البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

ركد الشيء ، ثبت في مكانه ، وقد قال الشاعر :

وقد ركدت وسط السماء نجومها

ركودا يواري الربرب المتفرّق

(حم عسق ، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ

٣٢١

مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس : مكية إلا أربع آيات من قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلى آخر الأربع آيات ، فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل : فيها مدني قوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) الى (الصُّدُورِ). ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) الآية ، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال. لما كفروا به قال هنا : (كَذلِكَ) ، أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء ، (يُوحِي إِلَيْكَ) : أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع ، يتعهدك وقتا بعد وقت. وذكر المفسرون في (حم عسق) أقوالا مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح ، ضربنا عن ذكرها صفحا. وقرأ الجمهور : يوحي مبنيا للفاعل ؛ وأبو حيوة ، والأعشى عن أبي بكر ، وأبان : نوحي بنون العظمة ؛ ومجاهد ، وابن وكثير ، وعباس ، ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو : يوحي مبنيا للمفعول ؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحى ، أو بالابتداء ، التقدير : الله العزيز الحكيم الموحي ؛ وعلى قراءة نوحي بالنون ، يكون (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مبتدأ وخبرا. ويوحي ، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله : (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، أو يقرأ على موضوعه ، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره : وأوحى إلى الذين من قبلك.

وتقدم الكلام على (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) في سورة مريم قراءة وتفسيرا. وقال الزمخشري : وروى يونس عن أبي عمرو قراءة عربية : تتفطرن بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن. انتهى. والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل ، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القراءات له ما نصه : تفطرن بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمرو. وقال ابن خالويه : هذا حرف نادر ، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث. لا يقال : النساء تقمن ، ولكن يقمن ، والوالدات يرضعن. قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن ، فأنكرناه ، فقد قواه ، لأن هذا كلام ابن

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٥٢.

٣٢٢

خالويه. فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم ، وإن كان في بعضها بتاء مع النون ، كان موافقا لقول ابن خالويه ، وكان بتاءين تحريفا من النساخ. وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين. والظاهر عود الضمير في (فَوْقِهِنَ) على (السَّماواتُ). قال ابن عطية : من أعلاهن. وقال الزمخشري : ينفطرن من علو شأن الله تعالى وعظمته ، ويدل عليه مجيئه بعد (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). وقيل : من دعائهم له ولدا ، كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١). فإن قلت : لم قال (مِنْ فَوْقِهِنَ)؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات ، وهي العرش والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) : أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية. وقال جماعة ، منهم الحوفي ، قال : (مِنْ فَوْقِهِنَ) ، والهاء والنون كناية عن الأرضين. انتهى. (مِنْ فَوْقِهِنَ) متعلق بيتفطرن ، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل. وقال علي بن سليمان الأخفش : الضمير للكفار ، والمعنى : من فوق الفرق والجماعات الملحدة ، أي من أجل أقوالها. انتهى.

فهذه الآية كالذي في سورة مريم ، واستبعد مكي هذا القول ، قال : لا يجوز في الذكور من بني آدم ، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي. قال علي بن سليمان : من فوق الفرق والجماعات ، وظاهر الملائكة العموم. وقال مقاتل : حملة العرش والتسبيح ، قيل : قولهم سبحان الله ، وقيل : يهللون ؛ والظاهر في يستغفرون طلب الغفران ، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ، قاله السدي. وقيل : عام. ومعنى الاستغفار : طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة ، كأنهم يقولون : اللهم اهد أهل الأرض ، فاغفر لهم. ويدل عليه وصفه بالغفران والرحمة والاستفتاح. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم : طلب الحلم والغفران في قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) ، إلى أن قال : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٣) ، وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٤) ، والمراد : الحلم عنهم ، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. انتهى. وتكلم أبو عبد الله الرازي في قوله : (تَكادُ السَّماواتُ) كلاما خارجا

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٠.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٧.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٤١.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٦.

