البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

كان في قريش في الإماء غالبا ، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر. وقرأ عليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشددا ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك. والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك. (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين. وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولدا قد ولدته ، أو ألحقت بها ولدا لم تلده. وقيل : البهتان : السحر. وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن ؛ فروجهن. وقيل : بين أيديهن قبلة أو جسة ، وأرجلهن الجماع. ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها. وروي أن قوما من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوما مغضوبا عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب الله قد صار عرفا لهم. وقال ابن عباس : كفار قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من الله. وقيل : اليهود والنصارى.

(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) ، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها. والظاهر أن من في (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور. فمن الثانية كالأولى من الآخرة. فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم. وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر. انتهى. والكفار على هذا كفار مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبدا ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن. وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله ، لأنه إذا كان حيا لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد. وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر. انتهى. وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف. وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد. والجمهور : على الجمع. ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيدا لترك موالاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم.

١٦١

سورة الصّفّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ

١٦٢

آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)

المرصوص ، قال الفرّاء والقاضي منذر بن سعيد : هو المعقود بالرصاص. وقال المبرد : رصصت البناء : لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة ، قال الراعي :

ما لقي البيض من الحرقوص

بفتح باب المغلق المرصوص

الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار ، وقيل : هو من الترصيص ، وهو انضمام الأسنان.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ، وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ، وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).

هذه السورة مدنية في قول الجمهور ، ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة. وقال ابن يسار : مكية ، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد. وسبب نزولها قول المنافقين للمؤمنين : نحن منكم ومعكم ، ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك ؛ أو قول شباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا ؛ أو قول ناس : وددنا أن نعرف أحب الأعمال

١٦٣

إلى ربنا حتى نعنى فيه ، ففرض الجهاد ؛ وأعلم تعالى بحب المجاهدين ، فكرهه قوم وفر بعضهم يوم أحد ، فنزلت ، أقوال. الأول : لابن زيد ، والثاني : لقتادة ، والثالث : لابن عباس وأبي صالح.

ومناسبتها لآخر السورة قبلها ، أن في آخر تلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (١) ، فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم ، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم. والنداء ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، إن كان للمؤمنين حقيقة ، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب ، وإن كان للمنافقين ، فالمعنى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي بألسنتهم ، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم ، ولم يتعلق بالفعل وحده. ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم ، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف ، والظاهر انتصاب (مَقْتاً) على التمييز ، وفاعل (كَبُرَ) : أن (تَقُولُوا) ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل ، والتقدير : كبر مقت قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس ، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز ، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم ، أي بئس مقتا قولكم كذا ، والخلاف الجاري في المرفوع في : بئس رجلا زيد ، جار في (أَنْ تَقُولُوا) هنا ، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : (لِمَ تَقُولُونَ) ، أي كبر هو ، أي القول مقتا ، ومثله كبرت كلمة ، أي ما أكبرها كلمة ، وأن تقولوا بدل من المضمر ، أو خبر ابتداء مضمر. وقيل : هو من أبنية التعجب ، أي ما أكبره مقتا. وقال الزمخشري : قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله :

غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله ، وأسند إلى (أَنْ تَقُولُوا) ونصب (مَقْتاً) على تفسيره ، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيرا حتى جعل أشدّه وأفحشه ، وعند الله أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته. انتهى. وقال ابن عطية : والمقت : البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت. انتهى. وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت ، إذا كان يبغضه كل أحد. انتهى. وقرأ زيد بن عليّ : يقاتلون بفتح التاء. وقيل : قرىء يقتلون ، وانتصب صفا على الحال ، أي صافين

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١٣.

١٦٤

أنفسهم أو مصفوفين ، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ، بنيان رص بعضه إلى بعض. والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلا ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة ؛ وصفا وكأنهم ، قال الزمخشري : حالان متداخلان. وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفا. انتهى. ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون.

ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل ، وهو راجع إلى الكذب ، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب ، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) ، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه ، (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه ، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية ، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع ، والمضارع هنا معناه المضي ، أي وقد علمتم ، كقوله : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) (١) ، أي قد علم ، (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ) (٢). وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل ، (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحق ، (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). قال الزمخشري : بأن منع ألطافه ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) : لا يلطف بهم ، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره : أسند الزيغ إليهم ، ثم قال : (أَزاغَ اللهُ) كقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (٣) ، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ، بخلاف قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٤).

