البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

لا يفلح. (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) : وتقدم الكلام على هذا في سورة النمل. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) : سأل أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له ، كأنه قال : هب لي الصلاح في ذريتي ، فأوقعه فيهم ، أو ضمن : وأصلح لي معنى : وألطف بي في ذريتي ، لأن أصلح يقتدي بنفسه لقوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) (١) ، فلذلك احتج قوله : (فِي ذُرِّيَّتِي) إلى التأويل. قيل : نزلت في أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وتتناول من بعده ، وهو مشكل ، لأنها نزلت بمكة ، وأبوه أسلم عام الفتح. ولقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) : فلم يقصد بذلك أبو بكر ولا غيره. والمراد بالإنسان الجنس ، ولذلك أشار يقوله : (أُولئِكَ) جمعا. وقرأ الجمهور : يتقبل مبنيا للمفعول ، أحسن رفعا ، وكذا ويتجاوز ؛ وزيد بن علي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وأبو جعفر ، والأعمش : بخلاف عنه. وحمزة ، والكسائي ، وحفص : نتقبل أحسن نصبا ، ونتجاوز بالنون فيهما ؛ والحسن ، والأعمش ، وعيسى : بالياء فيهما مفتوحة ونصب أحسن.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) ، قيل : في بمعنى مع ؛ وقيل : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، يريد في جملة من أكرم منهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة. وانتصب (وَعْدَ الصِّدْقِ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأن قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ) ، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز ، لما ذكر الإنسان البار بوالديه وما آل إليه من الخير ، ذكر العاق بوالديه وما آل إليه من الشر. والمراد بالذي : الجنس ، ولذلك جاء الخبر مجموعا في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ). وقال الحسن : هو الكافر العاق بوالديه المنكر البعث. وقول مروان بن الحكم ، واتبعه قتادة : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قول خطأ ناشىء عن جور ، حين دعا مروان ، وهو أمير المدينة ، إلى مبايعة يزيد ، فقال عبد الرحمن : جعلتموها هرقلية؟ كلما مات هرقل ولى ابنه ، وكلما مات قيصر ولى ابنه؟ فقال مروان : خذوه ، فدخل بيت أخته عائشة رضي‌الله‌عنها ، وقد أنكرت ذلك عائشة فقالت ، وهي المصدوقة : لم ينزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي ؛ وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته. وصدت مروان وقالت : ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله. ويدل على فساد هذا القول أنه قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ، وهذه

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.

٤٤١

صفات الكفار أهل النار ، وكان عبد الرحمن من أفاضل الصحابة وسراتهم وأبطالهم ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره.

(أُفٍّ لَكُما) : تقدم الكلام على أف مدلولا ولغات وقراءة في سورة الإسراء ، واللام في لكما للبيان ، أي لكما ، أعني : التأفيف. وقرأ الجمهور : (أَتَعِدانِنِي) ، بنونين ، الأولى مكسورة ؛ والحسن ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وفي رواية ؛ وهشام : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية. وقرأ نافع في رواية ، وجماعة : بنون واحدة. وقرأ الحسن ، وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه ؛ وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، وهارون بن موسى ، عن الجحدري ، وسام ، عن هشام : بفتح النون الأولى ، كأنهم فروا من الكسرتين ، والياء إلى الفتح طلبا للتخفيف ففتحوا ، كما فر من أدغم ومن حذف. وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط. (أَنْ أُخْرَجَ) : أي أخرج من قبري للبعث والحساب. وقرأ الجمهور : أن أخرج ، مبنيا للمفعول ؛ والحسن ، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن مصرف ، والضحاك : مبنيا للفاعل.

(وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) : أي مضت ، ولم يخرج منهم أحد ولا بعث. وقال أبو سليمان الدمشقي : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) مكذبة بالبعث. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) ، يقال : استغثت الله واستغثت بالله ، والاستعمالان في لسان العرب. وقد رددنا على ابن مالك إنكار تعديته بالباء ، وذكرنا شواهد على ذلك في الأنفال ، أي يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : (وَيْلَكَ) ، دعاء عليه بالثبور ؛ والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. وقيل : ويلك لمن يحقر ويحرك لأمر يستعجل إليه. وقرأ الأعرج ، وعمرو بن فائدة : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) ، بفتح الهمزة ، أي : آمن بأن وعد الله حق ، والجمهور بكسرها ، (فَيَقُولُ ما هذا) : أي ما هذا الذي يقول؟ أي من الوعد بالبعث من القبور ، إلا شيء سطره الأولون في كتبهم ، ولا حقيقة له. قال ابن عطية : وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنفى الله أقواله تحذيرا من الوقوع في مثلها.

وقوله : (أُولئِكَ) ، ظاهره أنه إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : (وَالَّذِي قالَ) ، ويحتمل أن تكون الآية في مشار إليه ، ويكون قوله في أولئك بمعنى صنف هذا المذكور وجنسه هم : (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي قول الله أنه يعذبهم (فِي أُمَمٍ) ، أي جملة : (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ، يقتضي أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. وقال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت.

٤٤٢

وقرأ العباس ، عن أبي عمرو : أنهم كانوا ، بفتح الهمزة ، والجمهور بالكسر. (وَلِكُلٍ) : أي من المحسن والمسيء ، (دَرَجاتٌ) غلب درجات ، إذ الجنة درجات والنار دركات ، والمعنى : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منها. قال ابن زيد : درجات المحسنين تذهب علوا ، ودرجات المسيئين تذهب سفلا. انتهى. والمعلل محذوف تقديره : وليوفيهم أعمالهم قدر جزائهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات. وقرأ الجمهور : وليوفيهم بالياء ، أي الله تعالى ؛ والأعمش ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والإخوان ، وابن ذكوان ، ونافع : بخلاف عنه بالنون ؛ والسلمي : بالتاء من فوق ، أي ولنوفيهم الدرجات ، أسند التوفية إليها مجازا.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ، وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ) : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به. والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر. وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب ، فأي ضرورة ندعو إليه؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض ، وعرض الحوض على الناقة ، كل منهما صحيح ؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وقرأ الجمهور :

٤٤٣

أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ). وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية. وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء. والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.

وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها ، والأخذ بالتقشف ، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصلائق ، ولكن استبقي حسناتي ؛ فإن الله عزوجل وصف أقواما فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ). والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض. قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ؛ ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرىء : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحدة. ثم بين تلك الكناية بقوله : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) : أي تترفعون عن الإيمان ؛ (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب ، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب. ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالا رأشد قوة وأعظم جاها فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك ، أهل مكة ، هودا عليه‌السلام ، (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) عادا عذبهم الله (بِالْأَحْقافِ). قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت. وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن. وقيل : بين مهرة وعدن. وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني.

٤٤٤

وقال ابن عباس : هي جبل بالشام. قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) (١) ، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هودا عليه‌السلام. والجملة من قوله : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) : وهو جمع نذير ، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ، يحتمل أن تكون حالا من الفاعل في : (النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى (وَمِنْ خَلْفِهِ) : أي من بعد إنذاره ؛ ويحتمل أن يكون اعتراضا بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا. والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم.

(قالُوا أَجِئْتَنا) : استفهام تقرير ، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة. (لِتَأْفِكَنا) : لتصرفنا ، قاله الضحاك ؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب. ألا ترى إلى قوله : بل هو ما استعجلتم به؟ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إليّ ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم. ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة. وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا. والضمير في (رَأَوْهُ) الظاهر أنه عائد على ما في قوله : (بِما تَعِدُنا) ، وهو العذاب ، وانتصب عارضا على الحال من المفعول. وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم ، الذي فسره قوله : (عارِضاً).

وقال الزمخشري : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهما ، قد وضح أمره بقوله : (عارِضاً) ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلا لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما عمرو. وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحدا ذهب إليه ، وقد حصر النحاة المضمر الذي

__________________

(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٧.

