محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

إعدادها حدّاً تقدر معه بنفسها على سدِّ ذلك الفراغ ، غير أنّ التاريخ والمحاسبات الاجتماعية يبطلان هذا الاحتمال ويثبتان أنّه لم يقدر للأمّة بلوغ تلك الذروة لتقوم بسدّ هذه الثغرات الّتي خلّفها غياب النبيّ الأكرم ، لا في جانب التفسير ولا في جانب فصل الخصومات ، ولا في جانب ردّ التشكيكات ودفع الشبهات ، ولا في جانب صيانة الدّين عن الانحراف.

أمّا في جانب التفسير ، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم حتّى فيما يرجع إلى عمل المسلمين يوماً وليلة.

وأمّا في جانب القضاء في الاختلافات والمنازعات فيشهد بذلك عجز الخلفاء والصحابة عن ذلك في كثير من الموارد ، سوى الإمام علي عليه‌السلام حيث كان مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقضاهم بنصّ خاتم الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا في مجال الأحكام ، فيكفي في ذلك الوقوف على أنّ بيان الأحكام الدينية حصل تدريجاً على ما تقتضيه الحوادث والحاجات الاجتماعية في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن المعلوم أنّ هذا النمط كان مستمرّاً بعد الرسول ، غير أنّ ما ورثه المسلمون منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن كافياً للإجابة عن ذلك ، أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وأمّا الأحاديث في هذا المجال ، فالّذي ورثته الأمّة لا تتجاوز خمسمائة حديث ، وهذا القدر لا يفي بالإجابة على جميع الموضوعات المستجدّة.

ولا نعني من ذلك أنّ الشريعة الإسلامية ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية وشمول المواضيع المستجدّة ، بل المقصود أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان

٣٤١

يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس ومقتضيات الظروف الزمنية ، فلا بدّ في إيفاء غرض التشريع على وجه يشمل المواضيع المستجدّة والمسائل المستحدثة أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه ويقوم مقامه.

وأمّا في مجال ردّ الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات ، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبيّ من هذه الناحية ، فجاءت اليهود والنصارى تترى ، يطرحون الأسئلة ، حول أُصول الإسلام وفروعه ، ولم يكن في وسع الخلفاء آنذاك الإجابة الصحيحة عنها ، كما يشهد بذلك التاريخ الموجود بأيدينا.

وأمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة ، والدّين عن الانحراف ، فقد كانت الأُمّة الإسلامية في أشدّ الحاجة إلى من يصون دينها عن التحريف وأبناءها عن الاختلاف ، فإنّ التاريخ يشهد على دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس بين المسلمين ، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية والأساطير النصرانية والخرافات المجوسية بينهم ، ويكفي في ذلك أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك ، فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدّثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، وكذلك كان شأن سائر الّذين جمعوا الأحاديث وكثير من هذه الأحاديث الّتي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم. (١)

__________________

(١) لاحظ : حياة محمّد ، لمحمّد حسين هيكل : ٤٩ ـ ٥٠.

٣٤٢

هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأُمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدِّ الفراغات الهائلة الّتي خلّفتها رحلة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويبطل بذلك الاحتمال الثاني تجاه التشريع الإسلامي بعد عصر الرسالة.

الاحتمال الثالث : أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، شخصيّة مثالية ، لها كفاءة تقبُّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم هي بسدّ هذا الفراغ بعد رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله. وبعد بطلان الاحتمالين الأوّلين لا مناص من تعيُّن هذا الاحتمال ، فإنّ وجود إنسان مثالي كالنبيّ في المؤهّلات ، عارف بالشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي ، فهل يسوغ على الله سبحانه أن يهمل هذا الأمر الضروري في حياة الإنسان الدينية؟

إن الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضرورية فيما يحتاج إليها في حياته الدنيوية الماديّة ، ومع ذلك كيف يعقل إهمال هذا العنصر الرئيسي في حياته المعنوية والدينية؟! وما أجمل ما قاله أئمّة أهل البيت في فلسفة وجود هذا الخلف ومدى تأثيره في تكامل الأُمّة.