ولما ذكر شيئا من قصة موسى عليه‌السلام مع بني إسرائيل ، ذكر أيضا شيئا من قصة عيسى عليه‌السلام. وهناك قال : (يا قَوْمِ) لأنه من بني إسرائيل ، وهنا قال عيسى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) من حيث لم يكن له فيهم أب ، وإن كانت أمه منهم. ومصدقا ومبشرا : حالان ، والعامل رسول ، أي مرسل ، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية ، ولئن تأخر من النبي المذكور ، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته. وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال : «نعم ، أمة أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٦٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٤.

(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ١٩.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١١٨.

١٦٥

باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل». وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم ، أو من أحمد أفعل التفضيل ، وقال حسان :

صلى الإله ومن يحف بعرشه

والطيبون على المبارك أحمد

وقال القشيري : بشر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحدا بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه‌السلام. والظاهر أن الضمير المرفوع في (جاءَهُمْ) يعود على عيسى لأنه المحدث عنه. وقيل : يعود على أحمد. لما فرغ من كلام عيسى ، تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين ، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقرأ الجمهور : سحر ، أي ما جاء به من البينات. وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب : ساحر ، أي هذا الحال ساحر. وقرأ الجمهور : يدعى مبنيا للمفعول ؛ وطلحة : يدعى مضارع ادعى مبنيا للفاعل ، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به ، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى. وقال الزمخشري : أيضا ، وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى بشد الدال ، بمعنى يدعى دعاه وادعاه ، نحو لمسه والتمسه.

(يُرِيدُونَ) الآية : تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة. وقال الزمخشري : أصله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) (١) ، كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لأكرمك ، كما زيدت اللام في : لا أبا لك ، تأكيدا لمعنى الإضافة في : لا أبا لك. انتهى. وقال نحوه ابن عطية ، قال : واللام في قوله : (لِيُطْفِؤُا) لام مؤكدة ، دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفؤا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصرت. انتهى. وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر ، بل الأكثر : زيدا ضربت ، من : لزيد ضربت. وأما قولهما إن اللام للتأكيد ، وإن التقدير أن يطفؤا ، فالإطفاء مفعول (يُرِيدُونَ) ، فليس بمذهب سيبويه والجمهور. وقال ابن عباس وابن زيد : هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول. وقال السدي : يريدون دفع الإسلام بالكلام. وقال الضحاك : هلاك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأراجيف. وقال ابن بحر : إبطال حجج الله بتكذيبهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٢.

١٦٦

وعن ابن عباس : سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود ابشروا ، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره ، فحزن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت واتصل الوحي. وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن : (مُتِمُ) بالتنوين ، (نُورِهِ) بالنصب ؛ وباقي السبعة والأعمش : بالإضافة. وقرأ الجمهور : (تُنْجِيكُمْ) مخففا ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر : مشددا. والجمهور : (تُؤْمِنُونَ) ، (وَتُجاهِدُونَ) ؛ وعبد الله : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين ؛ وزيد بن علي بالتاء ، فيهما محذوف النون فيهما. فأما توجيه قراءة الجمهور ، فقال المبرد : هو بمعنى آمنوا على الأمر ، ولذلك جاء يغفر مجزوما. انتهى ، فصورته صورة الخبر ، ومعناه الأمر ، ويدل عليه قراءة عبد الله ، ونظيره قوله : اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، أي ليتق الله ، وجيء به على صورة الخبر. قال الزمخشري : للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ، ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ويغفر الله لك ، جعلت المغفرة لقوة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت. انتهى. وقال الأخفش : هو عطف بيان على تجارة ، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله :

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغا

يريد : أن احضر ، فلما حذف أن ارتفع الفعل ، فكان تقدير الآية (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) : إيمان بالله ورسوله وجهاد. وقال ابن عطية : (تُؤْمِنُونَ) فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون. انتهى ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر ، وذلك لا يجوز. وقال الزمخشري : وتؤمنون استئناف ، كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : تؤمنون ، ثم اتبع المبرد فقال : هو خبر في معنى الأمر ، وبهذا أجيب بقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ). انتهى. وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر ، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر ، التقدير : لتؤمنوا ، كقول الشاعر :

