محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الفصل السابع :

كلامه تعالى

أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ولكنّهم اختلفوا في أمرين :

أ. تفسير حقيقة كلامه تعالى ؛

ب. حدوثه وقدمه.

لقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين الاسلاميّين في عصر العباسيين ، وحدثت بسببه مشاجرات بل صدامات دامية مذكورة في التاريخ تفصيلاً ، وعرّفت ب «محنة القرآن» فيلزمنا البحث والتحليل حول ذينك الأمرين على ضوء القرآن والنقل المعتبر فنقول :

الأقوال في تفسير كلامه تعالى

الأقوال الّتي ذكرها المتكلّمون والفلاسفة في هذا المجال ، ثلاثة :

١. نظرية العدلية (١) : وهو أنّ كلامه تعالى عبارة عن أصوات وحروف

__________________

(١) المعتزلة والشيعة الإمامية يسمّون بالعدليّة ، وذلك لأخذهم العدل أصلا من أصول مذهبهم. وتفسيرهم إيّاه على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.

١٢١

غير قائمة بالله تعالى قياماً حلوليّاً أو عروضيّاً ، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو النبيّ أو غير ذلك فكما يكون الله تعالى منعماً بنعمة يوجده في غيره ، فهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعل. (١)

وهذا المعنى من الكلام يسمّى بالكلام اللفظي وهو من صفات فعله تعالى ؛ حادث بحدوث الفعل.

٢. نظرية الأشاعرة : يظهر من مؤلّف المواقف (٢) أنّ الأشاعرة معترفون بالكلام اللفظي وبأنّه حادث ، ولكنّهم يدّعون معنى آخر وراءه ويسمّونه بالكلام النفسي.

قال الفاضل القوشجي في تفسير الكلام النفسي :

إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها بالألفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي ، فالمعنى الّذي يجده في نفسه ويدور في خلده ، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الاوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه ، هو الّذي نسمّيه الكلام النفسي. (٣)

__________________

(١) شرح الأُصول الخمسة : ٥٢٨ ؛ المنقذ من التقليد : ١ / ٢١٥.

(٢) شرح المواقف : ٨ / ٩٣.

(٣) شرح التجريد للقوشجي : ٣١٩.

١٢٢

وهذا المعنى من الكلام ـ على فرض ثبوته ـ يكون من صفات ذاته تعالى وقديم بقدم الذات ، ولكنّه ليس امراً وراء العلم التصوّري أو التصديقي ، فلا يثبت كلاماً ذاتياً بالمعنى الحقيقي للكلام ، وأمّا تسمية العلم بالكلام على سبيل المجاز فهي خارج عن موضوع البحث.

٣. نظريّة الحكماء : ذهبت الحكماء إلى أنّ لكلامه سبحانه مفهوماً أوسع من الكلام اللفظي ، بل كلامه تعالى مساوق لفعله سبحانه فكلّ موجود كما هو فعله ومخلوقه ، كذلك كلام له تعالى ونسمّيه ب «الكلام الفعلي».

توضيح ذلك : أنّ الغرض المقصود من الكلام اللفظي ليس إلّا إبراز ما هو موجود في نفس المتكلّم ومستور عن المخاطب والسامع ، فالكلام ليس إلّا لفظاً دالّا على المعنى الّذي تصوّره المتكلّم وأراد إيجاده في ذهن السامع ، فحقيقة الكلام هي الدلالة والحكاية ، ولا شكّ أنّ الفعل يدلّ على وجود فاعله وعلى خصوصياته الوجودية ، وليس الفرق بين دلالة اللفظ على المعنى ودلالة الفعل على الفاعل ، إلّا أنّ دلالة الأوّل وضعي اعتباريّ ، ودلالة الثاني تكويني عقلي ، والدلالة التكوينيّة العقليّة أقوى من الدلالة اللفظية الوضعيّة.

وعلى هذا ، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الّذي يفيده الكلام ، من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني والحقائق ، يصحّ تسميته كلاماً من باب التوسّع والتطوير.

ونظرية الحكماء في تفسير كلامه تعالى مطابق لإطلاقات الكلام

١٢٣

الإلهى في الكتاب والسنّة ، فالقرآن يصف المسيح عليه‌السلام بأنّه كلمة الله الّتي ألقاها إلى مريم العذراء ، قال تعالى :

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.) (١)

وقد فسّر الامام علي عليه‌السلام : قوله تعالى بفعله الّذي ينشئه ويمثّله ، حيث قال :

«يقول لمن أراد كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله».

وبذلك يظهر (٢) أنّ الصواب من الآراء المتقدّمة هو نظريّة الحكماء ، وأمّا نظرية العدلية من المتكلّمين فهي غير منطبقة على جميع مصاديق كلامه سبحانه وإنّما هو قسم قليل منه. وأمّا نظرية الأشاعرة فليس له أثر في الكتاب والسنّة.

