محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الفصل الثاني :

برهان النظم وإثبات وجود الصانع العليم

إنّ البراهين الدالّة على وجود خالق لهذا الكون ومفيض لهذه الحياة كثيرة متعدّدة ، ونحن نكتفي بتقرير ثلاثة منها :

١. برهان النظم ؛

٢. برهان الحدوث ؛

٣. برهان الإمكان والوجوب.

ففي هذا الفصل نبيّن برهان النظم ونقول :

إنّ من أوضح البراهين العقلية وأيسرها تناولاً للجميع هو برهان النظم ، وهو الاهتداء إلى وجود الله سبحانه عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون والتفكّر فيه.

ما هو النظم؟

إنّ مفهوم النظم من المفاهيم الواضحة لدى الأذهان ومن خواصّه أنّه يتحقّق بين أُمور مختلفة سواء كانت أجزاء لمركب أو افراداً من ماهية واحدة

٢١

أو ماهيات مختلفة ، فهناك ترابط وتناسق بين الأجزاء ، أو توازن وانسجام بين الأفراد يؤدّي إلى هدف وغاية مخصوصة ، كالتلاؤم الموجود بين أجزاء الشجر ، وكالتوازن الحاصل بين حياة الشجر والحيوان.

تقرير برهان النظم

إنّ برهان النظم يقوم على مقدّمتين : إحداهما حسيّة ، والأُخرى عقلية.

أمّا الأُولى : فهي هناك نظاماً سائداً على الظواهر الطبيعية الّتي يعرفها الإنسان إمّا بالمشاهدة الحسّية الظاهرية وإمّا بفضل الأدوات والطرق العلميّة التجريبيّة. وما زالت العلوم الطبيعيّة تكشف مظاهر وأبعاداً جديدة من النظام السائد في عالم الطبيعة ، وهناك آلاف من الرسائل والكتب المؤلّفة حول العلوم الطبيعيّة مليئة بذكر ما للعالم الطبيعي من النظام المعجب. فلا حاجة إلى تطويل الكلام في هذا المجال.

وأما الثانية : فهي أنّ العقل بعد ما لاحظ النظام وما يقوم عليه من المحاسبة والتقدير والتوازن والانسجام ، يحكم بالبداهة بأنّ أمراً هكذا شأنه يمتنع صدوره إلّا عن فاعل قادر عليم ذي إرادة وقصد ، ويستحيل تحقّقها صدفة وتبعا لحركات فوضويّة للمادّة العمياء الصمّاء ، فإنّ تصوّر مفهوم النظم وأنّه ملازم للمحاسبة والعلم يكفي في التصديق بأنّ النظم لا ينفك عن وجود ناظم عالم أوجده ، وهذا على غرار حكم العقل بأنّ كلّ ممكن فله علّة موجدة ، وغير ذلك من البديهيات العقلية.

٢٢

برهان النظم في الوحي الإلهي (١)

إنّ الوحي الإلهي قد أعطى برهان النظم اهتماماً بالغاً ، وهناك آيات كثيرة من القرآن تدعو الإنسان إلى مطالعة الكون وما فيه من النظم والإتقان حتى يهتدي إلى وجود الله تعالى وعلمه وحكمته.

نرى أنّ القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان إلى السّير في الآفاق والأنفس ويقول :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٢).

ويقول : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣).

ويقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤).

ويقول : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) (٥).

__________________

(١) إنّ برهان النظم متفرّع على قانون العلّية ، وأنّ كلّ حادثة فلها علّة محدثة لا محالة ، وحينئذٍ يقع الكلام في صفات تلك العلّة ، فهل يجب أن تكون عالماً وقادراً ومختاراً أو لا يجب ذلك؟ وبرهان النظم بصدد إثبات وجود هذه الصفات لعلّة الحوادث الكونية وفاعلها ، وهذا ما يرتئيه القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية في الدعوة إلى مطالعة الكون والتفكّر في آياته.

