محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الطائفة الدالّة على حصر الخالقية بالله تعالى ، والطائفة الدالّة على صحّة قانون العلّية والمعلولية واستناد الآثار إلى مبادئها القريبة ، والشاهد على صحّة هذا الجمع ، لفيف من الآيات وهي الّتي تسند الآثار إلى أسباب كونية خاصة وفي عين الوقت تسندها إلى الله سبحانه ، وكذلك تسند بعض الأفعال إلى الإنسان أو غيره من ذوى العلم والشعور ، وفي الوقت نفسه تسند نفس تلك الأفعال إلى مشيَّته سبحانه ، وإليك فيما يلي نماذج من هذه الطائفة :

١. انّ القرآن الكريم أسند حركة السحاب إلى الرياح وقال : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (١).

كما أسندها إلى الله تعالى وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) (٢).

٢. القرآن يسند الإنبات تارة إلى الحبّة ويقول :

(أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) (٣) وأخرى إلى الله تعالى ويقول : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) (٤).

٣. انّه تعالى نسب توفّى الموتى إلى الملائكة تارة وإلى نفسه أُخرى فقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٥) وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٦).

__________________

(١) الروم : ٤٨.

(٢) النور : ٤٣.

(٣) البقرة : ٢٦١.

(٤) النمل : ٦٠.

(٥) الأنعام : ٦١.

(٦) الزمر : ٤٢.

٦١

٤. انّ الذكر الحكيم يصفه سبحانه بأنّه الكاتب لأعمال عباده ويقول : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) (١).

ولكن في الوقت نفسه ينسب الكتابة إلى رسله ويقول : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (٢).

٥. لا شكّ انّ التدبير كالخلقة منحصر في الله تعالى ، والقرآن يأخذ من المشركين الاعتراف بذلك ويقول : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ) (٣) و ـ مع ذلك ـ يصرّح بمدبّريّة غير الله سبحانه حيث يقول : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٤).

٦. إنّ القرآن يشير إلى كلتا النسبتين (أي نسبة الفعل إلى الله سبحانه وإلى الإنسان) في جملة ويقول : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٥).

فهو يصف النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرمي وينسبه إليه حقيقة ويقول : (إِذْ رَمَيْتَ) ، ومع ذلك يسلبه عنه ويرى أنّه سبحانه الرامي الحقيقي.

هذه المجموعة من الآيات ترشدك إلى النظريّة الحقّة في تفسير التوحيد في الخالقية وهو ـ كما تقدّم ـ أنّ الخالقية على وجه الاستقلال منحصرة فيه سبحانه ، وغيره من الأسباب الكونية والفواعل الشاعرة إنما

__________________

(١) النساء : ٨١.

(٢) الزخرف : ٨٠.

(٣) يونس : ٣١.

(٤) النازعات : ٥.

(٥) الأنفال : ١٧.

٦٢

تكون مؤثرات وفواعل بإذنه تعالى ومشيَّته ، وليست سببيّتها وفاعليّتها في عرض فاعليته تعالى ، بل في طولها.

الإجابة عن شبهات

قد عرفت أنّ خالقيّته تعالى عامّة لجميع الأشياء والحوادث ، وكلّ ما في صفحة الوجود يستند إليه سبحانه ، وعندئذ تطرح إشكالات أو شبهات يجب على المتكلم الإجابة عنها ، وهي :

أ. شبهة الثنويّة في خلق الشرور ؛

ب. شبهة استناد القبائح إلى الله تعالى ؛

ج. شبهة الجبر في الأفعال الإرادية.

أ. الثنوية وشبهة الشرور

نسب إلى الثنوية القول بتعدّد الخالق ، واستدلّوا عليه بما يشاهد في عالم المادّة من الشرور والبلايا ، قالوا : إنّ الشر يقابل الخير ، فلا يصحّ استنادهما إلى مبدأ واحد ، فزعموا أنّ هناك مبدأين : أحدهما : مبدأ الخيرات ، وثانيهما : مبدأ الشرور.