قال الإمام علي عليه‌السلام : «اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً ، وإمّا خائفاً مغموراً ، لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته». (١)

__________________

(١) نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم ١٤٧.

٣٤٣

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام ، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم ، وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم». (١)

هذه المأثورات من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تعرب عن أنّ الغرض الداعي إلى بعثة النبيّ ، داع إلى وجود إمام يخلف النبي في عامّة سماته ، سوى ما دلّ القرآن على انحصاره به ككونه نبيّاً رسولاً وصاحب شريعة.

ب) الأُمّة الإسلامية ومثلث الخطر الدّاهم

إنّ الدولة الإسلامية الّتي أسّسها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت محاصرة حال وفاة النبيّ من جهتي الشمال والشرق بأكبر إمبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة ، وكانتا على جانب كبير من القوّة والبأس ، وهما : الروم وإيران ، ويكفي في خطورة إمبراطورية إيران إنّه كتب ملكها إلى عامله باليمن ـ بعد ما وصلت إليه رسالة النبيّ تدعوه إلى الإسلام ، ومزَّقها ـ : «ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز ، رجلين من عندك ، جلدين ، فليأتياني به» (٢). وكفى في خطورة موقف الإمبراطورية الرومانية ، إنّه وقعت اشتباكات عديدة بينها وبين المسلمين في السنّة الثامنة للهجرة ، منها سريّة موتة الّتي قتل فيها قادة الجيش الإسلامي ، وهم : جعفر بن أبي طالب ، وزيد ابن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، ورجع الجيش الإسلامي من تلك الواقعة منهزما ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه على رأس الجيش الإسلامي إلى تبوك في السنّة

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٧٨ ، الحديث ٢.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ١٤٥.

٣٤٤

التاسعة لمقابلة الجيوش البيزنطية ولكنّه لم يلق أحداً ، فأقام في تبوك أيّاماً ثمّ رجع إلى المدينة ، ولم يكتف بهذا بل جهّز جيشاً في أُخريات أيّامه بقيادة أسامة بن زيد لمواجهة جيوش الروم ، هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من وطأة مؤامرات المنافقين الّذين كانوا يشكّلون جبهة عدوانية داخلية ، أشبه بما يسمّى بالطابور الخامس ، فهؤلاء أسلموا بألسنتهم دون قلوبهم ، وكانوا يتحيّنون الفرص لإضعاف الدولة الإسلامية بإثارة الفتن الداخلية ، ولقد انبرى القرآن الكريم لفضح المنافقين والتشهير بخططهم ضد الدين والنبيّ في العديد من السور القرآنية وقد نزلت في حقّهم سورة خاصّة.

إنّ اهتمام القرآن بالتعرّض للمنافقين المعاصرين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتواجدين بين الصحابة أدلّ دليل على أنّهم كانوا قوة كبيرة ويشكّلون جماعة وافرة ويلعبون دوراً خبيثاً في إفساح المجال لأعداء الإسلام ، بحيث لو لا قيادة النبيّ الحكيمة لقضوا على كيان الدين ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه :

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (١).

وقد كان محتملاً ومترقّباً أن يتّحد هذا المثلث الخطير لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره بعد وفاة النبيّ ، فمع هذا الخطر المحيق الداهم ، ما

__________________

(١) التوبة : ٤٨.

٣٤٥

هي وظيفة القائد الحكيم الّذي أرسى قواعد دينه على تضحيات عظيمة؟ فهل المصلحة كانت تقتضي تنصيب قائد حكيم عارف بأحكام القيادة ووظائفها حتى يجتمع المسلمون تحت رايته ويكونوا صفّاً واحداً في مقابل ذاك الخطر ، أو أنّ المصلحة العامّة تقتضي تفويض الأمر إلى الأُمّة حتى يختاروا لأنفسهم أميراً ، مع ما يحكيه التاريخ لنا من سيطرة الروح الحزبيّة على المسلمين آنذاك؟ ويكفي شاهداً على ذلك ما وقع من المشاجرات بين المهاجرين والأنصار يوم السقيفة. (١)