(٢) فصلت : ٥٣.

(٣) يونس : ١٠١.

(٤) البقرة : ١٦٤.

(٥) الروم : ٨.

٢٣

ويقول ايضاً : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١).

وقال علي عليه‌السلام : «ألا ينظرون إلى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه ، وفلق له السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر ، انظروا إلى النّملة في صغر جثّتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرها ، تجمع في حرِّها لبردها وفي ورْدِها لصَدَرها (٢) ... فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر ...» (٣)

وقال الامام الصادق عليه‌السلام في ما أملاه على تلميذه المفضّل بن عمر :

«أوّل العبر والأدلّة على الباري جلّ قدسه ، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه ، فإنّك إذا تأمّلت بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسّماء مرفوعة كالسّقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم مضيئة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيه لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملَّك ذلك البيت ، والمُخَوَّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيئة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه.

ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وانّ الخالق له واحد ، وهو الّذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جلّ قدسه وتعالى جدّه». (٤)

__________________

(١) الذاريات : ٢١.

(٢) الصَّدَر بالتحريك (على زنة الخبر) رجوع المسافر من مقصده ، أي تجمع في أيّام التمكّن من الحركة لأيّام العجز عنها.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٥ ، هذا وللإمام عليه‌السلام وصف رائع لخلقة النحل والخفّاش والطاووس يستدل به على وجود الخالق وقدرته وعلمه.

(٤) بحار الأنوار : ٣ / ٦٢.

٢٤

إشكالات والإجابة عنها

إنّ هناك إشكالات طرحت حول برهان النظم يجب علينا الإجابة عنها ، والمعروف منها ما طرحه ديفويد هيوم (١) الفيلسوف الانكليزي (١٧١١ ـ ١٧٧٦ م) في كتابه «محاورات حول الدّين الطبيعي» (٢) وهي ستّة إشكالات كما يلي :.

الإشكال الأوّل

إنّ برهان النّظم لا يتمتّع بشرائط البرهان التجريبي ، لأنّه لم يجرّب في شأن عالم آخر غير هذا العالم ، صحيح أنّا جرّبنا المصنوعات البشريّة فرأينا أنّها لا توجد إلّا بصانع عاقل كما في البيت والسفينة والسّاعة وغير ذلك ، ولكنّنا لم نجرّب ذلك في الكون ، فانّا لم نشاهد عوالم اخر مماثلة لهذا العالم وهي مخلوقة لخالق عاقل وحكيم حتى نحكم بذلك في خلق هذا العالم ، ولهذا لا يمكن أن نثبت له علّة خالقة على غرار المصنوعات البشريّة.

والجواب عنه : إنّ برهان النظم ليس برهانا تجريبيّاً بأن يكون الملاك فيه هو تعميم الحكم على أساس المماثلة الكاملة بين الأشياء المجرّبة وغير المجرّبة ، بل هو برهان عقلي يحكم العقل بعد مشاهدة النظم الحاكم على

__________________

(١) ..DavideHume.

(٢) ..Dialogues Concerning Natural Religion.

٢٥

العالم الطبيعي والتفكر فيه بأنّه مخلوقٌ موجودٍ عالم قادر مختار من دون حاجة إلى مقولة التمثيل ونحوه.

وكون إحدى مقدّمتيه حسّيّة لا يضرّ بكون البرهان عقليّاً ، فإنّ دور الحسّ فيه ينحصر في إثبات الموضوع ، أي إثبات النظم في عالم الكون ، وأمّا الحكم والاستنتاج يرجع إلى العقل ويبتنى على محاسبات عقلية ، وهو نظير ما إذا ثبت بالحس أنّ هاهنا مربّعاً ، فإنّ العقل يحكم من فوره بأنّ أضلاعه الأربعة متساوية في الطول.

