً) على الوصف لسبع ، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقا لقولهم : النعل خصفها طبقا على طبق ، وصف به على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي ذا طباق ؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال ، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب ، والمعنى : بعضها فوق بعض.

وما ذكر من مواد هذه السموات. فالأولى من موج مكفوف ، والثانية من درّة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح ، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح ، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه ، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا. (مِنْ تَفاوُتٍ) ، قال ابن عباس : من تفرّق. وقال السدّي : من عيب. وقال عطاء بن يسار : من عدم استواء. وقال ثعلب : أصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئا من الخلل. وقيل : من اضطراب. وقيل : من اعوجاج. وقيل : من تناقض. وقيل : من اختلاف. وقيل : من عدم التناسب والتفاوت ، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص. قال بعض الأدباء :

تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى

بهن اختلافا بل أتين على قدر

وقرأ الجمهور : (مِنْ تَفاوُتٍ) ، بألف مصدر تفاوت ؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش : بشدّ الواو ، مصدر تفوّت. وحكى أبو زيد عن العربي : تفاوتا بضم الواو وفتحها وكسرها ، والفتح والكسر شاذان. والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها ، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور ، بل كل جار على الإتقان. وقيل : المراد في (خَلْقِ الرَّحْمنِ) السموات فقط ، والظاهر أن قوله تعالى : (ما تَرى) استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت ، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله : (طِباقاً) ، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : (خَلْقِ الرَّحْمنِ) تعظيما لخلقهن وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب. انتهى. والخطاب في ترى لكل مخاطب ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه ، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧.

٢٢١

فقال : (فَارْجِعِ) ، ففي الفاء معنى التسبب ، والمعنى : أن العيان يطابق الخبر. والفطور ، قال مجاهد : الشقوق ، فطر ناب البعير : شق اللحم وظهر ، قال الشاعر :

بنى لكم بلا عمد سماء

وسوّاها فما فيها فطور

وقال أبو عبيدة : صدوع ، وأنشد قول عبيد بن مسعود :

شققت القلب ثم رددت فيه

هواك فليط فالتأم الفطور

وقال السدي : خروق. وقال قتادة : خلل ، ومنه التفطير والانفطار. وقال ابن عباس : وهن وهذه تفاسير متقاربة ، والجملة من قوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) في موضع نصب بفعل معلق محذوف ، أي فانظر هل ترى ، أو ضمن معنى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) معنى فانظر ببصرك هل ترى؟ فيكون معلقا. (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ) : أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد ، بل يراد بها التكرار ، كأنه قال : كرة بعد كرة ، أي كرات كثيرة ، كقوله : لبيك ، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض ، وأريد بالتثنية التكثير ، كما أريد بما هو أصل لها التكثير ، وهو مفرد عطف على مفرد ، نحو قوله :

لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم

بيتا وأبعدهم عن منزل الزام

يريد : لو عدّت قبور كثيرة. وقال ابن عطية وغيره : (كَرَّتَيْنِ) معناه مرتين ونصبها على المصدر. وقيل : أمر برجع البصر إلى السماء مرتين ، غلط في الأولى ، فيستدرك بالثانية. وقيل : الأولى ليرى حسنها واستواءها ، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها. وقرأ الجمهور : (يَنْقَلِبْ) جزما على جواب الأمر ؛ والخوارزمي عن الكسائي : يرفع الباء ، أي فينقلب على حذف الفاء ، أو على أنه موضع حال مقدرة ، أي إن رجعت البصر وكررت النظر لتطلب فطور شقوق أو خللا أو عيبا ، رجع إليك مبعدا عما طلبته لانتفاء ذلك عنها ، وهو كالّ من كثرة النظر ، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد ، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين. والحسير : الكال ، قال الشاعر :

لهن الوجى لم كر عونا على النوى

ولا زال منها ظالع وحسير

يقال : حسر بعيره يحسر حسورا : أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور ، قال الشاعر يصف ناقة :

فشطرها نظر العينين محسور

٢٢٢

أي : ونحرها ، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل ، قال الشاعر :

بها جيف الحسرى فأما عظامها

البيت.

