البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

و (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) : من كلام الله ، خطابا لهم بتذكير نعمه السابقة. وكرر الفعل في الجواب في قوله : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، مبالغة في التوكيد. وفي غير ما سؤال ، اقتصروا على ذكر اسم الله ، إذ هو العلم الجامع للصفات العلا ، وجاء الجواب مطابقا للسؤال من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ، لأن من مبتدأ. فلو طابق في اللفظ ، كان بالاسم مبتدأ ، ولم يكن بالفعل. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : أي إلى مقاصدكم في السفر ، أو تهتدون بالنظر والاعتبار. بقدر : أي بقضاء وحتم في الأزل ، أو بكفاية ، لا كثيرا فيفسد ، ولا قليلا فلا يجدي. (فَأَنْشَرْنا) : أحيينا به. (بَلْدَةً مَيْتاً) : ذكر على معنى القطر ، وبلدة اسم جنس. وقرأ أبو جعفر وعيسى : ميتا بالتشديد. وقرأ الجمهور : تخرجون : مبنيا للمفعول ؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن جبير المصبح ، وعيسى ، وابن عامر ، والإخوان : مبنيا للفاعل. و (الْأَزْواجَ) : الأنواع من كل شيء. قيل : وكل ما سوى الله فهو زوج ، كفوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وقدام ، وخلف ، وماض ، ومستقبل ، وذوات ، وصفات ، وصيف ، وشتاء ، وربيع ، وخريف ؛ وكونها أزواجا تدل على أنها ممكنة الوجود ، ويدل على أن محدثها فرد ، وهو الله المنزه عن الضد والمقابل والمعارض. انتهى.

(وَالْأَنْعامِ) : المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا الإبل. ما : موصولة والعائد محذوف ، أي ما يركبونه. وركب بالنسبة للعلل ، ويتعدى بنفسه على المتعدي بوساطة في ، إذ التقدير ما يركبونه. واللام في لتستووا : الظاهر أنها لام كي. وقال الحوفي : ومن أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا. وقال ابن عطية : لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعمال أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وهو من القلة بحيث ينبغي أن لا يقاس عليه. فالفصيح المستعمل : اضرب ، وقيل : لتضرب ، بل نص النحويون على أنها لغة رديئة قليلة ، إذ لا تكاد تحفظ إلا قراءة شاذة ؛ فبذلك فلتفرحوا بالتاء للخطاب. وما آثر المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافاكم ، مع احتمال أن الراوي روى بالمعنى ، وقول الشاعر :

لتقم أنت يا ابن خير قريش

فتقضي حوائج المسلمينا

وزعم الزجاج أنها لغة جيدة ، وذلك خلاف ما زعم النحويون. والضمير في ظهوره عائد على ما ، كأنه قال : على ظهور ما تركبون ، قاله أبو عبيدة ؛ فلذلك حسن الجمع ، لأن مآلها لفظ ومعنى. فمن جمع ، فباعتبار المعنى ؛ ومن أفرد فباعتبار اللفظ ، ويعني : (مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ). وقال الفراء نحوا منه ، قال : أضاف الظهور ، (ثُمَّ تَذْكُرُوا) ، أي في

٣٦١

قلوبكم ، (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) ، معترفين بها مستعظمين لها. لا يريد الذكر باللسان بل بالقلب ، ولذلك قابله بقوله : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) ، أي تنزهوا الله بصريح القول. وجاء في الحديث : «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، إلى قوله لمنقلبون ، وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا ، وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١) إلى رحيم ، ويقال عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين».

والقرن : الغالب الضابط المطيق للشيء ، يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه. قال ابن هرمة :

وأقرنت ما حملتني ولقلما

يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر

وحقيقة أقرنه : وجده ، قرينته وما يقرن به : لأن الصعب لا يكون قرينة للضعف. قال الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لذ في قرن

لم يستطع صولة البذل القناعيس

والقرن : الحبل الذي يقرن به. وقال أبو عبيد : فلان مقرن لفلان ، أي ضابط له ، والمعنى : أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك ، وإنما الله الذي سخرها. وأنشد قطرب لعمرو بن معد يكرب :

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النائبات بمقرنينا

وقرىء : لمقترنين ، اسم فاعل من اقترن. (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) : أي راجعون ، وهو إقرار بالرجوع إلى الله ، وبالبعث ، لأن الراكب في مظنة الهلاك بالغرق إذا ركب الفلك ، وبعثور الدابة ، إذ ركوبها أمر فيه خطر ، ولا تؤمن السلامة فيه. فقوله هذا تذكير بأنه مستشعر الصيرورة إلى الله ، ومستعد للقائه ، فهو لا يترك ذلك من قلبه ولا لسانه. (وَجَعَلُوا لَهُ) : أي وجعل كفار قريش والعرب له ، أي لله. من عباده : أي ممن هم عبيد الله. جزءا ، قال مجاهد : نصيبا وحظا ، وهو قول العرب : الملائكة بنات الله. وقال قتادة جزءا ، أي ندا ، وذلك هو الأصنام وفرعون ومن عبد من دون الله. وقيل : الجزء : الجزء : الإناث. قال بعض اللغويين : يقال أجزأت المرأة ، إذا ولدت أنثى. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤١.