٣٢٣

عن مناحي مفهومات العرب ، منتزعا من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم ، يوقف على ذلك فى كتابه.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : أي أصناما وأوثانا ، (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) : أي على أعمالهم ومجازيهم عليها ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم. وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف. (وَكَذلِكَ) : أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء ، إنك لست بوكيل عليهم ، (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا). والظاهر أن (قُرْآناً) مفعول (أَوْحَيْنا). وقال الزمخشري : الكاف مفعول به ، أي أوحيناه إليك ، وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك ، إذ نزل بلسانك. انتهى. فاستعمل الكاف اسما في الكلام ، وهو مذهب الأخفش. (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) : مكة ، أي أهل أم القرى ، وكذلك المفعول الأول محذوف ، والثاني هو : (يَوْمَ الْجَمْعِ) : أي اجتماع الخلائق ، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين ، أو اجتماع الأرواح بالأجساد ، أو أهل الأرض بأهل السماء ، أو الناس بأعمالهم ، أقوال أربعة. لينذر بياء الغيبة ، أي لينذر القرآن. (لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شك في وقوعه. وقال الزمخشري : (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراض لا محالة. انتهى. ولا يظهر أنه اعتراض ، أعني صناعيا ، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب. وقرأ الجمهور : (فَرِيقٌ) بالرفع فيهما ، أي هم فريق أو منهم فريق. وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما ، أي افترقوا ، فريقا في كذا ، وفريقا في كذا ؛ ويدل على الافتراق : الاجتماع المفهوم من يوم الجمع.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : يعني من إيمان أو كفر ، قال معناه الضحاك ، وهو قول أهل السنة ، وذلك تسلية للرسول. كما كان يقاسيه من كفر قومه ، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته ، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته. وقال الزمخشري : (لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (١) ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٢). والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) ، وذكر ما ظنه استدلالا على ذلك ، وهو على طريق الاعتزال. وقال أنس بن مالك : (فِي رَحْمَتِهِ) : في دين الإسلام. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ، أم بمعنى بل ،

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ١٣.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٩٩.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٩٩.

٣٢٤

للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون الله. وقيل : أم بمعنى الهمزة فقط ، وتقدّم الكلام على مثل هذا ، حيث جاءت أم المنقطعة ، والمعنى : اتخذوا أولياء دون الله ، وليسوا بأولياء حقيقة ، فالله هو الولي ، والذي يجب أن يتولى وحده ، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم. ولما أخبر أنه هو الولي ، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره ، وهو إحياء الموتى. ولما ذكر هذا الوصف ، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به. وقال الزمخشري : في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) ، والفاء في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) جواب شرط مقدر ، كأنه قيل : بعد إنكار كل ولي سواه ، وإن أرادوا وليا بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولي سواه. انتهى. ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف ، والكلام يتم بدونه.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) : هذا حكاية لقول الرسول ، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك ، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى الله ، لا إليّ ، ولفظة من شيء تدل على العموم. وقيل : من شيء من الخصومات ، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١). وقيل : (مِنْ شَيْءٍ) : من تأويل آية واشتبه عليكم ، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب الله ، والظاهر من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح. وقال الزمخشري : أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين. (ذلِكُمُ) : الحاكم بينكم هو (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في رد كيد أعداء الدين ، وإليه أرجع في كفاية شرهم. انتهى. وقرأ الجمهور : (فاطِرُ) بالرفع ، أي هو فاطر ، أو خبر بعد خبر كقوله : (ذلِكُمُ). وقرأ زيد بن عليّ : فاطر بالجر ، صفة لقوله : (إِلَى اللهِ) ، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : أي من جنس أنفسكم ، أي آدميات ، (أَزْواجاً) : إناثا ، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجا له خلقا لنا ، (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

٣٢٥

أي أنواعا كثيرة ، ذكورا وإناثا ، أو أزواجا إناثا. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ، قال ابن عباس : أي يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها. وقال ابن زيد : يرزقكم فيه ، وهو قريب من القول قبله. وقال مجاهد : يخلقكم في بطون الإناث. وقال ابن زيد أيضا : يذرأكم فيما خلق من السموات والأرض. وقال الزجاج : يكثركم به ، أي فيه ، أي يكثركم في خلقكم أزواجا. وقال عليّ بن سليمان : ينقلكم من حال إلى حال. وقال ابن عطية : الضمير في فيه للجعل ، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل ، كما تقول : كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه ، قال : ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.