٤٤٥

يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه. والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر :

يا من رأى عارضا أرقت له

بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى :

يا من رأى عارضا قد بث أرمقه

كأنها البرق في حافاتها الشعل

(مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) : هو جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل. الاسم شاذ نحو : ناد وأندية ، وجائز وأجوزة. والجائز : الخشبة الممتدة في أعلى السقف ، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف ، فلذلك نعت بهما النكرة. (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ) : أي قال لهم هو ذلك ، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به ، أضرب عن قولهم : (عارِضٌ مُمْطِرُنا) ، وأخبر بأن العذاب فاجأهم ، ثم قال : (رِيحٌ) : أي هي ريح بدل من هو. وقرأ : ما استعجلتم ، بضم التاء وكسر الجيم ، وتقدمت قصص في الريح ، فأغنى عن ذكرها هنا. (تُدَمِّرُ) : أي تهلك ، والدمار : الهلاك ، وتقدم ذكره. وقرأ زيد بن عليّ : تدمر ، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم. وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل ، أي يهلك كل شيء ، وكل شيء عام مخصوص ، أي من نفوسهم وأموالهم ، أو من أمرت بتدميره. وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى. وقرأ الجمهور : لا ترى بتاء الخطاب ، إلا مساكنهم ، بالنصب ؛ وعبد الله ، ومجاهد ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، وطلحة ، وعيسى ، والحسن ، وعمرو بن ميمون : بخلاف عنهما ؛ وعاصم ، وحمزة : لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع. وأبو رجاء ، ومالك بن دينار : بخلاف عنهما. والجحدري ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، والسلمي : بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع ، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر ، وبعضهم يجيزه في الكلام. وقال ذو الرمة :

كأنه جمل همّ وما بقيت

إلا النخيرة والألواح والعصب

وقال آخر :

فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد. وروي هذا عن

٤٤٦

الأعمش ، ونصر بن عاصم. وقرىء : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفردا منصوبا ، واجتزئ بالمفرد عن الجمع تصغيرا لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد. ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشا على سبيل الموعظة فقال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) ، وإن نافية ، أي في الذي ما مكانهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ؛ ولم يكن النفي بلفظ ما ، كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى. وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكم فيه طغيتم. وقيل : إن زائدة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله :

يرجى المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم ، فيه ، وكونها نافية هو الوجه ، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً) (١) ، وقوله : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٢) ، وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار. ثم عدد نعمه عليهم ، وأنها لم تغن عنهم شيئا ، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل. وقيل : ما استفهام بمعنى التقرير ، وهو بعيد كقوله : (مِنْ شَيْءٍ) ، إذ يصير التقدير : أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء ، فتكون من زيدت في الموجب ، وهو لا يجوز على الصحيح ، والعامل في إذ أغنى. ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت : أكرمت زيدا لإحسانه إليّ ، أو إذ أحسن إليّ. استويا في الوقت ، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل ، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك ، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ ، وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٨٢.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٧٤.

٤٤٧

كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ، فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم ، والذي حولهم من القرى : مأرب ، وحجر ، ثمود ، وسدوم. ويريد من أهل القرى : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) ، أي الحجج والدلائل والعظات لأهل تلك القرى ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان ، فلم يرجعوا. (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك؟ (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) : أي اتخذوهم ، (مِنْ دُونِ اللهِ ، قُرْباناً) : أي في حال التقرب وجعلهم شفعاء. (آلِهَةً) : وهو المفعول الثاني لا تخذوا ، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول. وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا آلهة بدل منه. وقال الزمخشري : وقربانا حال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدل منه ، لفساد المعنى. انتهى. ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى ، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. وأجاز الحوفي أيضا أن يكون قربانا مفعولا من أجله.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) : أي غابوا عن نصرتهم. وقرأ الجمهور : إفكهم ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف ؛ وابن عباس في رواية : بفتح الهمزة. والإفك مصدر إن. وقرأ ابن عباس أيضا ، وابن الزبير ، والصباح بن العلاء الأنصاري ، وأبو عياض ، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان بن مرة ، ومجاهد : إفكهم ، بثلاث فتحات : أي صرفهم ؛ وأبو عياض ، وعكرمة أيضا : كذلك ، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ؛ وابن الزبير أيضا ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه : آفكهم بالمد ، فاحتمل أن يكون فاعل. فالهمزة أصلية ، وأن يكون أفعل ، فالهمزة للتعدية ، أي جعلهم يأفكون ، ويكون أفعل بمعنى المجرد. وعن الفراء أنه قرىء : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الإفك ؛ وابن عباس ، فيما روى قطرب ، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من آفك ، أي صارفهم ، والإشارة بذلك على من قرأ : إفكهم مصدرا إلى اتخاذ الأصنام آلهة ، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم. وقال الزمخشري : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. انتهى. وعلى قراءة من جعله فعلا معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ،