فالعقل يرى ملازمة بيّنة بين النظم بمقدّماته الثلاث ، أعني : الترابط والتناسق والهدفيّة ، وبين دخالة الشعور والعقل ، فعند ما يلاحظ ما في جهاز العين مثلا من النظام بمعنى تحقّق أجزاء مختلفة كمّاً وكيفاً ، وتناسقها بشكل يمكنها من التعاون والتفاعل فيما بينها ويتحقّق الهدف الخاص منه ، يحكم بأنّها من فعل خالق عظيم ، لاحتياجه إلى دخالة شعور وعقل وهدفيّة وقصد.

الإشكال الثاني

إنّ هناك في عالم الطبيعة ظواهر وحوادث غير متوازنة خارجة عن النظام وهي لا تتّفق مع النظام المدّعى ولا مع الحكمة الّتي يوصف بها خالق الكون ، كالزلازل والطوفانات.

والجواب عنه : أنّ ما تعدّ من الحوادث الكونيّة شروراً كالزلازل والطوفانات لها نظام خاصّ في صفحة الكون ، ناشئة عن علل وأسباب معيّنة

٢٦

تتحكّم عليها محاسبات ومعادلات خاصّة وقد وفّق الإنسان إلى اكتشاف بعضها وإن بقي بعض آخر منها مجهولاً له بعد. (١)

وأمّا أنّها ملائمة لمصالح الإنسان أو غير ملائمة له ، فلا صلة له ببرهان النظم الّذي بصدد إثبات أنّ هناك مبدئاً وفاعلاً لعالم الطبيعة ذا علم وقدرة وإرادة ، وسيجيء البحث عنها في الفصول القادمة فانتظره.

الإشكال الثالث

ما ذا يمنع من أن نعتقد بأنّ النظام السائد في عالم الطبيعة حاصل من قبل عامل كامن في نفس الطبيعة ، أي أنّ النظام يكون ذاتيّاً للمادّة؟ إذ لكلّ مادّة خاصيّة معيّنة لا تنفكّ عنها ، وهذه الخواصّ هي الّتي جعلت الكون على ما هو عليه الآن من النظام.

والجواب عنه : أنّ غاية ما تعطيه خاصيّة المادّة هي أن تبلغ بنفسها فقط إلى مرحلة معيّنة من التكامل الخاصّ والنظام المعيّن ـ على فرض صحّة هذا القول ـ لا أن تتحسّب للمستقبل وتتهيّأ للحاجات الطارئة ، ولا أن تقيم حالة عجيبة ورائعة من التناسق والانسجام بينها وبين الأشياء

__________________

(١) فإن قلت : كون الشرور الطبيعية تابعاً لقوانين كونية وناشئاً عن أسباب طبيعية خاصّة راجع إلى النظم العلي ، والنظم المقصود في برهان النظم هو النظم الغائي ، والشرور توجب اختلال النظم بهذا المعنى.

قلت : حقيقة النظم الغائي هي أنّ هناك تلاؤماً وانسجاماً سائداً في الأشياء تتّجه إلى غاية مخصوصة وكمال مناسب لها ، وإن كان قد يتخلّف بعروض مانع عن الوصول إلى الغاية كما في فرض الشرور.

٢٧

المختلفة والعناصر المتنافرة في الخواصّ والأنظمة.

ولنأت بمثال لما ذكرناه ، وهو مثال واحد من آلاف الأمثلة في هذا الكون ، هب أنّ خاصيّة الخليّة البشريّة عند ما تستقرّ في رحم المرأة ، هي أن تتحرّك نحو الهيئة الجنينية ، ثمّ تصير إنساناً ذا أجهزة منظّمة ، ولكن هناك في الكون في مجال الإنسان تحسُّباً للمستقبل وتهيُّؤاً لحاجاته القادمة لا يمكن أن يستند إلى خاصيّة المادّة ، وهو أنّه قبل أن تتواجد الخليّة البشريّة في رحم الأُمّ وجدت المرأة ذات تركيبة وأجهزة خاصّة تناسب حياة الطفل ثمّ تحدث للأُمّ تطوّرات في أجهزتها البدنية والروحيّة مناسبة لحياة الطفل وتطوّراته.