(السَّماءَ الدُّنْيا) : هي التي نشاهدها ، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة ، (بِمَصابِيحَ) : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح ، ومصابيح مطلق الأعلام ، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح. (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) : أي جعلنا منها ، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله : (وَجَعَلْناها) على السماء. والظاهر عوده على مصابيح. ونسب الرجم إليها ، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها ، والكواكب قارّ في ملكه على حاله. فالشهاب كقبس يؤخذ من النار ، والنار باقية لا تنقص. والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع ، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب ، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات. وقيل : معنى رجوما : ظنونا لشياطين الإنس ، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم ، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم ، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول ، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء. وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد ، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال. وقال قتادة : خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوما للشياطين ، وليهتدي بها في البر والبحر ؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة. والضمير في لهم عائد على الشياطين.

وقرأ الجمهور : (عَذابُ جَهَنَّمَ) برفع الباء ؛ والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه : بالنصب عطفا على (عَذابَ السَّعِيرِ) ، أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. (إِذا أُلْقُوا فِيها) : أي طرحوا ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به ، ومثله حصب جهنم ، (سَمِعُوا لَها) : أي لجهنم ، (شَهِيقاً) : أي صوتا منكرا كصوت الحمار ، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها. ويحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي سمعوا لأهلها ، كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١). (وَهِيَ تَفُورُ) : تغلي بهم غلي المرجل. (تَكادُ تَمَيَّزُ) : أي ينفصل بعضها من بعض

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠٦.

٢٢٣

لشدة اضطرابها ، ويقال : فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب. وقرأ الجمهور : (تَمَيَّزُ) بتاء واحدة خفيفة ، والبزي يشدّدها ، وطلحة : بتاءين ، وأبو عمرو : بإدغام الدال في التاء ، والضحاك : تمايز على وزن تفاعل ، وأصله تتمايز بتاءين ؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة : تميز من ماز من الغيظ على الكفرة ، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر :

في كلب يشتد في جريه

يكاد أن يخرج من إهابه

وقولهم : غضب فلان ، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط في الغضب. ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية. (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) : أي فريق من الكفار ، (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) : سؤال توبيخ وتقريع ، وهو مما يزيدهم عذابا إلى عذابهم ، وخزنتها : مالك وأعوانها ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) : ينذركم بهذا اليوم ، (قالُوا بَلى) : اعتراف بمجيء النذر إليهم. قال الزمخشري : اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأنه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم فيما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة ، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم ، خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده. انتهى ، وهو على طريق المعتزلة. والظاهر أن قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) ، من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذرا إليهم ، أنكروا أولا أن الله نزل شيئا ، واستجهلوا ثانيا من أخبر بأنه تعالى أرسل إليهم الرسل ، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة. ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخبارا لهم وتقريعا بما كانوا عليه في الدنيا. أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه ، أوسموا عقاب الضلال ضلالا لما كان ناشئا عن الضلال. وقال الزمخشري : أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله. انتهى. فإن كان الخطاب في (إِنْ أَنْتُمْ) للرسل ، فقد يراد به الجنس ، ولذلك جاء الخطاب بالجمع. (وَقالُوا) : أي للخزنة حين حاوروهم ، (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) سماع طالب للحق ، (أَوْ نَعْقِلُ). عقل متأمل له ، لم نستوجب الخلود في النار. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) : أي بتكذيب الرسل ، (فَسُحْقاً) : أي فبعدا لهم ، وهو دعاء عليهم ، والسحق : البعد ، وانتصابه على المصدر : أي سحقهم الله سحقا ، قال الشاعر :

يجول بأطراف البلاد مغربا

وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

والفعل منه ثلاثي. وقال الزجاج : أي أسحقهم الله سحقا ، أي باعدهم بعدا. وقال أبو علي الفارسي : القياس إسحاقا ، فجاء المصدر على الحذف ، كما قيل :

٢٢٤

وإن أهلك فذلك كان قدري

أي تقديري. انتهى ، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثيا ، كما أنشد :

وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

وقرأ الجمهور : بسكون الحاء ؛ وعلي وأبو جعفر والكسائي ، بخلاف عن أبي الحرث عنه : بضمها. قال ابن عطية : (فَسُحْقاً) : نصبا على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه ، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول فيهم مستقر أولا ، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به ، كما تقول : سحقا لزيد وبعدا ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، وإن وقع وثبت ، فالوجه فيه الرفع ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٢) ، وغير هذا من الأمثلة. انتهى. (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله ، أو غائبين عن أعين الناس ، أي في خلواتهم ، كقوله : ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ) : خطاب لجميع الخلق. قال ابن عباس : وسببه أن بعض المشركين قال لبعض : أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) : الهمزة للاستفهام ولا للنفي ، والظاهر أن من مفعول ، والمعنى : أينتفي علمه بمن خلق ، وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها؟ وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلا والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سركم وجهركم؟ وهو استفهام معناه الإنكار ، أي كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن؟

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) : منة منه تعالى بذلك ، والذلول فعول للمبالغة ، من ذلك تقول : دابة ذلول : بينة الذل ، ورجل ذليل : بين الذل. وقال ابن عطية : والذلول فعول بمعنى مفعول ، أي مذلولة ، فهي كركوب وحلوب. انتهى. وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر ، وإنما تعدى بالهمزة كقوله : (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (٣) ، وأما بالتضعيف لقوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) (٤) ، وقوله : أي مذلولة يظهر أنه خطأ. (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) : أمر

__________________

(١) سورة المطففين : ٨٣ / ١.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٤٦.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.

(٤) سورة يس : ٣٦ / ٧٢.

٢٢٥

بالتصرف فيها والاكتساب ؛ ومناكبها ، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب : أطرافها ، وهي الجبال. وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد : جوانبها ، ومنكبا الرجل : جانباه. وقال الحسن والسدي : طرفها وفجاجها. قال الزمخشري : والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجازوته الغاية ، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل. انتهى. وقال الزجاج : سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل. (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) : أي البعث ، فيسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم.

قوله عزوجل : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ، وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ، أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ، قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ).

قرأ نافع وأبو عمرو والبزي : (أَأَمِنْتُمْ) بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا ، وقنبل : بإبدال الأولى واوا لضمة ما قبلها ، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه ؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما. (مَنْ فِي السَّماءِ) : هذا مجاز ، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة ، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من ، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه ، وهو استقر ، أي من في السماء هو ، أي ملكوته ، فهو على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء. لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم ، إذ كانوا مشبهة ، فيكون المعنى : أأمنتم من

٢٢٦

تزعمون أنه في السماء؟ وهو المتعالي عن المكان. وقيل : من على حذف مضاف ، أي خالق من في السماء. وقيل : من هم الملائكة. وقيل : جبريل ، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره. وقيل : من بمعنى على ، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان ، وفي التحرير : الإجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار ، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) وهو ذهابها سفلا ، (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) : أي تذهب أو تتموج ، كما يذهب التراب في الريح. وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء ، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ، وقال حسان بن ثابت :

فأنذر مثلها نصحا قريشا

من الرحمن إن قبلت نذير

وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري ، وحذفها باقي السبعة. ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكار قريش بهذه القصة ، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل. (صافَّاتٍ) : باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ، (وَيَقْبِضْنَ) : ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى. وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ) (١) ، عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحا فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضا جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله :

بات يغشيها بغضب باتر

يقصد في أسوقها وجائر

أي : قاصد في أسوقها وجائر. وقال الزمخشري : (صافَّاتٍ) : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا ، (وَيَقْبِضْنَ) : ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قلت : لم قيل (وَيَقْبِضْنَ) ، ولم يقل : وقابضات؟ قلت : أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على

__________________

(١) سورة العاديات : ١٠٠ / ٣ ـ ٤.

٢٢٧

التحرك ، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح. انتهى. وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم. والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل ب (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) : أي بقدرته. قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) : يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب. انتهى ، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة. ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقا بشكل ، لا من ثقل ولا خفة. وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففا. والزهري مشددا. وقرأ الجمهور : (أَمَّنْ) ، بإدغام ميم أم في ميم من ، إذ الأصل أم من ، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهذا خبر ، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه ؛ وكذلك من هو رازقكم أن أمسك رزقه ، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم. وقرأ طلحة : أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة. قال صاحب اللوامح : ومعناه : أهذا الذي هو جند لكم ينصركم ، أم الذي يرزقكم؟ فلفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ. انتهى. (بَلْ لَجُّوا) : تمادوا ، (فِي عُتُوٍّ) : في تكبر وعناد ، (وَنُفُورٍ) : شراد عن الحق لثقله عليهم. وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) ، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة. وقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يمشى الكافر على وجهه؟ فقال : «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه». فالمشي على قول قتادة حقيقة. وقيل : هو مجاز ، ضرب مثلا للكافر والمؤمن في الدنيا. فقيل : عام ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك ، نزلت فيهما. وقال ابن عباس أيضا : نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل : في أبي جهل وحمزة ، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه ، كالماضي في انخفاض وارتفاع ، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه. وأما المؤمن ، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان ، وكونه قد وضح له الحق ، كالماشي صحيح البصر مستويا لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها ، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه. و (مُكِبًّا) : حال من أكب ، وهو لا يتعدى ، وكب متعد ، قال تعالى : (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي

٢٢٨

النَّارِ) (١) ، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب. وقال الزمخشري : ولا شيء من بناء افعل مطوعا ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه ، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته! حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتابا يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه. وأهدي : افعل تفضيل من الهدى في الظاهر ، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى. وانتصب (قَلِيلاً) على أنه نعت لمصدر محذوف ، وما زائدة ، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة ، أي تشكرون شكرا قليلا. وقال ابن عطية : ظاهر أنهم يشكرون قليلا ، وما عسى أن يكون للكافرين شكر ، وهو قليل غير نافع. وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قلّ ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته البتة. انتهى. وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك. (ذَرَأَكُمْ) : بثكم ، والحشر : البعث ، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة ، أي متى إنجاز هذا الوعد؟.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) : أي رأوا العذاب وهو الموعود به ، (زُلْفَةً) : أي قربا ، أي ذا قرب. وقال الحسن : عيانا. وقال ابن زيد : حاضرا. وقيل : التقدير مكانا ذا زلفة ، فانتصب على الظرف. (سِيئَتْ) : أي ساءت رؤيته وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل. وأخلص الجمهور كسرة السين ، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي. (وَقِيلَ) لهم ، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم. وقرأ الجمهور : (تَدَّعُونَ) بشد الدال مفتوحة ، فقيل : من الدعوى. قال الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار. وقيل : تطلبون وتستعجلون ، وهو من الدعاء ، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : تدعون بسكون الدال ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع. روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالهلاك. وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه ، فأمر أن يقول : (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) كما تريدون ، (أَوْ رَحِمَنا) بالنصر عليكم ، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم؟ ولما قال : (أَوْ رَحِمَنا) قال : (هُوَ الرَّحْمنُ) ، ثم ذكر ما به

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٩٠.

٢٢٩

النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى. وقرأ الجمهور : (فَسَتَعْلَمُونَ) بتاء الخطاب ، والكسائي : بياء الغيبة نظرا إلى قوله : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) (١).

ولما ذكر العذاب ، وهو مطلق ، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء ، وهو عذاب مخصوص. والغور مشروح في الكهف ، والمعين في قد أفلح ، وجواب (إِنْ أَهْلَكَنِيَ) : (فَمَنْ يُجِيرُ) ، وجواب (إِنْ أَصْبَحَ) : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ) ، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به النفوس والمعاويل ، فذهب ماء عينيه.

__________________

(١) سورة الملك : ٢٨ / ٦٧.

٢٣٠

سورة القلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ

٢٣١

تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)

المهين ، قال الرماني : الوضيع لإكثاره من القبائح ، من المهانة ، وهي القلة. الهمز : أصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا أو نحوها ، ثم استعير للذي ينال بلسانه. قال القاضي منذر بن سعيد : وبعينه وإشارته. النميم والنميمة : مصدران لنمّ ، وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس. وقيل : النميم جمع نميمة ، يريدون به اسم الجنس. العتل ، قال الكلبي والفرّاء : الشديد الخصومة بالباطل. وقال معمر : هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر :

بعتلّ من الرّجال زنيم

غير ذي نجدة وغير كريم

وقيل : الذي يعتل الناس : أي يجرّهم إلى حبس أو عذاب ، ومنه : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) (١). قال ابن السكيت : عتلته وعتنته باللام والنون. الزنيم : الدعي. قال حسان :

زنيم تداعاه الرّجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع

وقال أيضا :

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٤٧.

