البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

النبات والمعادن وغيرها ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره ، (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها ، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) : أي بالعلم والقدرة. قال الثوري : المعني علمه معكم ، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها. وقال بعض العلماء : فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره ، وقد تأول هذه الآية ، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه. وقرأ الجمهور ؛ (تُرْجَعُ) ، مبنيا للمفعول ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج : مبنيا للفاعل ؛ والأمور عام في جميع الموجودات ، أعراضها وجواهرها. وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده ، فأغنى عن إعادته.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ، وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ).

لما ذكر تعالى تسبيح العالم له ، وما احتوى عليه من الملك ، والتصرف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلا ، وختمها بالعالم بخفيات الصدور ، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته ، والنفقة في سبيل الله تعالى. قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك. (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) : أي ليست لكم بالحقيقة ، وإنما انتقلت إليكم من غيركم. وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم ، وفيه تزهيد فيما بيد الناس ، إذ مصيره إلى غيره ، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت». وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل؟ فقال : هي لله تعالى عندي. أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال ، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى.

ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر ، ووصفه بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب.

١٠١

قيل : وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان ، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة ، ثم قال : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان؟ ودواعي ذلك موجودة ، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل. وموجب ذلك من السمع في قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) لهذا الوصف الجليل. وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان ، فدواعي الإيمان موجودة ، وأسبابه حاصلة ، فلا مانع منه ، ولا عذر في تركه. و (لا تُؤْمِنُونَ) حال ، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه؟ (وَالرَّسُولُ) : الواو واو الحال ، فالجملة بعده حال ، وقد أخذ حال ثالثة ، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام. وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : شرط وجوابه محذوف ، أي إن كنتم مؤمنين لموجب ما ، فهذا هو الموجب لإيمانكم ، أو إن كنتم ممن يؤمن ، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق. وقال الطبري : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن. وقرأ الجمهور : (وَقَدْ أَخَذَ) مبنيا للفاعل ، (مِيثاقَكُمْ) بالنصب ؛ وأبو عمرو : مبنيا للمفعول ، ميثاقكم رفعا. وقال ابن عطية : في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وإنما المعنى أن قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يقتضي أن يقدر بأثره ، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي إن دمتم على ما بدأتم به.

ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان ، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دعا به إلى الإيمان ، وذلك الآيات البينات المعجزات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي الله تعالى ، إذ هو المخبر عنه ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أقرب. وقرىء في السبعة : (يُنَزِّلُ) مضارعا ، فبعض ثقل وبعض خفف. وقراءة الحسن : بالوجهين ؛ وزيد بن علي والأعمش : أنزل ماضيا ، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيسا لهم.

ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق ، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه ، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك ، وهو أنهم يموتون فيخلفونه. ونبه على هذا الموجب بقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق. وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا ، فموضعه جر أو نصب على

١٠٢

الخلاف ، وأن ليست زائدة ، بل مصدرية. وقال الأخفش : في قوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) (١) ، إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل ، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن ، وتقديره : وما لكم لا تنفقون ، وقد رد مذهبه في كتب النحو.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه ، وكذا من تابعه في السبق في ذلك ، ولذلك قال : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً). وقيل : نزلت بسبب أن ناسا من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجرا من كل من أنفق. وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين. وقرأ الجمهور : (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) ؛ وزيد بن علي ، قيل : بغير من. والفتح : فتح مكة ، وهو المشهور ، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد. وقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبة ، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحا ، ورفعه أبو سعيد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية. والظاهر أن (مَنْ) فاعل (لا يَسْتَوِي) ، وحذف مقابله ، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوضوح المعنى.

(أُولئِكَ) : أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء المسلمين على أم القرى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». وأبعد من ذهب إلى الفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق ، أي لا يستوي ، هو الإنفاق ، أي جنسه ، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ؛ ومن أنفق مبتدأ ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة في موضع خبر من ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير موجب. وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة ، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل ، وهو يستوي. وقرأ الجمهور : (وَكُلًّا) بالنصب ، وهو المفعول الأول لوعد. وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي : وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع الخبر ، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام ، وورد في السبعة ، فوجب قبوله ؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة. وقال الشاعر :

وخالد تحمد ساداتنا

بالحق لا تحمد بالباطل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٦.