إنّ القائد الحكيم هو من يعتني بالأوضاع الاجتماعية لأُمّته ، ويلاحظ الظروف المحيطة بها ، ويرسم على ضوئها ما يراه صالحاً لمستقبلها ، وقد عرفت أنّ مقتضى هذه الظروف هو تعيين القائد والمدبّر ، لا دفع الأمر إلى الأُمّة. وإلى ما ذكرنا ينظر قول الشيخ الرئيس ابن سينا في حقّ الإمام :

«والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف». (٢)

ج) نصب الإمام لطف إلهي

هذا حاصل ما سلكناه في بيان وجوب تنصيب الخليفة والإمام للأُمّة الإسلامية من جانب النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على ضوء العقل الفطري ودراسة التاريخ الإسلامي وشئون الرسالة النبويّة ومسئولياتها الخطيرة ، وهذا

__________________

(١) راجع : السيرة النبوية : ٢ / ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

(٢) الشفاء الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الخامس : ٥٦٤.

٣٤٦

المسلك يقرب ممّا سلكه مشايخنا الإماميّة في هذا المجال من الاستناد بقاعدة اللطف ، وفي ذلك يقول السيّد المرتضى :

والّذي يدلّ على ما ادّعيناه إنّ كلّ عاقل عرف العادة وخالط الناس ، يعلم ضرورة أنّ وجود الرئيس المصيب النافذ الأمر ، السديد التدبير ترتفع عنده التظالم والتقاسم والتباغي أو معظمه ، أو يكون الناس إلى ارتفاعه أقرب ، وإن فقد من هذه صفته يقع عنده كلّ ما أشرنا إليه من الفساد أو يكون الناس إلى وقوعه أقرب ، فالرئاسة على ما بيَّنّاه لطف في فعل الواجب والامتناع من القبيح ، فيجب أن لا يخلّي الله تعالى المكلّفين منها ، ودليل وجوب الالطاف يتناولها. (١)

هذا الاستدلال كما ترى مؤلّف من مقدمتين :

الأولى : إنّ نصب الإمام لطف من الله على العباد.

الثانية : إنّ اللطف واجب على الله لما تقتضيه حكمته تعالى.

أمّا المقدمة الأولى ، فلأنّ اللطف هو ما يقرّب المكلّفين إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ولو بالإعداد ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام كذلك لما به من بيان المعارف والأحكام الإلهيّة وحفظ الشريعة من الزيادة والنقصان وتنفيذ الأحكام ورفع الظلم والفساد ونحوها.

وأمّا المقدّمة الثانية ، فلأنّ ترك هذا اللطف من الله سبحانه إخلال بغرضه

__________________

(١) الذخيرة في علم الكلام : ٤١٠.

٣٤٧

ومطلوبه وهو طاعة العباد له وترك معصيته فيجب على الله نصبه لئلا يخلّ بغرضه ، ولا ينافي اللطف في نصبه سلب العباد سلطانه أو غيبته ، لأنّ الله سبحانه قد لطف بهم بنصب المُعَدّ لهم ، وهم فوَّتوا أثر اللطف على أنفسهم. وإلى هذا أشار المحقّق الطوسي بقوله :

الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض ... ووجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا. (١)

وأوضحه العلّامة الحلّي ، بقوله :

لطف الإمامة يتمّ بأمور : منها ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام وتمكينه بالتصرّف والعلم والنص عليه باسمه ونسبه ، وهذا قد فعله الله تعالى ، ومنها ما يجب على الإمام وهو تحمّله للإمامة وقبوله لها وهذا قد فعله الإمام ، ومنها ما يجب على الرعية وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله ، وهذا لم يفعله الرعية ، فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام. (٢)

مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد

ناظر هشام بن الحكم ـ وهو من أبرز أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام في علم الكلام ـ مع عمرو بن عبيد ـ وهو من مشايخ المعتزلة ـ في مسألة

__________________

(١) كشف المراد ، المقصد الخامس : ٢٨٤.

