محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الموتى ليس من المحالات الذاتية وإنّما ينكر من ينكر أو يستبعده لجهله بقدرة الله المطلقة وعلمه الشامل وإليك فيما يلي نماذج من الآيات في هذا المجال :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١).

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٣).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤).

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ* قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٥).

__________________

(١) الروم : ٢٧.

(٢) يس : ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) سبأ : ٣.

(٤) الحج : ٦.

(٥) ق : ٣ ـ ٤.

٤٠١
٤٠٢

الفصل الثاني :

بقاء النفس الإنسانية بعد الموت

إنّ بعض شبهات منكري المعاد ناشٍ عن توهّم أنّ الإنسان ليس إلّا مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلود تعمل بانتظام ، فإذا مات الإنسان صار تراباً ولا يبقى من شخصيته شيء ، فكيف يمكن أن يكون الإنسان المُعاد هو نفس الإنسان في الدنيا؟ وعليه فلا يتحقّق المقصود من المَعاد وهو تحقيق العدل الإلهي بإثابة المطيع وعقوبة العاصي ، ولعلّه إلى هذه الشبهة يشير قولهم :

(أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١).

وقد أجاب سبحانه عنها بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٢) يعني أن شخصيتكم الحقيقية لا تضلّ أبداً في الأرض ، فإنّها محفوظة لا تتغيّر ولا تضلّ ، وتلك الشخصية هي ملاك وحدة الإنسان المحشور في الآخرة والإنسان الدنيوي ، فالآية تعرب عن

__________________

(١) السجدة : ١٠.

(٢) السجدة : ١١.

٤٠٣

بقاء الروح بعد الموت وهذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات حول المعاد الجسماني.

لقد شغل أمر تجرّد الروح وبقائه بال المفكّرين ، واستدلّوا عليه بوجوه عقلية ، كما اهتمّ القرآن الكريم ببيانه في لفيف من آياته ، وفيما يلي نسلك في البحث عن تجرّد الروح هذين الطريقين ؛ العقلي والنقلي :

أ) البراهين العقلية

إنّ البحث العقلي في تجرّد الروح مترامي الأطراف ، مختلف البراهين ، نكتفي من ذلك ببيان برهانين ، ومن أراد التبسّط فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك. (١)

١. ثبات الشخصية الإنسانية في دوامة التغيّرات الجسديّة

لقد أثبت العلم أنّ التغيّر والتحوّل من الآثار اللازمة للموجودات الماديّة ، فلا تنفك الخلايا الّتي يتكوّن منها الجسم البشري عن التغيّر والتبدّل ، وقد حسب العلماء معدّل هذا التجدّد فظهر لهم أنّه يحدث بصورة شاملة في البدن مرَّة كلّ عشر سنين ، هذا.

ولكن كلّ واحد منّا يحسّ بأنّ نفسه باقية ثابتة في دوامة تلك التغيّرات الجسميّة ، ويجد أنّ هناك شيئاً يسند إليه جميع حالاته من الطفولية

__________________

(١) لاحظ : شرح الاشارات : ٢ / ٣٦٨ ـ ٣٧١ ؛ الأسفار : ٨ / ٣٨ ؛ أُصول الفلسفة ، للعلّامة الطباطبائي ، المقالة ٣.

٤٠٤

والصباوة والشّباب ، والكهولة ، فهناك وراء بدن الإنسان وتحوّلاته البدنيّة حقيقة باقية ثابتة رغم تغيّر الأحوال وتصرّم الأزمنة.

فلو كانت تلك الحقيقة الّتي يحمل عليها تلك الصفات أمراً مادّيّاً مشمولاً لسنّة التغيّر والتحوّل لم يصحّ حمل تلك الصفات على شيء واحد حتّى يقول : أنا الّذي كتبت هذا الخط يوم كنت صبيّاً أو شابّا ، وأنا الّذي فعلت كذا وكذا في تلك الحالة وذلك الوقت.

٢. عدم الانقسام آية التجرّد

الانقسام والتجزّؤ من لوازم المادّة ، ولكن كلّ واحد منّا إذا رجع إلى ما يشاهده في صميم ذاته ، ويعبّر عنه ب «أنا» وجده معنى بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزّي ، فارتفاع أحكام المادّة ، دليل على أنّه ليس بمادّي.

إنّ عدم الانقسام لا يختصّ بالنفس بل هو سائد على الصفات النفسانية من الحبّ والبغض والإرادة والكراهة والإذعان ونحو ذلك ، اعطف نظرك إلى حبّك لولدك وبغضك لعدوّك فهل تجد فيهما تركّباً ، وهل ينقسمان إلى أجزاء؟ كلّا ، ولا.