وقال الزمخشري : (يَذْرَؤُكُمْ) : يكثركم ، يقال ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم ، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغير مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين. انتهى. وقوله : وهي من الأحكام ذات العلتين ، اصطلاح غريب ، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول : أنت وزيد تقومان ؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا ، فتقول : الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم. قال الزمخشري ؛ فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل : يذرؤكم به؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير؟ كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) انتهى. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، تقول العرب : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون به المخاطب ، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفيا عن الشخص ، وهو من باب المبالغة ، ومثل الآية قول أوس بن حجر :

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر :

وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر

وقال آخر :

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم

ما إن كمثلهم في الناس من أحد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٩.

٣٢٦

فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء. وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلا زائدة للتوكيد كالكاف في قوله :

فأصبحت مثل كعصف مأكول

وقوله :

وصاليات ككما يؤثفين

ليس بجيد ، لأن مثلا اسم ، والأسماء لا تزاد ، بخلاف الكاف ، فإنها حرف ، فتصلح للزيادة. ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلان يده مبسوطة ، يريد أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له ، كقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (١). فكما جعلت ذلك كناية عن الجود فيمن لا يد له ، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذات في من لا مثل له. ويحتمل أيضا أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك سائغ ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة ، فيكون المعنى : ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره ، وهذا محمل سهل ، والوجه الأول أغوص. قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثال مقام النفس ، فيقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي أنا لا يقال لي هذا. انتهى. فقد صار ذلك كناية عن الذات ، فلا فرق بين قولك : ليس كالله شيء ، أو ليس كمثل الله شيء. وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلا منهما يراد به التشبيه ، وذلك محال ، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى ، وهو محال. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الخلق ، (الْبَصِيرُ) لأعمالهم. وتقدم تفسير : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الزمر ؛ وقرىء : (وَيَقْدِرُ) : أي يضيق. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : أي يوسع لمن يشاء ، ويضيق على من يشاء. وقال الزمخشري : فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ، وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ، فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

٣٢٧

بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ، اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).

لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة ، أتبعه بذكر نعمه العامة ، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها ، من توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر ، والجزاء فيه. ولما كان أول الرسل نوح عليه‌السلام ، وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على اتباع طريقته ، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم ، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق. والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام ؛ ويقال : إن نوحا أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم. وقال ابن عباس : اختار ، ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الأعراب. وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما ؛ وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده. ثم نهى عن التفرقة فيه ، لأن التفرق سبب للهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) : أي عظم وشق ، ما توعدهم إليه من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين. (اللهُ يَجْتَبِي) : يجتلب ويجمع ، (إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) هدايته ، وهذا تسلية للرسول. وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولا إلى عباده ، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) : يرجع إلى طاعته عن كفره. وقال الزمخشري : (مَنْ يَشاءُ) : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفه. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.

وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه‌السلام إلا بنوه ، ولم تفرض ، له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبها على بعض الأمور ، مقتصرا على ضرورات المعاش. واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف

٣٢٨

عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقرب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات ؛ فهذا كله مشروع دينا واحدا ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) : أي اجعلوه قائما ، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب. انتهى. وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته ، فهو إقامة الدين. وقال أبو العالية : إقامة الدين : الإخلاص لله وعبادته ، (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه. وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق. وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.

(وَما تَفَرَّقُوا) ، قال ابن عباس : يعني قرشيا ، والعلم : محمد عليه الصلاة والسلام ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، كما قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) (١) ، يريدون نبيا. وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء ، جاءهم العلم ، فطال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضا : عائد على أهل الكتاب ، والمشركين دليله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢) ، قال المشركون : لم خص بالنبوة ، واليهود والنصارى حسدوه. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) : أي عدة التأخر إلى يوم القيامة ، فحينئذ يقع الجزاء ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا ؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة. وقال الزجاج : الكلمة قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (٣). (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد أسلافهم ، أو هم المشركون ، أورثوا الكتاب من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرأ زيد بن علي : ورثوا مبنيا للمفعول مشدد الراء ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : أي من كتابهم ، أو من القرآن ، أو مما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من الدين الذي

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٤٢.