١٠٣

يريده : تحمده ساداتنا ، وفر بعضهم من جعل وعد خبرا فقال : كل خبر مبتدأ تقديره : وأولئك كل ، ووعد صفة ، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خبرا ، نحو قوله :

وما أدري أغيرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا

يريد : أصابوه ، فأصابوه صفة لمال ، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى : تأنيث الأحسن ، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة. والوعد يتضمن ذلك في الآخرة ، والنصر والغنيمة في الدنيا. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) : فيه وعد ووعيد.

وتقدم الكلام على مثل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) ، إعرابا وقراءة وتفسيرا ، في سورة البقرة. وقال ابن عطية : هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف ، أو على القطع والاستئناف. وقرأ عاصم : فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق. قال أبو علي ، يعني الفارسي : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة ، يعني من القراء ، حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ) بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ انتهى.

وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح ، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو : من يدعوني فأستجيب له؟ وأين بيتك فأزورك؟ ومتى تسير فأرافقك؟ وكيف تكون فأصحبك؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي ، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال ، لا عن الفعل. وحكى ابن كيسان عن العرب : أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك : كم مالك فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ بالنصب بعد الفاء. وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة ، والفعل وقع صلة للذي ، والذي صفة لذا ، وذا خبر لمن. وإذا جاز النصب في نحو هذا ، فجوازه في المثل السابقة أحرى ، مع أن سماع ابن كيسان ذلك محكيا عن العرب يؤيد ذلك. والظاهر أن قوله : (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض ، أي وله مع التضعيف أجر كريم.

قوله عزوجل : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا

١٠٤

نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ، يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

العامل في يوم ما عمل في لهم ؛ التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى ، أو اذكر يوم ترى إعظاما لذلك اليوم. والرؤية هنا رؤية عين ، والنور حقيقة ، وهو قول الجمهور ، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار ، وأن كل مظهر من الإيمان له نور ، فيطفىء نور المنافق ، ويبقى نور المؤمن ، وهم متفاوتون في النور. منهم من يضيء ، كما بين مكة وصنعاء ، ومن نوره كالنخلة السحوق ، ومن يضيء له ما قرب قدميه. ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة ، وذلك على قدر الأعمال. وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ، ويكون أيضا بأيمانهم ، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم ، ونور بأيمانهم ؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها ، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات. وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم ، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور. وقيل : الباء بمعنى عن ، أي عن أيمانهم ، والمعنى : في جميع جهاتهم. وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفا لها. وقال الزمخشري : وإنما قال (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. وقرأ الجمهور : (وَبِأَيْمانِهِمْ) ، جمع يمين ؛ وسهل بن شعيب السهمي ، وأبو حيوة : بكسر الهمزة ، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف ، أي كائنا بين أيديهم ، وكائنا بسبب أيمانهم.

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) : جملة معمولة لقول محذوف ، أي تقول لهم الملائكة : الذين يتلقونهم جنات ، أي دخول جنات. قال ابن عطية : (خالِدِينَ فِيها) ، إلى آخر الآية ، مخاطبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى. ولا مخاطبة هنا ، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في (بُشْراكُمُ) إلى ضمير الغيبة في (خالِدِينَ). ولو جرى على الخطاب ، لكان التركيب خالدا أنتم فيها ، والالتفات من فنون البيان (يَوْمَ يَقُولُ) بدل من (يَوْمَ تَرَى). وقيل : معمول لا ذكر. قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، ومجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى. فظاهر كلامه

١٠٥

وتقديره أن يوم منصوب بالفوز ، وهو لا يجوز ، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته ، فلا يجوز إعماله. فلو أعمل وصفه ، وهو العظيم ، لجاز ، أي الفوز الذي عظم ، أي قدره (يَوْمَ يَقُولُ).

(انْظُرُونا) : أي انتظرونا ، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط ، وقد طفئت أنوارهم ، قالوا ذلك. قال الزمخشري : (انْظُرُونا) : انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا ، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. انتهى. فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا ، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه ، وإنما وجد متعديا بنفسه في الشعر. وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعيا ، أي أخرونا ، أي اجعلونا في آخركم ، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا ، ولا نلحق بكم. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) : أي نصب منه حتى نستضيء به. ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبسا. (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) : القائل المؤمنون ، أو الملائكة. والظاهر أن (وَراءَكُمْ) معمول لارجعوا. وقيل : لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا ، كقولهم : وراءك أوسع لك ، أي ارجع تجد مكانا أوسع لك. وارجعوا أمر توبيخ وطرد ، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك ، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا ، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو تنحوا عنا ، (فَالْتَمِسُوا نُوراً) غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه. وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) : أي بين المؤمنين والمنافقين ، (بِسُورٍ) : بحاجز. قال ابن زيد : هو الأعراف. وقيل : حاجز غيره. وقرأ الجمهور : فضرب مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير : مبنيا للفاعل ، أي الله ، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس ، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار ، ولعله لا يصح عنهم. والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو. والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه. وقيل : على السور ، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة ، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب.

