البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (١) ، ثم إذا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. وقوله : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ، محتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة ، وفي الكلام حذف ، أي فدعا موسى ، فكشف (فَلَمَّا كَشَفْنا). وقرأ أبو حيوة : ينكثون ، بكسر الكاف.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) : جعل القوم محلا للنداء ، والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه ، فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط. ويجوز أن يكون أمر بالنداء ، فأسند إليه. وسبب ندائه ذلك ، أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى ورفع العذاب ، خاف ميل القوم إليه ، فنادى : (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ، أراد أن يبين فضله على موسى بملك مصر ، وهي من إسكندرية إلى أسوان. (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) : أي الخلجان التي تجري من النيل ، وأعظمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس. والواو في (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) واو الحال ، وتجري خبر. وهذه الأنهار صفة ، أو عطف بيان. وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر ، وتجري حال. من تحتي : أي من تحت قهري وملكي. وقال قتادة : كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره. وقيل : كان له سرير عظيم ، وقطع من نيل مصر قطعة قسمها أنهارا تجري من تحت ذلك السرير. وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة ، يسيرون تحت لوائه. ومن فسرها بالأموال ، يعرفها من تحت يده. ومن فسرها بالخيل فقيل : كما سمى الفرس بحرا يسمي نهرا. وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية.

(أَفَلا تُبْصِرُونَ) عظمتي وقدرتي وعجز موسى؟ وقرأ مهدي بن الصفير : يبصرون ، بياء الغيبة ؛ ذكره في الكامل للهذلي ، والسباعي ، عن يعقوب ، ذكره ابن خالويه. قال الزمخشري : وليت شعري! كيف ارتقت إلى دعوى الربوبية همة من تعاظم بملك مصر؟ وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها ، لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير حتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته. وكسر نون (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، عيسى. وعن الرشيد ، أنه لما قرأها قال : لأولينها أحسن عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها ، فلما شارفها ووقع عليها قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه. (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ، أي بل أنا خير. وهو إذا

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٥.

٣٨١

استفهم أهو خير ممن هو ضعيف؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم ، وهو الملك المتحكم فيهم ، قالوا له : بلا شك أنت خير. وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل ، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر ، كقول الشاعر :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أم أنت في العين أملح

وقال سيبويه : أم هذه المعادلة : أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى. وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ، لأن المعنى : أفلا تبصرون؟ أم تبصرون؟ إلا أنه وضع قوله : (أَنَا خَيْرٌ) موضع (تُبْصِرُونَ) ، لأنهم إذا قالوا : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. انتهى. وهذا القول متكلف جدا ، إذ المعادل إنما يكون مقابلا للسابق ، وإن كان السابق جملة فعلية ، كان المعادل جملة فعلية ، أو جملة اسمية ، يتقدر منها فعلية كقوله (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١)؟ لأن معناه : أم صمتم؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية ، لأن قوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ)؟ ليس مقابلا لقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ وإن كان السابق اسما ، كان المعادل اسما ، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم ، نحو قوله :

أمخدج اليدين أم أتمت

فأتمت معادل للاسم ، فالتقدير : أم متما؟ وقيل : حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه ، إذ التقدير : تبصرون ، فحذف تبصرون ، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا ، نحو : أيقوم زيد أم لا؟ تقديره : أم لا يقوم؟ وأزيد عندك أم لا ، أي أم لا هو عندك. فأما حذفه دون لا ، فليس من كلامهم. وقد جاء حذف أم والمعادل ، وهو قليل. قال الشاعر :

دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

يريد أم غيّ. وحكى الفراء أنه قرأ : أما أنا خير ، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير. (وَلا يَكادُ يُبِينُ) : الجمهور ، أنه كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة. ومن ذهب إلى أن الله كان أجابه في سؤاله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (٢) ، فلم يبق لها أثر جعل انتفاء الإبانة بأنه لا يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي ، لأنه لا قدرة له على إيضاح المعنى لأجل كلامه. وقيل : عابه بما كان عليه موسى من الخسة أيام كان عند فرعون ، فنسب إلى ما عهده مبالغة في التعبير. وقول فرعون : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) ، كذب

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٣.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٢٧.

