محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الفصل الخامس :

القبر والبرزخ

البرزخ هو المنزل الأوّل للإنسان بعد الموت ، وقد صرّح القرآن على أنّ أمام الإنسان بعد موته برزخ إلى يوم القيامة قال عزّ من قائل :

(وَمِنْ وَرائِهِمْ (١) بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (٢)

ولكنّ الآية لا تدلّ على وجود حياة في تلك الفاصلة ، نعم هناك آيات يستفاد منها وجود حياة واقعية للإنسان في تلك النشأة نأتي ببعضها :

١. قال تعالى :

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(٣).

والظاهر أنّ المراد من الإحياءين والإماتتين ما يلي :

الإماتة الأولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا. والإحياء الأوّل هو الإحياء في البرزخ ، وتستمرّ هذه الحياة إلى نفخ الصور الأوّل.

__________________

(١) الوراء في الآية بمعنى الامام كما في قوله سبحانه : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً).

(٢) المؤمنون : ١٠٠.

(٣) المؤمن : ١١.

٤٢١

والاماتة الثانية ، عند نفخ الصور الأوّل ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (١) والإحياء الثاني ، عند نفخ الصور الثاني ، يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٢).

وتعدّد نفخ الصّور يستفاد من الآيتين ، فيترتّب على الأوّل هلاك من في السّماوات ومن في الأرض ، إلّا من شاء الله ، وعلى الثاني قيام الناس من أجداثهم ، وفي أمر النفخ الثاني يقول سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٣).

ويقول سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)(٤).

واختلاف الآثار يدلّ على تعدّد النفخ.

وعلى ضوء هذا فللإنسان حياة بعد الإماتة من الحياة الدنيا ، وهي حياة برزخية متوسطة بين النشأتين.

٢ ـ قوله سبحانه : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٥) وهذه الآية تدلّ على أنّهم دخلوا النار بعد الغرق بلا فصل للفاء في قوله : (فَأُدْخِلُوا).

__________________

(١) الزمر : ٦٨.

(٢) يس : ٥١.

(٣) الكهف : ٩٩.

(٤) المؤمنون : ١٠١.

(٥) نوح : ٢٥.

٤٢٢

٣ ـ قوله سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١).

وهذه الآية تحكي عرض آل فرعون على النار صباحاً ومساءً ، قبل يوم القيامة ، بشهادة قوله بعد العرض : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ولأجل ذلك ، عبّر عن العذاب الأوّل بالعرض على النّار ، وعن العذاب في الآخرة ، بإدخال آل فرعون أشدّ العذاب ، حاكياً عن كون العذاب في البرزخ ، أخفّ وطأً من عذاب يوم السّاعة.

ثمّ إنّ هناك آيات تدلّ على حياة الإنسان في هذا الحدّ الفاصل بين الدنيا والبعث ، حياة تناسب هذا الظرف ، تقدّم ذكرها عند البحث عن تجرّد النفس ، ونكتفي هنا بهذا المقدار ، حذراً من الإطالة.

وأمّا من السنّة ، فنكتفي بما جاء عن الصادق عليه‌السلام ، عند ما سُئِلَ عن أرواح المؤمنين ، فقال :

في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون ربّنا أتمم لنا السّاعة وأنجز ما وعدتنا».

وسئل عن أرواح المشركين ، فقال : «في النّار يعذّبون ، يقولون لا تقم لنا السّاعة ، ولا تنجز لنا ما وعدتنا». (٢)

__________________

(١) المؤمن : ٤٦.

(٢) البحار : ٦ / ١٦٩ ، باب أحوال البرزخ ، الحديث ١٢٢ ؛ ص ٢٧٠ ، الحديث ١٢٦.