(٢) سورة البينة : ٩٨ / ٤.

(٣) سورة القمر : ٥٤ / ٤٦.

٣٢٩

وصى به نوحا. ولما تقدم شيئان : الأمر بإقامة الدين ، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك ، احتمل قوله. (فَلِذلِكَ) ، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين ، أي فادع لدين الله وإقامته ، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل ، لأن دعا يتعدى باللام ، قال الشاعر :

دعوت لما نابني مسورا

فلبى فلبى يدي مسورا

واحتمل أن تكون اللام للعلة ، أي فلأجل ذلك التفرق. ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا ، (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ، (وَاسْتَقِمْ) : أي دم على الاستقامة ، وتقدم الكلام على (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١) ، وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة ، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ، قيل : إن المعنى : وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في إيصال ما أمرت به إليكم ، لا أخص شخصا بشيء دون شخص ، فالشريعة واحدة ، والأحكام مشترك فيها. وقيل : لا عدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) : أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون ، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) وبينكم ، أي يوم القيامة ، فيفصل بيننا. وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) : أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم ، بل قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ؛ فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك. وقيل : نزلت في قريش ، كانوا يجادلون في هذا المعنى ، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية. واستجيب مبني للمفعول ، فقيل : المعنى من بعد ما استجاب الناس لله ، أي لدينه ودخلوا فيه. وقيل : من بعد ما استجاب الله له ، أي لرسوله ودينه ، بأن نصره يوم بدر وظهر دينه. (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي باطلة لا ثبوت لها. ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام ، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب ، والكتاب جنس يراد به الكتب الإلهية. (وَالْمِيزانَ) ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو العدل ؛ وعن ابن مجاهد : هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس ، وهذا مندرج في العدل.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١١٢.

٣٣٠

(وَما يُدْرِيكَ) أيها المخاطب ، (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف : أي لعل مجيء الساعة ؛ ولعل الساعة في موضع معمول ، وما يدريك ، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) (١).

وتواقفت هذه الجملة مع قوله : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ). الساعة : يوم الحساب ، ووضع الموازين : القسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم. (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بها بطلب وقوعها عاجلة ، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها ، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم ، أي هي مما لا يقع عندهم. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) ويلحون في أمر الساعة ، (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله ، ودل عليه الكتاب المعجز ، فوجب الإيمان به. (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : أي بر بعباده المؤمنين ، ومن سبق له الخلود في الدنيا ، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف ، إنما هو إملاء ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام. وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا. وقال الزمخشري : يوصل بره إلى جميعهم ، (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) : أي من يشاء يرزقه شيئا خاصا ، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص ، وكل منهم مرزوق ، وإن اختلف الرزق ، (وَهُوَ الْقَوِيُ) : أي البالغ القوة ، وهي القدرة (الْعَزِيزُ) : الغالب الذي لا يغلب.

ولما ذكر تعالى الرزق ، ذكر حديث الكسب. ولما كان الحرث في الأرض أصلا من أصول المكاسب ، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة ، أي من كان يريد عمل الآخرة ، وسعى لها سعيها ، (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) : أي جزاء حرثه من تضعيف الحسنات ، (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) : أي العمل لها لا لآخرته ، (نُؤْتِهِ مِنْها) : أي نعطه شيئا منها ، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ، لأنه لم يعمل شيئا للآخرة. والجملة الأولى وعد منجز ، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى ، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه ، وكل ما يريده هو. واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة ، كأنه غير معتبر ، فلا يناسب ذكره مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء. وجعل فعل الشرط ماضيا ، والجواب مجزوم لقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) (٢) ، ولا نعلم خلافا في جواز الجزم ، فإنه فصيح مختار ، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب ، وهو

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١١١.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٥.