هل يمكن أن نعتبر كلّ هذا التحسّب من خواصّ الخليّة البشريّة ، وما علاقة هذا بذاك؟

ثلاثة اشكالات أُخرى لهيوم

١. من أين نثبت أنّ النظام الموجود فعلاً هو النظام الأكمل ، لأنّا لم نلاحظ مشابهه حتى نقيس به؟

٢. من يدري لعلّ خالق الكون جرّب صنع الكون مراراً حتى اهتدى إلى النظام الفعلي؟

٣. لو فرضنا أنّ برهان النظم أثبت وجود الخالق العالم القادر ، غير أنّه لا يدلّ مطلقاً على الصفات الكمالية كالعدالة والرحمة الّتي يوصف بها.

٢٨

والجواب عنها : أنّ هذه الإشكالات ناشئة من عدم الوقوف على رسالة برهان النظم ومدى ما يسعى إلى اثباته ، إنّ رسالة برهان النظم تتلخّص في إثبات أنّ النظام السائد في الكون ليس ناشئاً من الصدفة ولا من خاصيّة ذاتية للمادّة العمياء ، بل وجد بعقل وشعور ومحاسبة وتخطيط ، فله خالق عالم قادر.

وأمّا أنّ هذا الخالق الصانع هو الله الواجب الوجوب الأزلي الأبدي أم لا ، وأنّ علمه بالنظام الأحسن هل هو ذاتي فعلي أو انفعالي تدريجى ، وأنّ النظام الموجود هل هو أحسن نظام أو لا؟ فهي ممّا لا يتكفّل بإثباته هذا البرهان ولا أنّه في رسالته ولا مقتضاه ، بل لا بدّ في هذا المورد من الاستناد إلى براهين أُخرى مثل برهان الإمكان والوجوب ، والاستناد بقواعد عقلية بديهية أو مبرهنة مذكورة في كتب الفلسفة والكلام ، مثل أنّ علمه تعالى ذاتي فعلي وليس بانفعالي تدريجى ، وأنّ النظام الكياني ناشئ عن النظام الربّاني ومطابق له ، وذلك النظام الربّاني العلمي أكمل نظام ممكن ، إلى غير ذلك من الأُصول الفلسفية.

٢٩

٢

برهان الحدوث

من البراهين الّتي يُستدلّ بها على إثبات وجود خالق الكون ، برهان الحدوث ، وهو المشهور عند المتكلمين وتقرير البرهان يتوقف على تعريف الحدوث وأقسامه أوّلا وإثبات حدوث العالم ثانياً فنقول :

تعريف الحدوث وأقسامه

الحدوث وصف للوجود باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم وهو على قسمين :

الأوّل : الحدوث الزماني وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزماني كمسبوقيّة اليوم بالعدم في أمس ومسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في أمس.

والثاني : الحدوث الذّاتي وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم في ذاته ، كجميع الموجودات الممكنة الّتي لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها ، وليس لها في ماهيّتها وحدّ ذاتها إلّا العدم ، هذا حاصل ما ذكروه في تعريف الحدوث وتقسيمه إلى الزماني والذاتي والتفصيل يطلب من محلّه. (١)

ثمّ إنّ مرجع الحدوث الذاتى إلى الإمكان الذاتي ، فالاستدلال

__________________

(١) لاحظ : بداية الحكمة : المرحلة ٩ ، الفصل ٣.