٣٨٢

بحت. ألا ترى إلى مناظرته له وردّه عليه وإفحامه بالحجة؟ والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، كلهم بلغاء. وقرأ الباقر : يبين ، بفتح الياء ، من بان إذا ظهر.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا ، سوروه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب ، علامة لسودده. قال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا؟ وكان ذلك دليلا على إلقاء مقاليد الملك إليه ، لما وصف نفسه بالعزة والملك ، ووازن بينه وبين موسى عليه‌السلام ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد. فاعترض فقال : إن كان صادقا ، فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره؟ وقرأ الضحاك : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ) مبنيا للفاعل ، أي الله ؛ أساورة نصبا ؛ والجمهور : أساورة رفعا ، وأبي وعبد الله : أساوير ، والمفرد إسوار بمعنى سوار ، والهاء عوض من الياء ، كهي في زنادقة ، هي عوض من ياء زناديق المقابلة لياء زنديق ، وهذه مقابلة لألف أسوار. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والأعرج ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وحفص : أسورة ، جمع سوار ، نحو : خمار وأخمرة. وقرأ الأعمش : أساور. ورويت عن أبي ، وعن أبي عمرو ، (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) : أي يحمونه ويقيمون حجته. قال ابن عباس : يعينونه على من خالفه. وقال السدي : يقارن بعضهم بعضا. وقال مجاهد : يمشون معه. وقال قتادة : متتابعين.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) : أي استجهلهم لخفة أحلامهم ، قاله ابن الاعرابي. وقال غيره : حملهم على أن يخفوا لما يريد منهم ، فأجابوه لفسقهم. (فَلَمَّا آسَفُونا) : منقول بالهمزة من أسف ، إذا غضب ؛ والمعنى : فلما عملوا الأعمال الخبيثة الموجبة لأن لا يحلم عنهم. وعن ابن عباس : أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل. وعنه أيضا : أغضبونا. وعن علي : أسخطونا. وقيل : خالفوا. وقال القشيري وغيره : الغضب من الله ، إما إرادة العقوبة ، فهو من صفات الذات ؛ أو العقوبة ، فيكون من صفات الفعل. وقرأ الجمهور : سلفا. قال ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وقتادة : أي متقدمين إلى النار ، وهو مصدر سلف يسلف سلفا ، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون ، والجمع أسلاف وسلاف. وقيل هو جمع سالف ، كحارس وحرس ، وحقيقته أنه اسم جمع ، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع المكسرة. وقال طفيل يرثي قومه :

مضوا سلفا قصد السبيل عليهم

صروف المنايا والرجال تقلب

قال الفراء والزجاج : سلفا ليتعظ بهم الكفار المعاصرون للرسول. وقرأ أبو عبد الله

٣٨٣

وأصحابه ، وسعيد بن عياض ، والأعمش ، وطلحة ، والأعرج ، وحمزة ، والكسائي : وسلفا بضم السين واللام ، جمع سليف ، وهو الفريق. سمع القاسم بن معن العرب تقول : مضى سليف من الناس. وقرأ علي ، ومجاهد ، والأعرج أيضا : وسلفا ، بضم السين واللام ، جمع سلفة ، وهي الأمة والقطيعة. والسلف في غير هذا : ولد القبح ، والجمع سلفان. (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) : أي حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل ، يحدث به الآخرون من الكفار ، يقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ، وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ، يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ، وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ).

لما ذكر تعالى طرفا من قصة موسى عليه‌السلام ، ذكر طرفا من قصة عيسى عليه‌السلام. وعن ابن عباس وغيره : لما نزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) (١) ، ونزل كيف خلق من غير فحل ، قالت قريش : ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده ، كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا. وقيل : ضرب المثل بعيسى ، هو ما جرى بين الزبعري وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (٢). وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعري قال : فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار ، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. وقيل :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.

٣٨٤

المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد عيسى قالوا : آلهتنا خير من عيسى ، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة. وضرب مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعري ، إن صحت قصته ، وأن يكون الكفار. وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والنخعي ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وعامر ، ونافع ، والكسائي : يصدون ، بضم الصاد ، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل. وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعكرمة ، وباقي السبعة : بكسرها ، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل. وروي : ضم الصاد ، عن علي ، وأنكرها ابن عباس ، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها. وقرأ الكسائي ، والفراء : هما لغتان بمعنى : مثل يعرشون ويعرشون.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) : خفف الكوفيون الهمزتين ، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين. وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر : بهمزة واحدة على مثال الخبر ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها ، واحتمل أن يكون خبرا محضا. حكوا أن آلهتهم خير ، ثم عنّ لهم أن يستفهموا ، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام ، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) : أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة ، لا لتمييز الحق واتباعه. وانتصب جدلا على أنه مفعول من أجله ، وقيل : مصدر في موضع الحال. وقرأ ابن مقسم : إلا جدالا ؛ بكسر الجيم. وألف خصمون : شديد والخصومة واللجاج ؛ وفعل من أبنية المبالغة نحو : هدى. والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى ، لتتناسق الضمائر في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ). وقال قتادة : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة وشرفناه بالرسالة. (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) أي خبرة عجيبة ، كالمثل (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ، إذ خلق من غير أب ، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ، ما لم يجعل لغيره في زمانه. وقيل : المنعم عليه هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ) ، قال بعض النحويين : من تكون للبدل ، أي لجعلنا بدلكم ملائكة ، وجعل من ذلكم قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) (١) ، أي بدل الآخرة ، وقول الشاعر :

أخذوا المخاض من الفصيل غلية

ظلما ويكتب للأمير أفالا

أي بدل الفصيل ، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية ، ويتأولون ما ورد ما يوهم

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٣٨.