(يُنادُونَهُمْ) : استئناف إخبار ، أي ينادون المنافقون المؤمنين ، (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) : أي في الظاهر ، (قالُوا بَلى) : أي كنتم معنا في الظاهر ، (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم ، (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر ، أو

١٠٦

تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، قاله قتادة ، (وَارْتَبْتُمْ) : شككتم في أمر الدين ، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) : وهي الأطماع ، مثل قولهم : سيهلك محمد هذا العام ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلى غير ذلك ، أو طول الآمال في امتداد الأعمار ، (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) ، وهو الموت على النفاق ، والغرور : الشيطان بإجماع. وقرأ سماك بن حرب : الغرور ، وتقدم ذلك.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أيها المنافقون ، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، في الحديث : «إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا ، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك». وقرأ الجمهور : لا يؤخذ ؛ وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو : بالتاء لتأنيث الفدية. (هِيَ مَوْلاكُمْ) ، قيل : أولى بكم ، وهذا تفسير معنى. وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم ، وهي تكون لكم مكان المولى ، ونحوه قوله :

تحية بينهم ضرب وجيع

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها. والمراد نفي الناصر على البتات ، ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) (١). وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ، اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢٩.

١٠٧

مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

عن عبد الله : ملت الصحابة ملة ، فنزلت (أَلَمْ يَأْنِ). وعن ابن عباس : عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة. وقيل : كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت. وقرأ الجمهور : (أَلَمْ) ؛ والحسن وأبو السمال : ألما. والجمهور : (يَأْنِ) مضارع أنى حان ؛ والحسن : يئن مضارع أن حان أيضا ، والمعنى : قرب وقت الشيء. (أَنْ تَخْشَعَ) : تطمئن وتخبت ، وهو من عمل القلب ، ويظهر في الجوارح. وفي الحديث : «أول ما يرفع من الناس الخشوع». (لِذِكْرِ اللهِ) : أي لأجل ذكر الله ، كقوله : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (١). قيل : أو لتذكير الله إياهم. وقرأ الجمهور : وما نزل مشددا ؛ ونافع وحفص : مخففا ؛ والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس ، وعباس عنه : مبنيا للمفعول مشددا ؛ وعبد الله : أنزل بهمزة النقل مبنيا للفاعل. والجمهور : (وَلا يَكُونُوا) بياء الغيبة ، عطفا على (أَنْ تَخْشَعَ) ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه : ولا تكونوا على سبيل الالتفات ، إما نهيا ، وإما عطفا على (أَنْ تَخْشَعَ). (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) ، وهم معاصر وموسى عليه‌السلام من بني إسرائيل. حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب ، إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا ، (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) : أي انتظار الفتح ، أو انتظار القيامة. وقيل : أمد الحياة. وقرأ الجمهور : الأمد مخفف الدال ، وهي الغاية من الزمان ؛ وابن كثير : بشدها ، وهو الزمان بعينه الأطول. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) : صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة.

(يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها. كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع. وقرأ الجمهور : (الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) ، بشدّ صاديهما ؛ وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون : بخفهما ؛ وأبيّ : بتاء قبل الصاد فيهما ، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة ، والخف من التصديق ، صدّقوا رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغ عن الله تعالى. قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢.