٣٠

بالحدوث الذاتي راجع إلى برهان الإمكان والوجوب ، فلنركّز البرهان هنا على الحدوث الزّماني فنقول :

حدوث الحياة في عالم المادّة

أثبت العلم بوضوح أنّ هناك انتقالاً حراريّاً مستمرّاً من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة ، ولا تتحقّق في عالم الطبيعة عملية طبيعية معاكسةً لذلك ، ومعنى ذلك أنّ الكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة وعند ذلك لن تتحقّق عمليات كيميائيّة أو طبيعيّة ، ويستنتج من ذلك : أنّ الحياة في عالم المادّة أمر حادث ولها بداية ، إذ لو كانت موجوداً أزلياً وبلا ابتداء لزم استهلاك طاقات المادّة ، وانضباب ظاهرة الحياة المادّية منذ زمن بعيد. وإلى ما ذكرنا أشار «فرانك آلن» أستاذ علم الفيزياء بقوله :

قانون «ترموديناميا» أثبت أنّ العالم لا يزال يتّجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام ، ولا توجد هناك طاقة مؤثِّرة لعمليّة الحياة ، فلو لم يكن للعالم بداية وكان موجوداً من الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمدٍ بعيدٍ ، فالشَّمس المشرقة والنجوم والأرض المليئة من الظواهر الحيويّة وعملياتها أصدق شاهد على أنّ العالم حدث في زمان معيَّن ، فليس العالم إلّا مخلوقاً حادثاً. (١)

__________________

(١) إثبات وجود خدا (فارسي) : ٢١. يحتوي الكتاب على مقالات من أربعين من المتمهرين في ـ

٣١

تقرير برهان الحدوث

ممّا تقدّم تبيَّنت صغرى برهان الحدوث وهي أنّ الحياة في العالم المادّي حادث ، فليس بذاتي له ، (١) وليُضمَّ إليها الأصل البديهي العقلي وهو أنّ كلّ أمر غير ذاتي معلَّل ، كما أنّ كلّ حادث لا بدّ له من محدث وخالق ، فما هو المحدث لحياة المادة؟ إمّا هي نفسها أو غيرها؟ ولكنّ الفرض الأوّل باطل ، لأنّ المفروض أنّها كانت قبل حدوث الحياة لها فاقدة لها ، وفاقد الشيء يستحيل أن يكون معطياً له ، فلا مناص من قبول الفرض الثاني ، فهناك موجود آخر وراء عالم المادّة هو الموجد للمادّة ومحدث الحياة لها.

إلى هنا تمّ دور الحدوث الزماني في البرهان ، وأنتج أنّ هناك موجوداً غير مادّي ، محدثاً لهذا العالم المادّي ، وأمّا أنّ ذلك المحدث هل هو ممكن أو واجب ، وحادث أو قديم ، فلا بدّ لإثباته من اللجوء إلى برهان الإمكان والوجوب وامتناع الدور والتسلسل.

__________________

ـ العلوم المختلفة ، جمعها العالم المسيحي «جان كلور مونسما». اصل الكتاب باللّغة الإنجليزية ترجمه الى الفارسية أحمد آرام وقد ترجم باللّغة العربية تحت عنوان «الله يتجلّى في عصر العلم».

(١) إثبات الحدوث الزماني للعالم المادّي لا ينحصر فيما ذكر في المتن من طريق العلم التجريبي ، بل هناك طريق أدقّ منه اكتشفها الفيلسوف الإسلامي العظيم صدر المتألهين قدس‌سره على ضوء ما أثبته من الحركة الجوهرية للمادّة ، قال في رسالة الحدوث بعد إثبات الحركة الجوهرية : «قد علَّمناك وهديناك طريقاً عرشياً لم يسبقنا أحد من المشهورين بهذه الصناعة النظريّة في إثبات حدوث العالم الجسماني بجميع ما فيه من السّماوات والأرضين وما بينهما حدوثاً زمانياً تجدّدياً ..» ـ الرسائل ، ٤٨ ـ ولشيخنا الأستاذ ، دام ظلّه ، تحقيق جامع حول مسألة الحركة الجوهرية وما يترتب عليها من حدوث عالم المادّة ، راجع كتاب «الله خالق الكون».