٣٨٥

ذلك. قال ابن عطية : لجعلنا بدلا منكم. وقال الزمخشري : ولو نشاء ، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر ، لجعلنا منكم : لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض ، كما يخلفكم أولادكم ؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك. انتهى ، وهو تخريج حسن. ونحو من هذا التخريج قول من قال : لجعلنا من الأنس ملائكة ، وإن لم تجر العادة بذلك. والجواهر جنس واحد ، والاختلاف بالأوصاف. (يَخْلُفُونَ) ، قال السدي : يكونون خلفاءكم. وقال قتادة : يخلف بعضهم بعضا. وقال مجاهد : في عمارة الأرض. وقيل : في الرسالة بدلا من رسلكم. والظاهر أن الضمير في : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) يعود على عيسى ، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد : أي وإن خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها ، إذ خروجه شرط من أشراطها ، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان. وقال الحسن ، وقتادة أيضا ، وابن جبير : يعود على القرآن على معنى أنه يدل إنزاله على قرب الساعة ، أو أنه به تعلم الساعة وأهوالها. وقالت فرقة : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو آخر الأنبياء ، تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز ، ونفى التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه. وقرأ الجمهور : لعلم ، مصدر علم. قال الزمخشري : أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى العلم شرطا لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو مالك الغفاري ، وزيد بن علي ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، ومالك بن دينار ، والأعمش ، والكلبي. قال ابن عطية ، وأبو نصرة : لعلم ، بفتح العين واللام ، أي لعلامة. وقرأ عكرمة به. قال ابن خالويه ، وأبو نصرة : للعلم ، معرفا بفتحتين.

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) : أي لا تشكون فيها ، (وَاتَّبِعُونِ هذا) : أي هداي أو شرعي. وقيل : أي قل لهم يا محمد : واتبعوني هذا ، أي الذي أدعوكم له ، أو هذا القرآن ؛ كان الضمير في قال للقرآن ، ثم حذرهم من إغواء الشيطان ، ونبه على عداوته (بِالْبَيِّناتِ) : أي المعجزات ، أو بآيات الإنجيل الواضحات. (بِالْحِكْمَةِ) : أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع. قال السدي : بالحكمة : النبوة. وقال أيضا : قضايا يحكم بها العقل. وذكر القشيري والماوردي : الإنجيل. وقال الضحاك : الموعظة. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : وهو أمر الديانات ، لأن اختلافهم يكون فيها ، وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات. فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه ، وبين لهم في غيره ما احتاجوا

٣٨٦

إليه. وقيل : بعض ما يختلفون فيه من أحكام التوراة. وقال أبو عبيدة : بعض بمعنى كل ، ورده الناس عليه. وقال مقاتل : هو كقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (١) ، أي في الإنجيل : لحم الإبل ، والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت. وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة. وقيل : مما سألتم من أحكام التوراة. وقال قتادة : ولأبين لكم اختلاف القرون الذين تحزبوا في أمر عيسى في قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) ، وهم قومه المبعوث إليهم ، أي من تلقائهم ومن أنفسهم ، بان شرهم ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم. وتقدم الخلاف في اختلافهم في سورة مريم في قوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ*) (٢).

(هَلْ يَنْظُرُونَ) : الضمير لقريش ، و (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) : بدل من الساعة ، أي إتيانها إياهم. (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ) : قيل نزلت في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط. والتنوين في يومئذ عوض عن الجملة المحذوفة ، أي يوم إذ تأتيهم الساعة ، ويومئذ منصوب بعد ، والمعنى : أنه ينقطع كل خلة وتنقلب الأخلة المتقين ، فإنها لا تزداد إلا قوّة. وقيل : (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) : إلا المجتنبين أخلاء السوء ، وذلك أن أخلاء السوء كل منهم يرى أن الضرر دخل عليه من خليله ، كما أن المتقين يرى كل منهم النفع دخل عليه من خليله. وقرىء : يا عبادي ، بالياء ، وهو الأصل ، ويا عباد بحذفها ، وهو الأكثر ، وكلاهما في السبعة. وعن المعتمر بن سليمان : سمع أن الناس حين يبعثون ، ليس منهم أحد إلا يفزغ فينادي مناد (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ) الآية ، فيرجوها الناس كلهم ، فيتبعها (الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، قال : فييأس منها الكفار. وقرأ الجمهور : لا خوف ، مرفوع منون ؛ وابن محيصن : بالرفع من غير تنوين ؛ والحسن ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وابن يعمر : بفتحها من غير تنوين ، و (الَّذِينَ آمَنُوا) صفة ليا عبادي.

