محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

تجويزهم السهو على الأنبياء في هذا المجال ، فإنّهم جوّزوه في صدور الصغائر من الذنوب ، فتجويزه في غيره أولى ، وأمّا الإمامية ، فالصدوق وأستاذه محمّد بن الحسن بن الوليد جوّزاه (١) ، ولكن مشهور المحقّقين على خلافه (٢) وقد ألّف غير واحد منهم كتباً ورسائل في نفي السهو عن النبيّ ، وقد فصّل العلّامة المجلسي في البحار (٣) الكلام في المسألة ، وأطنب في بيان شذوذ الأخبار الّتي استند إليها القائلون بالسهو ، وناقشها بأدلّة متعدّدة السيد عبد الله شُبّر في كتابيه : «حقّ اليقين» (٤) و «مصابيح الأنوار» (٥)

والحقّ أنّ الدليل العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبيّ في مجال تبليغ الرسالة دالّ ـ بعينه ـ على عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة وأُموره الفردية ، فإنّ التفكيك بين صيانة النبيّ في مجال الوحي ، وصيانته في سائر المجالات وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، لكنّه كذلك بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ، وأمّا عامّة الناس فإنّهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو في الأُخرى. فلا بدّ لسدِّ هذا الباب الّذي ينافي الغاية المطلوبة من إرسال الرسل ، من أن يكون النبيّ مصوناً عن الخطأ في عامّة المراحل.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٢) للوقوف على أقوالهم راجع : الإلهيات : ٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٣) بحار الأنوار : ١٧ / ٩٧ ـ ١٢٩ ، الباب ١٦.

(٤) حقّ اليقين : ١ / ١٢٤ ـ ١٢٩.

(٥) مصابيح الأنوار : ٢ / ١٣٣.

٢٨١

وممّا تقدّم يظهر الحكم في عصمة الأنبياء في تشخيص مصالح الأُمور ومفاسدها ، فإنّ الملاك في لزوم العصمة فيما تقدّم من المراتب والموارد ، موجود هنا.

التنزّه عن المنفِّرات

كما أنّ العصمة عن الذنوب والخطأ في التبليغ وتطبيق الشريعة والأُمور العادية لازمة للأنبياء حتّى يحصل الوثوق التام بأقوالهم وأفعالهم ويحصل بذلك الغرض من بعثتهم ، كذلك ينبغي تنزّههم عن كلّ صفة توجب تنفّر الناس ، وتحلّيهم بكلّ ما يوجب انجذابهم إليهم ، قال المحقّق البحراني :

ينبغى أن يكون منزّهاً عن كلّ أمر ينفّر عن قبوله ، إمّا في خلقه كالرذائل النفسانية من الحقد والبخل والحسد والحرص ونحوها ، أو في خلقه كالجذام والبرص ، أو في نسبه كالزنا ودناءة الآباء ، لأنّ جميع هذه الأُمور صارف عن قبول قوله والنظر في معجزته ، فكانت طهارته عنها من الألطاف الّتي فيها تقريب الخلق إلى طاعته واستمالة قلوبهم إليه. (١)

العصمة والاختيار

ربّما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية والاختيار وتقهره

__________________

(١) قواعد المرام : ١٢٧.

٢٨٢

على ترك المعصية ، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم.

ويدفعه أنّ المعصوم قادر على اقتراف المعاصي بمقتضى ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّ تقواه العالية ، وعلمه بآثار المعاصي ، واستشعاره عظمة الخالق ، يصدّه عن ذلك ، فهو كالوالد العطوف الّذي لا يقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملء الأرض ذهباً ، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه كما يقطع وتين عدوّه. يقول العلّامة الطباطبائي :

إنّ ملكة العصمة لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعاله الإرادية ولا تخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار ، كيف والعلم من مبادئ الاختيار ، كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه ، فإنّه يمتنع باختياره من شربه. (١)

وهذا نظير صدور القبيح من الله سبحانه ، فإنّه ممكن بالذّات ويقع تحت إطار قدرته ، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنّم ، لكنّه لا يصدر منه لكونه مخالفاً للحكمة ، ومبايناً لما وعد به.