٣٦٢

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب

قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا

قيل : هذا البيت مصنوع ، وكذا قوله :

زوجها من بنات الأوس مجزئة

ولما تقدم أنهم معترفون بأنه تعالى هو خالق العالم ، أنكر عليهم جعلهم لله جزءا ، وقد اعترفوا بأنه هو الخالق ، فكيف وصفوه بصفة المخلوق؟ (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) نعمة خالقه. (مُبِينٌ) : مظهر لجحوده. والمراد بالإنسان : من جعل لله جزءا ، وغيرهم من الكفرة. قال ابن عطية : ومبين في هذا الموضع غير متعد. انتهى. وليس يتعين ما ذكر ، بل يجوز أن يكون معناه ظاهرا لكفران النعم ومظهرا لجحوده ، كما قلنا. (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ)؟ استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم؟ كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه حين أنتم تسود وجوهكم عند التبشير بهن وتئدونهن؟ (وَأَصْفاكُمْ) : جعل لكم صفوة ما هو محبوب ، وذلك البنون. وقوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) ، تنبيه على استحالة الولد ، ذكرا كان أو أنثى ، وإن فرض اتخاذ الولد ، فكيف يختار له الأدنى ويخصكم بالأعلى؟ وقدم البنات ، لأنه المنكر عليهم لنسبتهن إلى الله ، وعرف البنين دون البنات تشريفا لهم على البنات. (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ) : تقدم تفسير نظيرها في سورة النحل. (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) : أي ينتقل في عمره حالا فحالا في الحلية ، وهو الحلي الذي لا يليق إلا بالإناث دون الفحول ، لتزينهن بذلك لأزواجهن ، وهو إن خاصم ، لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل ، أظهر بهذا لحقوقهن وشفوف البنين عليهن. وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كالمرأة ، وأن يكون مخشوشنا. والفحل من الرجال أبى أن يكون متصفا بصفات النساء ، والظاهر أنه أراد بمن ينشؤا في الحلية : النساء. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ويدل عليه قوله : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) : أي لا يظهر حجة ، ولا يقيم دليلا ، ولا يكشف عما في نفسه كشفا واضحا. ويقال : قلما تجد امرأة لا تفسد الكلام ، وتخلط المعاني ، حتى ذكر عن بعض الناس أنه قال : إذا دخلنا على فلانة ، لا تخرج حتى نعلم أن عقلها عقل امرأة. وقال ابن زيد : المراد بمن ينشؤا في الحلية : الأصنام ، وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ، ويجعلون الحلي على كثيرة منها ، ويبعد هذا القول قوله : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) ، إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإنه كقوله :

٣٦٣

على لا حب لا يهتدى بمناره

أي : لا منار له فيهتدى به. ومن : في موضع نصب ، أي وجعلوا من ينشأ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء ، أي من ينشأ جعلوه لله. وقرأ الجمهور : ينشأ مبنيا للفاعل ، والجحدري في قول : مبنيا للمفعول مخففا ، وابن عباس وزيد بن علي والحسن ومجاهد والجحدري : في رواية ، والإخوان وحفص والمفضل وإبان وابن مقسم وهارون ، عن أبي عمرو : مبنيا للمفعول مشددا ، والحسن : في رواية يناشؤ على وزن يفاعل مبنيا للمفعول ، والمناشأة بمعنى الإنشاء ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء. و (فِي الْخِصامِ) : متعلق بمحذوف تفسيره غير مبين ، أي وهو يبين في الخصام. ومن أجاز أما زيدا ، غير ضارب بأعمال المضاف إليه في غير أجاز أن يتعلق بمبين ، أجري غير مجرى لا. وبتقديم معمول أما بعد لا مختلف فيه ، وقد ذكر ذلك في النحو.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ، وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ، وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ ، وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

لم يكفهم أن جعلوا لله ولدا ، وجعلوه إناثا ، وجعلوهم من الملائكة ، وهذا من جهلهم بالله وصفاته ، واستخفافهم بالملائكة ، حيث نسبوا إليهم الأنوثة. وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والابنان ، ونافع : عند الرحمن ، ظرفا ، وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ

٣٦٤

رَبِّكَ) (١). وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعلقمة ، وباقي السبعة : عباد الرحمن ، جمع عبد لقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢). وقرأ الأعمش : عباد الرحمن ، جمعا. وبالنصب ، حكاها ابن خالويه ، قال : وهي في مصحف ابن مسعود كذلك ، والنصب على إضمار فعل ، أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن ، وأنشئوا عباد الرحمن إناثا. وقرأ أبيّ عبد الرحمن : مفردا ، ومعناه الجمع ، لأنه اسم جنس. وقرأ الجمهور : وأشهدوا ، بهمزة الاستفهام داخلة على شهدوا ، ماضيا مبنيا للفاعل ، أي أحضروا خلقهم ، وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدي. وقيل : سألهم الرسول عليه‌السلام : «ما يدريكم أنهم إناث؟» فقالوا : سمعنا ذلك من آبائنا ، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) عنها ، أي في الآخرة. وقرأ نافع : بهمزة داخلة على أشهدوا ، رباعيا مبنيا للمفعول بلا مد بين الهمزتين. والمسبى عنه : بمدة بينهما ؛ وعليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وفي رواية أبي عمرو ، ونافع : بتسهيل الثانية بلا مد ؛ وجماعة : كذلك بمد بينهما. وعن عليّ والمفضل ، عن عاصم : تحقيقهما بلا مد ؛ والزهري وناس : أشهدوا بغير استفهام ، مبنيا للمفعول رباعيا ، فقيل : المعنى على الاستفهام ، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها. وقيل : الجملة صفة للإناث ، أي إناثا مشهدا منهم خلقهم ، وهم لم يدعوا أنهم شهدوا خلقهم ، لكن لما ادّعوا لجراءتهم أنهم إناث ، صاروا كأنهم ادعوا ذلك وإشهادهم خلقهم. وقرأ الجمهور : إناثا ، وزيد بن عليّ : أنثا ، جمع جمع الجمع. قيل : ومعنى وجعلوا : سموا ، وقالوا : والأحسن أن يكون المعنى : وصيروا اعتقادهم الملائكة إناثا ، وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم ، والمعنى : إظهار فساد عقولهم ، وأن دعاويهم مجردة من الحجة ، وهذا نظير الآية الطاعنة على أهل التنجيم والطبائع : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (٣). وقرأ الجمهور : ستكتب ، بالتاء من فوق مبنيا للمفعول. شهادتهم : بالرفع مفردا ؛ والزبيري كذلك ، إلا أنه بالياء ؛ والحسن كذلك ، إلا أنه بالتاء ، وجمع شهادتهم ؛ وابن عباس ، وزيد بن عليّ ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجحدري ، والأعرج : بالنون مبنيا للفاعل ، شهادتهم على الإفراد. وقرأ فرقة : سيكتب بالياء مبنيا للفاعل ، أي الله ؛ شهادتهم : بفتح التاء. والمعنى : أنه ستكتب شهادتهم على الملائكة بأنوثتهم. ويسألون : وهذا وعيد.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٥١.