(تُحْبَرُونَ) : تسرون سرورا يظهر حباره ، أي أثره على وجوهكم ، لقوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٣). وقال الزجاج : يكرمون إكراما يبالغ فيه ، والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل وأمال أبو الحرث عن الكسائي. (بِصِحافٍ) : ذكره ابن خالويه. والضمير في : و (فِيها) ، عائد على الجنة. (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) : هذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، أو مستلذة في العيون. وقرأ أبو

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٠.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣٧.

(٣) سورة المطففين : ٨٣ / ٢٤.

٣٨٧

جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عباس ، وحفص : ما تشتهيه بالضمير العائد على ما ، والجمهور وباقي السبعة : بحذف الهاء. وفي مصحف عبد الله : ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، بالهاء فيهما. و (تِلْكَ الْجَنَّةُ) : مبتدأ وخبر. و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) : صفة ، أو (الْجَنَّةُ) صفة ، و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) ، و (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الخبر ، وما قبله صفتان. فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف ، وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها ، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. ولما ذكر ما يتضمن الأكل والشرب ، ذكر الفاكهة. (مِنْها تَأْكُلُونَ) : من للتبعيض ، أي لا تأكلون إلا بعضها ، وما يخلف المأكول باق في الشجر ، كما جاء في الحديث.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ، وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ، أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ، سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ، وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ، وما يقال لهم من لذائذ البشارة ، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة ، وما يجاوبون به عند سؤالهم. وقرأ عبد الله : وهم فيها ، أي في جهنم ؛ والجمهور : وهم فيه أي في العذاب. وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالدا لا يرى ولا يرى. (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) : أي لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى ، إذا سكنت قليلا ونقص حرها. والمبلس : الساكت اليائس من الخير. (وَما ظَلَمْناهُمْ) : أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه. (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) : أي الواضعين الكفر موضع الإيمان ، فظلموا بذلك أنفسهم. وقرأ الجمهور : والظالمين ، على أن هم فصل. وقرأ عبد الله ، وأبو زيد النحويان : الظالمون بالرفع ، على أنهم خبرهم ، وهم مبتدأ. وذكر أبو عمرو الجرمي : أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند

٣٨٨

غيرهم مبتدأ ، ويرفعون ما بعده على الخبر. وقال أبو زيد : سمعتهم يقرأون : تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا (١) يعني : برفع خير وأعظم. وقال قيس بن دريج :

نحن إلى ليلى وأنت تركنها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر

قال سيبويه : إن رؤبة كان يقول : أظن زيدا هو خير منك ، يعني بالرفع. (وَنادَوْا يا مالِكُ) : تقدم أنهم مبلسون ، أي ساكتون ، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة ، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم. وقرأ الجمهور : يا مالك. وقرأ عبد الله ، وعليّ ، وابن وثاب ، والأعمش : يا مال ، بالترخيم ، على لغة من ينتظر الحرف. وقرأ أبو السرار الغنوي : يا مال ، بالبناء على الضم ، جعل اسما على حياله. واللام في : (لِيَقْضِ) لام الطلب والرغبة. والمعنى : يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا ، كقوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (٢) ، أي أماته. (قالَ) : أي ما لك ، (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) : أي مقيمون في النار لا تبرحون. وقال ابن عباس : يجيبهم بعد مضي ألف سنة ، وقال نوف : بعد مائة ، وقيل : ثمانين ، وقال عبد الله بن عمرو : أربعين. (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) : يظهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل : من كلام بعض الملائكة ، كما يقول أحد خدم الرئيس : أعلمناكم وفعلنا بكم. قيل : ويحتمل أن يكون (لَقَدْ جِئْناكُمْ) من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى : انظروا كيف يكون حالكم. (أَمْ أَبْرَمُوا) : والضمير لقريش ، أي بل أحكموا أمرا من كيدهم للرسول ومكرهم ، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا ، كما أبرموا كيدهم ، كقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٣) ، وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول ، فقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) ، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. (وَنَجْواهُمْ) : وهي ما تكلموا به فيما بينهم. (بَلى) : أي نسمعها ، (رُسُلُنا) ، وهم الحفظة.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) ، كما تقولون ، (فَأَنَا أَوَّلُ) من يعبده على ذلك ، ولكن ليس له شيء من ذلك. وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال : إن كان للرحمن ولد ، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه ، وحجة واضحة يبذلونها ، فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠ ، والصحيح : «تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا».

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.

(٣) سورة الطور : ٥٢ / ٤٢.

