محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

والجواب عنه : أنّا نختار الشقّ الأوّل من الاستدلال ولكن لا بمعنى المعرفة التفصيلية حتى يكون تحصيلاً للحاصل ، بل المعرفة الإجمالية الباعثة على تحصيل التفصيلية منها.

توضيح ذلك : أنّ التكليف بمعرفة الله تعالى تكليف عقلي ، يكفي فيه التوجّه الإجمالي إلى أنّ هناك منعماً يجب معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته شكراً لنعمائه ، أو دفعاً للضرر المحتمل.

٥. لا يوجد الشيء إلّا بالوجوب السابق عليه

قد ثبت في الفلسفة الأُولى أنّ الموجود الممكن ما لم يجب وجوده من جانب علّته لم يتعيّن وجوده ولم يوجد ، وذلك : لأنّ الممكن في ذاته لا يقتضي الوجود ولا العدم ، فلا مناص لخروجه من ذلك إلى مستوى الوجود من عامل خارجي يقتضي وجوده ، ثمّ ما يقتضي وجوده إمّا أن يقتضي وجوبه أيضاً أو لا؟ فعلى الأوّل وجب وجوده ، وعلى الثاني ، بما أنّ بقاءه على العدم لا يكون ممتنعاً بعدُ ، فيسأل : لما ذا اتّصف بالوجود دون العدم؟ وهذا السؤال لا ينقطع إلّا بصيرورة وجود الممكن واجباً وبقائه على العدم محالاً ، وهذا معنى قولهم : «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد».

هذا برهان القاعدة ، ورتّب عليها القول بالجبر ، لأنّ فعل العبد ممكن فلا يصدر منه إلّا بعد اتّصافه بالوجوب ، والوجوب ينافي الاختيار.

والجواب عنه : أنّ القاعدة لا تعطي أزيد من أنّ المعلول إنّما يتحقّق بالإيجاب المتقدّم على وجوده ، ولكن هل الإيجاب المذكور جاء من

٢٢١

جانب الفاعل والعلّة أو من جانب غيره؟ فإن كان الفاعل مختاراً كان وجود الفعل ووجوبه المتقدّم عليه صادراً عنه بالاختيار ، وإن كان الفاعل مضطرّاً كالفواعل الكونية كانا صادرين عنه بالاضطرار.

والحاصل : أنّ الوجوب المذكور في القاعدة وإن كان وصفاً متقدّماً على الفعل ، ولكنّه متأخّر عن الفاعل ، فالمستفاد منه ليس إلّا كون الفعل موجباً (بالفتح) وأمّا الفاعل فهو قد يكون أيضاً كذلك وقد يكون موجِباً (بالكسر) ، فإن أثبتنا كون الإنسان مختاراً فلا تنافيه القاعدة المذكورة قيد شعرة.

٢٢٢

الفصل الحادي عشر :

القضاء والقدر

إنّ القضاء والقدر من الأُصول الإسلامية الواردة في الكتاب والسنّة ، وليس لمن له إلمام بهذين المصدرين الرئيسيين أن ينكرهما أو ينكر واحداً منهما ، إلّا أنّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما ، فإنّه المزلقة الكبرى في هذا المقام ، واستيفاء البحث عنه يستدعي بيان أمور:

١. تعريف القضاء والقدر

قال ابن فارس :

القدر ـ بفتح الدال وسكونه مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، وقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (١) فمعناه قُتِر وقياسه أنّه أعطى ذلك بقدر يسير. (٢) وقال أيضاً :

قضى ... يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته ، قال الله تعالى :

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) معجم المقاييس في اللّغة : ٨٧٧.

٢٢٣

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)

أي أحكم خلقهنّ ـ إلى أن قال : ـ وسمّي القاضي قاضياً لأنّه يحكم الأحكام وينفّذها ، وسمّيت المنيّة قضاءً لأنّها أمر ينفّذ في ابن آدم وغيره من الخلق (١).

وقال الراغب : «القدر والتقدير تبيين كميّته الشيء ، والقضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً». (٢)

هذا ما ذكره أئمّة اللغة ، وقد سبقهم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، كما ورد فيما روي عنهم عليهم‌السلام فقد روى الكليني بسنده ، إلى يونس بن عبد الرحمن ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وقد سأله يونس عن معنى القدر والقضاء ، فقال :

«هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين».(٣)

والحاصل : أنّ حدّ الشيء ومقداره يسمّى قدره وكونه بوجه يتعيّن وجوده ولا يتخلّف يسمّى قضائه.

