محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الإطلاق ثانياً ، وأنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم تنتهي إلى قدرته سبحانه ثالثاً.(١)

الثاني : الشيخ عبد الوهّاب الشعراني ، وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر ، فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال وقال :

من زعم أنّه لا عمل للعبد فقد عاند ، فإنّ القدرة الحادثة ، إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل

فقد أشرك ، فلا بدّ أنّه مضطرّ على الاختيار. (٢)

الثالث : الشيخ محمد عبده ، فقال في كلام طويل :

منهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق (يريد المعتزلة) وهو غرور ظاهر ومنهم من قال بالجبر وصرَّح به (يريد الجبرية الخالصة) ومنهم من قال به وتبرّأ من اسمه (يريد الأشاعرة) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف ، وإبطال لحكم العقل البديهي ، وهو عماد الايمان.

ودعوى أن الاعتقاد بكسب العبد (٣) لأفعاله يؤدّي إلى الإشراك بالله ـ وهو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى

__________________

(١) لاحظ : نص كلامه في الملل والنحل : ١ / ٩٨ ـ ٩٩ وهو بشكل أدق خيرة الحكماء والإمامية جمعاء.

(٢) اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر : ١٣٩ ـ ١٤١.

(٣) يريد من الكسب ، الإيجاد والخلق لا الكسب المصطلح عند الأشاعرة ، كما هو واضح لمن لاحظ كلامه.

٢٠١

الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ...» (١).

__________________

(١) رسالة التوحيد : ٥٩ ـ ٦٢.

٢٠٢

الفصل الثامن :

نظريّة التفويض

المنقول عن المعتزلة هو أنّ أفعال العباد مفوَّضة إليهم وهم الفاعلون لها بما منحهم الله من القدرة ، وليس لله سبحانه شأن في أفعال عباده ، قال القاضي عبد الجبّار :

ذكر شيخنا أبو علي رحمه‌الله : اتّفق أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم ، حادثة من جهتهم ، وأن الله عزوجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم. (١)

وقال أيضاً :

فصلٌ في خلق الأفعال ، والغرض به ، الكلام في أنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم المُحدِثون لها. (٢)

ثمّ إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على العدل الإلهي ، فلمّا كان العدل عندهم هو الأصل والأساس في سائر المباحث ،

__________________

(١) المغني في أصول الدين : ٦ / ٤١ ، الإرادة.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ٣٢٣.

٢٠٣

عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه ، فوقعوا في التفويض لاعتقادهم بأنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ينافي عدله تعالى وحدّدوا بذلك خالقيته تعالى وسلطانه. والّذي أوقعهم في هذا الخطأ في الطريق ، أمران :

أحدهما : خطؤهم في تفسير كيفيّة ارتباط الأفعال إلى الإنسان وإليه تعالى ، فزعموا أنّهما عرضيان ، فأحدهما ينافي الآخر ويستحيل الجمع بينهما ، وبما أنّهم كانوا بصدد تحكيم العدل الإلهي لجئوا إلى التفويض ونفي ارتباط الأفعال إلى الله تعالى ؛ قال القاضي عبد الجبّار:

إنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها (أفعال العباد) ومحدثها ، فقد عظم خطأه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الإنسان لا استقلال له ، لا في وجوده ، ولا فيما يتعلّق به من الأفعال وشئونه الوجودية ، فهو محتاج إلى إفاضة الوجود والقدرة إليه من الله تعالى مدى حياته ، قال سبحانه :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). (٢)

وثانيهما : عدم التفكيك بين الإرادة والقضاء التكوينيين والتشريعيين ، فالتكويني منهما يعمّ الحسنات والسيّئات بلا تفاوت ، ولكنّ التشريعي منهما لا يتعلّق إلّا بالحسنات ، قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (٣)

__________________

(١) المغني : ٦ / ٤١ ، الإرادة.

(٢) فاطر : ١٥.

(٣) الأعراف : ٢٨.