٣٦٥

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) : الضمير للملائكة. قال قتادة ومقاتل : في آخرين. وقال مجاهد : الأوثان علقوا انتفاء العبادة على المشيئة ، لكن العبادة وجدت لما انتفت المشيئة ، فالمعنى : أنه شاء العبادة ، ووقع ما شاء ، وقد جعلوا إمهال الله لهم وإحسانه إليهم ، وهم يعبدون غيره ، دليلا على أنه يرضى ذلك دينا. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في أواخر الأنعام ، وفي الكلام حذف ، أي فنحن لا نؤاخذ بذلك ، إذ هو وفق مشيئة الله ، ولهذا قال : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) ، أي بما ترتب على عبادتهم من العقاب ، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : أي يكذبون. وقيل : الإشارة بذلك إلى ادعائهم أن الملائكة إناث. وقال الزمخشري : هما كفرتان مضمومتان إلى الكفرات الثلاث ، وهم : عبادتهم الملائكة من دون الله ، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئته ، كما يقول إخوانهم المجبرة. انتهى. جعل أهل السنة أخوات للكفرة عباد الملائكة ، ثم أورد سؤالا وجوابا جاريا على ما اختاره من مذهب الاعتزال ، يوقف على ذلك في كتابه ، ولما نفى عنهم ، علم ترك عقابهم على عبادة غير الله ، أي ليس يدل على ذلك عقل. نفى أيضا أن يدل على ذلك سمع ، فقال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) من قبل نزول القرآن ، أو من قبل إنذار الرسل ، يدل على تجويز عبادتهم غير الله ، وأنه لا يترتب على ذلك. ثم أخبر تعالى أنهم في ذلك مقلدون لآبائهم ، ولا دليل لهم من عقل ولا نقل. ومعنى : (عَلى أُمَّةٍ) : أي طريقة ودين وعادة ، فقد سلكنا مسلكهم ، ونحن مهتدون في اتباع آثارهم ؛ ومنه قول قيس بن الحطيم :

كنا على أمّة آبائنا

ويقتدي بالأول الآخر

وقرأ الجمهور : أمّة ، بضم الهمزة. وقال مجاهد ، وقطرب : على ملة. وقال الجوهري : والأمّة : الطريقة ، والذي يقال : فلان لا أمّة له : أي لا دين ولا نحلة. قال الشاعر :

وهل يستوي ذو أمّة وكفور

وتقدّم الكلام في أمّة في قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (١). وقرأ عمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة ، والجحدري : بكسر الهمزة ، وهي الطريقة الحسنة لغة في الأمّة بالضم ، قاله الجوهري. وقرأ ابن عباس : أمّة ، بفتح الهمزة ، أي على قصد وحال ، والخلاف في الحرف الثاني كهو في الأول. وحكى مقاتل : إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤٥.