٤٤٨

وكذلك قراءة اسم الفاعل ، أي صارفهم عن الحق. ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي وافتراؤهم ، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي يفترونه.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة. والجن توصف أيضا بذلك ، كما قال تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (١). وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه. والجن أيضا من العالم الذي لا يشاهد. وإن هودا عليه‌السلام كان من العرب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها. وفيها أيضا توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم. وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به.

(وَإِذْ صَرَفْنا) : وجّهنا إليك. وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال. (نَفَراً مِنَ الْجِنِ) ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار. قال ابن عباس : كانوا سبعة ، منهم زوبعة. والذي يجمع اختلاف الروايات ، أن قصة الجن كانت مرتين.

إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير. فروى أن الجن كانت تسترق السمع ؛ فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث. وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي ؛ فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر ؛ فأنبأه الله باستماعهم.

والمرة الأخرى : أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : «إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني» ، قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون ، خط لي خطا وقال :

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٣٩.

٤٤٩

«لا تخرج منه حتى أعود إليك» ، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : «هل رأيت شيئا»؟ قلت : نعم ، رجالا سودا مستثفري ثياب بيض ، فقال : «أولئك جن نصيبين». وكانوا اثني عشر ألفا ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول الله ، سمعت لهم لغطا ، فقال : «إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق». وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ) : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. (قالُوا أَنْصِتُوا) : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور : (فَلَمَّا قُضِيَ) : مبنيا للمفعول ؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنيا للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالها ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما.

(مِنْ بَعْدِ مُوسى) : أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى ، وهذا لا يصح عن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) تنبيها لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل. و (إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) : غاير بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، (وَآمِنُوا بِهِ) : يعود على الله.

٤٥٠

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : من للتبعيض ، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم ، قال معناه الزمخشري. وقيل : من زائدة ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، فلا يبقى معه تبعة. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب ، وكذا قال ابن عباس : لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار ، وإليه كان يذهب أبو حنيفة. (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) : أي بفائت من عقابه ، إذ لا منجا منه ، ولا مهرب ، كقوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١). وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم. وقرأ الجمهور : (وَلَمْ يَعْيَ) ، مضارع عيي ، على وزن فعل ، بكسر العين ؛ والحسن : ولم يعي ، بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة ، كما قالوا في بقي : بقا ، وهي لغة لطيئ. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين ، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين ، فجاء يعني. فلما دخل الجازم ، حذف الياء ، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين ، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأ الجمهور : (بِقادِرٍ) : اسم فاعل ، والباء زائدة في خبر أن ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجاز الزجاج : ما ظننت أن أحدا بقائم ، قياسا على هذا ، والصحيح قصر ذلك على السماع ، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقررا لإحياء الموتى لا لرؤيتهم؟ وقرأ الجحدري ، وزيد بن علي ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى ، والأعرج : بخلاف عنه ؛ ويعقوب : يقدر مضارعا.

(أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) : أي يقال لهم ، والإشارة بهذا إلى العذاب. أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون ، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ*) (٢). (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) ، تصديق حيث لا ينفع. وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم ، يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله. فلا تستعجل أنت واصبر ، ولا تخف إلا الله. وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل ، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. فتكون من للتبعيض ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان ، أي الذين هم الرسل ، ويكون الرسل كلهم أولي

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ١٢.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٣٨ ، وسورة سبأ : ٣٤ / ٣٥ ، وسورة الصافات : ٣٧ / ٥٩.