فظهر أنّ الروح وآثارها ، والنفس والنفسانيات كلّها موجودات واقعية خارجة عن إطار المادة.

ب) القرآن وتجرّد النفس

الآيات القرآنية الدالّة على بقاء النفس بعد الموت تصريحاً أو تلويحاً كثيرة نأتي بنماذج منها :

٤٠٥

١. يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١) لفظة التوفّي بمعنى القبض والأخذ لا الإماتة ، وعلى ذلك فالآية تدلّ على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه الله سبحانه حين الموت والنوم ، فيمسكه إن كتب عليه الموت ، ويرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى.

٢. قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.) (٢) صراحة الآية في الدلالة على حياة الشهداء غير قابلة للإنكار ، فإنّها تقول : إنّهم أحياء أوّلاً ، ويرزقون ثانياً ، وإنّ لهم آثاراً نفسانية يفرحون ويستبشرون ثالثاً ، وتفسير الحياة ، بالحياة في شعور الناس وضمائرهم وقلوبهم ، وفي الأندية والمحافل تفسير مادّي للآية مخالف لما ذكر للحياة من الأوصاف الحقيقية.

٣. قال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ). (٣) وجه الاستدلال بالآية على المقصود واضح.

__________________

(١) الزمر : ٤٢.

(٢) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٣) المؤمن : ٤٥ ـ ٤٦.

٤٠٦

٤. قال تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (١) المخاطب لقوله : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) والقائل لما ذكر بعده من التمنّي هو مؤمن آل يس واسمه حبيب النجّار كما ورد في الروايات ، وقصّته معروفة ، والآية تدل على أنّه باق بعد الموت يرزق في الجنّة ، ويتمنّى أنّ يعلم قومه بما رزق من الكرامة.

__________________

(١) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

٤٠٧
٤٠٨

الفصل الثالث :

المعاد الجسماني والروحاني

في القرآن الكريم

إنّ القول بالمعاد الجسماني والروحاني معاً يتوقّف على أمور :

أ. الاعتقاد بتجرّد الروح الإنساني.

ب. الاعتقاد بأنّ الروح يعود إلى البدن عند الحشر.

ج. إنّ هناك آلاماً ولذائذ جزئية وكلية ، جسمانية وروحانية.

إنّ من أمعن النظر في الآيات الواردة حول المعاد يقف على أنّ المعاد الّذي يصرُّ عليه القرآن هو عود البدن الّذي كان الإنسان يعيش به في الدنيا وتعلّق الروح إليه مرّة أخرى ولا يكتفي بحياة الروح في عالم الآخرة ، كما أنّه لا يخصّ الثواب والعقاب بالجسمانية منهما بل يثبت أيضاً ثواباً وعقاباً روحانيّين غير حسيّين ، وإليك فيما يلي نماذج من عناوين الآيات في هذين المجالين :

٤٠٩

١. ما ورد في قصّة إبراهيم ، وإحياء عزير ، وبقرة بني إسرائيل ، ونحو ذلك. (١)

٢. ما يصرّح على أنّ الإنسان خلق من الأرض وإليها يعاد ومنها يخرج. (٢)

٣. ما يدلّ على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث والقبور. (٣)

٤. ما يدلّ على شهادة الأعضاء يوم القيامة. (٤)

٥. ما يدلّ على تبديل الجلود بعد نضجها وتقطع الأمعاء. (٥)

هذا كلّه بالنسبة إلى الملاك الأوّل ، وأمّا بالنسبة إلى الملاك الثاني ، فالآيات الراجعة إلى الآلام واللّذائذ الحسّية أكثر من أن تحصى ويكفى نموذجاً لذلك في سورتي الواقعة والرحمن. فلنقتصر بالإشارة إلى نماذج من الآيات الناظرة إلى الآلام واللّذائذ العقلية :

١. قال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦) ترى أنّه سبحانه يجعل رضوان الله في

__________________

(١) البقرة : ٦٨ ـ ٧٣ ، ٢٤٣ ، ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) الأعراف : ٢٥ ؛ طه : ٥٥ ؛ الروم : ٢٥ ؛ نوح : ١٨.

(٣) الحج : ٧ ؛ يس : ٥١ ؛ القمر : ٧ ؛ المعارج : ٤٣.

(٤) النور : ٢٤ ؛ يس : ٦٥ ؛ فصلت : ٤١.

(٥) النساء : ٥٦ ؛ محمّد : ١٥.