٣٦٦

سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة بن أبي ربيعة من قريش ، أي كما قال من قبلهم أيضا ، يسلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. والمترف : المنعم ، أبطرتهم النعمة ، فآثروا الشهوات ، وكرهوا مشاق التكاليف. وقرأ الجمهور : قل على الأمر ؛ وابن عامر وحفص : قال على الخبر. وقرأ الجمهور : جئتكم ، بتاء المتكلم ؛ وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن مقسم ، والزعفراني ، وأبو شيخ الهنائي ، وخالد : جئناكم ، بنون المتكلمين. والظاهر أن الضمير في قال ، أو في قل ، للرسول ، أي : قل يا محمد لقومك : أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم؟ وهذا تجهيل لهم ، حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ) ، أنت والرسل قبلك. غلب الخطاب على الغيبة. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالقحط والقتل والسبي والجلاء. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) من كذبك. وقال ابن عطية في قال : ضمير يعود على النذير ، وباقي الآية يدل على أن قل في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير. ولو : في هذا الموضع ، كأنها شرطية بمعنى : إن ، كان معنى الآية : أو إن جئتكم بأبين وأوضح مما كان عليه آباؤكم ، يصحبكم لجاجكم وتقليدكم ، فأجاب الكفار حينئذ من الأمم المكذبة بأنبيائها ، كما كذبت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر هو ما قدمناه.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) : وذكر العرب بحال جدّهم الأعلى ، ونهيه عن عبادة غير الله ، وإفراده بالتوحيد والعبادة هزؤا لهم ، ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم ، إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقلد أباه في عبادة الأصنام ، فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين ، وترجعوا إلى النظر واتباع الحق. وقرأ الجمهور : برآء ، مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما ، يقال : نحن البراء منك ، وهي لغة العالية. وقرأ الزعفراني والقورصي ، عن أبي جعفر وابن المناذري ، عن نافع : بضم الباء ؛ والأعمش : برىء ، وهي لغة نجد وشيخيه ، ويجمع ويؤنث ، وهذا نحو : طويل وطوال ، وكريم وكرام. وقرأ الأعمش : إني ، بنون مشددة دون نون الوقاية ؛ والجمهور : إنني ، بنونين ، الأولى مشددة. والظاهر أن قوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثناء منقطع ، إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم. وقيل : كانوا يشركون أصنامهم معه تعالى في العبادة ، فيكون استثناء متصلا. وعلى الوجهين ، فالذي في موضع نصب ، وإذا كان استثناء متصلا ، كانت ما شاملة من يعلم ومن لا يعلم. وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجرورا بدلا من المجرور بمن ، كأنه قال : إنني براء مما تعبدون ، إلا من الذي. وأن تكون إلا صفة

٣٦٧

بمعنى : غير ، على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١). انتهى. ووجه البدل لا يجوز ، لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام. ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له؟ وإنني بريء ، جملة موجبة ، فلا يصلح أن يفرغ العامل فيها للذي هو بريء لما بعد إلا. وعن الزمخشري : كون بريء ، فيه معنى الانتفاء ، ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا. وأما تقديره ما نكرة موصوفة ، فلم يبقها موصولة ، لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة. وهذه المسألة فيها خلاف. من النحويين من قال : توصف بها النكرة والمعرفة ، فعلى هذا تبقى ما موصولة ، ويكون إلا في موضع الصفة للمعرفة ، وجعله فطرني في صلة الذي. تنبيه على أنه لا يعبد ولا يستحق العبادة إلا الخالق للعباد.

(فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) : أي يديم هدايتي ، وفي مكان آخر : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٢) ، فهو هاديه في المستقبل. والحال والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم ، وقيل على الله. والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهي قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي). وقال قتادة ومجاهد والسدي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، لأن اللفظ يتضمنها. وقال ابن زيد : كلمة الإسلام لقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣) ، (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ) (٤) ، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (٥). وقرأ حميد بن قيس : كلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام. وقرىء : في عقبه ، بسكون القاف ، أي في ذريته. وقرىء : في عاقبه ، أي من عقبه ، أي خلفه. فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده. لعلهم : أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم. وقرأ الجمهور : بل متعت ، بتاء المتكلم ، والإشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه‌السلام من العرب. لما قال : (فِي عَقِبِهِ) ، قال تعالى : لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم في كفرهم ، فليسوا ممن تعقب كلمة التوحيد فيهم. وقرأ قتادة والأعمش : بل متعت ، بتاء الخطاب ، ورواها يعقوب عن نافع. قال صاحب اللوامح : وهي من مناجاة إبراهيم عليه‌السلام ربه تعالى. والظاهر أنه من مناجاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٧٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٨.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٣١.

(٥) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

٣٦٨

قال يا رب بل متعت. وقرأ الأعمش : متعنا ، بنون العظمة ، وهي تعضد قراءة الجمهور.

(حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) ، وهو القرآن ؛ (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه من قرأ : بل متعت ، بفتح التاء؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله. فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع ، ثم أردفه قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته. فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.

ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) ، جاءوا بما هو شرّ من غفلتهم التي كانوا عليها ، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة ، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل زمانه بقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. انتهى ، وهو حسن لكن فيه إسهاب. والضمير في : وقالوا ، لقريش ، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولا ، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى ، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم. فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ، ناقضوا فيما يخص محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لم كان محمدا ، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال. وقرىء : على رجل ، بسكون الجيم. من القريتين : أي من إحدى القريتين. وقيل : من رجل القريتين ، وهما مكة والطائف. قال ابن عباس : والذي من مكة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة ، وكنانة بن عبد ياليل. وقال قتادة : الوليد بن المغيرة ، وعروة بن

٣٦٩

مسعود الثقفي. قال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه ، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش ، وكان يقول : لو كان ما يقول محمد حقا لنزل عليّ أو على ابن مسعود ، يعني عروة بن مسعود ، وكان يكنى أبا مسعود.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم ، كأنه قيل : على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها. ثم في إضافته في قوله : (رَحْمَةِ رَبِّكَ) ، تشريف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك. ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم ، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى. وإذا كان هو الذي تولى ذلك ، وفاوت بينهم ، وذلك في الأمر الفاني ، فكيف لا يتولى الأمر الخطير ، وهو إرسال من يشاء ، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك ، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم. وقرأ الجمهور : معيشتهم ، على الإفراد ؛ وعبد الله ، والأعمش ، وابن عباس ، وسفيان : معائشهم ، على الجمع. والجمهور : سخريا ، بضم السين ؛ وعمرو بن ميمون ، وابن محيصن ؛ وابن أبي ليلى ، وأبو رجاء ، والوليد بن مسلم ، وابن عامر : بكسرها ، وهو من التسخير ، بمعنى : الاستعباد والاستخدام ، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم. ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه ، ما أطاق ذلك وضاع وهلك. ويبعد أن يكون سخريا هنا من الهزء ، وقد قال بعضهم : أي يهزأ الغني بالفقير. وفي قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا) ، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا ، وهون على التوكل على الله. وقال مقاتل : فاضلنا بينهم ، فمن رئيس ومرؤوس. وقال قتادة : تلقى ضعيف القوة ، قليل الحيلة ، غني اللسان ، وهو مبسوط له ؛ وتلقى شديد الحيلة ، بسيط اللسان ، وهو مقتر عليه. وقال الشافعي ، رحمه‌الله :