٣٢

الإجابة عن شبهة رسل

إنّ لبرترند رسل (١) هاهنا شبهة يجب أن نجيب عنها وهي : انّه بعد الإشارة إلى قانون «ترموديناميا» وما يترتب عليه من حدوث العالم المادّي ، قال :

لا يصحّ أن يستنتج منه أنّ العالم مخلوق لخالق وراءه ، لأنّ استنتاج وجود الخالق استنتاج عليّ والاستنتاج العليِّ في العلوم غير جائز إلّا إذا انطبقت عليه القوانين العلمية ، ومن المعلوم استحالة إجراء العمليّة التجريبيّة على خلقة العالم من العدم ، ففرض كون العالم مخلوقاً لخالق محدث ، ليس أولى من فرض حدوثه بلا علّة محدثة ، فانّ الفرضين مشتركان في نقض القوانين العلميّة المشهودة لنا. (٢)

والجواب عنها : أنّ برهان الحدوث ـ كما عرفت ـ متشكّل من مقدّمتين ، الأُولى : حدوث العالم ، وهذا نتيجة واضحة من الأبحاث العلمية التجريبيّة ، والثانية : الأصل العقلي البديهي ، وليس هذا مستفاداً من الأبحاث العلمية ، بل هو خارج عن نطاق العلم التجريبي رأساً ، فإن كان مراد رسل من تساوي فرض مخلوقية العالم وفرض وجوده صدفةً أنّهما خارجتان عن نطاق

__________________

(١).llessurdnartreB) ٢٧٨١ ـ ٠٢٩١ م) فيلسوف ورياضي إنجليزيّ أصل الكتاب باللّغة الإنجليزية ترجمه إلى الفارسية سيّد حسن منصور.

(٢) جهان بينى علمى (فارسي) : ١١٤.

٣٣

العلوم التجريبيّة ، فصحيح ، لكنّهما غير متساويين عند العقل الصريح الّذي هو الحاكم الفريد في أمثال هذه الأبحاث العقلية الخارجة عن نطاق العلوم التجريبيّة الحسيّة ، فكأنّ رسل رفض العقل والبراهين العقليّة وحصر طريق الاستدلال على طريقة الحسّ والاستقراء والتجربة ، كما هو مختار جميع الفلاسفة الحسّيّين الأوروبيّين وغيرهم ، وقد برهن على فساد هذا المبنى في محلّه.

برهان الحدوث في الكتاب والسنّة

إنّ في الكتاب الكريم نصوصاً على حدوث الكون أرضا وسماءً وما بينهما وما فيهما. قال سبحانه : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (١).

وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) (٢).

فصرّح في الآية الأولى بخلق كلّ شيء وفي الآية الثانية بخلق السماوات والأرضين. وقد صرّح في الآية التالية بخلق كل دابّة قال سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) (٣).

وقال في حقّ الإنسان : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (٤).

__________________

(١) الأنعام : ١٠١.

(٢) الطلاق : ١٢.

(٣) النور : ٤٥.

(٤) الدهر : ٢.

٣٤

إلى غير ذلك من الآيات. وكلّ مخلوق فهو حادث في ذاته كما أنّ كلّ مخلوق مادّي حادث ذاتاً وزماناً. فالآيات الناظرة إلى مخلوقيّة العالم المادّي ناظرة إلى برهان الحدوث.

والأحاديث المروية عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام في حدوث العالم كثيرة نكتفى بذكر بعض منها :

١. قال الإمام علي عليه‌السلام : «الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليّته» (١).

٢. وقال عليه‌السلام : «الحمد لله الدالّ على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده» (٢).

٣. دخل رجل على الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقال : يا ابن رسول الله ، ما الدليل على حَدَث العالم؟ فقال عليه‌السلام : «أنت لم تكن ثمّ كنت ، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك». (٣)

٤. دخل أبو شاكر الديصاني على الإمام الصادق عليه‌السلام وقال : «ما الدليل على حدوث العالم»؟ فدعا الإمام عليه‌السلام ببيضة فوضعها على راحته فقال : هذا حصن ملموم ، داخله غرقئ رقيق لطيف به فضّة سائلة وذهبة مائعة ، ثمّ تنفلق عن مثل الطاوس ، أدخلها شيء؟ فقال : لا.