٣٣١

أبو الحكم بن عذرة ، عن بعض النحويين ، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كان لأنها أصل الأفعال ، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها ، وأنشد سيبويه للفرزدق :

دست رسولا بأن القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغير

وقال آخر :

تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقرأ الجمهور : نزد ونؤته بالنون فيهما : وابن مقسم ، والزعفراني ، ومحبوب ، والمنقري ، كلاهما عن أبي عمرو : بالياء فيهما. وقرأ سلام : نؤته منها يرفع الهاء ، وهي لغة الحجاز.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ، وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) : استفهام تقرير وتوبيخ. لما ذكر تعالى أنه شرع للناس (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ، أخذ ينكر ما شرع غيره تعالى. والشركاء هنا يحتمل أن يراد به شركاؤهم في الكفر ، كالشياطين والمغوين من الناس. والضمير في شرعوا عائد على الشركاء ، والضمير في لهم عائد على الكفار المعاصرين للرسول ؛ ويحتمل أن يراد به الأصنام والأوثان

٣٣٢

وكل من جعلوه شريكا لله. وأضيف الشركاء إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم بهذه الملابسة ، وتارة إلى الله. والضمير في شرعوا يحتمل أن يعود على الشركاء ، ولهم عائد على الكفار ، لما كانت سببا لضلالهم وافتتانهم جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (١). واحتمل أن يعود على الكفار ، ولهم عائد على الشركاء ، أي شرع الكفار لأصنامهم ومعبوداتهم ، أي رسموا لهم غواية وأحكاما في المعتقدات ، كقولهم : إنهم آلهة ، وإن عبادتهم تقربهم إلى الله ؛ ومن الأحكام البحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك. (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) : أي العدة بأن الفصل في الآخرة ، أو لو لا القضاء بذلك لقضي بين المؤمن والكافر ، أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ الجمهور : و (إِنَّ الظَّالِمِينَ) ، بكسر الهمزة على الاستئناف والإخبار ، بما ينالهم في الدنيا من القتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة النار. وقرأ الأعرج ، ومسلم بن جندب : وأن بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل ، فهو في موضع رفع ، أي ولو لا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة ، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لو لا ، كما فصل في قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (٢).

(تَرَى الظَّالِمِينَ) : أي تبصر الكافرين لمقابلته بالمؤمنين ، (مُشْفِقِينَ) : خائفين الخوف الشديد ، (مِمَّا كَسَبُوا) من السيئات ، (وَهُوَ) : أي العذاب ، أو يعود على ما كسبوا على حذف مضاف : أي وبال كسبوا من السيئات ، أو جزاؤه حال بهم ، (وَهُوَ واقِعٌ) : فإشفاقهم هو في هذه الحال ، فليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة. ولما كانت الروضات أحسن ما في الجنات وأنزهها وفي أعلاها ، ذكر أن المؤمنين فيها. واللغة الكثيرة تسكين الواو في روضات ، ولغة هذيل بن مدركة فتح الواو إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ، ولم يقرأ أحد ممن علمناه بلغتهم. وعند ظرف ، قال الحوفي : معمول ليشاءون. وقال الزمخشري : منصوب بالظرف لا يشاءون. انتهى ، وهو الصواب. ويعني بالظرف : الجار والمجرور ، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم ، والمعنى : ما يشاءون من النعيم والثواب ، مستقر لهم. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : والعندية عندية المكانة والتشريف ، لا عندية المكان.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٦.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٩.

٣٣٣

وقرأ الجمهور : (يُبَشِّرُ) بتشديد الشين ، من بشر ؛ وعبد الله بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري ، والأعمش ، وطلحة في رواية ، والكسائي ، وحمزة : يبشر ثلاثيا ؛ ومجاهد ، وحميد بن قيس : بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر ، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين. وأما بشر بفتحها فمتعد ، وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية ، لأن المتعدي إلى واحد ، وهو مخفف ، لا يعدى بالتضعيف إليه ؛ فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. (ذلِكَ) : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة ، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف ، أي يبشر الله به عباده. وقال الزمخشري : أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. انتهى. ولا يظهر هذا الوجه ، إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه. ومن النحويين من جعل الذي مصدرية ، حكاه ابن مالك عن يونس ، وتأويل عليه هذه الآية ، أي ذلك تبشير الله عباده ، وليس بشيء ، لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل. وقد ثبتت اسمية الذي ، فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا يسأل أجرا على ما يتعاطاه؟ فنزلت. وروي أن الأنصار أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، هدانا الله بك ، وأنت ابن أختنا ، وتعروك حقوق وما لك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينو بك ، فنزلت الآية ، فردّه. وقيل : الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم ، فلم يفعل ، ونزلت. فالمعنى : «لا أسألكم مالا ولا رياسة ، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به ، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني» ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم.

قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها ، فكتب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أوسط الناس في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودّوني في قرابتي منكم. فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني. وقال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها. وقال الحسن : المعنى إلا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه. وقال عبد الله بن القاسم : إلا أن يتودّد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم.

روي أن شبابا من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول ، فنزلت على معنى : أن

٣٣٤

لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم. وقال بهذا المعنى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيرا ، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب ، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس : قيل يا رسول الله : من قرابتك الذين أمرنا بمودّتهم؟ فقال : «عليّ وفاطمة وابناهما». وقيل : هم ولد عبد المطلب. والظاهر أن قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) استثناء منقطع ، لأن المودّة ليست أجرا. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء متصلا ، أي لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا أن تودّوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. وقال : فإن قلت : هلا قيل إلا مودّة القربى ، أو إلا المودّة للقربى؟ قلت : جعلوا مكانا للمودة ومقرّا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وليست في صلة للمودّة كاللام ، إذا قلت إلا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. انتهى ، وهو حسن وفيه تكثير. وقرأ زيد بن عليّ : إلا مودّة ؛ والجمهور : إلا المودّة.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) : أي يكتسب ، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل ، فيندرج فيها المودّة في القربى وغيرها. وعن ابن عباس والسدي ، أنها المودّة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الجمهور : (نَزِدْ) بالنون ؛ وزيد بن عليّ ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وأحمد بن جبير عن الكسائي : يزيد بالياء ، أي يزد الله. والجمهور : (حُسْناً) بالتنوين ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : حسنى بغير تنوين ، على وزن رجعى ، وزيادة حسنها : مضاعفة أجرها. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) : ساتر عيوب عباده ، (شَكُورٌ) : مجاز على الدقيقة ، لا يضيع عنده عمل العامل. وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه‌السلام ، شكور لحسناتهم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال ، واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة ، أي مثله لا ينسب إليه الكذب على الله ، مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة. (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) ، قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، حتى لا يشق عليك قولهم : إنك مفتر. وقال قتادة وجماعة : (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفتريات وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر : ولو شاء

٣٣٥

أن يختم على قبلك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك؟ فمقصد اللفظ هذا المعنى ، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا. انتهى. هكذا أورد هذا التأويل عن قتادة ابن عطية ، وفي الفاظة فظاظة لا تليق أن تنسب للأنبياء. وقال الزمخشري : عن قتادة : ينسيك القرآن وينقطع عنك الوحي ، يعني لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك. انتهى. وقال الزمخشري أيضا : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.

ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه لقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (١) ، يعني : لو كان مفتريا ، كما يزعمون ، لكشف الله افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه. انتهى. وقيل : المعنى لو افتريت على الله ، لطبع على قلبك حتى لا تقدر على حفظ القرآن. وقيل : لختم على قلبك بالصدق واليقين ، وقد فعل ذلك. وذكر القشيري أن المعنى : يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب. انتهى ، فيكون التفاتا من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الجمع إلى الإفراد ، أي يختم على قلبك أيها القائل أنه افترى على الله كذبا. (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) : استئناف إخبار ، أي يمحوه. إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث نازله. وكتب ويمح بغير واو ، كما كتبوا سندع بغير واو ، اعتبارا بعدم ظهورها ، لأنه لا يوقف عليها وقف اختيار. ولما سقطت من اللفظ سقطت من الخط. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون عدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك. انتهى. قيل : ويحق الإسلام بكلماته ، أي بما أنزل من القرآن.