ومن الدليل على القضاء وكونه

بؤس الفقير وطيب عيش الأحمق

ورحمة ربك : قيل النبوة ، وقيل : الهداية والإيمان. وقال قتادة والسدي : الجنة خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا ، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ

٣٧٠

يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ، وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ).

بين تعالى أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله ، أي ولو لا أن يرغب الناس في الكفر ، إذ رأوا الكافر في سعة ، ويصيروا أمة واحدة في الكفر. قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ، ولكن تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن. قال ابن عطية : واللام في : لمن يكفر ، لام الملك ، وفي : لبيوتهم ، لام تخصيص. كما تقول : هذا الكساء لزيد لدابته ، أي هو لدابته حلس ولزيد ملك ، انتهى. ولا يصح ما قاله ، لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل ، فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى. أما أن يختلف المدلول ، فلا واللام في كليهما للتخصيص. وقال الزمخشري : لبيوتهم بدل اشتمال من قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ) ، ويجوز أن تكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوبا لقميصه. انتهى ، ولا أدري ما أراد بقوله : ويجوز إلى آخره. وقرأ الجمهور : سقفا ، بضمتين ؛ وأبو رجاء : بضم وسكون ، وهما جمع سقف ، لغة تميم ، كرهن ورهن ؛ وابن كثير وأبو عمرو : بفتح السين والسكون على الإفراد. وقال الفراء : جمع سقيفة ، وقرىء بفتحتين ، كأنه لغة في سقف ؛ وقرىء : سقوفا ، جمعا على فعول نحو : كعب وكعوب. وقرأ الجمهور : ومعارج جمع معرج ، وطلحة : ومعاريج جمع معراج ، وهي المصاعد إلى العلالي عليها ، أي يعلون السطوح ، كما قال : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) (١). وقرأ الجمهور : وسررا ، بضم السين ؛ وقرىء بفتحها ، وهي لغة لبعض تميم وبعض كلب ، وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفة نحو : ثوب جديد ، وثياب جدد ، باختلاف بين النحاة. وهذه الأسماء معاطيف على قوله : (سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) ، فلا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة. وقال الزمخشري : سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا ، كلها من فضة. انتهى ، كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه وزخرفا. قال الزمخشري : وجعلنا لهم زخرفا ، ويجوز أن يكون الأصل : سقفا من فضة وزخرف ، يعني : بعضها من فضة

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٩٧.

٣٧١

وبعضها من ذهب ، فنصب عطفا على محل من فضة. انتهى. والزخرف : الذهب هنا ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي. وفي الحديث : «إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان».

قال ابن عطية : الحسن أحمر ، والشهوات تتبعه. انتهى. قال بعض شعرائنا :

وصبغت درعك من دماء كماتهم

لما رأيت الحسن يلبس أحمرا

وقال ابن زيد : الزخرف : أثاث البيت ، وما يتخذ له من السرر والنمارق. وقال الحسن : النقوش ، وقيل : التزاويق ، كالنقش. وقرأ الجمهور : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم : هي مخففة من الثقيلة ، واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي ، وما : زائدة ، ومتاع : خبر كل. وقرأ الحسن ، وطلحة ، والأعمش ، وعيسى ، وعاصم ، وحمزة : لما ، بتشديد الميم ، وإن : نافية ، ولما : بمعنى إلا. وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة : لما ، بكسر اللام ، وخرّجوه على أن ما موصولة. والعائد محذوف تقديره : للذي هو متاع كقوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (١). وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة ، وكل : مبتدأ وخبره في المجرور ، أي : وإن كل ذلك لكائن ، أو لمستقر الذي هو متاع ، ومن حيث هي المخففة من الثقيلة ، كان الإتيان باللام هو الوجه ، فكان يكون التركيب لكما متاع ، لكنه قد تحذف هذه اللام إذا دل المعنى على أن إن هي المخففة من الثقيلة ، فلا يجر إلى ذكر اللام الفارقة ، ومن ذلك قول الشاعر :

ونحن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن

يريد : لكانت ، ولكنه حذف لأنه لا يتوهم في إن أن تكون نافية ، لأن صدر البيت يدل على المدح ، وتعين إن لكونها المخففة من الثقيلة. (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) : أي ونعيم الآخرة ، وفيه تحريض على التقوى. وقرأ : ومن يعش ، بضم الشين ، أي يتعام ويتجاهل عن ذكره ، وهو يعرف الحق. وقيل : يقل نظره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في : (ذِكْرِ الرَّحْمنِ). والذكر هنا ، يجوز أن يراد به القرآن ، واحتمل أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول ، أي يعش عن أن يذكر الرحمن. وقال ابن عطية : أي فيما ذكر عباده ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل. انتهى ، كأنه يريد بالذكر : التذكير. وقرأ يحيى بن سلام البصري : ومن يعش ، بفتح الشين ، أي يعم عن ذكر الرحمن ، وهو القرآن ، كقوله :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٤.