٢٣٢

والزنيم من الزنمة ، وهي الهنة من جلد الماعز ، تقطع فتخلى معلقة في حلقة ، سمي الدعي بذلك لأنه زيادة معلقة بغير أهله. وسمه : جعل له سمة ، وهي العلامة تدل على شيء. قال جرير :

لما وضعت على الفرزدق ميسمي

وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

الخرطوم : الأنف ، والخرطوم من صفات الخمر ، قال الشاعر :

قد أشهد الشرب فيهم مزهر زنم

والقوم تصرعهم صهباء خرطوم

قال الشمنتري : الخرطوم أول خروجها من الدّن ، ويقال لها الأنف أيضا ، وذلك أصفى لها وأرق. وقال النضر بن شميل : الخرطوم : الخمر ، وأنشد للأعرج المغني :

تظل يومك في لهو وفي لعب

وأنت بالليل شرّاب الخراطيم

الصرام : جداد النخل. الجرد : المنع ، من قولهم : حاردت الإبل إذا قلت ألبانها ، وحاردت السنة : قلّ مطرها وخيرها ، قاله أبو عبيد والقتبي ، والحرد : الغضب. قال أبو نضر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي : وهو مخفف ، وأنشد :

إذا جياد الخيل جاءت تردي

مملوءة من غضب وحرد

وقال الأشهب بن رميلة :

أسود شرى لاقت أسود خفية

تساقوا على حرد دماء الأساود

وقال ابن السكيت : وقد يحرك ، تقول : حرد بالكسر حردا فهو حردان ، ومنه قيل : أسد حارد ، وليوث حوارد ، والحرد : الانفراد ، حرد يحرد حرودا : تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم ، وكوكب حرود : معتزل عن الكواكب. وقال الأصمعي : المنحرد : المنفرد في لغة هذيل. انتهى. والحرد : القصد ، حرد يحرد بالكسر : قصد ، ومنه حردت حردك : أي قصدت قصدك. ومنه قول الشاعر :

وجاء سيل كان من أمر الله

يحرد حرد الجنة المغلة

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ، وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ، أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ، إِنَّا بَلَوْناهُمْ

٢٣٣

كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ، وَلا يَسْتَثْنُونَ ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ، فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ ، أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ، وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ ، فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ، قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ، قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ، قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ، كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

هذه السورة مكية. قال ابن عطية : ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل. انتهى. ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. ومناسبتها لما قبلها : أنه فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء ، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصبا. وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي ، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر ، ومرة إلى السحر ، ومرة إلى الجنون ؛ فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون ، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم ، وبالثناء على خلقه العظيم.

(ن) : حرف من حروف المعجم ، نحو ص وق ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص. وما يروى عن ابن عباس ومجاهد : أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع. وعن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك : أنه اسم الدواة. وعن معاوية بن قرة : يرفعه أنه لوح من نور. وعن ابن عباس أيضا : أنه آخر حرف من حروف الرحمن. وعن جعفر الصادق : أنه نهر من أنهار الجنة ، لعله لا يصح شيء من ذلك. وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ن حرف من حروف المعجم ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. انتهى. ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم ، فإن كان علما فينبغي أن يجر ، فإن كان مؤنثا منع الصرف ، أو مذكرا صرف ، وإن كان جنسا أعرب ، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به. وقال ابن عطية : إذا كان اسما للدواة ، فإما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر :

إذا ما الشوق برّح بي إليهم

ألقت النون بالدمع السجوم

٢٣٤

فمن جعله البهموت ، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات ، وجعل الضمير في (يَسْطُرُونَ) للملائكة. ومن قال : هو اسم ، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس ؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في (يَسْطُرُونَ) للناس ، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة. انتهى. وقرأ الجمهور : (ن) بسكون النون وإدغامها في واو (وَالْقَلَمِ) بغنة وقوم بغير غنة ، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال : بكسر النون لالتقاء الساكنين ؛ وسعيد بن جبير وعيسى : بخلاف عنه بفتحها ، فاحتمل أن تكون حركة إعراب ، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر ، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث ، ويكون (وَالْقَلَمِ) معطوفا عليه. واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين ، وأوثر الفتح تخفيفا كأين ، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية ، والضمير في (يَسْطُرُونَ) عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم ، فإما أن يراد بهم الحفظة ، وإما أن يراد كل كاتب. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في (يَسْطُرُونَ) لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم. انتهى. فيكون كقوله : (كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) (١) : أي وكذي ظلمات ، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) (٢).