٢٠٤

وقال سبحانه : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ). (١)

فالآيات النازلة في تنزيهه تعالى عن الظلم والقبائح إمّا راجعة إلى أفعاله سبحانه ، ومدلولها أنّه سبحانه منزّه عن فعل القبيح مطلقاً ، وإمّا راجعة إلى أفعال العباد ، ومدلولها أنّه تعالى لا يرضاها ، ولا يأمر بها بل يكرهها وينهى عنها ، فالتفصيل بين حسنات أفعال العباد وقبائحها إنّما يتمّ بالنسبة إلى الإرادة والقضاء التشريعيين ، لا التكوينيين ، وهذا هو مذهب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

روى الصدوق بأسناده عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم‌السلام قال : سمعت أبي علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول :

«الأعمال على ثلاثة أحوال : فرائض ، وفضائل ، ومعاصي. فأمّا الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى الله وبقضائه وتقديره ومشيّته وعلمه. وأمّا الفضائل فليست بأمر الله ، ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيّة الله وبعلم الله. وأمّا المعاصي فليست بأمر الله ، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيّة الله وبعلمه ، ثمّ يعاقب عليها». (٢)

وقال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال : «نعم» قلت : فأحبّ ذلك ورضيه؟ فقال : «لا» قلت : شاء وأراد ما

__________________

(١) الأعراف : ٢٩.

(٢) بحار الأنوار : ٥ / ٢٩ نقلاً عن التوحيد والخصال والعيون.

٢٠٥

لم يحب ولم يرض به؟ قال : «هكذا خرج إلينا». (١)

إلى غير ذلك من الروايات ، ومفادها كما ترى هو التفكيك بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، أعني : الرضي الإلهي ، فالمعاصي وإن لم تكن برضى من الله ولم يأمر بها ، ولكنّها لا تقع إلّا بقضاء الله تعالى وقدره وعلمه ومشيّته التكوينية.

بطلان التفويض في الكتاب والسنّة

إنّ الذكر الحكيم يردّ التفويض بحماس ووضوح :

١. يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢)

٢. ويقول سبحانه : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٣)

٣. ويقول تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٤)

٤. ويقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٥)

إلى غير ذلك من الآيات الّتي تقيّد فعل الإنسان بإذنه تعالى ، والمراد منه الإذن التكويني ومشيئته المطلقة.

__________________

(١) نفس المصدر : ١٢١ ، نقلاً عن المحاسن.

(٢) فاطر : ١٥.

(٣) البقرة : ١٠٢.

(٤) البقرة : ٢٤٩.

(٥) يونس : ١٠٠.

٢٠٦

وأمّا السنّة ، فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض فيما أثر من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وكان المعتزلة مدافعين عن تلك النظريّة في عصرهم ، مروّجين لها.

١. روى الصدوق في «الأمالى» عن هشام ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّا لا نقول جبراً ولا تفويضاً». (١)

٢. وفي «الاحتجاج» عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام للحسن البصري : «إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عزوجل لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً». (٢)

٣. وفي «العيون» عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «مساكين القدرية ، (٣) أرادوا أن يصفوا الله عزوجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه». (٤)

__________________

(١) بحار الأنوار : ٥ / ٤ ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ١.

(٢) المصدر السابق : ١٧ ، الحديث ٢٦.

(٣) القدريّة أسلاف المعتزلة وهم الّذين أنكروا القدر الإلهي السابق المتعلق بأفعال العباد الاختيارية.

(٤) بحار الأنوار : ٥ / ٥٤ ؛ كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٩٣.

٢٠٧
٢٠٨

الفصل التاسع :

الأمر بين الأمرين

قد عرفت أنّ المجبّرة جنحوا إلى الجبر لأجل التحفّظ على التوحيد الأفعالي وحصر الخالقية في الله سبحانه ، كما أنّ المفوّضة انحازوا إلى التفويض لغاية التحفّظ على عدله سبحانه ، وكلا الفريقين غفلا عن نظرية ثالثة يؤيّدها العقل ويدعمها الكتاب والسنّة ، وفيها الحفاظ على كلٍّ من أصلي التوحيد والعدل ، مع نزاهتها عن مضاعفات القولين ، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الّذي أبدعته ائمّة اهل البيت عليهم‌السلام وهو مختار الحكماء الإسلاميين والإمامية من المتكلّمين ، وتبيين هذه النظريّة رهن المعرفة بأصلين عقليّين برهن عليهما في الفلسفة الأُولى وهما :

١. وجود المعلول عين الربط بوجود علّته

إنّ قيام المعلول بالعلّة ليس من قبيل قيام العرض بموضوعه أو الجوهر بمحلّه ، بل قيامه بها يرجع إلى معنى دقيق يشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في المراحل الثلاث : التصوّر ، والدلالة والتحقّق ، فإذا قلت : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهناك معان اسميّة هي السير والبصرة

٢٠٩

والكوفة ، ومعنى حرفي وهو كون السير مبدوّاً من البصرة ومنتهياً إلى الكوفة ، فالابتداء والانتهاء المفهومان من كلمتي «من» و «إلى» فاقدان للاستقلال في مجال التصوّر ، فلا يتصوّران مستقلّين ومنفكّين عن تصوّر البصرة والكوفة ، وإلّا لعاد المعنى الحرفي معنى اسمياً ولصار نظير قولنا : «الابتداء خير من الانتهاء».