٣٧٢

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (١). وقرأ زيد بن علي : يعشو بالواو. وقال الزمخشري : على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض. انتهى. ولا يتعين ما قاله ، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن تكون من شرطية ، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديرا. وقد ذكر الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب ، ويحذفون حروف العلة للجازم. والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر ، لا في الكلام. والوجه الثاني : أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط ، وإذا كان ذلك مسموعا في الذي ، وهو لم يكن اسم شرط قط ، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا. قال الشاعر :

ولا تحفرن بئرا تريد أخا بها

فإنك فيها أنت من دونه تقع

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع

أنشدهما ابن الأعرابي ، وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو : أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره ، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر ، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في علم النحو ، وهذا لا ينفيه البصريون. وقرأ الجمهور : نقيض ، بالنون ؛ وعلي ، والسلمي ، والأعمش ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بخلاف عنه ؛ وحماد عن عاصم ، وعصمة عن الأعمش ، وعن عاصم ، والعليمي عن أبي بكر : بالياء ، أي يقيض الرحمن ؛ وابن عباس : يقيض مبنيا للمفعول. له شيطان : بالرفع ، أي ييسر له شيطان ويعدله ، وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح. كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات. وقال الزمخشري : يخذله ، ويحل بينه وبين الشياطين ، كقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) (٢) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) (٣). انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. والظاهر أن ضمير النصب في (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) عائد على من ، على المعنى أعاد أولا على اللفظ في إفراد الضمير ، ثم أعاد على المعنى. والضمير في يصدونهم عائد على شيطان وإن كان مفردا ، لأنه مبهم في جنسه ، ولكل عاش شيطان قرين ، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية : والضمير في قوله : وإنهم ، عائد على الشيطان ، وفي : ليصدونهم ، عائد على الكفار. انتهى. والأولى ما ذكرناه لتناسق الضمائر في وإنهم ، وفي ليصدونهم ، وفي ويحسبون ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨ ـ ١٧١.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٢٥.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٨٣.

٣٧٣

لمدلول واحد ، كأن الكلام : وأن العشاة ليصدونهم الشياطين عن السبيل ، أي سبيل الهدى والفوز ، ويحسبون : أي الكفار.

وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وقتادة ، والزهري ، والجحدري ، وأبو بكر ، والحرميان : حتى إذا جاآنا ، على التثنية ، أي العاشي والقرين إعادة على لفظ من والشيطان القرين ، وإن كان من حيث المعنى صالحا للجمع. وقرأ الأعمش ، والأعرج ، وعيسى ، وابن محيصن ، والإخوان : جاءنا على الإفراد ، والضمير عائد على لفظ من أعاد أولا على اللفظ ، ثم جمع على المعنى ، ثم أفرد على اللفظ ؛ ونظير ذلك : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١) : أفرد أولا ثم جمع في قوله : (خالِدِينَ) ، ثم أفرد في قوله : (لَهُ رِزْقاً). روى أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال ، أي الكافر للشيطان : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصدّه عن سبيل الله ، أو تمنى ذلك في الآخرة ، وهو الظاهر ، لأنه جواب إذا التي للاستقبال ، أي مشرقي الشمس : مشرقها في أقصر يوم من السنة ، ومشرقها في أطول يوم من السنة ، قاله ابن السائب ، أو بعد المشرق ، أو المغرب غلب المشرق فثناهما ، كما قالوا : العمران في أبي بكر وعمر ، والقمران في الشمس والقمر ، والموصلان في الجزيرة والموصل ، والزهدمان في زهدم وكردم ، والعجاجان في رؤبة والعجاج ، والأبوان في الأب والأم ، وهذا اختيار الفراء والزجاج ، ولم يذكره الزمخشري. قال : فإن قلت : فما بعد المشرقين؟ قلت : تباعدهما ، والأصل بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق ، فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية ؛ أضاف البعد إليهما. انتهى. وقيل : بعد المشرقين من المغربين ، واكتفى بذكر المشرقين. وكأنه في هذا القول يريد مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) : مبالغة منه في ذم قرينه ، إذا كان سبب إيراده النار. والمخصوص بالذم محذوف ، أي فبئس القرين أنت. (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) : حكاية حال يقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمراره مدته ، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب. ألا ترى إلى قول الخنساء :

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ١١.

٣٧٤

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزي النفس عنه بالتأسي

فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس ، فنفي الله عنهم الانتفاع بالتأسي ؛ وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير ؛ وهذا لا يكون إلا على تقدير أن يكون الفاعل ينفعكم أنكم ومعمولاها ، أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب إن لن يخفف عنكم اشتراككم في العذاب. وإذا كان الفاعل غير أن ، وهو ضمير ، يعود على ما يفهم من الكلام قبله ، أي يتمنى مباعدة القرين والتبرؤ منه ، ويكون أنكم تعليلا ، أي لاشتراككم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، وهو الكفر. وقال مقاتل المعنى : ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، لأنكم وقرناءكم مشتركون في العذاب ، كما اشتركتم في الكفران في الدنيا. وعلى كون الفاعل غير أن ، وهي قراءة الجمهور ، لا يتضمن الكلام نفي التأسي. وقرىء : إنكم بالكسر ، فدل على إضمار الفاعل ، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل. واليوم وإذ ظرفان ، فاليوم ظرف حال ، وإذ ظرف ماض. أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه ، أو لتجوز في المستقبل ، كقوله : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) (١) ، وقول الشاعر :