قال عليه‌السلام : فهذا الدليل على حدوث العالم. (٤)

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٥٢.

(٢) نفس المصدر : الخطبة ١٨٥.

(٣) التوحيد : ٢٩٣ ، الباب ٤٢ ، الحديث ٣.

(٤) نفس المصدر : ٢٩٢ ، الحديث ١.

٣٥

٣

برهان الإمكان والوجوب

إنّ برهان الإمكان والوجوب من أحكم البراهين على وجود الواجب الوجود بالذّات وهو الله ـ عزّ اسمه ـ ومن هنا قد اكتفى به المتكلم البارع نصير الدين الطوسي في سفره القيّم «تجريد الاعتقاد» وتقرير هذا البرهان يتوقّف على بيان أُمور :

الأمر الأوّل : تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن ، وذلك لأنّ الموجود إمّا أن يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده ولزوم تحقّقه في الخارج ، فهذا هو الواجب لذاته ، وإمّا أن يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم ولا يستدعي في حدّ ذاته أحدهما أبداً ، وهو الممكن لذاته ، كأفراد الإنسان وغيره.

الأمر الثاني : كلّ ممكن يحتاج إلى علّة في وجوده ، وهذا من البديهيات الّتي لا يرتاب فيها ذو مُسكة ، فإنّ العقل يحكم بالبداهة على أنّ ما لا يستدعي في حدّ ذاته الوجود ، يتوقف وجوده على أمر آخر وهو العلّة ، وإلّا فوجوده ناش من ذاته ، هذا خلف.

٣٦

الأمر الثالث : الدور ممتنع ، وهو عبارة عن كون الشيء موجداً لثان وفي الوقت نفسه يكون الشيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأوّل.

وجه امتناعه أنّ مقتضى كون الأوّل علّة للثاني ، تقدّمه عليه وتأخّر الثاني عنه ، ومقتضى كون الثاني علّة للأوّل تقدّم الثاني عليه ، فينتج كون الشيء الواحد ، في حالة واحدة وبالنسبة إلى شيء واحد ، متقدّماً وغير متقدّم ومتأخّراً وغير متأخّر وهذا هو الجمع بين النقيضين.

إنّ امتناع الدور وجداني ولتوضيح الحال نأتي بمثال : إذا اتّفق صديقان على إمضاء وثيقة واشترط كلّ واحد منهما لإمضائها ، إمضاء الآخر فتكون النتيجة توقّف إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر ، وعند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاة إلى يوم القيامة ، وهذا ممّا يدركه الإنسان بالوجدان وراء دركه بالبرهان.

الأمر الرابع : التسلسل محال ، وهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة ، مترتبة غير متناهية ، ويكون الكلّ متَّسماً بوصف الإمكان ، بأن يتوقف (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (د) وهكذا من دون أن تنتهي إلى علّة ليست بممكنة ولا معلولة.

والدليل على استحالته أنّ المعلوليّة وصف عامّ لكلّ جزء من أجزاء السلسلة ، فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه : إذا كانت السلسلة الهائلة معلولة ، فما هي العلّة الّتي أخرجتها من كتم العدم إلى عالم الوجود؟ والمفروض أنّه ليس هناك شيء يكون علّة ولا يكون معلولاً ، والّا يلزم انقطاع السلسلة

٣٧

وتوقّفها عند نقطة خاصّة ، وهي الموجود الّذي قائم بنفسه وغير محتاج إلى غيره وهو الواجب الوجود بالذات.