وكذلك فاقدان للاستقلال في مجال الدلالة فلا يدلّان على شيء إذا انفكّتا عن مدخوليهما ، كما هما فاقدان للاستقلال في مقام التحقّق والوجود ، فليس للابتداء الحرفي وجود مستقل منفكّ عن متعلّقه ، كما ليس للانتهاء الحرفي وجود كذلك.

وعلى ضوء ذلك يتبيّن وزان الوجود الإمكانى الّذي به تتجلّى الأشياء وتتحقّق الماهيات ، فإنّ وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي إلى الاسمي ، لأنّ توصيف الوجود بالإمكان ليس إلّا بمعنى قيام وجود الممكن وتعلّقه بعلّته الموجبة له ، وليس وصف الإمكان خارجاً عن هويّته وحقيقته ، بل الفقر والربط عين واقعيته ، وإلّا فلو كان في حاق الذات غنيّاً ثمّ عرض له الفقر يلزم الخلف.

٢. وحدة حقيقة الوجود تلازم عموميّة التأثير

قد ثبت في الفلسفة الأُولى أنّ سنخ الوجود الواجب والوجود الممكن واحد يجمعهما قدر مشترك وهو الوجود وطرد العدم وما يفيد ذلك ، وأنّ مفهوم الوجود يطلق عليهما بوضع واحد وبمعنى فارد.

٢١٠

وعلى ضوء هذا الأصل ، إذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب العالية ذات أثر خاص ، يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة ، أخذاً بوحدة الحقيقة ، نعم يكون الأثر من حيث الشدّة والضعف ، تابعاً لمنشئه من هذه الحيثيّة ، فالوجود الواجب بما أنّه أقوى وأشدّ ، يكون العلم والدرك والحياة والتأثير فيه مثله ، والوجود الإمكاني بما أنّ الوجود فيه أضعف يكون أثره مثله.

إذا وقفت على هذين الأصلين تقف على النظريّة الوسطى في المقام وأنّه لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلّاً عن الواجب ، غنيّاً عنه ، غير قائم به ، قضاءً للأصل الأوّل ، وبذلك يتّضح بطلان نظرية التفويض ، كما أنّه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها قضاءً للأصل الثاني ، وبذلك يتبيّن بطلان نظرية الجبر في الأفعال ونفي التأثير عن القدرة الحادثة.

فالفعل مستند إلى الواجب من جهة ومستند إلى العبد من جهة أخرى ، فليس الفعل فعله سبحانه فقط بحيث يكون منقطعاً عن العبد بتاتاً ، ويكون دوره دور المحل والظرف لظهور الفعل ، كما أنّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعاً عن الواجب ، وفي هذه النظريّة جمال التوحيد الأفعالي منزّهاً عن الجبر كما أنّ فيها محاسن العدل منزّهاً عن مغبّة الشرك والثنويّة.

إيضاح وتمثيل

هذا إجمال النظريّة حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية ، ولإيضاحها نأتي بمثال وهو أنّه لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد فاقد القدرة ،

٢١١

فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم أن السّيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه ، فإذا وقع السّيف وقتل ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسّيف دون صاحب اليد الّذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده ، فهذا مثال لما يتبنّاه الجبري في أفعال الإنسان.

ولو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى ، وهذا مثال لما يعتقده التفويضي في أفعال الإنسان.

ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلّا بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آنٍ انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره وقتل إنساناً به ، والرجل يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل ، فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن حتّى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، وكان متمكّناً من قطع القوّة عنه في كلّ آنٍ شاء وأراد ، وهذا مثال لنظرية الأمر بين الأمرين ، فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى إفاضة القوّة والحياة منه تعالى إليه بحيث لو انقطع الفيض في آنٍ واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوّة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء.

محصّل هذا التمثيل أنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال

٢١٢

قدرته ، وثانيهما نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كلّ آنٍ وبصورة مستمرّة حتى في آن اشتغاله بالعمل (١).

الأمر بين الأمرين في الكتاب والسنّة

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين والإسنادين في فعل العبد ، نسبة إلى الله سبحانه ، ونسبة إلى العبد ، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى ، فإنّا نجد هاتين النسبتين في آيات من الذكر الحكيم :

١. قوله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). (٢)

فترى أنّ القرآن الكريم ينسب الرمي إلى النبيّ ، وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله.