والجواب عنه بوجهين :

١. الشرّ أمر قياسي

إذا كانت هناك ظاهرة ليست لها صلة وثيقة بحياة الإنسان ، أو لا تؤدّى

٦٣

صلتها بها إلى اختلال في حياته فلا تتصف بالشرّ والبلاء ، إنما تتّصف بصفة الشرّيّة إذا أوجبت نحو اختلال في حياة الإنسان بحيث يوجب هلاكة نفسه أو ما يتعلّق به أو يتضرّر به بوجه.

ومن المعلوم أنّ هذه النسبة والإضافة متأخّرة عن وجود ذلك الموجود أو تلك الحادثة ، فلو تحقّقت الظاهرة وقطع النظر عن المقايسة والإضافة لا يتّصف إلّا بالخير ، بمعنى أنّ وجود كلّ شيء يلائم ذاته ، وإنما يأتي حديث الشرّ إذا كانت هناك مقايسة إلى موجود آخر ، إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ ما يستند إلى الجاعل اوّلاً وبالذات ، هو وجوده النفسي ، والمفروض أنّ وجود كلّ من المقيس والمقيس إليه ، لا يتّصفان بالشرّ والبلاء ، بل بالخير والكمال ، وأمّا الوجود الإضافي المنتزع من مقايسة إحدى الظاهرتين مع الأخرى فليس أمراً واقعياً محتاجاً إلى مبدأ يحقّقها. (١)

٢. الشرّ عدمي

هناك تحليل آخر للشبهة وهو ما نقل عن أفلاطون وحاصله : أنّ ما يسمّى بالشرّ من الحوادث والوقائع يرجع عند التحليل إلى العدم ، فالّذي

__________________

(١) وإلى ما ذكرنا أشار الحكيم السبزواري بقوله :

«كلّ وجود ولو كان إمكانياً خير بذاته وخير بمقايسته إلى غيره ، وهذه المقايسة قسمان : أحدهما مقايسته إلى علّته ، فإنّ كلّ معلول ملائم لعلّته المقتضية إيّاه ، وثانيهما مقايسته إلى ما في عرضه ممّا ينتفع به ، وفي هذه المقايسة الثانية يقتحم شرٌّ ما في بعض الأشياء الكائنة الفاسدة في أوقات قليلة».

شرح المنظومة : المقصد ٣ ، الفريدة ١ ، غرر في دفع شبهة الثنوية.

٦٤

يسمّى بالشرّ عند وقوع القتل ليس إلّا انقطاع حياة البدن الناشئ عن قطع علاقة النفس عن البدن ، وما يسمّى بالشر عند وقوع المرض ليس إلّا الاختلال الواقع في أجهزة البدن وزوال ما كان موجودا له عند الصحّة من التعادل الطبيعي في الأعضاء والأجهزة البدنيّة.

وكذلك سائر الحوادث الّتي تتّصف بالبليّة والشرّيّة.

ومن المعلوم أنّ الّذي يحتاج إلى الفاعل المفيض هو الوجود ، وأما العدم فليس له حظّ من الواقعية حتى يحتاج إلى المبدأ الجاعل. وإلى هذا أشار الحكيم السبزواري في منظومة حكمته :

والشّرّ أعدام فكم قد ضلّ من

يقول باليزدان ثمّ الأهرمن (١)

ب. التوحيد في الخالقية وقبائح الأفعال

ربّما يقال : الالتزام بعمومية خالقيته تعالى لكلّ شيء يستلزم إسناد قبائح الأفعال إليه تعالى ، وهذا ينافي تنزُّهه سبحانه من كلّ قبح وشين.

__________________

(١) وقال العلّامة الطباطبائي :

إنّ الشرور إنّما تتحقّق في الأمور المادّية وتستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها ، لا إلى إفاضة مبدأ الوجود ، فانّ علّة العدم عدم ، كما أنّ علّة الوجود وجود.

فالّذي تعلّقت به كلمة الإيجاد والإرادة الإلهيّة وشمله القضاء بالذات في الأمور الّتي يقارنها شيء من الشرّ انما هو القدر الّذي تلبّس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته ، وأمّا العدم الّذي يقارنه فليس إلّا مستنداً إلى عدم قابليته وقصور استعداده ، نعم ينسب إليه الجعل والإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الّذي يقارنه. الميزان : ١٣ / ١٨٧ ـ ١٨٨ بتصرف قليل.