١٠٨

قوله : (وَأَقْرَضُوا)؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا. انتهى. واتبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ولا يصح أن يكون معطوفا على المصدقين ، لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقد فصل بينهما بمعطوف ، وهو قوله : (وَالْمُصَّدِّقاتِ). ولا يصح أيضا أن يكون معطوفا على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر ، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث ، وضمير وأقرضوا مذكر ، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه ، لأنه قيل : والذين أقرضوا ، فيكون مثل قوله :

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواه

يريد : ومن يمدحه ، وصديق من أبنية المبالغة. قال الزجاج : ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي. وقيل : يجيء من غير الثلاثي كمسيك ، وليس بشيء ، لأنه يقال : مسك وأمسك ، فمسيك من مسك. (وَالشُّهَداءُ) : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده ، فيقف على الصديقون ، وإن شئت فهو من عطف الجمل ، وهذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك. إن الكلام تام في قوله : (الصِّدِّيقُونَ) ، واختلف هؤلاء ، فبعض قال : الشهداء هم الأنبياء ، يشهدون للمؤمنين بالصدّيقية لقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (١) الآية ؛ وبعض قال : هم الشهداء في سبيل الله تعالى ، استأنف الخبر عنهم ، فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده لعظم أجرهم. وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : والشهداء معطوف على الصديقون ، والكلام متصل ، يعنون من عطف المفردات ، فبعض قال : جعل الله كل مؤمن صديقا وشهيدا ، قاله مجاهد. وفي الحديث ، من رواية البراء : «مؤمنو أمتي شهداء» ، وإنما ذكر الشهداء السبعة تشريفا لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفرد به ، وبعض قال : وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٢). (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) : خبر عن الشهداء فقط ، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين. والظاهر في نورهم أنه حقيقة. وقال مجاهد وغيره : عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) : أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدوم ولا تجدي ، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود ، فليس مندرجا في

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

١٠٩

هذه الآية. (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ، كحالة المترفين من الملوك. (وَزِينَةٌ) : تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء. (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) : قراءة الجمهور بالتنوين ونصب بينكم ، والسلمي بالإضافة. (وَتَكاثُرٌ) بالعدد والعدد على عادة الجاهلية ، وهذه كلها محقرات ، بخلاف أمر الآخرة ، فإنها مشتملة على أمور حقيقية عظام. قال الزمخشري : وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقضيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليهم العاهة ، فهاج واصفر وصار حطاما ، عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. انتهى.

وقال ابن عطية : (كَمَثَلِ) في موضع رفع صفة لما تقدّم. وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فينشف ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله ودينه ، ويموت ويضمحلّ أمره ، وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل. انتهى. قيل : الكفار : الزراع ، من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة. وقيل : من الكفر بالله ، لأنهم أشدّ تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها ؛ وحطام : بناء مبالغة كعجاب. وقرىء : مصفارا. ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم.

قوله عزوجل : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

ولما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة ، أمر بالمسابقة إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة ، وهو الإيمان وعمل الطاعات. وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع ؛ فقال

١١٠

عبد الله : كونوا في أول صف في القتال. وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام. وقال علي : كن أول داخل في المسجد وآخر خارج. واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرون إلى غاية مسابقين إليهم. (عَرْضُها) : أي مساحتها في السعة ، كما قال : فذو دعاء عريض ، أو العرض خلاف الطول. فإذا وصف العرض بالبسطة ، عرف أن الطول أبسط وأمد. (أُعِدَّتْ) : يدل على أنها مخلوقة ، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك ، والسنة ناصة على ذلك ، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم : إنها الآن غير مخلوقة وستخلق. (ذلِكَ) : أي الموعود من المغفرة والجنة ، (فَضْلُ اللهِ) : عطاؤه ، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : وهم المؤمنون.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) : أي مصيبة ، وذكر فعلها ، وهو جائز التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) (١). ولفظ مصيبة يدل على الشر ، لأن عرفها ذلك. قال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة ، وهو استعمالها في الشر ، وخصصها بالذكر لأنها أهم على البشر. والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع ، وفي الأنفس : الأسقام والموت. وقيل : المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خير وشر ، (إِلَّا فِي كِتابٍ) : هو اللوح المحفوظ ، أي مكتوبة فيه ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) : أي نخلقها. برأ : خلق ، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة ، لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة. وقيل : يعود على الأرض. وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة. وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر. قال ابن عطية : وهي كلها معارف صحاح ، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها. انتهى. (إِنَّ ذلِكَ) : أي يحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره ، (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي سهل ، وإن كان عسيرا على العباد.

ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) : أي تحزنوا ، (عَلى ما فاتَكُمْ) ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة. ويظهر أن المراد بقوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور. (وَلا تَفْرَحُوا بِما

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٥ ، وسورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٣.

١١١

آتاكُمْ) : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) ، فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه. وأما الحزن على ما فات من طاعة الله ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه.

وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا ، ومن أصاب خيرا جعله شكرا. انتهى ، يعني هو المحمود. وقال الزمخشري : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر. فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به. انتهى. وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم ؛ وعبد الله : أوتيتم ، مبنيا للمفعول : أي أعطيتم ؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعا ما ، فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة. قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش. انتهى.

عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة. وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن ما أمر الله به. وقرأ الجمهور : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ) ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة. فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلا ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ. انتهى. يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيدا هو الفاضل ،

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٦.

١١٢

فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبرا لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط. ونظيره : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) (١) ، لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف. وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك. ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) (٢) بضم التاء ، والقراءة الأخرى : (بِما وَضَعَتْ) بتاء التأنيث؟ فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة. فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم ، والبينات : الحجج والمعجزات. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) : الكتاب اسم جنس ، ومعهم حال مقدرة ، أي وأنزلنا الكتاب صائرا معهم ، أي مقدرا صحبته لهم ، لأن الرسل منزلين هم والكتاب. ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري ، فسر الرسل بغير ما فسرناه ، فقال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) ، يعنى : الملائكة ، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات ، (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) : أي الوحي ، (وَالْمِيزانَ). وروي أن جبريل عليه‌السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) ، قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة. وروي : ومعه المسن والمسحاة. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد والنار والماء والملح. انتهى. وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل ، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس ، وهذا جزء من العدل. (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط ، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معا ، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف ، فإنه لا جور في شيء منها ، ولذلك جاء : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) (٣).

__________________

(١) سورة الماعون : ١٠٧ / ٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٦.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٨.

١١٣

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) : عبر عن إيجاده بالإنزال ، كما قال : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) (١). وأيضا فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولا منها ، قاله ابن عطية. وقال الجمهور : أراد بالحديد جنسه من المعادن. وقال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) : أي السلاح الذي يباشر به القتال ، (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) : في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد. (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل ، وبإقامة العدل ، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله. قال ابن عطية : أي ليعلمه موجودا ، فالتغير ليس في علم الله ، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود. وقوله : (بِالْغَيْبِ) معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه ، فآمن بها لقيام الأدلة عليها.

ولما قال تعالى : (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) ، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته ، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم ، وتحصيل ما يترتب لهم من الثواب. وقال ابن عطية : ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله ، وأنزل كتبا وعدلا مشروعا ، وسلاحا يحارب به من عاند ولم يهتد يهدي الله ، فلم يبق عذر. وفي الآية ، على هذا التأويل ، حث على القتال.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ، ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة ، أفرد منهم في هذه الآية نوحا وإبراهيم ، عليهما‌السلام ، تشريفا لهما بالذكر. أما نوح ، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض ؛ وأما إبراهيم ، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو معظم في كل الشرائع. ثم ذكر

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦.

١١٤

أشرف ما حصل لذريتهما ، وذلك النبوة ، وهي التي بها هدي الناس من الضلال ؛ (وَالْكِتابَ) ، وهي الكتب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه‌السلام ، وإبراهيم من ذرية نوح ، فصدق أنها في ذريتهما. وفي مصحف عبد الله : والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو. وقال ابن عباس : (وَالْكِتابَ) : الخط بالقلم ، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية. وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم. ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك ، انقسموا إلى مهتد وفاسق ، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم.

(ثُمَّ قَفَّيْنا) : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم ، (عَلى آثارِهِمْ) : أي آثار الذرية ، (بِرُسُلِنا) : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية ، (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى) : ذكره تشريفا له ، ولانتشار أمته ، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه. وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران. قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له. انتهى ، وهي لفظة أعجمية ، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب. وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل ، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي ؛ وأما الإنجيل فأعجمي. وقرىء : رافة على وزن فعالة ، (وَجَعَلْنا) : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ، كقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) ، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، فيكون (فِي قُلُوبِ) : في موضع المفعول الثاني لجعلنا. (وَرَهْبانِيَّةً) معطوف على ما قبله ، فهي داخلة في الجمل. (ابْتَدَعُوها) : جملة في موضع الصفة لرهبانية ، وخصت الرهبانية بالابتداع ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتكسب. قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله والرهبانية هم ابتدعوها ؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاذ الصوامع. وجعل أبو علي الفارسي (وَرَهْبانِيَّةً) مقتطعة من العطف على ما قبلها من (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) ، فانتصب عنده (وَرَهْبانِيَّةً) على إضمار فعل يفسره ما بعده ، فهو من باب الاشتغال ، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها. واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها. انتهى ، وهذا إعراب المعتزلة ، وكان أبو عليّ معتزليا. وهم يقولون : ما كان مخلوقا لله لا يكون مخلوقا للعبد ، فالرأفة والرحمة من خلق الله ، والرهبانية من ابتداع الإنسان ، فهي

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١.