٤٥١

العزم ؛ وأولوا العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل ؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل ، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي ، وللبيان قول ابن زيد. وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام ، لأنه قال عقب ذكرهم : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١). وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلا ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر نفسه على الذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل ، ويوسف صبر على السجن والبئر ، وأيوب على البلاء. وزاد غيره : وموسى قال قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢) ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر ، فاعبروها ولا تعمروها.

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) : أي لكفار قريش بالعذاب ، أي لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا ، كأنهم (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً). وقرأ أبيّ : من النهار ؛ وقرأ الجمهور : من نهار. وقرأ الجمهور : بلاغ ، بالرفع ، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها ، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم ، كما قال تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ*) (٣) ، فبلاغ خبر مبتدأ محذوف. قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع ، أي هذا بلاغ ، أي تبليغ وإنذار. وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم ؛ ويقف على فلا تستعجل ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، إذ ظاهر قوله : لهم ، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم ، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ. وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى : بلاغا بالنصب ، فاحتمل أن يراد : بلاغا في القرآن ، أي بلغوا بلاغا ، أو بلغنا بلاغا. وقرأ الحسن أيضا : بلاغ بالجر ، نعتا لنهار. وقرأ أبو مجلز ، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر ، للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعا ونصبا على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع. وعن أبي مجلز أيضا : بلغ فعلا ماضيا. وقرأ الجمهور : يهلك ، بضم الياء وفتح اللام ، وابن محيصن ، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام ؛ وعنه أيضا : بفتح الياء واللام ، وماضيه هلك بكسر اللام ، وهي لغة. وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت : يهلك ، بضم الياء وكسر اللام. (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) : بالنصب ، وفي هذه الآية وعيد وإنذار.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٠.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦١ ـ ٦٢.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١١٧.

٤٥٢

سورة محمّد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ

٤٥٣

الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ

٤٥٤

وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)

البال : الفكر ، تقول : خطر في بالي كذا ، ولا يثنى ولا يجمع ، وشذ قولهم : بآلات في جمعه. تعس الرجل ، بفتح العين ، تعسا : ضد تنعش ، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال :

تقول وقد أفردتها من حليلها

تعست كما أتعستني يا مجمع

وقال قوم ، منهم عمرو بن شميل ، وأبو الهيثم : تعس ، بكسر العين. وعن أبي عبيدة : تعسه الله وأتعسه : في باب فعلت وأفعلت. وقال ابن السكيت : التعس : أن يجز على الوجه ، والنكس : أن يجر على الرأس. وقال هو أيضا ، وثعلب : التعس : الهلاك. وقال الأعشى :

بذات لوث عفريات إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

آسن : الماء تغير ريحه ، يأسن ويأسن ؛ ذكره ثعلب في الفصيح ، والمصدر : أسون وأسن ؛ بكسر السين. يأسن ، بفتحها ، لغة أسنا ، قاله اليزيدي. وأسن الرجل ، بالكسر لا غير : إذا دخل البئر ، فأصابته ريح من ريح البئر ، فغشي عليه ، أو دار رأسه. قال الشاعر :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

يميد في الريح ميدا لمائح الأسن

٤٥٥

الأشراط : العلامات ، واحدها شرط ، بسكون الراء وبفتحها. قال أبو الأسود :

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوله تبدو

وأشرط الرجل نفسه : ألزمها أمورا. قال أوس بن حجر :

فأشرط فيها نفسه وهو معصم

فألقى بأسباب له وتوكلا

العسل : معروف ، وعسل بن ذكوان رجل نحوي قديم. المعي : مقصور ، وألفه منقلبة عن ياء ، يدل عليه تثنيته معيان ، بقلب الألف ياء. والمعي : ما في البطن من الحوايا. القفل : معروف ، وأصله اليبس والصلابة. والقفل والقفيل : ما يبس من الشجر. والقفيل أيضا : نبت ، والقفيل : السوط ؛ وأقفله الصوم : أيبسه ، قاله الجوهري. آئفا وآنفا : هما اسما فاعل ، ولم يستعمل فعلهما ، والذي استعمل ائتنف ، وهما بمعنى مبتديا ، وتفسيرهما بالساعة تفسير معنى. وقال الزجاج : هو من استأنفت الشيء ، إذا ابتدأته. فأولى لهم ، قال صاحب الصحاح : قول العرب أولى لك : تهديد وتوعيد ، ومنه قول الشاعر :