٢. قال سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (٣)

فإنّ الظاهر أنّ المراد من التعذيب هو القتل ، لأنّ التعذيب الصادر من الله تعالى بأيد من المؤمنين ليس إلّا ذاك ، لا العذاب البرزخي ولا الأُخروي ،

__________________

(١) هذا المثال ذكره المحقق الخوئي قدس‌سره في تعاليقه القيمة على أجود التقريرات ، ومحاضراته الملقاة على تلاميذه. لاحظ : أجود التقريرات : ١ / ٩٠ والمحاضرات : ٢ / ٨٧ ـ ٨٨. وهناك أمثلة أخرى لتقريب نظرية الأمر بين الأمرين ، لاحظ : تفسير الميزان : ١ / ١٠٠. والاسفار : ٦ / ٣٧٧ ـ ٣٨٨.

(٢) الأنفال : ١٧.

(٣) التوبة : ١٤.

٢١٣

فإنّهما راجعان إلى الله سبحانه دون المؤمنين ، وعلى ذلك فقد نسب فعلاً واحداً إلى المؤمنين وإلى خالقهم.

٣. إنّ القرآن الكريم يذمّ اليهود بقساوة قلوبهم ويقول :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ ...) (١).

ولا يصحّ الذم واللوم إلّا أن يكونوا هم السّبب لعروض هذه الحالة على قلوبهم ، وفي الوقت نفسه يسند حدوث القساوة إلى الله تعالى ويقول :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٢).

وقد تقدّم تفصيل ذلك في البحث عن التوحيد في الخالقيّة.

هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم ، وأمّا الروايات فنذكر النزر اليسير ممّا جمعه الشيخ الصدوق في «توحيده» والعلّامة المجلسي في «بحاره» :

١. روى الصدوق عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : «إنّ الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثمّ يعذّبهم عليها والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون».

قال : فسئلا عليهما‌السلام : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : «نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض» (٣).

٢. وروى بإسناد صحيح عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله عزوجل لم يُطَع

__________________

(١) البقرة : ٧٤.

(٢) المائدة : ١٣.

(٣) التوحيد للصدوق : الباب ٥٩ ، الحديث ٧.

٢١٤

بإكراه ، ولم يُعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته ، لم يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه». (١)

٣. وروى أيضاً عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».

قال ، فقلت : وما أمر بين أمرين؟ قال : «مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته ، أنت الّذي أمرته بالمعصية». (٢)

٤. وللإمام الهادي عليه‌السلام رسالة مبسّطة في الردِّ على أهل الجبر والتفويض ، وإثبات العدل والأمر بين الأمرين نقلها علي بن شعبة قدس‌سره في «تحف العقول» ، وأحمد بن أبي طالب الطبرسي قدس‌سره في «الاحتجاج» ، وممّا جاء فيها في بيان حقيقة الأمر بين الأمرين ، قوله : «وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعى الاسدي حين سأله عن الاستطاعة الّتي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام :

سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث ٨.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٨.

٢١٥

له أمير المؤمنين عليه‌السلام : قل يا عباية ، قال : وما أقول؟ قال عليه‌السلام : ... تقول إنّك تملكها بالله الّذي يملّكها من دونك ، فإن يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملّكك ، والقادر على ما عليه أقدرك». (١)

ممّن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته ، محمّد عبده في رسالته حول التوحيد ، قال :

جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية ، الأوّل : أنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته ، والثاني : أنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده .... وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل ، وهذا الّذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمه‌الله ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه.(٢)

__________________

(١) بحار الأنوار : ٥ / ٧٥ ، الباب الثاني ، الحديث ١.

(٢) رسالة التوحيد : ٥٧ ـ ٦٢ بتلخيص.

٢١٦

الفصل العاشر :

شبهات وردود

إلى هنا فرغنا عن دراسة المذاهب والآراء في مسألة الجبر والاختيار ، ثمّ إنّ هاهنا شبهات وشكوكاً يجب علينا دراستها والإجابة عنها :

١. علم الله الأزلي

قالوا : «إنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلّا جاز انقلاب العلم جهلاً ، وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلا جاز ذلك الانقلاب وهو محال في حقّه سبحانه ، وذلك يبطل اختيار العبد ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، ويبطل أيضاً التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار ، فما لزم القائلين بمسألة خلق الاعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلّق بالأشياء»(١).