وتقدم الكلام في شرائط التوبة ، يقال : قبلت منه الشيء بمعنى : أخذته منه ، لقوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) (٢) ، أي تؤخذ ، أي جعلته مبدأ قبولي ومنشأه ، وقبلته

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٨.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٥٤.

٣٣٦

عنه : عزلته عنه وأبنته ، فمعنى (عَنْ عِبادِهِ) : أي يزيل الرجوع عن المعاصي. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) ، قال الزمخشري : عن السيئات إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. إن الاعتزال. إن الكبائر لا يعفى عنها إلا بالتوبة ، (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) ، فيثيب ويعاقب. وقرأ الجمهور : ما يفعلون بياء الغيبة ؛ وعبد الله ، وعلقمة ، والإخوان ، وحفص : بتاء الخطاب. والظاهر أن الذين فاعل ، (وَيَسْتَجِيبُ) : أي ويجيب ، (الَّذِينَ آمَنُوا) لربهم ، كما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (١) ، فيكون يستجيب بمعنى يجيب ، أو يبقى على بابه من الطلب ، أي يستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة. وقال سعيد بن جبير : هذا في فعلهم إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٢).

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، قال الزجاج : الذين مفعول ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد ، فالمعنى : ويجيب الله الذين آمنوا ، أي للذين ، كما قال :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي : لم يجبه. وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل وابن عباس. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أي على الثواب تفضلا. وفي الحديث : «قبول الشفاعات في المؤمنين والرضوان». وقال خباب بن الأرت : نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، فنزلت : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ). وقال عمرو بن حريث : طلب قوم من أهل الصفة من الرسول عليه‌السلام أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فنزلت. أعلم أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر ، لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة. فرب إنسان لا يصلح ولا يكتفي شره إلا بالفقر ، وآخر بالغنى. وفي هذا المعنى والتقسيم حديث رواه أنس وقال : «اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني». ولبغوا ، إما من البذخ والكبر ، أي لتكبروا في الأرض ، ففعلوا ما يتبع الكبر مع الغنى. ألا ترى إلى حال قارون؟ وفي الحديث : «أخوف ما يخاف على أمتي زهرة الدنيا» ، وقال الشاعر :

وقد جعلوا الوسمي ينبت بيننا

وبين بني رومان نبعا وشوحطا

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٤.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٢٥.

٣٣٧

يعني : أنهم أحبوا ، فجذبوا أنفسهم بالبغي والفتن. (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) ، يقال : قدر بالسكون وبالفتح ، أي : يقدر لهم ما هو أصلح لهم. وقرأ الجمهور : (قَنَطُوا) ، بفتح النون ؛ والأعمش ، وابن وثاب : بكسرها ، (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) : يظهرها من آثار الغيث من المنافع والخصب ، والظاهر أن رحمته نشرها أعم مما في الغيث. وقال السدي : رحمته : الغيث ، وعدد النعمة بعينها بلفظين. وقيل : الرحمة هنا ظهور الشمس ، لأن إذا دام المطر سئم ، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ، ذكره المهدوي. (وَهُوَ الْوَلِيُ) : الذي يتولى عباده ، (الْحَمِيدُ) : المحمود على ما أسدى من نعمائه وما بث. الظاهر أنه مجرور عطفا على السموات والأرض. ويجوز أن يكون مرفوعا ، عطفا على خلق ، على حذف مضاف ، أي وخلق ما بث. وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه دابة إلى المجموع المذكور ، وإن كان ملتبسا ببعضه. كما يقال : بنو فلان صنعوا كذا ، وإنما صنعه واحد منهم ، ومنه يخرج منهما ، وإنما يخرج من الملح ، أو يكون من الملائكة. بعض يمشي مع الطيران ، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي ، أو يكون قد خلق في السموات حيوانا يمشي مع مشي الأناسي على الأرض ، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب. وقد يقع أحيانا ، كالضفادع والسحاب داخل في اسم السماء.