فالعصمة موهبة تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح ، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ، وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الّذي يعطى للغريق ليتشبّث به فيسلم ، فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة ، أو عدمه والغرق.

__________________

(١) الميزان : ١١ / ١٦٣.

٢٨٣
٢٨٤

الباب السادس :

في

النبوّة الخاصة

وفيه تمهيد وثلاثة فصول :

١. الإعجاز البياني للقرآن الكريم ؛

٢. إعجاز القرآن من جهات أخرى ؛

٣. الخاتمية في ضوء العقل والوحي.

٢٨٥
٢٨٦

تمهيد

بعد الفراغ عن البحث حول النبوّة العامّة ، علينا أن نبحث عن النبوّة الخاصّة ، أعني : نبوة نبيّ الإسلام محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنقول : ولد صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة عام (٥٧٠ م) وقام بالدعوة في أوائل القرن السابع الميلادي (٦١٠ م) وأوّل ما بدأ به ، دعوة أقربائه وعشيرته ، وبعد سنوات ـ استطاع في أثنائها هداية جمع من عشيرته ـ وجَّه دعوته إلى عموم الناس ، ثمّ استمرّ في رسالته والناس بين مؤمن به مفاد بنفسه ونفيسه ، وعدوّ ينابذه ويتحيّن الفرص للفتك به وقتله ، فلمّا أحسَّ بالخطر ، غادر موطنه إلى مدينة يثرب فأقام هناك سنين عشر ، إلى أن أجاب داعي الموت وذلك في عام ٦٣٣ ميلادي. إنّ التدبر في آثار دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله يدفع الإنسان إلى الإذعان بأنّ لها سمات وخصائص تمتاز بها عن غيرها وهي :

١. سرعة انتشارها في أقطار العالم الإنساني لا سيّما بين الأُمم المتحضّرة ، سرعة لم ير التاريخ لها مثيلاً.

٢. تحفّظ الأُمة المؤمنة على حضارات الأُمم المغلوبة والحضارات المفتوحة ، وبذلك افترقت عن سائر الثورات البشرية ، وأصبح التمدّن الإسلامي حضارة إنسانية مكتملة الأبعاد ، وصانت السّالف من الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية ، والتمدّن الصناعي الحديث.

٢٨٧

٣. تضحية المعتنقين لدينه وتفانيهم في سبيله حتى قدَّموا كلّ دقيق وجليل ممّا يملكون في سبيل نصرته وإعزازه.

وهناك سمات للدّعوة المحمّدية وردت في القرآن الكريم من أهمّها عالمية الرسالة ، وخاتميتها ، وعلى هذا فاللازم على المنصف المتحرّي للحقيقة أن يبحث عن حقيقة هذه الدعوة وصحّة دلائلها ، وقد وقفت عند البحث عن النبوّة العامّة على أنّ للتعرّف على صدق مدّعي النبوّة طرقاً ثلاثة ، وهي : إتيانه بالمعجز ، وتصديق النبيّ السابق وتنصيصه على نبوّته ، والقرائن الدالّة على صدق دعواه ، ونحن نكتفى هنا ببيان طريق الإعجاز.

٢٨٨

الفصل الأوّل :

الإعجاز البياني للقرآن الكريم

قد ضبط التاريخ أنّه كانت لنبيّ الإسلام معاجز كثيرة في مواقف حاسمة غير أنّه كان يركّز على معجزته الخالدة وهي القرآن الكريم ، ونحن نقتصر بالبحث عن هذه المعجزة الخالدة فنقول :

إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الدّين الخالد مقروناً بالمعجزة الخالدة حتى تتمّ الحجّة على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم السّاعة : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١) بل تكون «لله (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٢) على الناس في كلّ زمان ومكان.