سأشقى الآن إذ بلغت مناها

وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل ، فقال الزمخشري : وإذ بدل من اليوم. انتهى. وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم ، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ونظيره :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي تبين أني ولد كريمة. انتهى. ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان. فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، وتخريجها على البدل ، أخذه الزمخشري من ابن جني. قال في مساءلته أبا علي : راجعته فيها مرارا ، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله وعلمه ، فيكون إذ بدلا من اليوم ، حتى كأنها مستقبلة ، أو كأن اليوم ماض. وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، فحذف المضاف للعلم به. وقيل : إذ للتعليل حرفا بمعنى إن. وقال الحوفي : اليوم ظرف متعلق بينفعكم ، ولا يجوز تعلق إذ به ، لأنهما ظرفا زمان ، يعني متغايرين في المعنى تغايرا

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ٩.

٣٧٥

لا يمكن أن يجتمعا ، قال : فلا يصح أن يكون بدلا من الأخير ، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضى. قال : ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى ، كأنه قال : ولن ينفعكم اجتماعكم ، ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك. وقيل : الفاعل محذوف تقديره ظلمكم ، أو جحدكم ، وهو العامل في إذ ، لا ضمير الفاعل لما ذكر تعالى حال الكفار وما يقال لهم. وكانت قريش تسمع ذلك ، فلا تزداد إلا عتوا واعتراضا ، وكان هو ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يجتهد في تحصيل الإيمان لهم. خاطبه تعالى تسلية له باستفهام تعجيب ، أي أن هؤلاء صم ، فلا يمكنك إسماعهم ، عمي حيارى ، فلا يمكنك أن تهديهم ، وإنما ذلك راجع إليه تعالى. ولما كانت حواسهم لن ينتفعوا بها الانتفاع الذي يجري خلاصهم من عذاب الله ، جعلوا صما عميا حيارى ، ويريد بهم قريشا ، فهم جامعو الأوصاف الثلاثة ، ولذلك عاد الضمير عليهم في قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) ، ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) الآية. والمعنى : أن قبضناك قبل نصرك عليهم ، فإنا منهم منتقمون في الآخرة كقوله : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (١) ، (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب النازل بهم كيوم بدر ، (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) : أي هم في قبضتنا ، لا يفوتوننا ، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن وقتادة : المتوعد هم الأمة ، أكرم الله تعالى نبيه عن أن ينتقم منهم في حياته ، كما انتقم من أمم الأنبياء في حياتهم ، فوقعت النقمة منهم بعد موته عليه‌السلام في العين الحادثة في صدر الإسلام ، مع الخوارج وغيرهم. وقرىء : نرينك بالنون الخفيفة. ولما ردد تعالى بين حياته وموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمره بأن يستمسك بما أوحاه إليه. وقرأ الجمهور : أوحى مبنيا للمفعول ، وبعض قراء الشام : بإسكان الياء ، والضحاك : مبنيا للفاعل ، وأنه ، أي وإن ما أوحينا إليك ، (لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) : أي شرف ، حيث نزل عليهم وبلسانهم ، جعل تبعا لهم. والقوم على هذا قريش ثم العرب ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. كان عليه‌السلام يعرض نفسه على القبائل ، فإذا قالوا له : لمن يكون الأمر بعدك؟ سكت ، حتى نزلت هذه الآية. فكان إذا سئل عن ذلك قال : «لقريش» ، فكانت العرب لا تقبل حتى قبلته الأنصار. وقال الحسن : القوم هنا أمّته ، والمعنى : وإنه لتذكرة وموعظة. قيل : وهذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن الجميل ، ولو لم يكن ذلك مرغوبا فيه ، ما امتن به تعالى على رسوله فقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). وقال إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٧٧.

٣٧٦

لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (١). والذكر الجميل قائم مقام الحياة ، بل هو أفضل من الحياة ، لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في الحي ، وأثر الذكر الجميل يحصل في كل مكان ، وفي كل زمان. انتهى. وقال ابن دريد :

وإنما المراد حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعا

وقال الآخر :

إنما الدنيا محاسنها

طيب ما يبقى من الخبر

وذكر أن هلاون ، ملك التتر ، سأل أصحابه : من الملك؟ فقالوا : أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعت لك الملوك. فقال : لا الملك هذا ، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن ، هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة ، قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم خمس مرات؟ يريد محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ، قال الحسن عن شكر هذه النعمة. وقال مقاتل : المراد من كذب به يسأل سؤال توبيخ. (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) ، قيل : هو على ظاهره ، وأن جبريل عليه‌السلام قال له ليلة الإسراء ، حين أم بالأنبياء : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) ، فلم يسألهم ، إذ كان أثبت يقينا ، ولم يكن في شك. وروي ذلك عن ابن عباس ، وابن جبير ، والزهري ، وابن زيد ، وفي الأثر أن ميكال قال لجبريل : هل سأل محمد عن ذلك؟ فقال : هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأله ذلك. وقال ابن عباس أيضا ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وعطاء : أراد واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، إذ يستحيل سؤال الرسل أنفسهم ، وليسوا مجتمعين في الدنيا. قال الفراء : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم ، فكأنه سأل الرسل ، والسؤال الواقع مجاز عن النظر ، حيث لا يصلح لحقيقته ، كثير منه مساءلة الشعراء الديار والأطلال ، ومنه : سيد الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. فالسؤال هنا مجاز عن النظر في أديانهم : هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ والذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات ، فقيل له : اسأل أيها الناظر أتباع الرسل ، أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ، ولا يمكن أن يأتوا به. وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : واسألني ، واسألنا عن من أرسلنا ، وعلق واسأل ، فارتفع من ، وهو اسم استفهام على

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٤.