(٦) التوبة : ٧٢.

٤١٠

مقابل سائر اللّذات الجسمانية ويصفه بكونه أكبر من الأُولى وأنّه هو الفوز العظيم ، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من اللّذة لا يرجع إلى الجسم والبدن ، بل هي لذَّة تدرك بالعقل والروح في درجتها القصوى.

٢. يقول سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (١) يظهر عظم هذا الألم بوقوع هذه الآية قبل آية الرضوان ، فكأنَّ الآيتين تعربان عن اللَّذات والآلام العقلية الّتي تدركها الروح بلا حاجة إلى الجسم والبدن.

٣. يقول سبحانه في وصف أصحاب الجحيم : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) (٢) إنّ عذاب الحسرة أشدّ على النفس ممّا يحلّ بها من عذاب البدن ، ولأجل ذلك يسمّى يوم القيامة ، يوم الحسرة ، قال سبحانه : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) (٣)

نختم الكلام بما أفاده المحقّق الطوسي في المقام حيث قال :

«أمّا الأنبياء المتقدّمون على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فالظاهر من كلام أُممهم أنّ موسى عليه‌السلام لم يذكر المعاد البدني ، ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الّذين جاءوا بعده ، كحزقيل وأشعيا عليهما‌السلام ولذلك أقرّ اليهود به ، وأمّا في الإنجيل فقد ذكر : أنّ الأخيار يصيرون كالملائكة وتكون لهم الحياة الأبدية ،

__________________

(١) التوبة : ٦٨.

(٢) البقرة : ١٦٧.

(٣) مريم : ٣٩.

٤١١

والسعادة العظيمة ، والأظهر أنّ المذكور فيه المعاد الروحاني.

وأمّا القرآن فقد جاء فيه كلاهما : أمّا الروحاني ففي مثل قوله عزّ من قائل : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) و (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) و (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)

وأمّا الجسماني فقد جاء أكثر من أن يعدّ ، وأكثره ممّا لا يقبل التأويل ، مثل قوله عزّ من قائل :

(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ).

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا).

ثمّ إنّه ردّ نظرية التأويل في آيات المعاد الجسماني قياساً بالآيات الواردة في الصفات الدالّة بظاهرها على التشبيه وقال :

أمّا القياس على التشبيه فغير صحيح ، لأنّ التشبيه مخالف للدليل العقلي الدالّ على امتناعه ، فوجب فيه الرجوع إلى التأويل ، وأمّا المعاد البدني فلم يقم دليل ، لا عقلي ولا نقلي

٤١٢

على امتناعه ، فوجب إجراء النصوص الواردة فيه على مقتضى ظواهرها. (١)

شبهة الآكل والمأكول

إنّ هذه الشبهة من أقدم الشبهات الّتي وردت في الكتب الكلامية حول المعاد الجسماني وقد اعتنى بدفعها المتكلّمون والفلاسفة الإلهيّون عناية بالغة ، والإشكال يقرّر بصورتين نأتي بهما مع الإجابة عنهما :

الصورة الأولى :

لو أكل إنسان كافر إنساناً مؤمناً صار بدنه أو جزء منه جزءاً من بدن الكافر ، والكافر يعذّب فيلزم تعذيب المؤمن وهو ظلم عليه.

والجواب عنه واضح ، فإنّ المدرك للآلام واللذائذ هو الروح ، والبدن وسيلة لإدراك ما هو المحسوس منهما ، وعليه فصيرورة بدن المؤمن جزءاً من بدن الكافر لا يلازم تعذيب المؤمن ، لأنّ المعذّب في الحقيقة هو روح الكافر ونفسه ، لا روح المؤمن ، وهذا نظير أخذ كُلْيَة الإنسان الحيّ ووصلها بإنسان آخر ، فلو عذّب هذا الأخير أو نعمّ ، فالمعذّب والمنعَّم هو هو ، ولا صلة بينه وبين من وهب كُلْيَته إليه.

الصورة الثانية :

إذا أكل إنسان إنساناً يصير بدنه المأكول أو جزء منه ، جزء البدن الآكل ،

__________________

(١) تلخيص المحصل : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

٤١٣

وتلك الأجزاء إمّا يعاد مع بدن الآكل ، وإمّا يعاد مع بدن المأكول ، أو لا يعاد أصلاً. (١) ولازم الجميع عدم عود البدن بتمامه وبعينه ، أمّا في أحدهما كما في الفرضين الأوّلين ، أو في كليهما كما في الفرض الأخير ، فالمعاد الجسماني بمعنى حشر الأبدان بعينها باطل.