٦٥

والجواب : أنّ للأفعال جهتين ، جهة الثبوت والوجود ، وجهة استنادها إلى فواعلها بالمباشرة ، فعنوان الطّاعة والمعصية ينتزع من الجهة الثانية ، وما يستند إلى الله تعالى هي الجهة الاولى ، والأفعال بهذا اللحاظ متّصفة بالحسن والجمال ، أي الحسن التكويني.

وبعبارة أخرى : عنوان الحسن والقبح المنطبق على الأفعال الصادرة عن فاعل شاعر مختار ، هو الّذي يدركه العقل العملي بلحاظ مطابقة الأفعال لأحكام العقل والشرع وعدمها ، وهذا الحسن والقبح يرجع إلى الفاعل المباشر للفعل.

نعم أصل وجود الفعل ـ مع قطع النظر عن مقايسته إلى حكم العقل أو الشرع ـ يستند إلى الله تعالى وينتهي إلى إرادته سبحانه ، والفعل بهذا الاعتبار لا يتّصف بالقبح ، فإنّه وجود والوجود خير وحسن في حدّ ذاته.

قال سبحانه : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١).

وقال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢).

فكلّ شيء كما أنّه مخلوق ، حسن ، فالخلقة والحسن متصاحبان لا ينفكّ احدهما عن الآخر اصلاً.

وأمّا الإجابة عن شبهة الجبر على القول بعموم الخالقية فسيوافيك بيانها في الفصل المختصّ بذلك.

__________________

(١) السجدة : ٧.

(٢) الزمر : ٦٢.

٦٦

الفصل الرابع :

التوحيد في الربوبيّة

يستفاد من الكتاب العزيز أنّ التوحيد في الخالقية كان موضع الوفاق عند الوثنيّين قال سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) ومثله في سورة الزمر الآية ٣٨.

وقال سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٢).

وأمّا مسألة التوحيد في التدبير فلم تكن أمراً مسلّماً عندهم ، بل الشرك في التدبير كان شائعا بين الوثنيين ، كما أنّ عبدة الكواكب والنجوم في عصر بطل التوحيد «إبراهيم» كانوا من المشركين في أمر التدبير ، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأجرام العلوية هي المتصرّفة في النظام السفلي من العالم وأنّ أمر تدبير الكون ، ومنه الإنسان ، فوّض إليها فهي أرباب لهذا العالم ومدبّرات له لا خالقات له ، ولأجل ذلك نجد أنّ ابراهيم يردّ عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أُفولها وغروبها ، يقول سبحانه حاكياً عنه :

__________________

(١) لقمان : ٢٥.

(٢) الزخرف : ٨٧.

٦٧

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١).

ترى أنّه عليه‌السلام استعمل كلمة الربّ في احتجاجه مع المشركين ، ولم يستعمل كلمة الخالق ، للفرق الواضح بين التوحيدين وعدم إنكارهم التوحيد في الأوّل وإصرارهم على الشرك في الثاني. (٢)

حقيقة الربوبية والتوحيد فيها

لفظة الربّ في لغة العرب بمعنى المتصرّف والمدبّر والمتحمّل أمر تربية الشيء ، وحقيقة التدبير تنظيم الأشياء وتنسيقها بحيث يتحقّق بذلك مطلوب كل منها وتحصل له غايته المطلوبة له ، وعلى هذا فحقيقة تدبيره سبحانه ليست الّا خلق العالم وجعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمسبّبات دبر الأسباب وعقيب العلل ، فيؤثّر بعض أجزاء الكون في البعض الآخر حتّى يصل كلّ موجود إلى كماله المناسب وهدفه المطلوب ، يقول سبحانه :

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

(٢) والمشركون في عصر الرسالة وان كانوا معترفين بربوبيته تعالى بالنسبة إلى التدبير الكلّي لنظام العالم ، كما يستفاد من الآية ٣١ من سورة يونس ونحوها ، لكنّهم كانوا معتقدين بربوبية ما كانوا يعبدونه من الآلهة كما يدلّ عليه بعض الآيات القرآنية ، كالآية ٧٤ من سورة يس ، والآية ٨١ من سورة مريم.

٦٨

(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١).