٣٨٩

أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها. ثم قال الزمخشري : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر. ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب ، بل السيف ، نزهت كتابي عن ذكره. ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد ، في زعمكم ، فأنا أول العابدين ، الموحدين لله ، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه. وقيل : إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد ، إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم : عبدين ، وقيل : هي إن النافية ، أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.

وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : أن الملائكة بنات الله ، فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني؟ فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. انتهى. أما القول : إن كان لله ولد في زعمكم ، فهو قول مجاهد ، وأما القول : فأنا أول الآنفين ، فهو قول جماعة ، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحدا منهم ، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني : العبدين ، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين : العبدين ، بإسكان الباء ، تخفيف العبدين بكسرها. وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين : أنه الآنفين. انتهى. وقال ابن عرفة : يقال : عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال : عابد. والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ثم قال : كقول مجاهد. وقال الفرزدق :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

واعبد أن أهجو كليبا بدارمي

أي : آنف وأستنكف. وقال آخر :

متى ما يشا ذو الود يصرم خليله

ويعبد عليه لا محالة ظالما

وأما القول بأن إن نافية ، فمروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وقتادة ، وابن زيد ، وزهير بن محمد ، وقال مكي : لا يجوز أن تكون إن بمعنى ما النافية ، لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت ، وهذا محال. انتهى. ولا يلزم منه

٣٩٠

محال ، لأن كان قد تستعمل فيما يدوم ولا يزول ، كقولك : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً*) (١) ، أي لم يزل ، فالمعنى : ما كان وما يكون. وقال أبو حاتم : العبد ، بكسر الباء : الشديد الغضب. وقال أبو عبيدة : معناه أول الجاحدين. والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني. وقرأ ولد بفتحتين. عبد الله ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بضم الواو وسكون اللام.

ثم قال : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) : أي من نسبة الولد إليه ، والمعنى : إزالة العلم يجب أن يكون واجب الوجود ، وما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي. والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه ، فيتولد منه شخص مثله ، ولا يكون إلا فيما هو قابل ذاته للتجزي ، وهذا محال في حقه تعالى ، فامتنع إثبات الولد. ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) ، أي في باطلهم ، (وَيَلْعَبُوا) ، أي في دنياهم. وظاهر هذين الأمرين مهادنة وترك ، وذلك مما نسخ بآية السيف. وقرأ الجمهور : (حَتَّى يُلاقُوا) ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، وعبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : يلقوا ، مضارع لقي. (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) : يوم القيامة. وقال عكرمة وغيره : يوم بدر ، وأضاف اليوم إليهم ، لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم. وقرأ الجمهور : إله فيهما. وقرأ عمر ، وعبد الله ، وأبي ، وعلي ، والحكم بن أبي العالي ، وبلال بن أبي بردة ، وابن يعمر ، وجابر ، وابن زيد ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو الشيخ الهنائي ، وحميد ، وابن مقسم ، وابن السميفع : الله فيهما. ومعنى إله : معبود به ، يتعلق الجار والمجرور ، والمعنى : أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض ، والعائد على الموصول محذوف تقديره : هو إله ، كما حذف في قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، وحسنه طوله بالعطف عليه ، كما حسن في قائل لك شيئا طوله بالمعول. ومن قرأ : الله ، ضمنه أيضا معنى المعبود ، كما ضمن العلم في نحو قولهم : هو حاتم في طيىء ، أي جواد في طيىء. ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور. والمعنى : أنه فيهما بالإلهية والربوبية ، إذ يستحيل حمله على الاستقرار. وفي قوله : (وَفِي الْأَرْضِ) ، نفي لآلهتهم التي كانت تعبد في الأرض.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : أي علم تعيين وقت قيامها ، وهو الذي استأثر به تعالى. وقرأ الجمهور : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ ونافع ، وعاصم ، والعدنيان : بتاء الخطاب ، وهو في كلتا

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٦.

٣٩١

القراءتين مبني للمفعول. وقرىء : بفتح تاء الخطاب مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور : بياء الغيبة وشد الدال ، وعنه بتاء الخطاب وشد الدال ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم التي يدعون الشفاعة عند الله. قال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيرا والملائكة ، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق ، وهم يعلمونه في أحوالهم ، فالاستثناء على هذا متصل. وقال مجاهد وغيره : من المشفوع فيهم؟ كأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق ، وهو يعلمه ، أي بالتوحيد ، قالوا : فالاستثناء على هذا منفصل ، كأنه قال : لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء. وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلا ، لأنه يكون المستثنى منه محذوفا ، كأنه قال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد ، إلا فيمن شهد بالحق ، فهو استثناء من المفعول المحذوف ، كما قال الشاعر :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزار

أي : ولم ينج إلا جفن سيف ، فهو استثناء من المشفوع فيهم الجائز فيه الحذف ، وهو متصل. فإن جعلته مستثنى من (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، فيكون منفصلا ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم ، ويعني بهم الأصنام والأوثان ، الشفاعة. كما زغموا أنهم شفعاؤهم عند الله. ولكن (مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) ، وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما شهد به ، هو الذي يملك الشفاعة ، وإن أدرجت الملائكة في (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، كان استثناء متصلا. وقرأ الجمهور : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، بياء الغيبة ، مناسبا لقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) ، أي كيف يصرفون عن عبادة من أقروا أنه موجد العالم. وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب. وقرأ الجمهور : وقيله ، بالنصب. فعن الأخفش : أنه معطوف على سرهم ونجواهم ، وعنه أيضا : على وقال قيله ، وعن الزجاج ، على محل الساعة في قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ). وقيل : معطوف على مفعول يكتبون المحذوف ، أي يكتبون أقولهم وأفعالهم. وقيل : معطوف على مفعول يعلمون ، أي يعلمون الحق. (وَقِيلِهِ يا رَبِ) : وهو قول لا يكاد يعقل ، وقيل : منصوب على إضمار فعل ، أي ويعلم قيله. وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وعاصم ، والأعمش ، وحمزة ، وقيله ، بالخفض ، وخرج على أنه عطف على الساعة ، أو على أنها واو القسم ، والجواب محذوف ، أي : لينصرن ، أو لأفعلن بهم ما أشاء. وقرأ الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، ومسلم بن جندب : وقيله بالرفع ، وخرج على أنه معطوف على علم الساعة ، على حذف مضاف ، أي وعلم قيله حذف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

٣٩٢

وروي هذا عن الكسائي ، وعلى الابتداء ، وخبره : يا رب إلى لا يؤمنون ، أو على أن الخبر محذوف تقديره مسموع ، أو متقبل ، فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بو قيله. وقرأ أبو قلابة : يا رب ، بفتح الباء ؛ أراد : يا ربا ، كما تقول : يا غلام. ويتخرج على جواز الأخفش : يا قوم ، بالفتح وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها. وقال الزمخشري : والذي قالوه يعني من العطف ليس بقوي في المعنى ، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ، ومع تنافر النظم ، وأقوى من ذلك. والوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك ، ويكون قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ، جواب القسم ، كأنه قال : وأقسم بقيله ، أو وقيله يا رب قسمي. (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ، وإقسام الله بقيله ، رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه. انتهى ، وهو مخالف لظاهر الكلام ، إذ يظهر أن قوله : يا رب إلى لا يؤمنون ، متعلق بقيله ، ومن كلامه عليه‌السلام : وإذا كان أن هؤلاء جواب القسم ، كان من إخبار الله عنهم وكلامه ، والضمير في وقيله للرسول ، وهو المخاطب بقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) ، أي أعرض عنهم وتاركهم ، (وَقُلْ سَلامٌ) ، أي الأمر سلام ، فسوف يعلمون وعيد لهم وتهديد وموادعة ، وهي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور : يعلمون ، بياء الغيبة ، كما في : فاصفح عنهم. وقرأ أبو جعفر ، والحسن ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بتاء الخطاب. وقال السدي : وقل سلام ، أي خيرا بدلا من شرهم. وقال مقاتل : أورد عليهم معروفا. وحكى الماوردي : قل ما تسلم به من شرهم.

٣٩٣

سورة الدّخان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ

٣٩٤

الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)

الدخان : معروف ، وقال أبو عبيدة : والدخان : الجدب. قال القتبي : سمي دخانا ليبس الأرض منه ، حتى يرتفع منها كالدخان ، وقياس جمعه في القلة : أدخنة ، وفي الكثرة : دخنان ، نحو : غراب وأغربة وغربان. وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا : دواخن ، كأنه جمع داخنة تقديرا ، كما شذوا في عثان قالوا : عواثن. رها البحر ، يرهو رهوا : سكن. يقال جاءت الخيل رهوا : أي ساكنة. قال الشاعر :

٣٩٥

والخيل تمزع رهوا في أعنتها

كالطير ينجو من الشرنوب ذي البرد

ويقال : افعل ذلك رهوا : أي ساكنا على هينتك. وقال ابن الأعرابي : رها في السير. قال القطامي في نعت الركاب :

يمشين رهوا فلا الإعجاز خاذلة

ولا الصدور على الإعجاز تتكل

وقال الليث : عيش راه : وارع خافض. وقال غيره : الرهو والرهوة : المكان المرتفع والمنخفض يجتمع فيه الماء ، وهو من الأضداد ؛ والجمع : رها. والرهو : المرأة الواسعة الهن ، حكاه النضر بن شميل. والرهو : ضرب من الطير ، يقال هو الكركي. وقال أبو عبيدة : رها الرجل يرهو رهوا : فتح بين رجليه. المهل : دردي الزيت وعكره. عتله : ساقه بعنف ودفع وإهانة ، والمعتل : الجافي الغليظ.

(حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ، رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ، فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ، كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ، فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).

هذه السورة مكية ، قيل : إلا قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ). ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (١) ، فذكر يوما غير معين ، ولا موصوفا. فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم ، بوصف وصفه فقال : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ، وأن العذاب يأتيهم

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٣.

٣٩٦

من قبلك ، ويحل بهم من الجدب والقحط ، ويكون العذاب في الدنيا ، وإن كان العذاب في الآخرة ، فيكون يومهم الذي يوعدون يوم القيامة. والظاهر أن الكتاب المبين هو القرآن ، أقسم به تعالى. ويكون الضمير في أنزلناه عائدا عليه. قيل : ويجوز أن يراد به الكتب الإلهية المنزلة ، وأن يراد به اللوح المحفوظ ، وجواب القسم. وقال الزمخشري وغيره : قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، على أن الكتاب هو القرآن ، ويكون قد عظمه تعالى بالإقسام به. وقال ابن عطية : لا يحسن وقوع القسم عليه ، أي على (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، وهو اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ، ويكون الذي وقع عليه القسم (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). انتهى. قال قتادة ، وابن زيد ، والحسن : الليلة المباركة : ليلة القدر. وقالوا : كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان ؛ التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ، والزبور في نحو ذلك ، والقرآن في آخره ، في ليلة القدر ؛ ويعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وقيل : أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ، ومن هناك كان جبريل يتلقاه. وقال عكرمة وغيره : هي ليلة النصف من شعبان ، وقد أوردوا فيها أحاديث. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا يصح فيها شيء ، ولا في نسخ الآجال فيها.

إنا كنا منذرين : أي مخوفين. قال الزمخشري : فإن قلت : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ، ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ، كأنه قيل : أنزلناه ، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب. وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ، لأن إنزال القرآن من الأمور المحكمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ، والمباركة : الكثيرة الخير ، لما ينتج الله فيها من الأمور التي تتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده ، لكفى به بركة. انتهى. وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : يفرق ، بفتح الياء وضم الراء ، كل : بالنصب ، أي يفرق الله. وقرأ زيد بن علي ، فيما ذكر الزمخشري : نفرق بالنون ، كل بالنصب ؛ وفيما ذكر أبو على الأهوازي : عينه بفتح الياء وكسر الراء ، ونصب كل ، ورفع حكيم ، على أنه الفاعل بيفرق. وقرأ الحسن : وزائدة عن الأعمش بالتشديد مبنيا للمفعول ، أو معنى يفرق : يفصل من غيره ويلخص. ووصف أمر بحكيم ، أي أمر ذي حكمة ؛ وقد أبهم تعالى هذا الأمر.

وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد : في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق والآجال وغير ذلك ، ويكتب ذلك إلى مثلها من العام المقبل.

٣٩٧

وقال هلال بن أساف : كان يقال : انتظروا القضاء في رمضان. وقال عكرمة : لفضل الملائكة في ليلة النصف من شعبان. وجوزوا في أمرا أن يكون مفعولا به بمنذرين لقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) (١). أو على الاختصاص ، جعل كل أمر حكيم جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة نفسه بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، كذا قال الزمخشري. وقال : وفي قراءة زيد بن علي : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ، على هو أمرا ، وهي نصب على الاختصاص ومقبولا له ، والعامل أنزلنا ، أو منذرين ، أو يفرق ، ومصدرا من معنى يفرق ، أي فرقا من عندنا ، أو من أمرنا محذوفا وحالا ، قيل : من كل ، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر ، لأنه وصف بحكيم ، فحسنت الحال منه ، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه ، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب ، ولا يجوز. وقيل : من ضمير الفاعل في أنزلناه ، أي أمرني. وقيل : من ضمير المفعول في أنزلناه ، أي في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل. والظاهر أن من عندنا صفة لأمرا ، وقيل : يتعلق بيفرق.