١١٥

مخلوقة له. وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : (وَرَهْبانِيَّةً) ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة.

وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق : ففرقة قاتلت الملوك على الدين فغلبت وقتلت ؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل ، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي ، وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت. والرهبانية : الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف بني فعلان من رهب ، كالخشيان من خشي. وقرىء : ورهبانية بالضم. قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب ، كراكب وركبان. انتهى. والأولى أن يكون منسوبا إلى رهبان وغير بضم الراء ، لأن النسب باب تغيير. ولو كان منسوبا إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده ، فكان يقال : راهبية ، إلا إن كان قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار. والظاهر أن (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ) الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله ، وصار المعنى : أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته ، وهذا قول مجاهد ، ويكون كتب بمعنى قضى. وقال قتادة وجماعة : المعنى : لم يفرضها عليهم ، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى ، فالاستثناء على هذا منقطع ، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى. والظاهر أن الضمير في (رَعَوْها) عائد على ما عاد عليه في (ابْتَدَعُوها) ، وهو ضمير (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه. وقال نحوه ابن زيد ، قال : لم يدوموا على ذلك ، ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى : فما رعوها بأجمعهم. وقال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم. وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) : وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه‌السلام. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) : وهم الذين لم يرعوها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : الظاهر أنه نداء لمن آمن من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمعنى آمنوا : دوموا واثبتوا ، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور ملتبسا بما أمر به. (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) ، قال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة. انتهى ، والمعنى : أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ

١١٦

مَرَّتَيْنِ) (١) ، إذ أنتم مثلهم في الإيمانين ، لا تفرقوا بين أحد من رسله. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت. وقيل : النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ، آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤتكم الله كفلين ، أي نصيبين من رحمته ، وذلك لإيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيمانكم بمن قبله من الرسل. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) : وهو النور المذكور في قوله : (يَسْعى نُورُهُمْ) ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي. ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح : «ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي» ، الحديث.

ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلا قط. وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم ، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب ، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها ، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه ، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به. ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون. وقرأ الجمهور : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، ولا زائدة كهي في قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (٢) ، وفي قوله : (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣) في بعض التأويلات. وقرأ خطاب بن عبد الله : لأن لا يعلم ؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة : على اختلاف ليعلم ؛ والجحدري : لينيعلم ، أصله لأن يعلم ، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة ، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة. وروى ابن مجاهد عن الحسن : ليلا مثل ليلى اسم المرأة ، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة ، فحذفت الهمزة ، اعتباطا ، وأدغمت النون في اللام ، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها ، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار ليلا ، ورفع الميم ، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وقطرب عن الحسن أيضا : لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله ، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر. وعن ابن عباس : كي يعلم ، وعنه : لكيلا يعلم ، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة : لكي يعلم. وقرأ الجمهور : أن لا يقدرون بالنون ، فإن هي المخففة من الثقيلة ؛ وعبد الله بحذفها ، فإن الناصبة للمضارع ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥٤.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٢.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٥.

١١٧

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا

١١٨

جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

١١٩

الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)

فسح في المجلس : وسع لغيره. (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هذه السورة مدنية. قال الكلبي : إلا قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ). وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي. قرأ الجمهور : (قَدْ سَمِعَ) بالبيان ؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : بالإدغام ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع ، فبين الدال عند السين ، فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا القول ؛ فالجمهور على البيان. والتي تجادل خولة بنت ثعلبة ، ويقال بالتصغير ، أو خولة بنت خويلد ، أو خولة بنت حكيم ، أو خولة بنت دليج ، أو جميلة ، أو خولة بنت الصامت ، أقوال للسلف. وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة. وقيل : سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته. قالت زوجته : يا رسول الله ، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني ، فقال لها : «ما أراك إلا قد حرمت عليه» ، فقالت : يا رسول الله لا تفعل ، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال ذلك تقول :

١٢٠