٤٢٣

السؤال في القبر وعذابه ونعيمه

إذا كانت الحياة البرزخية هي المرحلة الأُولى من الحياة بعد الدنيا ، يظهر لنا أنّ ما اتّفق عليه المسلمون من سؤال الميّت في قبره ، وعذابه إن كان طالحاً ، وإنعامه إن كان مؤمناً صالحاً ، صحيح لا غبار عليه ، وأنّ الإنسان الحيّ في البرزخ مسئول عن أمور ، ثمّ معذّب أو منعّم.

قال الصدوق :

اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حق لا بدّ منها ، ومن أجاب الصواب ، فاز بروحٍ وريحان في قبره ، وبجنّة النعيم في الآخرة ، ومن لم يجب بالصواب ، فله نُزُلٌ من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة.

وقال الشيخ المفيد :

جاءت الآثار الصحيحة عن النبيّ أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم ، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة ، فمنها أنّ ملكين لله تعالى ، يقال لهما ناكر ونكير ، ينزلان على الميت فيسألانه عن ربّه ونبيّه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحقّ ، سلّموه إلى ملائكة النعيم ، وإن ارتج سلّموه إلى ملائكة العذاب. وفي بعض الروايات أنّ اسمي الملكين اللذين ينزلان على الكافر : ناكر ونكير ، واسمي الملكين اللذين ينزلان على المؤمن : مبشّر وبشير.

٤٢٤

إلى أن قال :

وليس ينزل الملكان إلّا على حي ، ولا يسألان إلّا من يفهم المسألة ويعرف معناها ، وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة ، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقّه ، أو لعذاب إن كان يستحقّه. (١)

والظاهر اتفاق المسلمين على ذلك ، يقول أحمد بن حنبل :

وعذاب القبر حق ، يسأل العبد عن دينه وعن ربّه ، ويرى مقعده من النار والجنّة ، ومنكر ونكير حق. (٢)

وقد نسب إلى المعتزلة إنكار عذاب القبر ، والنسبة في غير محلّها ، وإنّما المنكر واحد منهم ، هو ضرار بن عمرو ، وقد انفصل عن المعتزلة ، صرّح بذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي. (٣)

هذا كلّه ممّا لا ريب فيه ، إنّما الكلام فيما هو المراد هنا من القبر ، والإمعان في الآيات الماضية الّتي استدللنا بها على الحياة البرزخية ، والروايات الواردة حول البرزخ ، تعرب بوضوح عن أنّ المراد من القبر ، ليس هو المكان الّذي يدفن فيه الإنسان ، ولا يتجاوز جثَّته في السَّعة ، وإنّما المراد منه هو النشأة الّتي يعيش فيها الإنسان بعد الموت وقبل البعث ، وإنّما

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) السنّة : ٤٧ ؛ ولاحظ : الإبانة للأشعري : ٢٧.

(٣) شرح الأُصول الخمسة : ٧٣٠.

٤٢٥

كنّي بالقبر عنها ، لأنّ النزول إلى القبر يلازم أو يكون بدءاً لوقوع الإنسان فيها.

والظاهر من الروايات تعلّق الروح بأبدان تماثل الأبدان الدنيوية ، لكن بلطافة تناسب الحياة في تلك النشأة ، وليس التعلّق بها ملازماً لتجويز التناسخ ، لأنّ المراد من التناسخ هو رجوع الشيء من الفعلية إلى القوّة ، أعني عودة الروح إلى الدنيا عن طريق النطفة ، فالعلقة ، فالمضغة إلى أن تصير إنساناً كاملاً ، وهذا منفي عقلاً وشرعاً ، كما تقدّم ، ولا يلزم هذا في تعلّقها ببدن ألطف من البدن المادي ، في النشأة الثانية.