وقال مجاهد : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) : هم الناس والملائكة. وقال أبو علي : هو على حذف مضاف ، أي وما بث في أحدهما. وقرأ الجمهور : فيهما بالفاء ، وكذا هي في معظم المصاحف. واحتمل ما أن تكون شرطية ، وهو الأظهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو ، وهي موجودة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر في رواية ، وشيبة : بما بغير فاء ، فما موصولة ، ولا يجوز أن تكون شرطية ؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر ، وأجاز ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء. وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا ، والمصيبة : الرزايا والمصائب في الدنيا ، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه ، وأنه تعالى يعفو عن كثير ، ولا يجازي عليه بمصيبة. وفي الحديث : «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر». وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال : إن أحبه إليّ أحبه إلى الله ، وهذا مما كسبت يداي. ورؤي على كف شريح قرحة ، فقيل : بم هذا؟ فقال : بما كسبت يداي.

وقال الزمخشري : الآية مخصوصة بالمجرمين ، ولا يمتنع أن يستوفي الله عقاب

٣٣٨

المجرم ويعفو عن بعض. فأما من لا جرم له ، كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره ، فللعوض الموفى والمصلحة وعن علي : هذه أرجى آية للمؤمنين. وقال الحسن : (مِنْ مُصِيبَةٍ) : أي حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم. (وَيَعْفُوا) الله (عَنْ كَثِيرٍ) ، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أنتم في قبضة القدرة. وقيل : ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١) ، ولاشتراك الصالح والطالح فيهما ، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون. وفي الحديث : «خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل». ولأن الدنيا دار التكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء ، وليس الأمر كذلك. وهذا القول يؤخره نصوص القرآن ، كقوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) (٢) الآية.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ).

لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعا ، ذكر بعدها العالم الأكبر ، وهو السموات والأرض ؛ ثم العالم الأصغر ، وهو الحيوان. ثم أتبعه بذكر المعاد ، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة ، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل ، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة ، ومع ذلك جعل تعالى للماء

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ١٧.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٠.

٣٣٩

قوة يحملها بها ويمنع من الغوص. ثم جعل الرياح سببا لسيرها. فإذا أراد أن ترسو ، أسكن الريح ، فلا تبرح عن مكانها. والجواري : جمع جارية ، وأصله السفن الجواري ، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه ، وحسن ذلك قوله : (فِي الْبَحْرِ) ، فدل ذلك على أنها صفة للسفن ، وإلا فهي صفة غير مختصة ، فكان القياس أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه. ويمكن أن يقال : إنها صفة غالبة ، كالأبطح ، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف. وقرىء : الجواري بالياء ودونها ، وسمع من العرب الأعراب في الراء ، وفي البحر متعلق بالجواري ، وكالأعلام في موضع الحال ، والأعلام : الجبال ، ومنه قول الخنساء أخت صخر ومعاوية :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

ومنه :

إذا قطعن علما بدا علم

وقرأ جمهور السبعة : (الرِّيحَ) إفرادا ، ونافع : جمعا ، وقرأ الجمهور : (فَيَظْلَلْنَ) بفتح اللام ، وقرأ قتادة : بكسرها ، والقياس الفتح ، لأن الماضي بكسر العين ، فالكسر في المضارع شاذ : وقال الزمخشري : من ظل يظل ويظل ، نحو ضل يضل ويضل. انتهى. وليس كما ذكر ، لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ، ويضل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي ، وكلاهما مقيس. (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلائه ، (شَكُورٌ) لنعمائه. (أَوْ يُوبِقْهُنَ) : يهلكهن ، أي الجواري ، وهو عطف على يسكن ، والضمير في (كَسَبُوا) عائد على ركاب السفن ، أي بذنوبهم. وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو ، وعن أهل المدينة : بنصب الواو ، والجمهور : ويعف مجزوما عطفا على يوبقهن. فأما قراءة الأعمش ، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير ، أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان. وأما النصب ، فبإضمار أن بعد الواو ، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ : يحاسبكم به الله فيغفر ، وبعد الواو في قول الشاعر :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظهر ليس له سنام

روي بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه. وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم ، أي يقع إيباق وعفو عن كثير. وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط ، إذ هو

٣٤٠