٢. القضاء والقدر التشريعيان

ويعني بهما الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الكتاب والسنّة ، وقد

__________________

(١) المصدر السابق : ٨٩٣.

(٢) المفردات في غريب القرآن ، كلمة «قدر وقضى».

(٣) الكافي : ١ / ١٥٨. ورواه الصدوق في توحيده بتغيير يسير.

٢٢٤

أشار إليها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلامه حينما سأله الشامي عن معنى القضاء والقدر فقال : «الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة ، والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد» إلى آخر كلامه الشريف. (١)

٣. القضاء والقدر العلميّان

التقدير العلمي عبارة عن تحديد كلّ شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه ، قبل إيجاده ، فهو تعالى يعلم حدّ كلّ شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية وغير الجسمانية. والمراد من القضاء العلمي هو علمه تعالى بضرورة وجود الأشياء وإبرامها عند تحقق جميع ما يتوقّف عليه وجودها من الأسباب والشرائط ورفع الموانع.

فعلمه السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها ، تقدير وقضاء علميّان ، وقد أُشير إلى هذا القسم ، في آيات الكتاب المجيد : قال سبحانه :

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٢)

وقال أيضاً :

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٣).

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٣٨٠ ؛ بحار الأنوار : ٥ / ١٢٨ ، باب القضاء والقدر ، الحديث ٧٤.

(٢) آل عمران : ١٤٥.

(٣) التوبة : ٥١.

٢٢٥

وقال : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١).

وقال :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢).

هذه بعض الآيات الّتي وردت في بيان أن خصوصيات الأشياء وضرورة وجودها متحقّقة في علمه الأزلي ، أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية.

٤. القضاء والقدر العينيان

التقدير العيني عبارة عن الخصوصيات الّتي يكتسبها الشيء من علله عند تحقّقه وتلبّسه بالوجود الخارجي.

والقضاء العيني هو ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامّة ضرورةً عينيةً خارجيةً.

فالتقدير والقضاء العينيان ناظران إلى التقدير والضرورة الخارجيين اللّذين يحتفّان بالشيء الخارجي ، فهما مقارنان لوجود الشيء بل متّحدان معه ، مع أنّ التقدير والقضاء العلميان مقدّمان على وجود الشيء.

__________________

(١) فاطر : ١١.

(٢) الحديد : ٢٢.

٢٢٦

فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير وقضاء ، فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها ، وآثار وجودها ، وخصوصيات كونها بما أنّها متعلقة الوجود والآثار بموجودات أخرى ، أعنى العلل والشرائط ، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها ، فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدّر له في مسير وجوده ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (١). أي هدى ما خلقه إلى ما قدّر له.

وأما قضاؤه ، فلمّا كانت الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إليه سبحانه فما لم تتمّ لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها ، فإنّها تبقى على حال التردّد بين الوقوع واللاوقوع ، فإذا تمَّت عللها وعامّة شرائطها ولم يبق لها إلّا أن توجد ، كان ذلك من الله قضاءً وفصلاً لها من الجانب الآخر وقطعاً للإبهام.

وبذلك يظهر أنّ التقدير والقضاء العينيين من صفاته الفعلية سبحانه فإنّ مرجعهما إلى إفاضة الحدّ والضرورة على الموجودات ، وإليه يشير الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله :

«القضاء والقدر خلقان من خلق الله ، والله يزيد في الخلق ما يشاء». (٢)

ومن هنا يكشف لنا الوجه في عناية النبيّ وأهل البيت عليهم‌السلام بالإيمان

__________________

(١) الأعلى : ٢ ـ ٣.

(٢) التوحيد للصدوق : الباب ٦٠ ، الحديث ١.

٢٢٧

بالقدر ، وأنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلّا بالإيمان به (١) ، فإنّ التقدير والقضاء العينيين من شعب الخلقة ، وقد عرفت في أبحاث التوحيد أن من مراتب التوحيد ، التوحيد في الخالقية ، وقد عرفت آنفاً أنّ حدود الأشياء وخصوصياتها ، وضرورة وجودها منتهية إلى إرادته سبحانه ، فالإيمان بهما ، من شئون التوحيد في الخالقية.

ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه أسند القضاء والقدر إلى نفسه ، وقال :

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً). (٢)

وقال تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (٣)

وقال سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٤).