والمشهور عند المتكلّمين في الإجابة عنه هو أنّ بدن الإنسان مركب من الأجزاء الأصليّة والفاضلة ، والأجزاء الأصليّة باقية بعد الموت ، وعند الإعادة تؤلّف وتضمّ معها أجزاء أخرى زائدة ، والمعتبر في المعاد الجسماني هو إعادة تلك الأجزاء الأصليّة ، والأجزاء الأصليّة في كلّ بدن تكون فاضلة في غيره (٢) وإليه أشار المحقّق الطوسي بقوله : «ولا يجب إعادة فواضل المكلّف». (٣)

أقول : المعاد الجسماني لا يتوقّف على كون البدن المحشور نفس البدن الدنيوي حتّى في المادّة الترابية بل لو تكوّن بدن الإنسان المعاد من أيّة مادّة ترابية كانت وتعلّقت به الروح وكان من حيث الصورة متّحداً مع البدن الدنيوي يصدق على المعاد أنّه هو المنشأ في الدنيا.

يؤيّد ذلك قول الإمام الصادق عليه‌السلام :

«فإذا قبضه الله إليه صيَّر تلك الروح إلى الجنّة في صورة كصورته فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم ، عرفهم

__________________

(١) وأمّا فرض عوده مع كلّ من الآكل والمأكول فهو ساقط رأساً ، لأنّه محال عقلاً.

(٢) قواعد المرام لابن ميثم البحراني : ١٤٤.

(٣) كشف المراد : المقصد ٦ ، المسألة ٤.

٤١٤

بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا». (١)

فترى أنّ الإمام عليه‌السلام يذكر كلمة الصورة ، ولعلّ فيه تذكير بأنّه يكفي في المعاد الجسماني كون المُعاد متّحداً مع المبتدأ في الصورة من غير حاجة إلى أن يكون هناك وحدة في المادة الترابية بحيث إذا طرأ مانع من خلق الإنسان منه ، فشل المعاد الجسماني ولم يتحقّق. ويستظهر ذلك أيضاً من نحو قوله تعالى :

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢).

قال التفتازاني :

ربما يميل كلام الغزالي وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أنّ معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء بعد خراب البدن ، ولا يضرّنا كونه غير البدن الأوّل بحسب الشخص لامتناع إعادة المعدوم بعينه ، وما شهد به النصوص من كون أهل الجنّة جرداً مرداً ، وكون ضرس الكافر مثل جبل أُحد يعضد ذلك ، وكذا قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٣).

ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

__________________

(١) بحار الأنوار : ٦ ، باب أحوال البرزخ ، الحديث ٣٢.

(٢) يس : ٨١.

(٣) النساء : ٥٦.

٤١٥

وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (١).

إشارة الى هذا. (٢)

وقال العلّامة الطباطبائي قدس‌سره :

البدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه ، لكنّ الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق ، كان عينه لا مثله ، لأنّ الشخصيّة بالنفس وهي واحدة بعينها. (٣)

__________________

(١) يس : ٨١.

(٢) شرح المقاصد : ٥ / ٩٠ ـ ٩١.

(٣) الميزان : ١٧ / ١١٤.

٤١٦

الفصل الرابع :

براهين بطلان التناسخ

التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة ، بلا توقّف أبداً ، فالقائلون بالتّناسخ ينكرون عالم الآخرة ويفسّرون الثواب والعقاب باللّذات والآلام الدنيوية في هذه النشأة. قال الشهرستاني :

إنّ التناسخ هو أن يتكرّر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له ، ويحدث في كل دور مثل ما حدث في الأوّل والثواب والعقاب في هذه الدار ، لا في دار أخرى لا عمل فيها. والأعمال التى نحن فيها إنما هي أجزية على أعمال سلفت منّا في الأدوار الماضية. فالراحة والسرور والفرح والدعة الّتي نجدها هي مرتّبة على أعمال البرّ الّتي سلفت منّا في الأدوار الماضية. والغمّ والحزن والضنك والكلفة التى نجدها هي مرتّبة على أعمال الفجور التى سبقت منّا. وكذا كان في الأوّل وكذا يكون في الآخرة. (١)

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٥٥.