والجواب عنه : أنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدوره عنه حسب الخصوصيات

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ١٥٥ بتلخيص منّا.

٢١٧

الموجودة فيه وعلى ضوء ذلك ، تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النّار على وجه الجبر والاضطرار ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش كذلك ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرّيّة ، ومثل هذا العلم يؤكّد الاختيار. قال العلّامة الطباطبائي :

إنّ العلم الأزلي متعلّق بكلّ شيء على ما هو عليه ، فهو متعلّق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية .... (١)

٢. إرادة الله الأزلية

قالوا : «ما أراد الله وجوده من أفعال العبد وقع قطعاً ، وما أراد الله عدمه منها لم يقع قطعاً ، فلا قدرة له على شيء منهما». (٢)

والجواب عنه : أنّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السّابق لكن بتبديل العلم بالإرادة ، فيظهر الجواب عنه ممّا ذكرناه في الجواب عن سابقه. قال العلامة الطباطبائي :

تعلّقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلاً لا مطلقاً ، بل من حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا ، في زمان كذا ومكان كذا ، فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كون

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣١٨ ، تعليقة العلّامة الطباطبائي قدس‌سره.

(٢) شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

٢١٨

الفعل اختيارياً وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة ... فخطأ المجبرة في عدم تمييزهم كيفيّة تعلّق الإرادة الإلهية بالفعل .... (١)

٣. لزوم الفعل مع المرجِّح الخارج عن الاختيار

قالوا : «إنّ العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته فلا بدّ من أن يتمكن من فعله وتركه ، وإلّا لم يكن قادراً عليه ، إذ القادر من يتمكّن من كلا الطرفين. وعلى هذا يتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح ، وإلّا لزم وقوع أحد الجائزين بلا مرجِّح وسبب وهو محال ، وذلك المرجِّح إن كان من العبد وباختياره لزم التسلسل الباطل ، لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجِّح عن العبد فيتوقّف صدوره عنه إلى مرجِّح ثان وهكذا ....

وإن كان من غيره وخارجاً عن اختياره ، فبما أنّه يجب وقوع الفعل عند تحقّق المرجِّح ، والمفروض أنّ ذلك المرجِّح أيضاً خارج عن اختياره ، فيصبح الفعل الصادر عن العبد ، ضروريّ الوقوع غير اختياري له». (٢)

والجواب عنه : أنّ صدور الفعل الاختياري من الإنسان يتوقّف على مقدّمات ومبادئ من تصوّر الشيء والتصديق بفائدته والاشتياق إلى تحصيله وغير ذلك من المقدمات ، ولكن هذه المقدمات لا تكفي في تحقّق الفعل وصدوره منه إلّا بحصول الإرادة النفسانية الّتي يندفع بها الإنسان نحو الفعل ، ومعها يكون الفعل واجب التحقّق وتركه ممتنعاً.

__________________

(١) الميزان : ١ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) شرح المواقف : ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ، بتلخيص وتصرّف.

٢١٩

والمرجّح ليس شيئاً وراء داعي الفاعل وإرادته وليس مستنداً إلّا إلى نفس الإنسان وذاته ، فإنّها المبدأ لظهوره في الضمير ، إنّما الكلام في كونه فعلاً اختيارياً للنفس أو لا؟ فمن جعل الملاك في اختيارية الأفعال كونها مسبوقة بالإرادة وقع في المضيق في جانب الإرادة ، لأنّ كونها مسبوقةً بإرادة أُخرى يستلزم التسلسل في الإرادات غير المتناهية ، وهو محال.

وأمّا على القول المختار ، من أنّ الملاك في اختياريّة الأفعال كونها فعلاً للفاعل الّذي يكون الاختيار عين هويّته وينشأ من صميم ذاته وليس أمراً زائداً على هويّته عارضاً عليها ، فلا إشكال مطلقاً ، وفاعلية الإنسان بالنسبة إلى أفعاله الاختيارية كذلك ، فالله سبحانه خلق النفس الإنسانية مختارةً ، وعلى هذا يستحيل أن يسلب عنها وصف الاختيار ويكون فاعلاً مضطرّاً كالفواعل الطبيعيّة.

٤. التكليف بمعرفة الله تكليف بالمحال

قالوا :

«التكليف واقع بمعرفة الله تعالى إجماعاً ، فإن كان التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل ، وهو محال ، وإن كان حال عدمها فغير العارف بالمكلّف وصفاته المحتاج إليه في صحّة التكليف منه ، غافل عن التكليف وتكليف الغافل تكليف بالمحال». (١)

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ١٥٧.

٢٢٠