والتوحيد في الربوبية هو الاعتقاد بأنّ تدبير العالم الإمكاني بيد الله سبحانه وأمّا الأسباب والعلل الكونية فكلّها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته وقد صرّح القرآن الكريم على أن هناك مدبّرات لأمر العالم بإذنه تعالى ، قال سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٢).

ويقابله الشرك في الربوبية وهو تصور أنّ هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكويناً وتشريعاً.

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي أنّ الوثنيّة لم تكن معتقدة بربوبيّة الأصنام الحجريّة والخشبيّة ونحوها بل كانوا يعتقدون بكونها اصناما للآلهة المدبّرة لهذا الكون ، ولمّا لم تكن هذه الآلهة المزعومة في متناول أيديهم وكانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحسّ صعبة التصور عمدوا إلى تجسيم تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام من الخشب والحجر وصاروا يعبدونها عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقية وهي الآلهة المزعومة.

__________________

(١) طه : ٥٠.

(٢) النازعات : ٥.

٦٩

دلائل التوحيد في الربوبية

١. تدبير الكون لا ينفكّ عن الخلق

إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثّل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسَّسة وتصوّروا أنّهما من نوع واحد ، مع أنّهما مختلفان في الغاية ، فانّ تدبير الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإيجاد.

توضيح ذلك : أنّ كلّ فرد من النظام الكوني بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقد للوجود الذاتي ، لكن فقره ليس منحصرا في بدء خلقته بل يستمرّ معه في بقائه وعلى هذا ، فتدبير الكون لا ينفكّ عن خلقه وإيجاده ، فالتدبير خلق وإيجاد مستمرّ.

فتدبير الوردة مثلاً ليس إلّا تكوّنها من المواد السُّكرية في الأرض ثمّ توليدها الأوكسجين في الهواء إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها وليست كل منها إلّا شعبة من الخلق ، ومثلها الجنين مذ تكوّنه في رحم الأُم ، فلا يزال يخضع لعمليّات التفاعل والنموّ حتى يخرج من بطنها ، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من عمليّة الخلق وفرعاً منه.

٢. انسجام النظام واتصال التدبير

إنّ مطالعة كلّ صفحة من الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحَّد وارتباط وثيق بين أجزائه ، ومن المعلوم أنّ وحدة النظام

٧٠

وانسجامه وتلائمه لا تتحقّق إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد ، ولو خضع الكون لإرادة مدبِّرين لما كان من اتصال التدبير وانسجام اجزاء الكون أيّ اثر ، لانّ تعدّد المدبّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو في الصفات والمشخصات ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإرادة ، وذلك ينافي الانسجام والتلائم في أجزاء الكون.

فوحدة النظام وانسجامه كاشف عن وحدة التدبير والمدبّر وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١).

وهذا الاستدلال بعينه موجود في الأحاديث المروية عن أئمة اهل البيت عليهم‌السلام يقول الامام الصادق عليه‌السلام : «دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على انّ المدبّر واحد».(٢)

وسأله هشام بن الحكم : ما الدليل على انّ الله واحد؟

فقال عليه‌السلام : «اتصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال الله عزوجل (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا.) (٣)

مظاهر التوحيد في الربوبية

إنّ للتوحيد في الربوبية نطاقاً واسعاً شاملاً لجميع المظاهر الكونية والحقائق الوجودية فلا مدبِّر في صفحة الوجود ، بالذات على وجه

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) توحيد الصدوق : الباب ٣٦ ، الحديث ١.

(٣) الأنبياء : ٢٢.

٧١

الاستقلال ، سوى الله تعالى فهو ربّ العالمين لا ربّ سواه.

وينبغي في ختام هذا البحث أن نشير إلى ثلاثة أقسام لها أهميّة خاصّة في حياة الإنسان الاجتماعية وهي :

١. التوحيد في الحاكمية

الحاكم هو الّذي له تسلّط على النفوس والأموال ، والتصرّف في شئون المجتمع بالأمر والنهى ، والعزل والنصب ، والتحديد والتوسيع ونحو ذلك ، ومن المعلوم أنّ هذا يحتاج إلى ولاية له بالنسبة إلى المسلّط عليه ، ولو لا ذلك لعدّ التصرّف عدوانياً ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر الولاية على الغير متفرّع على كون الوالي مالكا للمولّى عليه أو مدبّر أموره في الحياة ، وبما أن لا مالكية لأحد على غيره إلّا لله تعالى ولا مدبِّر سواه فإنّه الخالق الموجد للجميع والمدبّر للكون بأجمعه ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات سوى الله تعالى ، فحقّ الولاية منحصر لله تعالى.