قلت لبواب على بابها

تأذن لي أني من أحمائها

يريد : لتأذن ، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد ، وعلى تقدير المبرد. وقال الفراء : هو مجزوم على جواب الاستفهام ، وهو قوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) ، واستبعد هذا التخريج. قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال المهدوي : إنما يصح حملا على المعنى ، وهو أن يكون

١٦٧

تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) ، كأن التجارة لم يدر ما هي ، فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قال : هل تؤمنون وتجاهدون؟ قال : فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير : إن دللتم يغفر لكم ، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة. وقال الزمخشري نحوه ، قال : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قال : هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ انتهى ، وتقدم شرح بقية الآية.

ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة ، ذكر ما يسرهم في العاجلة ، وهي ما يفتح عليهم من البلاد. (وَأُخْرى) : صفة لمحذوف ، أي ولكم مثوبة أخرى ، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة. فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم ، وهو قول الفراء ، ويرجحه البدل منه بقوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) ، و (تُحِبُّونَها) صفة ، أي محبوبة إليكم. وقال قوم : وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل ، أي ويمنحكم أخرى ؛ ونصر خبر مبتدأ ، أي ذلك ، أو هو نصر. وقال الأخفش : وأخرى في موضع جر عطفا على تجارة ، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه ، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال. وقرأ الجمهور : (نَصْرٌ) بالرفع ، وكذا (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) ؛ وابن أبي عبلة : بالنصب فيها ثلاثتها ، ووصف أخرى بتحبونها ، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل ، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك ، وهو الإيمان والجهاد. وقال الزمخشري : وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، قال : فإن قلت : لم نصب من قرأ نصرا من الله وفتحا قريبا؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص ، أو على ينصرون نصرا ويفتح لكم فتحا ، أو على (يَغْفِرْ لَكُمْ) و (يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ) ويؤتكم أخرى نصرا وفتحا قريبا. فإن قلت علام عطف قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قلت : على (تُؤْمِنُونَ) ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. انتهى.

(كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) : ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم ، وإن كان قد صار عرفا للأوس والخزرج ، وسماهم الله به. وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان : أنصارا لله بالتنوين ؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة : بالإضافة إلى الله ، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار ، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى. وقال مكي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : كونوا كونا. وقيل : نعت لأنصارا ، أي كونوا أنصار الله كما

١٦٨

كان الحواريون أنصار عيسى حين قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ). انتهى. والحواريون اثنا عشر رجلا ، وهم أول من آمن بعيسى ، بثهم عيسى في الآفاق ، بعث بطرس وبولس إلى رومية ، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وبوقاس إلى أرض بابل ، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف ، ويعقوبين إلى بيت المقدس ، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها ، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط ، فليلتمس ذلك من مظانه. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعيسى (عَلى عَدُوِّهِمْ) : وهم الذين كفروا بعيسى ، (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) : أي قاهرين لهم مستولين عليهم. وقال زيد بن عليّ وقتادة : ظاهرين : غالبين بالحجة والبرهان. وقيل : أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين ، والله أعلم.

١٦٩

سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)

١٧٠

السفر : الكتاب المجتمع الأوراق منضدة.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

هذه السورة مدنية. وقيل : مكية ، وهو خطأ ، لأن أمر اليهود وانفضاض الناس في الجمعة لم يكن إلا بالمدينة. ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم ، أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه ، وذكر ما أنعم به على أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعثته إليهم ، وتلاوته عليهم كتابه ، وتزكيتهم ، فصارت أمّته غالبة سائر الأمم ، قاهرة لها ، منتشرة الدعوة ، كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم. وقرأ الجمهور : (الْمَلِكِ) بجرّه وجر ما بعده ؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدّينار الأعرابي : بالرفع على إضمار هو ، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة ، وكذلك جاء عن يعقوب. وقرأ أبو الدينار وزيد بن عليّ : القدوس بفتح القاف ؛ والجمهور : بالضم. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ) الآية : تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمّي.