قال الشيخ البهائى :

قد يتوهّم أنّ القول بتعلّق الأرواح ، بعد مفارقة أبدانها العنصرية ، بأشباح أُخر ـ كما دلّت عليه الأحاديث ـ قول بالتناسخ ، وهذا توهّم سخيف ، لأنّ التناسخ الّذي أطبق المسلمون على بطلانه ، هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها ، بأجسام أخر في هذا العالم ، وأمّا القول بتعلّقها في عالم آخر ، بأبدان مثالية ، مدّة البرزخ ، إلى أن تقوم قيامتها الكبرى ، فتعود إلى أبدانها الأوليّة بإذن مُبدعها ، فليس من التناسخ في شيء. (١)

__________________

(١) بحار الأنوار : ٦ / ٢٧٧.

٤٢٦

الفصل السادس :

الحساب والشهود :

أ. الحساب يوم القيامة

إنّ من أسماء يوم القيامة ، «يوم الحساب» ، يحكي القرآن الكريم دعاء إبراهيم عليه‌السلام إلى الله تعالى ، حيث قال :

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (١).

كما يحكي أنّ موسى عليه‌السلام فيما أجاب فرعون حينما هدده بالقتل قال : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢).

ثمّ إنّ الغرض من الحساب ليس هو وقوفه سبحانه على ما يستحقّه العباد من الثواب والعقاب ، بالوقوف على أعمالهم الصالحة والطالحة وهذا واضح ، بل الغرض منه الاحتجاج على العاصين ، وإبراز عدله تعالى على العباد في مقام الجزاء ، ولأجل ذلك يقيم عليهم شهوداً مختلفة ، وللشيخ الصدوق كلام مبسوط في المقام نأتي به إيضاحاً للمقصود ، قال :

اعتقادنا في الحساب أنّه حقّ ، منه ما يتولّاه الله عزوجل ، ومنه

__________________

(١) إبراهيم : ٤١.

(٢) المؤمن : ٢٧.

٤٢٧

ما يتولّاه حججه ، فحساب الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام يتولّاه عزوجل ، ويتولّى كلّ نبي حساب أوصيائه ويتولّى الأوصياء حساب الأُمم ، والله تبارك وتعالى هو الشهيد على الأنبياء والرسل ، وهم الشهداء على الأوصياء ، والأئمّة شهداء على الناس ، وذلك قول الله عزوجل :

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١).

وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(٢).

وقال الله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (٣).

والشاهد أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛

وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٤).

ومن الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب ، وأمّا السؤال فهو واقع على جميع الخلق لقول الله تعالى :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٥).

يعني عن الدّين ، وكلّ محاسب معذّب ولو بطول الوقوف ، ولا ينجو

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) النساء : ٤١.

(٣) هود : ١٧.

(٤) الغاشية : ٢٥ ـ ٢٦.

(٥) الأعراف : ٦.

٤٢٨

من النار ولا يدخل الجنّة أحد بعمله إلّا برحمة الله تعالى.

وإنّ الله تبارك وتعالى يخاطب عباده من الأوّلين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة يسمع منها كلّ واحد قضيته دون غيرها ، ويظنّ أنّه المخاطب دون غيره ، ولا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة.

ويخرج الله تعالى لكلّ إنسان كتاباً يلقاه منشوراً ، ينطق عليه بجميع أعماله ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، فيجعله الله محاسب نفسه والحاكم عليها بأن يقال له :

(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١).

ويختم الله تبارك وتعالى على قوم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم بما كانوا يكتمون.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢). (٣)

ب. الشهود يوم القيامة

يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ الشهود في يوم الحساب على أصناف ، وهم :

__________________

(١) الإسراء : ١٤.

(٢) فصلت : ٢١.

(٣) رسالة الاعتقادات للشيخ الصدوق ، الباب ٢٨ ، باب الاعتقاد في الحساب والموازين.

٤٢٩

١. الله سبحانه :

يقول تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

ويقول أيضاً : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٢).

٢. نبيّ كلّ أمّة :

يقول سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٣).

ويقول أيضاً : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) (٤).