(٢) المصدر السابق : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٣٤٨

الإمامة وصارت النتيجة إفحام هشام لعمرو عند جمع من تلامذته ، وإليك ما رواه الكليني في ذلك :

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن يعقوب ، قال : كان عند أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة من أصحابه ، منهم :

حمران بن أعين ، ومحمّد بن النعمان ، وهشام بن سالم ، والطيّار ، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

«يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ وكيف سألته؟».

فقال هشام : يا بن رسول الله إنّي أُجلُّك واستحييك ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشيء فافعلوا».

قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة ، فعظم ذلك عليّ ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة ، فأتيت مسجد البصرة ، فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء ، متَّزر بها من صوف ، وشملة مرتدياً بها والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس ، فأفرجوا لي ، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتَيَّ ، ثمّ قلت : أيّها العالم : إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟

فقال لي : نعم.

فقلت له : ألك عين؟ فقال : يا بُنيّ أيّ شيء هذا من السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه؟

٣٤٩

فقلت : هكذا مسألتي. فقال : يا بنيَّ سَل وإن كانت مسألتك حمقاً.

قلت : أجِبْني فيها. قال لي : سَل.

قلت : ألك عين؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قلت : فلك أنف؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أشمّ به الرائحة.

قلت : ألك فم؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أذوق به الطعم.

قلت : فلك أُذن؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها؟ قال : أسمع بها الصوت.

قلت : ألك قلب؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أُميِّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قلت : أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟

قال : يا بني : إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمَّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردَّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

فقلت له : فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح؟ قال : نعم.

قلت : لا بدّ من القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم.

فقلت له : يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتيقّن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق

٣٥٠

كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكّك؟

فسكت ولم يقل لي شيئاً ... ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه ، وما زال عن مجلسه وما نطق حتى قمت.

فضحك أبو عبد الله عليه‌السلام وقال : يا هشام من علّمك هذا؟

قلت : شيء أخذته منك وألَّفته.

قال عليه‌السلام : هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى. (١)

ولعلّ قوله عليه‌السلام : هذا والله مكتوب الخ ، إشارة إلى أنّ مسألة نصب الخليفة والإمام الّتي يحكم بها العقل الصريح ، كانت من سنن الأنبياء والمرسلين ، وإنّما ذكر إبراهيم وموسى لما كان لهما من المكانة الخاصّة في هذا المجال ، ولذلك أيضاً ذكر القرآن ما استدعياه من الله سبحانه في أمر الإمامة والوزارة (٢) ويدلّ على ذلك أيضاً ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلَّما هلك نبي خلفه نبيّ ، وإنّه لا نبيّ بعدي ، وسيكون بعدي خلفاء يكثرون». (٣)

وظاهر الحديث أنّ استخلاف الخلفاء في الأُمّة الإسلامية ، كاستخلاف الأنبياء في الأُمم السالفة ، ومن المعلوم أنّ الاستخلاف كان هناك بالتنصيص.

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، كتاب الحجّة ، باب الاضطرار الى الحجّة ، الحديث ٣.

(٢) لاحظ : البقرة : ١٢٤ ، وطه : ٣٠.

(٣) جامع الأُصول لابن أثير الجزري ، ٤٤٣ الفصل الثاني.

٣٥١
٣٥٢

الفصل الخامس :

وجوب العصمة في الإمام

اتّفق أهل السنّة على أنّ العصمة ليست من شرائط الإمام أخذاً بمبادئهم حيث إنّ الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا بمعصومين ، قال التفتازاني :

واحتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ، مع الإجماع على أنّهم لم تجب عصمتهم ... وحاصل هذا دعوى الإجماع على عدم اشتراط العصمة في الإمام. (١)

وأمّا الشيعة الإمامية فقد اتّفقت كلمتهم على هذا الشرط ، قال الشيخ المفيد : «اتّفقت الإمامية على أنّ إمام الدين لا يكون إلّا معصوماً من الخلاف لله تعالى». (٢)

وقال «أقول : إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام ، معصومون كعصمة الأنبياء». (٣)

__________________

(١) شرح المقاصد : ٥ / ٢٤٩.