(وَآخَرِينَ) : الظاهر أنه معطوف على (الْأُمِّيِّينَ) ، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون. وقيل : (وَآخَرِينَ) منصوب معطوف على الضمير في (وَيُعَلِّمُهُمُ) ، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازا لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضا ، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه. وقال أبو هريرة وغيره : وآخرين هم فارس ، وجاء نصا عنه في صحيح البخاري ومسلم ، ولو فهم منه الحصر في

١٧١

فارس لم يجز أن يفسر به الآية ، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل. فقال مجاهد وابن جبير : الروم والعجم. وقال مجاهد أيضا وعكرمة ومقاتل : التابعين من أبناء العرب لقوله : (مِنْهُمْ) ، أي في النسب. وقال مجاهد أيضا والضحاك وابن حبان : طوائف من الناس. وقال ابن عمر : أهل اليمن. وعن مجاهد أيضا : أبناء الأعاجم ؛ وعن ابن زيد أيضا : هم التابعون ؛ وعن الضحاك أيضا : العجم ؛ وعن أبي روق : الصغار بعد الكبار ، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل ، كما حملوا قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فارس : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في تمكينه رجلا أمّيا من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده واختياره من سائر البشر.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) : أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه. (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) : هم اليهود المعاصرون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي ناطقة بنبوته. وقرأ الجمهور : حملوا مشددا مبنيا للمفعول ؛ ويحيى بن يعمر وزيد بن عليّ : مخففا مبنيا للفاعل. شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتبا ، فهو لا يدري ما عليه ، أكتب هي أم صخر وغير ذلك؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها. وقال الشاعر في نحو ذلك :

زوامل للأشعار لا علم عندهم

بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدى

بأوساقه أو راح ما في الغرائر

وقرأ عبد الله : حمار منكرا ؛ والمأمون بن هارون : يحمل بشد الميم مبنيا للمفعول. والجمهور : الحمار معرفا ، ويحمل مخففا مبنيا للفاعل ، ويحمل في موضع نصب على الحال. قال الزمخشري : أو الجر على الوصف ، لأن الحمار كاللئيم في قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

انتهى.

وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين ، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل ، وحملوا عليه (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١) ، وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال ، لا في موضع الصفة. ووصفه بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، والجمل نكرات. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ). قال الزمخشري : بئس مثلا مثل القوم. انتهى.

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٧.

١٧٢

فخرجه على أن يكون التمييز محذوفا ، وفي بئس ضمير يفسره مثلا الذي ادعى حذفه. وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه. وقال ابن عطية : والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى. وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف الفاعل ، وهو لا يجوز. والظاهر أن (مَثَلُ الْقَوْمِ) فاعل (بِئْسَ) ، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف ، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله ، وهم اليهود ، أو يكون (الَّذِينَ كَذَّبُوا) صفة للقوم ، والمخصوص بالذم محذوف ، التقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثلهم ، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة. روي أنه لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتموه أطعناكم ، وإن خالفتموه خالفناه ، فقالوا لهم : نحن أبناء خليل الرحمن ، ومنا عزير بن الله والأنبياء ، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) ، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإن كان قولكم حقا فتمنوا أن تنقلوا سريعا إلى دار كرامته المعدة لأوليائه ، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة. وقرأ الجمهور : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ، بضم الواو ؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع : بكسرها ؛ وعن ابن السميفع أيضا : فتحها. وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو ، وهذا كقراءة من قرأ : تلؤون بالهمز بدل الواو. قال الزمخشري : ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا ، فأتى مرة بلفظ التأكيد : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) (١) ، ومرة بغير لفظه : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) ، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه ، وأما قوله : إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا ، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.

وقرأ الجمهور : (فَإِنَّهُ) ، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته ، فكان إن باشرت الذي ، وفي الذي معنى الشرط ، فدخلت الفاء في الخبر ، وقد منع هذا قوم ، منهم الفراء ، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي : إنه بغير فاء ، وخرجه الزمخشري على الاستئناف ، وخبر إن هو الذي ، كأنه قال : قل إن الموت هو الذي تفرون منه. انتهى. ويحتمل أن يكون خبر إن هو قوله : أنه ملاقيكم ، فالجملة خبر إن ، ويحتمل أن يكون إنه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٥.

١٧٣

توكيدا ، لأن الموت وملاقيكم خبر إن. لما طال الكلام ، أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لإن.