والظاهر أنّ هذا الشاهد من كلّ أمّة هو نبيُّهم ، وإن لم يصرّح به في الآيات ، وذلك للزوم كون الشهادة القائمة هناك مشتملة على حقائق لا سبيل للمناقشة فيها ، فيجب أن يكون هذا الشاهد عالماً بحقائق الأعمال الّتي يشهد عليها ، ولا يكون هذا إلّا بأن يستوي عنده الحاضر والغائب ، ولا يتصوّر هذا المقام إلّا لنبي كلّ أمّة.

__________________

(١) الحج : ١٧.

(٢) آل عمران : ٩٨.

(٣) النحل : ٨٩.

(٤) القصص : ٧٤ ـ ٧٥.

٤٣٠

٣. نبيّ الإسلام :

يقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(١).

٤. بعض الأُمّة الإسلامية :

يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢).

والخطاب في الآية وإن كان للأمّة الإسلامية ، لكنّ المراد بعضهم ، نظير قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) مخاطباً لبني إسرائيل ، والمراد بعضهم ، والدليل على أنّ المراد بعض الأُمّة ، هو أنّ أكثر أبنائها ليس لهم معرفة بالأعمال إلّا بصورها إذا كانوا في محضر المشهود عليهم ، وهو لا يفي في مقام الشهادة ، لأنّ المراد منها هو الشهادة على حقائق الأعمال والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان ، وعلى كلّ ما خفي عن الحسّ ومستبطن عن الإنسان ممّا تكسبه القلوب الّذي يدور عليه حساب ربّ العالمين يقول سبحانه : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٣).

وليس ذلك في وسع الإنسان العادي إذا كان حاضراً عند المشهود عليه ، فضلاً عن كونه غائباً ، وهذا يدلّنا على أنّ المراد رجال من الأُمّة لهم

__________________

(١) النساء : ٤١.

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) البقرة : ٢٢٥.

٤٣١

تلك القابليّة بعنايةٍ من الله تعالى ، فيقفون على حقائق أعمال الناس المشهود عليهم.

أضف إلى ذلك أنّ أقلّ ما يعتبر في الشهود هو العدالة والتقوى ، والصدق والأمانة ، والأكثرية الساحقة من الأُمّة يفقدون ذلك وهم لا تقبل شهادتهم على صاع من تمرٍ أو باقة من بقل ، فكيف تقبل شهادتهم يوم القيامة؟!

وإلى هذا تشير رواية الزبيري عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : «أفَتَرى أنّ من لا تجوّز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟! كلّا ، لم يعن الله مثل هذا من خلقه». (١)

٥. الأعضاء والجوارح :

يقول سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢).(٣)

وأمّا كيفية الشهادة فهي من الأُمور الغيبية نؤمن بها ، وما إنطاقها على الله بعزيز ، وقد وسعت قدرته تعالى كلّ شيء ، كما يشير إليه قوله تعالى :

(قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٤).

__________________

(١) نور الثقلين : ١ / ١١٣ ، الحديث ٤٠٩.

(٢) النور : ٢٤.

(٣) وفي معناها الآية ٦٥ / يس ، والآية ٢٠ / فصّلت.

(٤) فصّلت : ٢١.

٤٣٢

الفصل السابع :

الميزان والصراط

من الأبحاث الكلامية الراجعة إلى المعاد هو البحث حول الميزان والصراط ، ولا اختلاف بين المسلمين في الاعتقاد بهما ، وإنّما الاختلاف في المقصود منهما ، ونحن نذكر الأقوال في هذا المجال أوّلاً ، ثمّ نبيّن ما هو الصحيح عندنا فنقول :

أ) الميزان

اختلفوا في كيفية الميزان يوم القيامة ، فقال شيوخ المعتزلة : إنّه يوضع ميزان حقيقي له كفّتان يوزن به ما يتبيّن من حال المكلّفين في ذلك الوقت لأهل الموقف ، بأن يوضع كتاب الطاعات في كفّة الخير ويوضع كتاب المعاصي في كفّة الشرّ ، ويجعل رجحان أحدهما دليلاً على إحدى الحالتين ، أو بنحو من ذلك لورود الميزان سمعاً والأصل في الكلام الحقيقة مع إمكانها.