(٢) أوائل المقالات : ٤٧ ، الطبعة الثانية.

(٣) نفس المصدر : ٧٤.

٣٥٣

ثمّ إنّهم استدلّوا على وجوب العصمة بوجوه ، نكتفي ببعضها :

١. الإمام حافظ للشريعة كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

يجب أن يكون الإمام مصوناً عن الخطأ في العلم والعمل لكي تحفظ الشريعة به ويكون هادياً للناس إلى مرضاة الله سبحانه ، وإليه أشار العلّامة الحلّي بقوله :

ذهبت الإمامية إلى أنّ الأئمّة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمداً وسهواً ، لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم في ذلك كحال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله». (١)

وناقش فيه التفتازاني بقوله : «إنّ نصب الإمام إلى العباد الّذين لا طريق لهم إلى معرفة عصمته بخلاف النبيّ». (٢)

والجواب عنه ظاهر بما تقدّم من بطلان القول بأنّ نصب الإمام مفوَّض إلى العباد ، ولنا أن نعكس ونقول : وجوب عصمة الإمام ممّا يحكم به العقل الصريح بالتأمّل في حقيقة الإمامة والغرض منها ، وحيث إنّ الناس لا طريق لهم إلى معرفة عصمة الإمام كما اعترف به الخصم ، فلا يكون نصبه مفوَّضاً إليهم.

__________________

(١) دلائل الصدق : ٢ / ٧.

(٢) شرح المقاصد : ٥ / ٢٤٨.

٣٥٤

٢. آية ابتلاء إبراهيم عليه‌السلام

قال سبحانه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

الاستدلال بالآية على المقصود رهن بيان أمرين :

الأوّل : ما هو المقصود من الإمامة الّتي أنعم الله سبحانه بها على نبيّه الخليل عليه‌السلام؟

الثاني : ما هو المراد من الظالمين؟

أما الأوّل : فقال بعضهم : إنّ المراد من الإمامة ، هي النبوّة والرسالة ، ويردّه إنّ إبراهيم كان نبيّاً قبل تنصيبه إماماً ، وذلك لأنّه طلب الإمامة لذريَّته ، فكان له عند ذلك ولد أو أولاد ، ولا أقلّ من كون الولد والذريّة مرجوّا له. مع أنّ القرآن يحكى أنّ إبراهيم عليه‌السلام تعجّب من بشارة الملائكة إيّاه بالولد : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (٢) فإبراهيم كان نبياً ورسولاً ولم يكن له ولدٌ وذرّيّة حتى مسّه الكبر ، ثمّ رزق ولداً في أوان الكبر بنصّ القرآن الكريم ، حيث قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (٣) فطلب الإمامة لذريّته. وعلى ذلك يجب أن تكون الإمامة الموهوبة للخليل غير النبوّة ، والظاهر أنّ المراد منها هي القيادة الإلهية

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الحجر : ٥٤.

(٣) إبراهيم : ٣٩.

٣٥٥

للمجتمع ، مضافاً إلى تحمّل الوحي وإبلاغه ، فإنّ هناك مقامات ثلاثة :

١. مقام النبوّة ، وهو منصب تحمّل الوحي.

٢. مقام الرسالة ، وهو منصب إبلاغه إلى الناس.

٣. مقام الإمامة ، وهو منصب القيادة وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوّة وقدرة.

والإمامة الّتي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تتّحد واقعيتها مع هذه الإمامة.

وأمّا الثاني : أعني المراد من الظّالمين ، فالظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه ومجاوزة الحدّ الّذي عيّنه الشّرع ، والمعصية من وضع الشيء (العمل) في غير موضعه ، فالمعصية من مصاديق الظلم ، قال سبحانه :

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

ثمّ إنّ الظاهر من صيغة الجمع المحلّى باللام ، إنّ الظلم بكلّ ألوانه وصوره مانع عن نيل هذا المنصب الإلهي ، وتكون النتيجة ممنوعيّة كلّ فرد من أفراد الظَّلَمة عن الارتقاء إلى منصب الإمامة ، سواء أكان ظالماً في فترة من عمره ثمّ تاب وصار غير ظالم ، أو بقي على ظلمه ، فالظالم عند ما يرتكب الظلم يشمله قوله سبحانه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فصلاحيته بعد ارتفاع الظلم يحتاج إلى دليل.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٣٥٦