(إِذا نُودِيَ) : أي إذا أذن ، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وكذا كان في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة. وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان ، كثر الناس وتباعدت المنازل ، فزاد مؤذنا آخر على داره التي تسمى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني ، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة ، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه. فإن قلت : من في قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ما هي؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له. انتهى. وقرأ الجمهور : الجمعة بضم الميم ؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة ، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش : بسكونها ، وهي لغة تميم ، ولغة بفتحها لم يقرأ بها ، وكان هذا اليوم يسمى عروبة ، ويقال : العروبة. قيل : أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي ، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة ، صلى بهم ركعتين وذكرهم ، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام.

وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لما قدم المدينة ، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة ، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف ، في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة. والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، وأنه يكون في المشي خفة وبدار. وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل ، وليس الإسراع في المشي ، كالسعي بين الصفا والمروة ؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) ، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي. والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموما ، وأنهما فرض على الأعيان. وعن بعض الشافعية ، أنها فرض كفاية ، وعن مالك رواية شاذة : أنها سنة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم». وقالوا : المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم. فلو حضر غيره أجزأتهم. انتهى.

والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها ، واختلف الفقهاء

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٣٩.

١٧٤

في ذلك. فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري : ستة أميال. وقيل : خمسة. وقال ربيعة : أربعة أميال. وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر. وقال مالك والليث : ثلاثة. وقال أبو حنيفة وأصحابه : على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمع ، لا على من هو خارج المصر ، وإن سمع النداء. وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق : على من سمع النداء. وعن ربيعة : على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين : فامضوا بدل (فَاسْعَوْا) ، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي ، ففسروه بالمضي ، ولا يكون قرآنا لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.

وذكر الله هنا الخطبة ، قاله ابن المسيب ، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور. وقال الحسن : هي مستحبة ، والظاهر أنه يجزىء من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكرا. قال أبو حنيفة : لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز ، وقال غيره : لا بد من كلام يسمى خطبة ، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن ، والظاهر تحريم البيع ، وأنه لا يصح. وقال ابن العربي : يفسخ ، وهو الصحيح. وقال الشافعي : ينعقد ولا يفسخ ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعا ، مفسوخ ورعا. انتهى. وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونهوا عن تجارة الدنيا ، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الضحاك والحسن وعطاء. وقال ناس غيرهم : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع ، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة ، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة ، كعيادة المريض ، وصلة صديق ، واتباع جنازة ، وأخذ في بيع وشراء ، وتصرفات دينية ودنيوية ؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله. وقال مكحول والحسن وابن المسيب : الفضل : المأمور بابتغائه هو العلم. وقال جعفر الصادق : ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت ، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة.

وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بعير تحمل ميرة. قال مجاهد : وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها ، فدخلت بها ، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه ، وتركوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر في اثني عشر رجلا. قال جابر : أنا أحدهم. قال أبو بكر غالب بن عطية : هم العشرة المشهود لهم بالجنة ، والحادي عشر

١٧٥

قيل : عمار. وقيل : ابن مسعود. وقيل : ثمانية ، قالوا : فنزلت : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً). وقرأ الجمهور : (إِلَيْها) بضمير التجارة ؛ وابن أبي عبلة : إليه بضمير اللهو ، وكلاهما جائز ، نص عليه الأخفش عن العرب. وقال ابن عطية : وقال إليها ولم يقل إليهما تهمما بالأهم ، إذ كانت سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها. وتأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين. انتهى. وفي قوله : (قائِماً) دلالة على مشروعية القيام في الخطبة. وأول من استراح في الخطبة عثمان ، وأول من خطب جالسا معاوية. وقرىء : إليهما بالتثنية للضمير ، كقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (١) ، وتخريجه على أن يتجوّز بأو ، فتكون بمعنى الواو ، وقد تقدّم غير هذا التخريج في قوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) في موضعه في سورة النساء. وناسب ختمها بقوله : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار ، كما تقدم في سبب النزول ، وقد ملأ المفسرون كثيرا من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٣٥.

١٧٦

سورة المنافقون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي

١٧٧

إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)

الجسم والخشب معروفان. أسندت ظهري إلى الحائط : أملته وأضفته إليه ، وتساند القوم : اصطفوا وتقابلوا للقتال.