٤١٧

يرد على القول بالتناسخ أمور تالية :

١. أنّهم يقولون : «إنّ المصائب والآلام الّتي تبتلي بها طائفة من الناس هي في الحقيقة جزاء لما صنعوا في حياتهم السّابقة من الذنوب عند ما كانت أرواحهم متعلّقة بأبدان أخرى ، كما أنّ النعم واللّذائذ الّتي تلتذّ بها جماعة أخرى من الناس هي أيضاً جزاء أعمالهم الحسنة في حياتهم المتقدمة» ، وعلى هذا فكلٌّ يستحقّ لما هو حاصل له ، فلا ينبغي الاعتراض على المستكبرين والمترفين ، كما لا ينبغي القيام بالانتصاف من المظلومين والمستضعفين ، وبذلك تنهدم الأخلاق من أساسها ولا يبقى للفضائل الإنسانية مجال ، وهذه العقيدة خير وسيلة للمفسدين والطغاة لتبرير أعمالهم الشنيعة.

٢. إنّ هذه العقيدة معارضة للقول بالمعاد الّذي أُقيم البرهان العقلي على وجوبه ، ومن الواضح أنّ الّذي ينافي البرهان الصحيح فهو باطل ، فالقول بالتناسخ باطل.

٣. إنّ لازم القول بالتناسخ هو اجتماع نفسين في بدن واحد ، وهو باطل. بيان الملازمة إنّه متى حصل في البدن مزاج صالح لقبول تعلّق النفس المدبّرة له ، فبالضرورة تفاض عليه النفس من الواهب من غير مهلة وتراخ ، قضاءً للحكمة الإلهية الّتي شاءت إبلاغ كلّ ممكن إلى كماله الخاص به ، فإذا تعلّقت النفس المستنسخة به أيضاً كما هو مقتضى القول بالتناسخ ، لزم اجتماع نفسين في بدن واحد.

وأمّا بطلان اللازم فلأنّ تشخّص كلّ فرد من الأنواع بنفسه وصورته

٤١٨

النوعية ، ففرض نفسين في بدن واحد مساوق لفرض ذاتين لذات واحدة وشخصين في شخص واحد ، وهذا محال ، على أنّ ذلك مخالف لما يجده كلّ إنسان في صميم وجوده وباطن ضميره.

فإن قلت : إنّ تعلّق النفس المنسوخة إذا كان مقارناً لصلاحية البدن لإفاضة نفس عليه ، يمنع عن إفاضتها عليه ، فلا يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد.

قلت : إنّ استعداد المادّة البدنية لقبول النفس من واهب الصور يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور الشّمس مباشرة وانعكاساً ، فلا يكون أحدهما مانعاً عن الآخر ، غير أنّ اجتماع النفسين في بدن واحد ممتنع عقلاً ، والامتناع ناشٍ من فرض التناسخ كما لا يخفى.

التناسخ والمسخ

ربما يقال : «لو كان التناسخ ممتنعاً فكيف وقع المسخ في الأُمم السّالفة ، كما صرّح به الذكر الحكيم؟» (١).

والجواب : أنّ محذور التناسخ المحال ، أمران :

أحدهما : اجتماع نفسين في بدن واحد.

ثانيهما : تراجع النفس الإنسانية من كمالها إلى الحدّ الّذي يناسب بدنها المتعلّقة به.

__________________

(١) لاحظ : الأسفار : ٩ / ١٠.

٤١٩

والمحذوران منتفيان في المقام ، فإنّ حقيقة مسخ الأُمّة المغضوبة والملعونة هي تلبّس نفوسهم الخبيثة لباس الخنزير والقرد ، لا تبدّل نفوسهم الانسانية إلى نفوس القردة والخنازير ، قال التفتازاني :

إنّ المتنازع هو أنّ النفوس بعد مفارقتها الأبدان ، تتعلّق في الدنيا بأبدان أخر للتدبير والتصرّف والاكتساب لا أن تتبدّل صور الأبدان كما في المسخ ... (١)

وقال العلّامة الطباطبائي : «الممسوخ من الإنسان ، إنسان ممسوخ لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانية». (٢)

التناسخ والرجعة

قد يقال : ما هو الفرق بين التناسخ الباطل والقول بالرجعة على ما عليه الإمامية؟».

الجواب : الفرق بينهما واضح بعد الوقوف على ما تقدّم ، فإنّ الرجعة لا تستلزم انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر ، ولا اجتماع نفسين في بدن واحد ، ولا تراجع النفس عن كمالها الحاصل لها ، وبذلك تعرف قيمة كلمة أحمد أمين المصري حيث يقول : «وتحت التشيّع ظهر القول بتناسخ الأرواح». (٣)

__________________

(١) شرح المقاصد : ٣ / ٣٢٧.

(٢) الميزان : ١ / ٢٠٩.

(٣) فجر الإسلام : ٢٧٧.

٤٢٠