وجواب القسم : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). ويظهر أن (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عطية : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل. انتهى. ولم يبين ما تتعلق به الباء في (بِنِعْمَةِ). وقال الزمخشري : يتعلق (بِمَجْنُونٍ) منفيا ، كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستويا في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك : ضرب زيد عمرا ، وما ضرب زيد عمرا تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى : استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا ، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة. انتهى.

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

٢٣٥

وما ذهب إليه الزمخشري من أن (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) متعلق (بِمَجْنُونٍ) ، وأنه في موضع الحال ، يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط ، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك ، تقول : ما زيد قائم مسرعا ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع. والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي لا قيام فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه ، بل يؤدي إلى ما لا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل معناه : ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي والحمد لله ، ومنه قول لبيد :

وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي

وفارقني جار بأربد نافع

أي : وهو أربد. انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، أي حصول الصفة المحمودة ، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك. ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها ، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله ، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله. (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) : هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) ، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه ، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء. انتهى. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) : أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب ، (غَيْرَ مَمْنُونٍ) : أي غير مقطوع ، مننت الحبل : قطعته ، قال الشاعر :

عبسا كواسب لا يمن طعامها

أي لا يقطع. وقال مجاهد : غير محسوب. وقال الحسن : غير مكدر بالمن. وقال الضحاك : بغير عمل. وقيل : غير مقدر ، وهو معنى قول مجاهد. وقال الزمخشري : أو غير ممنون عليك ، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء ، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال. (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، قال

٢٣٦

ابن عباس ومجاهد : دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه. وقالت عائشة : إن خلقه كان القرآن. وقال علي : هو أدب القرآن. وقال قتادة : ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى. وقيل : سمي عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، من كرم السجية ، ونزاهة القريحة ، والملكة الجميلة ، وجودة الضرائب ؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك ، وقال : «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق» ، ووصى أبا ذر فقال : «وخالق الناس بخلق حسن». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن». وقال : «أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقا». والظاهر تعلق (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) بما قبله. وقال عثمان المازني : تم الكلام في قوله (وَيُبْصِرُونَ) ، ثم استأنف قوله : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ). انتهى. فيكون قوله : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) استفهاما يراد به الترداد بين أمرين ، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما ، ويعينه الوجود ، وهو المؤمن ، ليس بمفتون ولا به فتون. وإذا كان متعلقا بما قبله ، وهو قول الجمهور ، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر : الباء زائدة ، والمعنى : أيكم المفتون؟ وزيدت الباء في المبتدأ ، كما زيدت فيه في قوله : بحسبك درهم ، أي حسبك. وقال الحسن والضحاك والأخفش : الباء ليست بزائدة ، والمفتون بمعنى الفتنة ، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنونا؟ وقال الأخفش أيضا : بأيكم فتن المفتون ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ففي قوله الأول جعل المفتون مصدرا ، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف. وقال مجاهد والفراء : الباء بمعنى في ، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون؟ انتهى. فالباء ظرفية ، نحو : زيد بالبصرة ، أي في البصرة ، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية ، بل هي سببية. وقال الزمخشري : المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي محن بالجنون ، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم. انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة : في أيكم المفتون.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) : وعيد للضال ، وهم المجانين على الحقيقة ، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها ، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل ، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين. (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) : أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي ، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) : لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن ، أي ودوا أدهانكم ، وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) ، ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٦.