وقال عبّاد وجماعة من البصريين وآخرون من البغداديين المراد بالموازين ، العدل دون الحقيقة. (١)

__________________

(١) كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة الرابعة عشرة.

٤٣٣

أقول : لا شكّ أنّ النشأة الآخرة ، أكمل من هذه النشأة وأنّه لا طريق لتفهيم الإنسان حقائق ذاك العالم وغيوبه المستورة عنّا إلّا باستخدام الألفاظ الّتي يستعملها الإنسان في الأُمور الحسّية ، وعلى ذلك فلا وجه لحمل الميزان على الميزان المتعارف ، خصوصاً بعد استعماله في القرآن في غير هذا الميزان المحسوس ، قال سبحانه :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(١).

لا معنى لتخصيص الميزان هنا بما توزن به الأثقال ، مع أنّ الهدف هو قيام الناس بالقسط في جميع شئونهم العقيديّة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

كما أنّ تفسير الميزان بالعدل ، أو بالنبيّ ، أو بالقرآن كلّها تفاسير بالمصداق ، فليس للميزان إلّا معنى واحد هو ما يوزن به الشيء ، وهو يختلف حسب إختلاف الموزون من كونه جسماً أو حرارة أو نوراً أو ضغطاً أو رطوبة أو غير ذلك ، قال صدر المتألهين :

ميزان كلّ شيء يكون من جنسه ، فالموازين مختلفة ، والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرف الموازين ، وهو ميزان يوم الحساب ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) وهو ميزان العلوم وميزان

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

٤٣٤

الأعمال القلبية الناشئة من الأعمال البدنية. (١)

ولسيّدنا الأُستاذ العلّامة الطباطبائي قدس‌سره في المقام تحقيق لطيف استظهره من الآيات القرآنية وحاصله :

أنّ ظاهر آيات الميزان (٢) هو أنّ الحسنات توجب ثقل الميزان والسيئات خفَّته فإنّها تثبت الثقل في جانب الحسنات دائماً والخفّة في جانب السيئات دائماً ، لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثمّ السيّئات ويؤخذ ما لها من الثقل ، ثمّ يقاس الثقلان فأيّهما كان أكثر كان القضاء له ، ولازمه صحّة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفّتين والقبّان وغيرهما.

ومن هنا يتأيّد في النظر أنّ هناك أمراً آخر تقاس به الأعمال ، والثقل له ، فما كان منها حسنة انطبق عليه ووزن به وهو ثقل الميزان ، وما كان منها سيئة لم ينطبق عليه ولم يوزن به وهو خفة الميزان ، كما نشاهده فيما عندنا من الموازين ، فإنّ فيها مقياساً وهو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثمّ يوضع المتاع في الكفة الأخرى ، فإن عادل المثقال وزناً بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به وإلّا فهو الترك لا محالة والمثقال في الحقيقة هو الميزان الّذي يوزن به ، وأمّا

__________________

(١) الأسفار : ٩ / ٢٩٩.

(٢) لاحظ : الأعراف : ٩ ؛ المؤمنون : ١٠٣ ، القارعة : ١١.

٤٣٥

القبّان ، وذو الكفّتين ونظائرهما فهي مقدّمة لما يبيّنه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلاً وخفة.

ففي الأعمال واحد مقياس توزن به ، فللصلاة مثلاً ميزان توزن به وهي الصلاة التامّة الّتي هي حقّ الصلاة ، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك ، وللكلام والقول حقّ القول الّذي لا يشتمل على باطل ، وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١).

فالله سبحانه يزن الأعمال يوم القيامة بالحقّ ، فما اشتمل عليه العمل من الحقّ فهو وزنه وثقله.