(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) : لما ذكر إنزال القرآن ، ذكر المرسل ، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد. فالجملة المؤكدة مستأنفة. وقيل : يجوز أن يكون بدلا من (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). وجوزوا في رحمة أن يكون مصدرا ، أي رحمنا رحمة ، وأن يكون مفعولا له بأنزلناه ، أو ليفرق ، أو لأمرا من عندنا. وأن يكون مفعولا بمرسلين ؛ والرحمة توصف بالإرسال ، كما وصفت به في قوله : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (٢). والمعنى على هذا : أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وقرأ زيد بن علي ، والحسن : رحمة ، بالرفع : أي تلك رحمة من ربك ، التفاتا من مضمر إلى ظاهر ، إذ لو روعي ما قبله ، لكان رحمة منا ، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر ، إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين. وقرأ ابن محيصن ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والكوفيون : (رَبِّ السَّماواتِ) ، بالخفض بدلا من ربك ؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر ، وشيبة : بالرفع على القطع ، أي هو رب. وقرأ الجمهور : (رَبُّكُمْ وَرَبُ) ، برفعهما ؛ وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، والحسن ، وأبو موسى عيسى بن سليمان ، وصالح الناقط ، كلاهما عن الكسائي : بالجر ؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي : ربكم ورب ، بالنصب على المدح ، وهم يخالفون بين

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

٣٩٨

الإعراب ، الرفع والنصب ، إذا طالت النعوت. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم ، وأنه أنزل الكتب ، وأرسل الرسل رحمة منه ، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان. ولذلك جاء : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون. فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ). قال علي بن أبي طالب : وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد الخدري ، وزيد بن علي ، والحسن : هو دخان يجيء يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين ، حتى تكون مصلقة حنيذة. وقال ابن مسعود ، وأبو العالية ، والنخعي : هو الدخان الذي رأته قريش. قيل لعبد الله : إن قاصا عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ أنفاس الناس ، فقال : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم. ألا وسأحدثكم أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا عليهم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف ، والعلهز. والعلهز : الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل. وفيه أيضا : حتى أكلوا العظام. وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان. فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه ، وناشده الله والرحم ، وواعدوه ، إن دعا لهم وكشف عنهم ، أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم ، رجعوا إلى شركهم. وفيه : فرحمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث إليهم بصدقة ومال. وفيه : فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١) ، قال : يعني يوم بدر. وقال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم. وقال عبد الرحمن الأعرج : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) ، هو يوم فتح مكة ، لما حجبت السماء الغبرة. وفي حديث حذيفة : أول الآيات خروج الدجال ، والدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن ؛ وفيه قلت : يا نبي الله ، وما الدخان على هذه الآية : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ)؟ وذكر بقية الحديث ، واختصرناه بدخان مبين ، أي ظاهر. لا شك أنه دخان (يَغْشَى النَّاسَ) : يشملهم. فإن كان هو الذي رأته قريش ، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة ، وقد مضى كما قال ابن مسعود ؛ وإن كان من أشراط الساعة ، أو يوم القيامة ، فالناس عام فيمن أدركه وقت الاشراط ، وعام بالناس يوم القيامة. (هذا عَذابٌ)

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ١٦.

٣٩٩

إلى (مُؤْمِنُونَ) في موضع نصب بفعل القول محذوفا ، وهو في موضع الحال ، أي يقولون. ويجوز أن يكون إخبارا من الله ، كأنه تعجب منه ، كما قال في قصة الذبيح : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١).

(إِنَّا مُؤْمِنُونَ) : وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب ، والإيمان واجب ، كشف العذاب أو لم يكشف. (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) : أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم ما هو أعظم؟ وأدخل في باب الادكار من كشف الدخان؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات والبينات ، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا ، وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون. وقرأ زر بن حبيش : معلم ، بكسر اللام. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) : إخبار عن إقامة الحجة عليهم ، ومبالغة في الإملاء لهم. ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر. وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة : وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب ، كان ظاهرا ؛ وإن كان الدخان قبل يوم القيامة ، فإذا أتت السماء بالعذاب ، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب ، إنا مؤمنون. فيكشف عنهم ، قيل : بعد أربعين يوما ؛ فحين يكشفه عنهم يرتدون. ويوم البطشة الكبرى على هذا : هو يوم القيامة ، كقوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٢). وكونه يوم القيامة ، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة. وكونه يوم بدر ، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد. وانتصب يوم نبطش ، قيل : بذكراهم ، وقيل : بننتقم الدال عليه منتقمون ، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل ، وقيل : بمنتقمون. ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. وقرأ الجمهور : نبطش ، بفتح النون وكسر الطاء ؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها ؛ والحسن أيضا ، وأبو رجاء ، وطلحة : بضم النون وكسر الطاء ، بمعنى : نسلط عليهم من يبطش بهم. والبطشة على هذه القراءة ليس منصوبا بنبطش ، بل بمقدر ، أي نبطش ذلك المسلط البطشة ، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة ، فينتصب بنبطش.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) : هذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه‌السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله. وقرىء : فتنا ، بتشديد التاء ، للمبالغة في الفعل ، أو التكثير ، متعلقة (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) : أي كريم عند الله وعند المؤمنين ، قاله الفراء ؛ أو كريم في نفسه ، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس ، قاله أبو

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٦.

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ٣٤.

٤٠٠