إنّ للقرآن في مجالي اللفظ والمعنى كيفية خاصّة يمتاز بها عن كلّ كلام سواه ، سواء أصدر من أعظم الفصحاء والبلغاء أو من غيرهم ، وهذا هو الّذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة ، ونحن نعيش في بدايات القرن الخامس عشر من هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وندّعي أنّ القرآن لم يزل كان معجزاً إلى الآن ، وأنّه أرقى من أن يعارض أو يبارى ويؤتى بمثله أبداً ،

__________________

(١) النساء : ٦٥.

(٢) الأنعام : ١٤٩.

٢٨٩

والدليل الواضح على إعجاز القرآن في مجال الفصاحة والبلاغة أنّ العرب في عصر الرسالة وقبله كانوا على درجة عالية من الفصاحة والبلاغة والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عاش بينهم أربعين سنة لم يأت بكلام يتحدّى به ، فإذا هو ادّعى النبوة وأتى بالقرآن الكريم وتحدّى به على صدق دعواه وعجز المشركون عن معارضته ، مع أنّهم قاموا بالمكافحة معه بكلّ ما كان في مقدرتهم ، وقد تحمّلوا مصاعب ومصائب كثيرة في هذا المجال ، فإن كانت المعارضة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق الإتيان بكلام يماثل القرآن في الفصاحة والبلاغة ممكنة لهم عارضوه بذلك بلا ريب ، ولو فعلوا ذلك لنقل في التاريخ نقلا متواتراً لكثرة الدعاوي على ذلك مع كثرة المخالفين والمعاندين للإسلام.

اعتراف بلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني

إنّ التاريخ قد ضبط اعتراف مجموعة كبيرة من فصحاء العرب بهذا الأمر نشير إلى نماذج منها :

أ) الوليد بن المغيرة : كان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حكّام العرب يتحاكمون إليه في أمورهم وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشّعر كان مقدّماً مختاراً ، يروي التاريخ أنّه سمع آيات من القرآن عند ما كان يتلوها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمّا سمع ذلك قام حتّى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال :

والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، وأن له لحلاوة ، وأنّ عليه لطلاوة ، وأن أعلاه

٢٩٠

لمثمر ، وأن أسفله لمغدق ، وأنه ليعلو وما يعلى عليه. (١)

ب) عتبة بن ربيعة : سمع عتبة بن ربيعة آيات من الذكر الحكيم تلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه (٢) فرجع إلى أصحابه وقال لهم :

إنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، ... فو الله ليكوننّ لقوله الّذي سمعت منه نبأ عظيم. (٣)

ج) ثلاثة من بلغاء قريش : يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن والإلغاء عند قراءته في قوله :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤).

ومع ذلك فأولئك الّذين كانوا مبدءاً لردع الشباب عن سماع القرآن قد نقضوا عهدهم لشدّة التذاذهم من سماعه ، فهؤلاء ثلاثة من بلغاء قريش وأشرافهم وهم : أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلّي من الليل في بيته ، فأخذ كلّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاقوا

__________________

(١) مجمع البيان : ٥ / ٣٨٧.

(٢) وهي سبع وثلاثون آية من سورة فصّلت.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ٢٩٤ ، والقصة طويلة ذكرنا موضع الحاجة منها.

(٤) فصّلت : ٢٦.

٢٩١

وقال بعضهم لبعض : «لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، ثمّ انصرفوا». (١) ولكن عادوا في ليلتين آخرتين بمثل ذلك.

وما هذا إلّا لأنّ القرآن كان كلاماً خلّاباً لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه ، رائعاً في نظمه وأُسلوبه ، ولم يكن له نظير في أوساطهم.

د) الطفيل بن عمر الدوسي : من الحبائل الّتي سلكها أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لصدّ تأثير القرآن ، منع شخصيّات المشركين من لقاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن تلك الشخصيّات الطفيل ، وكان رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً ، فقد قدم مكّة ورسول الله بها فمشى إليه رجال من قريش وخوَّفوه من سماع كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالغوا في ذلك ، يقول الطفيل :

فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلّمه ، حتى حشوت في أُذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً ... فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله قائم يصلّي عند الكعبة ، فقمت منه قريباً فأبى الله إلّا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاماً حسناً ، فقلت في نفسي وا ثكل أُمّي ، والله إنّي لرجل لبيب ، شاعر ، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ، فإن كان الّذي يأتي به حسناً قبلته وإن كان قبيحاً تركته ، فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيته ، فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : «يا محمّد إنّ

__________________

(١) السيرة النبوية : ١ / ٣١٥.