وعلى هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري ، وإنّما عبّر بالموازين ـ بصيغة الجمع ـ لأنّ لكلّ أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحقّ الّذي يوزن به بإختلاف الأعمال ، فالحقّ في الصلاة ـ وهو حقّ الصلاة ـ غير الحقّ في الزكاة والصيام والحج وغيرها وهو ظاهر. (٢)

ب) الصراط

يستظهر من الذكر الحكيم ، ويدلّ عليه صريح الروايات ، وجود صراط في النشأة الأخروية يسلكه كلّ مؤمن وكافر يقول سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) الميزان : ٨ / ١٠ ـ ١٢.

٤٣٦

لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ... وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١).

وقد اختلف المفسّرون في معنى الورود ، بين قائل بأنّ المراد منه هو الوصول إليها ، والإشراف عليها لا الدخول ، وقائل بأنّ المراد دخولها ، وعلى كلّ تقدير فلا مناص للمسلم من الاعتقاد بوجود صراط في النشأة الأخروية وهو طريق المؤمن إلى الجنّة والكافر إلى النّار.

ثمّ إنّهم اختلفوا في أنّ الصراط هل هو واحد يمرّ عليه الفريقان ، أو أنّ لكلّ من أصحاب الجنّة والنار طريقاً يختصّ به؟ قال العلّامة الحلّي :

وأمّا الصراط فقد قيل إنّ في الآخرة طريقين : أحدهما إلى الجنة يهدي الله تعالى إليها أهل الجنة والأخرى إلى النّار يهدي الله تعالى أهل النّار إليها ، كما قال تعالى في أهل الجنة :

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٢).

وقال في أهل النار : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٣).

وقيل إنّ هناك طريقاً واحداً على جهنّم يكلّف الجميع المرور عليه ويكون أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، فأهل الجنّة يمرّون عليه لا يلحقهم خوف ولا غمّ ، والكفّار يمرّون عليه عقوبة لهم وزيادة في خوفهم ، فإذا بلغ

__________________

(١) مريم : ٦٨ ـ ٧١.

(٢) محمّد : ٥.

(٣) الصافات : ٢٣.

٤٣٧

كلّ واحد إلى مستقره من النّار سقط من ذلك الصراط. (١)

وقال الشيخ المفيد في تفسير كون الصراط أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف :

المراد بذلك أنّه لا يثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدّة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ومخاوفها فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الّذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف ، وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدّة في عبوره على الصّراط. (٢)

أقول : لا شكّ أنّ هناك صلة بين الصراط الدنيوي (القوانين الشرعية الّتي فرضها الله سبحانه على عباده وهداهم إليها) والصراط الأُخروي ، والقيام بالوظائف الإلهية ، الّذي هو سلوك الصراط الدنيوي ، أمر صعب أشبه بسلوك طريق أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، فكم من إنسان ضلّ في طريق العقيدة ، وعبد النفس والشيطان والهوى ، مكان عبادة الله سبحانه ، وكم من إنسان فشل في مقام الطاعة والعمل بالوظائف الإلهيّة.

فإذا كان هذا حال الصراط الدنيوي من حيث الصعوبة والدقّة ، فهكذا حال الصراط الأخروي ، ولأجل ذلك تضافرت روايات عن الفريقين بإختلاف مرور الناس حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام :

__________________

(١) كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة ١٤.

(٢) تصحيح الاعتقاد : ٨٩.

٤٣٨

«الناس يمرّون على الصراط طبقات ، فمنهم من يمرُّ مثل البرق ، ومنهم مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرُّ حبواً ، ومنهم من يمرُّ مشياً ، ومنهم من يمرُّ متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً». (١)

* * *

__________________

(١) أمالي الصدوق : ١٠٧ ، المجلس ٣٣ ؛ لاحظ : الدر المنثور : ٤ / ٢٩١.

٤٣٩
٤٤٠