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ، اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ، وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ، سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ، يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ، وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

هذه السورة مدنية ، نزلت في غزوة بني المصطلق ، كانت من عبد الله بن أبيّ بن سلول وأتباعه فيها أقوال ، فنزلت. وسبب نزولها مذكور في قصة طويلة ، من مضمونها : أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء ، وذلك في غزوة بني المصطلق ، فشج أحدهما الآخر ، فدعا المشجوج : يا للأنصار ، والشاج : يا للمهاجرين ، فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول : ما حكى الله تعالى عنه من قوله : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ، وقوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، وعنى الأعز نفسه ، وكلاما قبيحا. فسمعه زيد بن أرقم ، ونقل ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله ، فحلف ما قال شيئا من ذلك ، فاتهم زيد ، فأنزل الله تعالى (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله : (لا يَعْلَمُونَ) ، تصديقا لزيد وتكذيبا لعبد الله بن أبيّ.

١٧٨

ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين ، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك ، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة ، إذ كان وقت مجاعة ، جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان ، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ، إذ كانوا هم أصحاب أموال ، والمهاجرون فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى. (قالُوا نَشْهَدُ) : يجري مجرى اليمين ، ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم ، وكذا فعل اليقين. والعلم يجري مجرى القسم بقوله : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق ، وذلك بالاعتقاد ؛ فأكذبهم الله وفضحهم بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) : أي لم تواطئ قلوبهم ألسنتهم على تصديقك ، واعتقادهم أنك غير رسول ، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم ، أو كاذبون عند أنفسهم ، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كذب. وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ، إيذانا أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقا. ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم. (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) : سمى شهادتهم تلك أيمانا. وقرأ الجمهور : أيمانهم ، بفتح الهمزة جمع يمين ؛ والحسن : بكسرها ، مصدر آمن. ولما ذكر أنهم كاذبون ، أتبعهم بموجب كفرهم ، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم ، كما قال بعض الشعراء :

وما انتسبوا إلى الإسلام إلا

لصون دمائهم أن لا تسالا

ومن أيمانهم أيمان عبد الله ، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل ، وقال أعشى همدان :

إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة

من المال سار القوم كل مسير

وقال الضحاك : اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم. وقال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم ، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم. وقال السدي : (جُنَّةً) من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا ، (فَصَدُّوا) : أي أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ، (ذلِكَ) أي ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم. وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى : ساء عملهم بأن

١٧٩

كفروا. وقال الزمخشري : ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا ، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان ، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا. وقرأ الجمهور : (فَطُبِعَ) مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنيا للفاعل : أي فطبع الله ؛ وكذا قراءة الأعمش وزيد في رواية مصرحا بالله. ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميرا يعود على المصدر المفهوم من ما قبله ، أي فطبع هو ، أي بلعبهم بالدين. ومعنى (آمَنُوا) : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ، (ثُمَّ كَفَرُوا) : أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم : لئن كان محمد ما يقوله حقا فنحن شر من الحمير ، وقولهم : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم ، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو للسامع : أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم ، فكان منظرهم يروق ، ومنطقهم يحلو. وقرأ الجمهور : (تَسْمَعْ) بتاء الخطاب ؛ وعكرمة وعطية العوفي : يسمع بالياء مبنيا للمفعول ، و (لِقَوْلِهِمْ) : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وليست اللام زائدة ، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل ، تعدى باللام وليست زائدة ، فيكون قولهم هو المسموع. وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط ، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها ، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت ، أو شبهوا بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان ، والجملة التشبيهية مستأنفة ، أو على إضمارهم. وقرأ الجمهور : (خُشُبٌ) بضم الخاء والشين ؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين ، تخفيف خشب المضموم. وقيل : جمع خشباء ، كحمر جمع حمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في فساد بواطنهم. وقرأ ابن المسيب وابن جبير : خشب بفتحتين ، اسم جنس ، الواحد خشبة ، وأنث وصفه كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (١) ، أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام. وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير. قال الشاعر في مثل هؤلاء :

لا تخدعنك اللحى ولا الصور

تسعة أعشار من ترى بقر

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٧.

١٨٠