فأولى ثم أولى ثم أولى

وهل للدار يحلب من مرد

انتهى. واختلفوا ، أهو اسم أو فعل؟ فذهب الأصمعي إلى أنه بمعنى قاربه ما يهلكه ، أي نزل به ، وأنشد :

تعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

أي : قارب أن يزيد. قال ثعلب : لم يقل أحد في أولى أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد : يقال لمن هم بالعطب ، كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فينفلت منه فيقول : أولى لك رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه ، وقال :

فلو كان أولى يطعم القوم صيدهم

ولكن أولى يترك القوم جوّعا

والأكثرون على أنه اسم ، فقيل : هو مشتق من الولي ، وهو القرب ، كما قال الشاعر :

تكلفني ليلى وقد شط وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

وقال الجرجاني : هو ما حول من الويل ، فهو أفعل منه ، لكن فيه قلب. الضغن والضغينة : الحقد. قال عمرو بن كلثوم :

فإن الضغن بعد الضغن يعسو

عليك ويخرج الداء الدفينا

٤٥٦

وقد ضغن بالكسر ، وتضاغن القوم وأضغنوا : بطنوا الأحقاد. وقد ضغن عليه ، وأضغنت الصبي : أخذته تحت حضنك ، وأنشد الأحمر :

كأنه مضغن صبيا

وقال ابن مقبل : ما اضطغنت سلاحي عند معركها وفرس ضاغن : لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. وأصل الكلمة من الضغن ، وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء. وقال بشر : كذات الضغن تمشي في الزقاق وأنشد الليث :

إن فتاتي من صليات القنا

ما زادها التثقيف إلا ضغنا

والحقد في القلب يشبه به. وقال قطرب :

والليث أضغن العداوة

قال الشاعر :

قل لابن هند ما أردت بمنطق

نشأ الصديق وشيد الأضغانا

لحنت له : بفتح الحاء ، ألحن لحنا : قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى عن غيره ؛ ولحنه هو بالكسر : فهمه ؛ وألحنه : فهمه ؛ وألحنته أنا إياه ولا حنت الناس : فاطنتهم. وقال الشاعر :

منطق صائب ويلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وقال القتال الكلابي :

ولقد وميت لكم لكيما تفهموا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

وقيل : لحن القول : الذهاب عن الصواب ، مأخوذ من اللحن في الإعراب. وتره : نقصه ، مأخوذ من الدخل. وقيل من الوتر ، وهو الفرد.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ

٤٥٧

بالَهُمْ ، ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ، ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

هذه السورة مدنية عند الأكثر. وقال الضحاك ، وابن جبير ، والسدي : مكية. وقال ابن عطية : مدنية بإجماع ، وليس كما قال ، وعن ابن عباس ، وقتادة : أنها مدنية ، إلا آية منها نزلت بعد حجه ، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت ، وهي : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جدا.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه ، وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : وهم المطعمون يوم بدر. وقال مقاتل : كانوا اثني عشر رجلا من أهل الشرك ، يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر ، وقيل : هم أهل الكتاب ، صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. وقال الضحاك : (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : عن بيت الله ، يمنع قاصديه ، وهو عام في كل من كفر وصد. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : أي أتلفها ، حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع ، بل ضرر محض. وقيل : نزلت هذه الآية ببدر ، وأن الإشارة بقوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر. وقيل : المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية ، من صلة رحم وفك عان ونحو ذلك ؛ واللفظ يعم جميع ذلك.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : هم الأنصار. وقال مقاتل : ناس من قريش. وقيل : مؤمنو أهل الكتاب. وقيل : هو عام ؛ وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين ، فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن. (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) : تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به ، تعظيم لشأن الرسول ، وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به. وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). وقيل : (وَهُوَ الْحَقُ) : ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ. وقرأ الجمهور : نزل مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن علي ، وابن

٤٥٨

مقسم : نزل مبنيا للفاعل ؛ والأعمش : أنزل معدى بالهمزة مبنيا للمفعول. وقرىء : نزل ثلاثيا. (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) : أي حالهم ، قاله قتادة ؛ وشأنهم ، قاله مجاهد ؛ وأمرهم ، قاله ابن عباس. وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر ، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب. فإذا صلح ذلك ، فقد صلحت حاله ، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم ، وغير ذلك من الحال تابع.