قال سبحانه : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) (١).

وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٢).

ومن جانب ثالث : أنّ وجود الحكومة والحاكم البشري في المجتمع

__________________

(١) الشورى : ٩.

(٢) الأنعام : ٥٧.

٧٢

أمر ضروري كما أشار إليه الإمام علي عليه‌السلام بقوله : «لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر».(١)

ومن المعلوم أنّ ممارسة الإمرة وتجسيد الحكومة في الخارج ليس من شأنه سبحانه ، بل هو شأن من يماثل المحكوم عليه في النوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإنسان للانسان ، وعلى ذلك ، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشراً كالمحكوم عليه ، هو لزوم كون من يمثّل مقام الإمرة مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأمور والتصرّف في النفوس والأموال ، وأن تكون ولايته مستمدّة من ولايته ومنبعثة منها.

وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون مشروعيتها مستمدّة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه ، وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا مشروعيّة لها.

٢. التوحيد في الطّاعة

لا شكّ أنّ من شئون الحاكم والولي ، لزوم إطاعته على المحكوم والمولّى عليه ، فإنّ الحكومة من غير لزوم إطاعة الحاكم تصبح لغواً ، وقد تقدّم أنّ الحاكم بالذات ليس إلّا الله تعالى.

وعلى هذا ، فليس هناك مطاع بالذات إلّا هو تعالى وأمّا غيره

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٤٠.

٧٣

تعالى ، فبما أنّه ليس له ولاية ولا حكومة على أحد إلّا بإذنه تعالى وباستناد حكومته إلى حكومته سبحانه ، فليس له حقّ الطّاعة على أحد إلّا كذلك.

قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١).

وقال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).

٣. التوحيد في التشريع

إنّ الربوبية على قسمين : تكوينيّة وتشريعيّة ودلائل التوحيد في الربوبية التكوينية تثبت التوحيد في الربوبيّة التشريعية أيضاً ، فإنّ التقنين والتشريع نوع من التدبير ، يدبّر به أمر الإنسان والمجتمع البشري ، كما أنّه نوع من الحكومة والولاية على الأموال والنفوس ، فبما أنّ التدبير والحكومة منحصرتان في الله تعالى ، فكذلك ليس لأحد حقّ التقنين والتشريع إلّا له تعالى.

وأمّا الفقهاء والمجتهدون فليسوا بمشرّعين ، بل هم متخصّصون في معرفة تشريعه سبحانه ، ووظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها وجعلها في متناول الناس.

وأمّا ما تعورف في القرون الأخيرة من إقامة مجالس النوّاب أو الشورى في البلاد الإسلامية ، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإعطاء

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) النساء : ٨٠.

٧٤

البرنامج للمسئولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهيّة لتنفيذها ، والتخطيط غير التشريع كما هو واضح.

والقرآن الكريم يعدّ كل تقنين لا يطابق الحكم والتشريع الإلهي كفراً وظلماً وفسقاً ، قال سبحانه :

١. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١).

٢. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢).

٣. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٣).

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

(٢) المائدة : ٤٥.

(٣) المائدة : ٤٧.

٧٥
٧٦

الفصل الخامس :

التوحيد في العبادة

التوحيد في العبادة هو الهدف والغاية الأسنى من بعث الأنبياء والمرسلين ، قال سبحانه :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١).

وناهيك في أهميّة ذلك أنّ الإسلام قرّره شعاراً للمسلمين يؤكّدون عليه في صلواتهم الواجبة والمندوبة بقولهم :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٢).

كما أنّ مكافحة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل وسائر الانبياء للوثنيين تتركّز على هذه النقطة غالباً كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.

ولا تجد مسلماً ينكر هذا الأصل أو يشكّ فيه وإنّما الكلام في حقيقة العبادة ومصاديقها ، فترى أنّ أتباع الوهّابيّة يرمون غيرهم بالشّرك في العبادة

__________________

(١) النحل : ٣٦.