__________________

(١) روى الصدوق في «الخصال» بسنده عن علي عليه‌السلام قال ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة : حتى يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّي رسول الله بعثني بالحقّ ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت وحتى يؤمن بالقدر» ـ (البحار : ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، الحديث ـ ٢).

وروى أيضاً بسنده عن أبي أمامة الصحابي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : عاق ، ومنان ، ومكذّب بالقدر ، ومدمن خمر» (البحار : ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، الحديث ٣).

وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره» ـ (جامع الأُصول ، ابن الأثير الجزري (م ٦٠٦ ه‍ ، ج ١٠ ، ص ٥١١ ، كتاب القدر ، الحديث ٧٥٥٢ ـ).

(٢) الطلاق : ٣.

(٣) البقرة : ١١٧.

(٤) فصلت : ١٢.

٢٢٨

وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١)

وقال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.) (٢)

وغيرها من الآيات الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء وإبرامه على صفحة الوجود.

__________________

(١) القمر : ٤٩.

(٢) الحجر : ٢١.

٢٢٩
٢٣٠

الفصل الثاني عشر :

في حقيقة البداء

تحتلّ مسألة البداء مكانة مهمّة في عقائد الشيعة الإمامية ، وهم تابعون في ذلك للنصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تلك المسألة :

١. روى الصدوق بإسناده عن زرارة عن أحدهما ، يعنى أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما‌السلام ، قال :

«ما عبد الله عزوجل بشيء مثل البداء». (١)

٢. وروى بإسناده عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما عظّم الله عزوجل بمثل البداء». (٢)

٣. وروى بإسناده عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما بعث الله عزوجل نبيّاً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال :

الإقرار بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وأن الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء». (٣)

٤. وعن الرّيان بن الصلت ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) التوحيد للصدوق : الباب ٥٤ ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٢.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٣.

٢٣١

«ما بعث الله نبيّاً قطّ إلّا بتحريم الخمر ، وأن يقرّ له بالبداء». (١)

إلى غير ذلك من مأثوراتهم عليهم‌السلام في هذا المجال.

والبداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء وهو يستلزم الجهل بشيء وتبدّل الإرادة والرأي وهما مستحيلان في حقّه تعالى.

واتّفقت الإمامية تبعاً لنصوص الكتاب والسنّة والبراهين العقلية على أنّه سبحانه عالم بالأشياء والحوادث كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، كلّيِّها وجزئيِّها ، وقد وردت بذلك نصوص عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

قال الامام الباقر عليه‌السلام : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل الله عالماً بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوَّنه». (٢)

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل». (٣)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة في ذلك.

حقيقة البداء عند الإماميّة

وبذلك يظهر أنّ المراد من البداء الوارد في أحاديث الامامية ـ ويعدُّ من العقائد الدينية عندهم ـ ليس معناه اللغوي ، أفهل يصحّ أن ينسب إلى عاقل ـ فضلاً عن باقر العلوم وصادق الأُمّة عليهما‌السلام ـ القول بأنّ الله لم يعبد ولم

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٦.

(٢) بحار الأنوار : ٤ / ٨٦ ، الحديث ٢٣.

(٣) بحار الأنوار : ٤ / ١٢١ ، الحديث ٦٣.

٢٣٢

يعظّم إلّا بالقول بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه ، والعلم بعد الجهل؟! كلّا ، كلّ ذلك يؤيّد أنّ المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام غير ما يفهمه المعترضون ، بل مرادهم من البداء ليس إلّا أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة (١) وأنّ لله سبحانه تقديراً مشترطاً موقوفاً ، وتقديراً مطلقاً ، والإنسان إنّما يتمكّن من التأثير في التقدير المشترط ، وهذا بعينه قدر إلهي ، والله سبحانه عالم في الأزل ، بكلا القسمين كما هو عالم بوقوع الشرط ، أعني : الأعمال الإنسانية المؤثّرة في تغيير مصيره وعدم وقوعه.

قال الشيخ المفيد :

قد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغيّر الحال فيه ، قال الله تعالى :

(ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). (٢) فتبيّن أنّ الآجال على ضربين ، وضرب منهما مشترط يصحّ فيه الزيادة والنقصان ، ألا ترى قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ). (٣) وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٤).

__________________

(١) سيوافيك انّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حسب ما رواه البخاري ـ استعمل لفظ البداء في نفس ذاك المعنى الّذي تتبنّاه الإمامية.

(٢) الأنعام : ٢.

(٣) فاطر : ١١.

(٤) الأعراف : ٩٦.