٢٣٧

أي ودوا أدهانكم ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، ولو باقية على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك. وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي : لو تدهن : لو تكفر ، فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا : لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال قتادة : لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم. وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك. وقال الربيع بن أنس : لو تكذب فيكذبون. وقال أبو جعفر : لو تضعف فيضعفون. وقال الكلبي والفراء : لو تلين فيلينون. وقال أبان بن ثعلب : لو تحابي فيحابون ، وقالوا غير هذه الأقوال. وقال الفراء : الدهان : التليين. وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة ، وهذا نقل أهل اللغة ، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأن ما خالف ذلك هو تفسير باللازم ، وفيدهنون عطف على تدهن. وقال الزمخشري : عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون كقوله : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) (١) ، بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك. انتهى. وجمهور المصاحف على إثبات النون. وقال هارون : إنه في بعض المصاحف فيدهنوا ، ولنصبه وجهان : أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت ؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن ، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا ، فيكون عطفا على التوهم ، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) : تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات ، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ، ونوسب فيها فجاء (حَلَّافٍ) وبعده (مَهِينٍ) ، لأن النون فيها مع الميم تواخ. ثم جاء : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) بصفتي المبالغة ، ثم جاء : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) ، فمناع وأثيم صفتا مبالغة ، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير. وقيل : الخير هنا المال ، يريد مناع للمال عبر به عن الشح ، معناه : متجاوز الحد في الظلم. وفي حديث شداد بن أوس قلت : يعني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما العتل الزنيم؟ قال : الرحيب الجوف ، الوتير الخلق ، الأكول الشروب ، الغشوم الظلوم. وقرأ الحسن : عتل برفع اللام ، والجمهور : بجرها بعد ذلك. وقال الزمخشري : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ، ومن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ١٣.

٢٣٨

ولده ولا ولد ولده» ، وبعد ذلك نظير ثم في قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١). وقرأ الحسن : عتل رفعا على الذم ، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك. انتهى. وقال ابن عطية : (بَعْدَ ذلِكَ) : أي بعد أن وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه. انتهى. والزنيم : الملصق في القوم وليس منهم ، قاله ابن عباس وغيره. وقيل : الزنيم : المريب القبيح الأفعال ، وعن ابن عباس أيضا : الزنيم : الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته. انتهى. وروي أن الأخفش بن شريف كان بهذه الصفة ، كان له زنمة. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بالزنمة. وعنه أيضا : أنه المعروف بالابنة. وعنه أيضا : أنه الظلوم. وعن عكرمة : هو اللئيم. وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب : أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم ، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده. وقال مجاهد : كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام أصبع زائدة ، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين. ألا ترى إلى قوله : (كُلَّ حَلَّافٍ) ، وقوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ)؟ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات.

قال ابن عطية ما ملخصه ، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة : (أَنْ كانَ) على الخبر ؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : على الاستفهام ؛ وحقق الهمزتين حمزة ، وسهل الثانية باقيهم. فأما على الخبر ، فقال أبو علي الفارسي : يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف. انتهى ، وهذا قول كوفي ، ولا يجوز ذلك عند البصريين. وقيل : (زَنِيمٍ) لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال. وقال الزمخشري : متعلق بقوله : (وَلا تُطِعْ) ، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب ، (أَنْ كانَ ذا مالٍ) : أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولا مستظهرا بالبنين ، كذب آياتنا ولا يعمل فيه ، قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. انتهى. وأما على الاستفهام ، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله ، أي أيكون طواعية لأن كان؟ وقدره الزمخشري : أتطيعه لأن كان؟ أو عامل يدل عليه ما قبله ، أي أكذب أو جحد لأن كان؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : إن كان بكسر الهمزة. قال الزمخشري : والشرط للمخاطب ، أي

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٧.

٢٣٩

لا تطع كل حلاف شارطا يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه ، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ). انتهى. وأقول : إن كان شرط ، وإذا تتلى شرط ، فهو مما اجتمع فيه شرطان ، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع ، فالمتأخر لفظا هو المتقدم ، والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني ، كقوله :

فإن عثرت بعدها إن والت

نفسي من هاء تاء فقولا لها لها

لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين ، فهو مشغول القلب ، فذلك غافل عن النظر والفكر ، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته. وقرأ الحسن : أئذا على الاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آيات الله. ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ، والسمة : العلامة. ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان ، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين. وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه. وكان أيضا مما تظهر السمات فيه لعلو ، قال : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد ، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف ، وإذا كان الوسم في الوجه شينا ، فكيف به على أكرم عضو فيه؟ وقد قيل : الجمال في الأنف ، وقال بعض الأدباء :

وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل

فكيف إذا ما الخال كان له حليا

وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه. وقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك كالوسم على الانف ، وحل به ذلك يوم بدر. وقال المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم. وقال آخرون : ذلك يوم القيامة ، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال قتادة وغيره : معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا ، كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة : أي أثبت لك الأمر بينا فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله :

لما وضعت على الفرزدق ميسمي

وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّا. قال ابن

٢٤٠