فإن قلت : إنّ كلّ معلول من السلسلة متقوّم بالعلّة الّتي تتقدّمه ومتعلّق بها ، فالجزء الأوّل من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني ، والثاني بالثالث ، وهكذا إلى أجزاء وحلقاتٍ غير متناهية ، وهذا المقدار من التعلّق يكفي لرفع الفقر والحاجة.

قلت : المفروض أنّ كلّ جزء من أجزاء السلسلةُ متَّسم بوصف الإمكان والمعلولية ، وعلى هذا فوصف العلّيّة له ليس بالأصالة والاستقلال ، فليس لكلّ حلقة دور الإفاضة والإيجاد بالاستقلال ، فلا بدّ أن يكون هناك علّة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها وتكون سناداً لها.

ولتوضيح الحال نمثّل بمثال وهو أنّ كلّ واحدة من هذه المعاليل بحكم فقرها الذاتي ، بمنزلة الصفر ، فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار ، ومن المعلوم أنّ الصفر بإضافة أصفار متناهية أو غير متناهية إليه لا ينتج عدداً ، بل يجب أن يكون إلى جانب هذه الأصفار عدد صحيح قائم بالذات حتّى يكون مصحِّحاً لقراءة تلك الأصفار.

فقد خرجنا بهذه النتيجة وهي أنّ فرض علل ومعاليل غير متناهية مستلزم لأحد أمرين : إمّا تحقّق المعلول بلا علّة ، وإمّا عدم وجود شيء في الخارج رأساً ، وكلاهما بديهي الاستحالة.

٣٨

تقرير برهان الإمكان

إلى هنا تمّت المقدّمات الّتي يبتني عليها برهان الإمكان ، وإليك نفس البرهان :

لا شكّ أنّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإمكانية ، بدليل انّها توجد وتنعدم وتحدث وتفني ويطرأ عليها التبدّل والتغير ، إلى غير ذلك من الحالات الّتي هي آيات الإمكان وسمات الافتقار.

وأمر وجودها لا يخلو عن الفروض التالية :

١. لا علّة لوجودها ، وهذا باطل بحكم المقدّمة الثانية (كلّ ممكن يحتاج إلى علّة).

٢. البعض منها علّة لبعض آخر وبالعكس ، وهو محال بمقتضى المقدّمة الثالثة (بطلان الدور).

٣. بعضها معلول لبعض آخر وذلك البعض معلول لآخر من غير أن ينتهي إلى علّة ليست بمعلول ، وهو ممتنع بمقتضى المقدّمة الرابعة (استحالة التسلسل).

٤. وراء تلك الموجودات الإمكانية علّة ليست بمعلولة بل يكون واجب الوجود لذاته وهو المطلوب.

فاتّضح أنّه لا يصحّ تفسير النظام الكوني إلّا بالقول بانتهاء الممكنات

٣٩

إلى الواجب لذاته القائم بنفسه ، فهذه الصورة هي الّتي يصحِّحها العقل ويعدُّها خالية عن الإشكال ، وأمّا الصور الباقية ، فكلّها تستلزم المحال ، والمستلزم للمحال محال.

برهان الإمكان في الذكر الحكيم

قد أُشير في الذكر الحكيم إلى شقوق برهان الإمكان ، فإلى أنّ حقيقة الممكن حقيقة مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً وتحقّقاً ولا أيّ شيء آخر أشار بقوله :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١).

ومثله قوله سبحانه : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) (٢).

وقوله سبحانه : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٣).

وإلى أنّ الممكن ومنه الإنسان لا يتحقّق بلا علّة ، ولا تكون علّته نفسه ، أشار سبحانه بقوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٤).

وإلى أنّ الممكن لا يصحّ أن يكون خالقاً لممكن آخر بالأصالة والاستقلال ومن دون الاستناد إلى خالق واجب أشار بقوله :

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٥).

__________________

(١) فاطر : ١٥.

(٢) النجم : ٤٨.

(٣) محمّد : ٣٨.

(٤) الطور : ٣٥.

(٥) الطور : ٣٦.

٤٠