٢٣٣

فبيّن أنّ آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبرّ والانقطاع عن الفسوق ، وقال تعالى فيما أخبر به عن نوح عليه‌السلام في خطابه لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١)

فاشترط لهم في مدّ الأجل وسبوغ النعم الاستغفار ، فلو لم يفعلوا قطع آجالهم وبتَّر أعمالهم واستأصلهم بالعذاب ، فالبداء من الله تعالى يختصّ بما كان مشترطاً في التقدير وليس هو انتقالاً من عزيمة إلى عزيمة ، تعالى الله عما يقول المبطلون علوّاً كبيراً. (٢)

تفسير البداء في ضوء الكتاب والسنّة

قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ المقصود بالبداء ليس إلّا تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة وتأثيرها في ما قدّر الله تعالى لهم من التقدير المشترط ، ولإيضاح هذا المعنى نشير إلى نماذج من الآيات القرآنية وما ورد من الروايات في تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة.

١. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٣)

٢. وقال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٤)

__________________

(١) نوح : ١٠ ـ ١١.

(٢) تصحيح الاعتقاد : ٥٠ ، ولاحظ ايضاً : أوائل المقالات : ٥٢ ، باب القول في البداء والمشيئة.

(٣) الرعد : ١١.

(٤) الأنفال : ٥٣.

٢٣٤

٣. وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (١)

٤. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٢).

٥. وقال سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٣).

٦. وقال سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(٤).

٧. وقال سبحانه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات. ومن الروايات يدلّ على ذلك ما يلي :

١. روى جلال الدين السيوطي (المتوفّى ٩١١ ه‍) عن علي عليه‌السلام أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ، فقال : «لأقرَّن

__________________

(١) الأعراف : ٩٦.

(٢) إبراهيم : ٧.

(٣) يونس : ٩٨.

(٤) الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٥) النحل : ١١٢.

٢٣٥

عينيك بتفسيرها ، ولأقرَّن عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحوِّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء». (١)

٢. وأخرج الحاكم عن ابن عباس ، قال : «لا ينفع الحذر من القدر ، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر». (٢)

٣. وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «صلة الأرحام تزكّى الأعمال ، وتنمّي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسّر الحساب ، وتنسئ في الأجل». (٣)

٤. وقال الصادق عليه‌السلام : «إن الدعاء يردّ القضاء ، وإنّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق». (٤)

إلى غير ذلك من الأحاديث المتضافرة المروية عن الفريقين في هذا المجال.

النزاع لفظي

ممّا تقدّم يظهر أنّ حقيقة البداء ـ وهي تغيير مصير الإنسان بالأعمال الصالحة والطالحة ـ ممّا لا مناص لكلّ مسلم من الاعتقاد به وإلى هذا أشار الشيخ الصدوق بقوله :

فمن أقرَّ لله عزوجل بأن له أن يفعل ما يشاء ، ويعدم ما يشاء ،

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٦٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الكافي : ٢ / ٤٧٠.

(٤) البحار : ٩٣ / ٢٨٨.

٢٣٦

ويخلق مكانه ما يشاء ، ويقدِّم ما يشاء ، ويؤخِّر ما يشاء ، ويأمر بما شاء كيف شاء ، فقد أقرَّ بالبداء ، وما عظّم الله عزوجل بشيء أفضل من الإقرار بأنّ له الخلق والأمر والتقديم والتأخير وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان (١).

فالنزاع في الحقيقة ليس إلّا في التسمية ، ولو عرف المخالف أنّ تسمية فعل الله سبحانه بالبداء من باب المجاز والتوسّع لما شهر سيف النقد عليهم ، وإن أبي حتى الإطلاق التجوّزي ، فعليه أن يتّبع النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي الّذي قلنا ، في حديث الأقرع والأبرص والأعمى ، روى أبو هريرة أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ ثلاثة في بنى إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، بدا لله عزوجل أن يبتليهم». (٢) فبأي وجه فسِّر كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله يفسَّر كلام أوصيائه.

والتسمية من باب المشاكلة ، وأنّه سبحانه يعبّر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبِّر به الناس عن فعل أنفسهم لأجل المشاكلة الظاهرية ، فترى القرآن ينسب إلى الله تعالى «المكر» و «الكيد» و «الخديعة» و «النسيان» و «الأسف» إذ يقول :

(يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً). (٣)

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (٤).

__________________

(١) التوحيد : ٣٣٥ ، الباب ٥٤.