(ذلِكَ) : إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم ، وبالمؤمنين من تكفير سيئاتهم وإصلاح حالهم. وذلك مبتدأ وما بعده الخبر ، أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك ، أي كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوبا. انتهى. ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار. والباطل : ما لا ينتفع به. وقال مجاهد : الشيطان وكل ما يأمر به ؛ والحق : هو الرسول والشرع ، وهذا الكلام تسميه علماء البيان : التفسير. (كَذلِكَ يَضْرِبُ) : قال ابن عطية : الإشارة إلى اتباع المذكورين من الفريقين ، أي كما اتبعوا هذين السبيلين ، كذلك يبين أمر كل فرقة ، ويجعل لها ضربها من القول وصفها ؛ وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع. وقال الزمخشري : كذلك ، أي مثل ذلك الضرب. (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) لأجل الناس ليعتبروا بهم. فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ؛ أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي في أي زمان ليقتموهم ، فاقتلوهم. وفي قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ، أي في أي مكان ، فعم في الزمان وفي المكان. وقال الزمخشري : لقيتم ، من اللقاء ، وهو الحرب. انتهى. (فَضَرْبَ الرِّقابِ) : هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر ، وهم مطرد فيه ، وهو منصوب بفعل محذوف فيه ، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل : هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر ؛ وقيل : هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه ، ومثاله : ضربا زيدا ، كما قال الشاعر :

على حين ألهى الناس جل أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثعالب

وهذا هو الصحيح ، ويدل على ذلك قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، وهو إضافة المصدر

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥.

٤٥٩

للمفعول ، ولو لم يكن معمولا له ، ما جازت إضافته إليه. وضرب الرقاب عبارة عن القتل ؛ ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، عبر بذلك عن القتل ، ولا يراد خصوصية الرقاب ، فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن تضرب الرقاب ، وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء. ويقال : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه ، إذا قتله ، كما عبر بقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (١) عن سائر الأفعال ، لما كان أكثر الكسب منسوبا إلى الأيدي. قال الزمخشري : وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. وقد زاد في هذه في قوله : (فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (٢). انتهى. ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين ، وأنهم من الكفار بحيث هم متمكنون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) : أي أكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للضرب ، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى ، (فَإِمَّا مَنًّا) بالإطلاق ، (وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) : أي أثقالها وآلاتها. ومنه قول عمرو بن معدي كرب :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

أنشده ابن عطية لعمرو هذا ، وأنشده الزمخشري للأعشى. وقيل : الأوزار هنا : الآثام ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين ، وهذه الغاية. قال مجاهد : حتى ينزل عيسى بن مريم. وقال قتادة : حتى يسلم الجميع ؛ وقيل : حتى تقتلوهم. وقال ابن عطية : وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضيع أوزارها ، فجاء هذه ، كما تقول : أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد أنك تفعله دائما. وقال الزمخشري : وسميت ، يعني آلات الحرب من السلاح والكراع ، أوزارها ، لأنه لما لم يكن لها بد من جرها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ؛ فإذا انقضت ، فكأنها وضعتها. وقيل : أوزارها : آثامها ، يعني حتى يترك أهل الحرب ، وهم المشركون ، شركهم ومعاصيهم ، بأن يسلموا. والظاهر أن ضرب الرقاب ، وهو القتل مغيا بشد الوثاق وقت حصول الإثخان ، وأن قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) ، أي بعد الشد ، (وَإِمَّا فِداءً) ، حالتان للمأسور ، إما أن يمن عليه بالإطلاق ، كما منّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإطلاق

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٠.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ١٢.

٤٦٠