(٢) الفاتحة : ٥.

٧٧

بالتبرّك بآثار الأنبياء والتوسّل بهم إلى الله سبحانه ونحو ذلك ، فتمييز العبادة عن غيرها هي المشكلة الوحيدة في هذا المجال ، فيجب قبل كلّ شيء دراسة حقيقة العبادة على ضوء العقل والكتاب والسنّة فنقول :

ما هي حقيقة العبادة؟

العبادة في اللّغة بمعنى الخضوع والتذلّل وقيل إنها غاية الخضوع والتذلّل. (١) وهذا المعنى ليس هو المقصود من العبادة المختصّة بالله تعالى.

توضيح ذلك : أنّ القرآن الكريم أمر الإنسان بالتذلّل لوالديه فيقول :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢).

فلو كان الخضوع والتذلّل عبادة لمن يتذلّل له لكان أمره تعالى بذلك أمراً باتّخاذ الشريك له تعالى في العبادة!

كما أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٣).

مع أنّ السجود نهاية التذلّل والخضوع للمسجود له ، فهل ترى أنّ الله سبحانه يأمر الملائكة بالشرك في العبادة؟!

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن : ٣١٩ ؛ تفسير الكشاف : ١ / ١٣.

(٢) الإسراء : ٢٤.

(٣) البقرة : ٣٤.

٧٨

إنّ إخوة يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على عرش الملك والسلطنة ، كما يقول سبحانه :

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١).

إذن ليس معنى العبادة الّتي تختصّ بالله سبحانه ولا تجوز لغيره تعالى هو الخضوع والتذلّل ، أو نهاية الخضوع ، فما هي حقيقة العبادة؟

حقيقة العبادة ـ على ما يستفاد من القرآن الكريم ـ هي «الخضوع والتذلّل ، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأنَّ المخضوع له خالق وربّ ومالك وهي من شئون الإلهية». فنرى أنّ القرآن في سورة الفاتحة قبل تخصيص العبادة بالله تعالى ، يوصفه بأنّه ربّ العالمين ، ومالك يوم الدين ، وأنّه هو الرحمن الرحيم ، ومثله قوله تعالى :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) (٢).

فالخضوع لله تعالى إنّما يكون عبادة له لأنّه هو الخالق والرب وهو المالك والإله واختصاص هذه النعوت بالله تعالى يستلزم اختصاص العبادة له.

والحاصل : أنّ أيَّ خضوع ينبع من الاعتقاد بانّ المخضوع له إله العالم أو ربّه أو فوِّض إليه تدبير العالم كلّه أو بعضه ، يكون الخضوع بأدنى مراتبه عبادة ويكون صاحبه مشركاً في العبادة إذا أتى به لغير الله ، ويقابل ذلك

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) الانعام : ١٠٢.

٧٩

الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد ، فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه ـ مبالغاً في ذلك ـ من دون أن ينبع من الاعتقاد بأُلوهيته ، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود ، وإن كان من الممكن أن يكون حراماً ، مثل سجود العاشق للمعشوقة ، أو المرأة لزوجها ، فإنّه وإن كان حراماً في الشريعة الإسلامية لكنّه ليس عبادة بل حرام لوجه آخر ، ولعلَّ الوجه في حرمته هو أنّ السجود حيث أنّه وسيلة عامّة للعبادة عند جميع الأقوام والملل ، صار بحيث لا يراد منه إلّا العبادة ، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد منها حتّى في الموارد الّتي لا تكون عبادة ، والتحريم إنّما هو من خصائص الشريعة الإسلامية ، إذ لم يكن حراماً قبله ، وإلّا لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليه‌السلام ويقول عزوجل : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١).

قال الجصّاص : قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم عليه‌السلام للمخلوقين ، ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف عليه‌السلام ... إلّا أنّ السجود لغير الله على وجه التكرمة والتحيّة منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقِّه عليها». (٢)

وإلى ما ذكرناه في حقيقة العبادة المختصة بالله تعالى وأنّها ليست إلّا خضوعاً خاصاً نابعاً عن الاعتقاد بألوهية المخضوع له وأنّ له شأن الربوبيّة والخالقية أشار الشيخ محمد عبده بقوله :

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٣٢.

٨٠