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر : ١ / ١٠٩ ، صحيح البخاري : ٤ / ١٧٢.

(٣) الطارق : ١٥ ـ ١٦.

(٤) النمل : ٥٠.

٢٣٧

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ). (١)

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٢).

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات والموارد.

وبذلك تقف على أنّ ما ذكره الأشعري في «مقالات الاسلاميّين» ، والبلغمي في تفسيره ، والرازي في المحصَّل ، وغيرهم حول البداء ، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه ، فإنّهم فسّروا البداء لله بظهور ما خفي عليه ، والشيعة برآء منه ، بل البداء عندهم كما عرفت تغيير التقدير المشترط من الله تعالى ، بالفعل الصالح والطالح ، فلو كان هناك ظهور بعد الخفاء فهو بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الله تعالى ، بل هو بالنسبة إليه إبداء ما خفي وإظهاره ، ولو أطلق عليه البداء من باب التوسع.

اليهود وإنكار النسخ والبداء

إنّ المعروف من عقيدة اليهود أنّهم يمنعون النسخ سواء كان في التشريع والتكوين ، أمّا النسخ في التشريع فقد استدلّوا على امتناعه بوجوه مذكورة في كتب أصول الفقه مع الجواب عنها ، وأما النسخ في التكوين وهو تمكّن الإنسان من تغيير مصيره بما يكتسبه من الأعمال بإرادته واختياره ، فقد استدلوا على امتناعه بأنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في

__________________

(١) النساء : ١٤٢.

(٢) التوبة : ٦٧.

(٣) الزخرف : ٥٥.

٢٣٨

الأزل استحال أن تتعلّق المشيئة بخلافه. وبعبارة أخرى : ذهبوا إلى أنّ الله قد فرغ من أمر النظام وجفّ القلم بما كان فلا يمكن لله سبحانه محو ما أثبت وتغيير ما كتب أوّلاً.

وهذا المعنى من النسخ الّذي أنكرته اليهود هو بنفسه كما ترى حقيقة البداء بالمعنى الّذي تعتقده الشيعة الإمامية كما عرفت ، فإنكاره من العقائد اليهودية الّتي تسرّت إلى المجتمعات الإسلامية في بعض الفترات واكتسى ثوب العقيدة الإسلامية ، مع أنّ القرآن الكريم يردّ على اليهود في عقيدتهم هذه ويقول :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (١)

ويقول أيضاً : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢).

وقد حكى سبحانه عقيدة اليهود بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (٣).

فهذا القول عنهم يعرب عن عقيدتهم في حق الله سبحانه ، وأنّه مسلوب الإرادة تجاه كلّ ما كتب وقدّر ، وبالنتيجة عدم قدرته على الانفاق زيادة على ما قدّر وقضى ، فردّ الله سبحانه عليهم بإبطال تلك العقيدة بقوله :

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٤).

ولأجل ذلك فسَّر الإمام الصادق عليه‌السلام الآية بقوله : «ولكنّهم (اليهود) قالوا :

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) الرحمن : ٢٩.

(٣) المائدة : ٦٤.

(٤) المائدة : ٦٤.

٢٣٩

قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ألم تسمع الله عزوجل يقول :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.) (١)

ومن هنا تعرف أنّ القول بالبداء من صميم الدين ولوازم التوحيد والاعتقاد بعمومية قدرته سبحانه ، وأنّه من مقاديره وسننه السائدة على حياة الإنسان من غير أن يسلب عنه الاختيار في تغيير مصيره ، فكما أنّه سبحانه ، كلّ يوم هو في شأن ، ومشيئته حاكمة على التقدير ، وكذلك العبد مختار له أن يغيِّر مصيره ومقدّره بحسن فعله ، ويخرج نفسه من عداد الأشقياء ويدخلها في عداد السعداء ، كما أنّ له عكس ذلك. فالله سبحانه : (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢)

فهو تعالى إنّما يغيِّر قدر العبد بتغيير منه بحسن عمله أو سوئه ، ولا يعدّ تغيير التقدير الإلهي بحسن الفعل أو سوئه معارضاً لتقديره الأوّل سبحانه ، بل هو أيضاً جزء من قدره وسننه.

التقدير المحتوم والموقوف

قد أشرنا سابقاً إلى أنّ التغيير إنّما يقع في التقدير الموقوف دون المحتوم ، وهذا ما يحتاج إلى شيء من البيان فنقول :

__________________

(١) التوحيد : الباب ٢٥ ، الحديث ١.

(٢) الرعد : ١١.

٢٤٠