٢٩٢

قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، فو الله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتّى سددت أُذني بكرسف لئلّا أسمع قولك ، ثمّ أبى الله إلّا أن يسمعني قولك فسمعته قولاً حسناً ، فأعرض عليَّ أمرك.

قال : «فعرض عليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلام وتلا عليَّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ، فأسلمت وشهدت شهادة الحق». (١)

نقد مذهب الصّرفة

الرأى السائد بين المسلمين في إعجاز القرآن هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة والدرجة القصوى من البلاغة مع ما له من النظم الفريد والأُسلوب البديع. وهناك مذهب آخر نجم في القرن الثالث اشتهر بمذهب الصّرفة وإليه ذهب جماعة من المتكلّمين ، وأقدم من نسب إليه هذا القول أبو إسحاق النظّام ، وتبعه أبو إسحاق النصيبي ، وعبّاد بن سليمان الصيمري ، وهشام بن عمرو الفوطي وغيرهم من المعتزلة ، واختاره من الإمامية الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» وإن حكي عنه غيره ، والسيّد المرتضى في رسالة أسماها ب «الموضح عن جهة إعجاز القرآن» والشيخ الطوسي في شرحه لجمل السيّد ، وإن رجع عنه في كتابه «الاقتصاد» وابن سنان الخفاجي (المتوفّى ٤٦٤ ه‍) في كتابه «سرّ الفصاحة».

وحاصل هذا المذهب هو أنّه ليس الإتيان بمثل القرآن من حيث

__________________

(١) السيرة النبوية : ١ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

٢٩٣

الفصاحة والبلاغة وروعة النظم وبداعة الأُسلوب خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، وإنّما العجز والهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر وهو حيلولته سبحانه بينهم وبين الإتيان بمثله ، فالله سبحانه لأجل إثبات التحدّي ، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم وبين الإتيان بمثله.

وقد أورد عليها وجوه من النقاش والإشكال نكتفي بذكر ثلاثة منها :

الأوّل : إنّ المتبادر من آيات التحدّي أنّ القرآن في ذاته متعال ، حائز أرقى الميزات وكمال المعجزات حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه :

(لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١). (٢)

الثاني : لو كان عجز العرب عن المقابلة لطارئ مباغت أبطل قواهم البيانية ، لأُثر عنهم أنّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ، ولكان ذلك مثار عجب لهم ، ولأعلنوا ذلك في الناس ، ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقلّلوا من شأن القرآن في ذاته. (٣)

الثالث : لو كان الوجه في إعجاز القرآن هو الصرفة كما زعموا ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، ولما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته كما أثر عن الوليد بن المغيرة ، فإنّ المعلوم من حال كلّ بليغ فصيح

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) انظر : بيان إعجاز القرآن : ٢١.

(٣) لاحظ : مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني : ٢ / ٣١٤.

٢٩٤

سمع القرآن يتلى عليه ، أنّه يدهش عقله ويحيّر لبّه وما ذاك إلّا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف وحسن مواضع التصريف في كلّ موعظة وحكاية كلّ قصَّة ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه ، فلمَّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دلَّ على فساد هذه المقالة. (١)

__________________

(١) الطراز : ٣ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ، وهناك مناقشات أُخرى على نظرية الصرفة مذكورة في الإلهيات : ٢ / ٣٢٧ ـ ٣٢٢.

٢٩٥
٢٩٦

الفصل الثاني :

إعجاز القرآن من جهات أُخرى

قد تعرّفت على الإعجاز البياني للقرآن الكريم ، غير أنّ له جهات أُخرى من الإعجاز لا يختصّ فهمها بمن كان عارفاً باللغة العربيّة وواقفاً على فنون البلاغة في الكلام ، وهذه العمومية في الإعجاز هي الّتي يدلّ عليها قوله تعالى :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).

فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أُسلوبه فقط لم يتعدّ التحدّي العرب العرباء ، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجن ، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلّا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات ، فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالم في علمه ، وللمقنّنين في تقنينهم ، وللسياسيين في سياستهم ، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغيب وعدم الاختلاف في الحكم والعلم والبيان ، وإليك فيما يلى بيان تلك الجهات :

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

٢٩٧

١. عدم التناقض والاختلاف

ممّا تحدّى به القرآن هو عدم وجود التناقض والاختلاف في آياته حيث قال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

توضيح ذلك : أنّ الإنسان جبل على التحوّل والتكامل ، فهو يرى نفسه في كلّ يوم أعقل من سابقه وأن ما صنعه اليوم أكمل وأجمل ممّا أتى به الأمس ، وهناك كلمة قيّمة للكاتب الكبير عماد الدين أبي محمّد بن حامد الأصفهاني (المتوفّى ٥٩٧ ه‍) يقول فيها :

إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه ، إلّا قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.

هذا من جانب. ومن جانب آخر ، أنّ القرآن نزل نجوماً في مدّة تقرب من ثلاث وعشرين سنة في فترات مختلفة وأحوال متفاوتة من ليل ونهار ، وحضر وسفر ، وحرب وسلم وضرّاء وسرّاء وشدّة ورخاء ، ومن المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر والتعقّل.

ومن جانب ثالث ، أنّ القرآن قد تعرّض لمختلف الشئون وتوسّع

__________________

(١) النساء : ٨٢.

٢٩٨

فيها أحسن التوسّع ، فبحث في الإلهيّات والأخلاقيات والسياسيات والتشريعيات والقصص وغير ذلك ، ممّا يرجع إلى الخالق والإنسان والموجودات العلوية والسفلية.

ومع ذلك كلّه لا تجد فيه تناقضاً واختلافاً ، أو شيئاً متباعداً عند العقل والعقلاء ، بل ينعطف آخره على أوّله ، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أصوله وعروقه ، إنّ مثل هذا الكتاب ، يقضي الشعور الحيّ في حقِّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام ويتأثّر بالظروف والأحوال ، فلا يكون إلّا كلاماً إلهياً ووحياً سماوياً.

ثمّ إنّ كلمة (كَثِيراً) وصف توضيحي لا احترازي ، والمعنى : لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً ، وكان ذلك الاختلاف كثيراً على حدّ الاختلاف الكثير الّذي يوجد في كلِّ ما هو من عند غير الله ، ولا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير. (١)

٢. الإخبار عن الغيب

إنّ في القرآن إخباراً عن شئون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، وإخباراً بملاحم وفتن وأحداث ستقع في مستقبل الزمن ، وهذا الإخبار إن دلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتاباً سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الّذين ارتضاهم من البشر ، لأنّه أخبر عن حوادث كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافها ، مع أنّه صدق في جميع أخباره ، ولا يمكن حملها

__________________

(١) لاحظ : الميزان ، للسيد العلّامة الطباطبائي قدس‌سره : ٥ / ٢٠.

٢٩٩

على ما يحدث بالمصادفة ، أو على كونها على غرار أخبار الكهنة والعرّافين والمنجّمين ، فإنّ دأبهم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف ، وهذا بخلاف أخبار القرآن فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع ، وإليك الأمثلة :

أ) التنبّؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن :

قال سبحانه :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).

وقال أيضاً :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٢).

ترى في هذه الآيات التنبّؤ الواثق بعجز الجنّ والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً ، وقد صدق هذا التنبّؤ إلى الحال ، فعلى أي مصدر اعتمد النبيّ في هذا التحدّي غير الايحاء إليه من جانبه تعالى؟

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) البقرة : ٢٣ ـ ٢٤.

٣٠٠