وعلى ذلك فكلّ من ارتكب ظلماً وتجاوز حدّاً في يوم من أيّام عمره ، أو عبد صنماً ، وبالجملة ارتكب ما هو حرام ، فضلاً عمّا هو كفر ، ليس له أهليّة منصب الإمامة ، ولازم ذلك كون الإمام طاهراً من الذنوب من لدن وضع عليه قلم التكليف ، إلى آخر حياته ، وهذا ما يرتئيه الإمامية في عصمة الإمام.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه أنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة :

١. من كان طيلة عمره ظالماً.

٢. من كان طاهراً ونقيّاً في جميع فترات عمره.

٣. من كان ظالماً في بداية عمره ، وتائباً في آخره.

٤. عكس الثالث.

وحاشى إبراهيم عليه‌السلام أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذريّته ، وقد نصَّ سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم ، وهو لا ينطبق إلّا على القسم الثالث ، فإذا خرج هذا القسم بقي القسم الثاني وهو المطلوب. (١)

٣. آية إطاعة أولى الأمر

قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢)

إنّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق ، ولم يقيّده بشيء

__________________

(١) انظر : الميزان في تفسير القرآن : ١ / ٢٧٤.

(٢) النساء : ٥٩.

٣٥٧

ومن البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان ولو كان على سبيل الإطاعة عن شخص آخر ، وعليه تكون طاعة أولى الأمر فيما إذا أمروا بالعصيان محرّماً.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين أن يكون أولو الأمر الّذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق معصومين لا يصدر عنهم معصية مطلقاً ، فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصيّة تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

هذا ، مضافاً إلى أنّ أولى الأمر معطوف على الرسول بلا إعادة فعل «اطيعوا» وهذا دليل على وحدة الملاك في اطاعة الرسول واولى الامر فكما أنّ وجوب إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مطلق ومتفرع على عصمته ، فكذلك وجوب إطاعة أولى الامر مطلق ومتفرع على عصمتهم.

وممَّن صرَّح بدلالة الآية على عصمة أُولى الأمر الإمام الرازي في تفسيره ، ولكنّه لم يستثمر نتيجة ما هداه إليه استدلاله المنطقي ، حيث استدرك قائلاً بأنّا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم والوصول إليه واستفادة الدّين والعلم منه ، فلا مناص من كون المراد هو أهل الحلّ والعقد. (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا دلّت الآية على عصمة أولى الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم ، وادّعاء العجز هروب من الحقيقة ، فهل العجز يختصّ بزمانه

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ١٠ / ١٤٤.

٣٥٨

أو كان يشمل زمان نزول الآية؟ والثاني باطل قطعاً ، فإنّه لا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة المعصوم ثمّ لا يقوم بتعريفه حين النزول ، وبالتعرّف عليه في عصر النزول ، يعرف المعصوم في أزمنة متأخرة عنه حلقة بعد أخرى.

هذا مع أنّ تفسير «أولى الأمر» بأهل الحلِّ والعقد تفسير بما هو أشدّ غموضاً ، فهل المراد منهم ، العساكر والضبّاط ، أو العلماء والمحدّثون ، أو الحكّام والسياسيّون ، أو الكلّ؟ وهل اتّفق اجتماعهم على شيء ولم يخالفهم لفيف من المسلمين؟!

وهناك نصوص من الكتاب والسنّة تدلّ على عصمة أهل بيت النبيّ وعترته ، كآية التطهير وحديث الثقلين وغير ذلك ، تركنا البحث عنها لرعاية الاختصار (١). وقد تقدّم في الفصل الأوّل ما يفيد في المقام فراجع.

__________________

(١) راجع : الإلهيات : ٢ / ٦٢٧ ـ ٦٣١ و ٦٠٧ ـ ٦١١.

٣٥٩
٣٦٠