٣٧٧

الابتداء ، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض ، كان سؤاله : من أرسلت يا رب قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد؟ ثم ساق السؤال فحكى المعنى ، فرد الخطاب إلى محمد في قوله : (مِنْ قَبْلِكَ). (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ).

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين : أحدهما : أنه لما تقدم طعن قريش على الرسول ، واختيارهم أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أي في الجاه والمال ؛ وذكر أن مثل ذلك سبقهم إليه فرعون في قوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)؟ إلى آخر الآية ، أتبعه بالملك والمال ، ففرعون قدوتهم في ذلك ، ومع ذلك ، فصار فرعون مقهورا مع موسى منتقما منه ، فكذلك قريش. والوجه الثاني : أنه لما قال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) الآية ، ذكر وقته موسى وعيسى ، وهما أكبر اتباعا ممن سبقهم من الأنبياء ، وكل جاء بالدعاء إلى الله وإفراده بالعبادة ، فلم يكن فيما جاء أبدا إباحة اتخاذ آلهة من دون الله ، كما اتخذت قريش ، فناسب ذكر قصتهما للآية التي قبلها. وآيات موسى هي المعجزات التي أتى بها. وخص الملائكة بالذكر ، وهم الأشراف لأن غيرهم من الناس تبع لهم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا) ، قبله كلام محذوف تقديره : فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا) ، وهي انقلاب العصا ثعبانا وعودها عصا ، وإخراج اليد البيضاء نيرة ، وعودها إلى لونها الأول ، (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ، أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا ، بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء ، كما كانت قريش تضحك. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وقت ضحكهم. انتهى. ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل ، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ ، بل المذاهب فيها

٣٧٨

ثلاثة : مذهب أنها حرف ، فلا تحتاج إلى عامل ، ومذهب أنها ظرف مكان ، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو : خرجت فإذا زيد قائم ، فقائم ناصب لإذا ، كأن التقدير : خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم ؛ ومذهب أنها ظرف زمان ، والعامل فيه الخبر أيضا ، كأنه قال : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم ، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر ، أو ذكر اسم منصوب على الحال ، كانت إذا خبرا للمبتدأ. فإن كان المبتدأ جثة ، وقلنا إذا ظرف مكان ، كان الأمر واضحا ؛ وإن قلنا ظرف زمان ، كان الكلام على حذف ، أي ففي الزمان حضور زيد. وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة ، لم ينطق به ولا في موضع واحد. ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق ، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا. تقول : خرجت فإذا الأسد ، والمعنى : ففاجأني الأسد ، وليس المعنى : ففاجأت الأسد.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) ، قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع ، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها ، وهذه صفة كل واحدة منهما ، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات. قلت : أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء ، واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته ، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلا. فإن قلت : فهو كلام متناقض ، لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة ، قلت : الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير ، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا ، وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة :

من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

وقد فاضلت الأنمارية بين الكلمة من بنيها ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدري أين طرفاها. انتهى ، وهو كلام طويل ، ملخصه : أن الوصف بالأكبرية مجاز ، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها. وقال ابن عطية : عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها

٣٧٩

وحدوثه ، وذلك أن آية عرضها موسى ، هي العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر ، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر :

على أنها تعفو الكلوم وإنما

يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي

وذهب الطبري إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات. انتهى. وقيل : كانت من كبار الآيات ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ؛ فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة ، أي من أختها السابقة عليها ، ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى ، لأنه لم يسبقها شيء ، فتكون أكبر منه. وقيل : الأولى تقتضي علما ، والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى ، فيزداد الرجوح. وكنى بأختها : مناسبتها ، تقول : هذه الذرة أخت هذه ، أي مناسبتها. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) : (بِالسِّنِينَ ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) (١) و (الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) (٢) ، وذلك عقاب لهم ، وآيات لموسى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم. قال الزمخشري : لعلهم يرجعون ، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان. فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان. قلت : إرادته فعل غيره ، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع ، لأن الإرادة لم تكن قسرا ولم يختاروه. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال. وقال ابن عطية : لعلهم ، ترجّ بحسب معتقد البشر وظنهم.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) : أي في كشف العذاب. قال الجمهور : هو خطاب تعظيم ، لأن السحر كان علم زمانهم ، أو لأنهم استصحبوا له ما كانوا يدعون به أولا ، ويكون قولهم : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) : إخبار مطابق مقصود ، وقيل : بل خطاب استهزاء وانتقاص ويكون قولهم : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ، أي على زعمك ، وقوله : و (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) : إخبار مطابق على شرط دعائه ، وكشف العذاب وعهد معزوم على نكثه. ألا ترى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)؟ وعلى القول الأول يكون قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جاريا على أكثر عادة الناس ، إذا مسه الضر تضرع ودعا ، وإذا كشف عنه رجع إلى عادته الأولى ، كقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٣.

٣٨٠