فالعدلية أصابوا في جهة وأخطئوا في جهة اخرى ، أصابوا في جعلهم كلامه تعالى من صفات افعاله سبحانه وأخطئوا في حصره في الكلام اللفظي.

ولكنّ الأشاعرة أخطئوا في جهتين : في حصر الكلام الفعلي بالكلام اللفظي ، وفي ادّعاء قسم آخر من كلام سمّوه بالكلام النفسي وجعلوه وصفاً ذاتياً له تعالى.

__________________

(١) النساء : ١٧١.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٦.

١٢٤

كلامه سبحانه حادث أو قديم؟

اختلفوا في حدوث كلامه تعالى أو قدمه على أقوال :

١. نظرية القدم

أوّل من أكّد القول بعدم حدوث القرآن وعدم كون كلامه تعالى مخلوقاً وأصرّ عليه ، أهل الحديث ، وفي مقدّمتهم «أحمد بن حنبل» فإنّه الّذي أخذ يروّج فكرة عدم خلق القرآن ويدافع عنها بحماس ، متحمّلاً في سبيلها من المشاقّ ما هو مسطور في زبر التاريخ ، وإليك نصّ نظريته في هذه المسألة :

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم انّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم انّ القرآن كلام الله عزوجل ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو اخبث من الأوّل.(١)

٢. نظريّة الحدوث

قد تبنَّت المعتزلة القول بخلق القرآن وانبروا يدافعون عنه بشتّى الوسائل ، ولمّا كانت الخلافة العباسية في عصر المأمون ومن بعده إلى زمن الواثق بالله ، تؤيّد حركة الاعتزال وآراءها ، استعان المعتزلة من هذا الغطاء ،

__________________

(١) السنّة : ٤٩.

١٢٥

وقاموا باختبار علماء الأمصار الإسلامية في هذه المسألة ، وكانت نتيجة هذا الامتحان أن أجاب جميع الفقهاء في ذلك العصر بنظرية الخلق ، ولم يمتنع الا نفر قليل على رأسهم أحمد بن حنبل ، وإليك ما ذكره القاضي عبد الجبّار في هذا المجال :

أمّا مذهبنا في ذلك أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه ، وهو مخلوق محدث ، أنزله الله على نبيّه ليكون علَماً ودالّاً على نبوّته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام ، واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس ، وإذاً هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه وإن لم يكن (ما نقرؤه) محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس إليه على الحقيقة وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن. (١)

وهذه النظريّة هي المقبول عند الشيعة الإمامية. (٢)

٣. نظريّة القدم والحدوث

أوّل ما أعلنه الشيخ الأشعرى في هذا المجال هو القول بعدم كون القرآن مخلوقاً حيث قال :

ونقول : إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، وانّ من قال بخلق القرآن فهو كافر. (٣)

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة : ٥٢٨.

(٢) المنقذ من التقليد : ١ / ٢١٥

(٣) الإبانة : ٢١ ، ولاحظ : مقالات الاسلاميين : ١ / ٣٢١.

١٢٦

ولكنّه رأي القول بأنّ قدم القرآن المقروء والملفوظ شيء لا يقبله العقل السليم ، فجاء بنظرية جديدة أصلح بها القول بعدم خلق القرآن والتجأ إلى أنّ المراد من كلام الله تعالى ليس القرآن المقروء بل الكلام النفسي.

ويردّه أنّه لا دليل من العقل والوحي على الكلام النفسي.

دلالة القرآن على حدوث كلامه تعالى

صرّح القرآن الكريم على حدوث كلامه تعالى ـ أعنى : القرآن ـ في قوله سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.) (١)

والمراد من «الذكر» هو القرآن نفسه لقوله سبحانه :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). (٣)

والمراد من «محدث» هو الجديد وهو وصف «للذكر» ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل ، كما أنّ الإنجيل جديد ، لأنّه أتاهم بعد التوراة ، وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض.

__________________

(١) الأنبياء : ٢.

(٢) الحجر : ٩.

(٣) الزخرف : ٤٤.

١٢٧

موقف أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك بل استغلّت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها ، فلأجل ذلك أنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الريّان بن الصلت الإمام الرضا عليه‌السلام وقال له : ما تقول في القرآن؟ فقال عليه‌السلام:

«كلام الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا». (١)

نرى أنّ الامام عليه‌السلام يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادّة الخلاف. ولكنّهم عليهم‌السلام عند ما أحسّوا بسلامة الموقف ، أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله سبحانه وغيره مخلوق ، والقرآن ليس نفسه سبحانه وإلّا يلزم اتحاد المنزِل والمنزَل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد ، وفيه : «وليس الخالق إلّا الله عزوجل وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين». (٢)

__________________

(١) التوحيد للصدوق : الباب ٣٠ ، الحديث ٢.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٤.

١٢٨

تكملة

اتّفق المسلمون والإلهيّون على أنّ الصدق من صفاته تعالى وأنّه سبحانه صادق. والمراد من صدقه تعالى كون كلامه منزّهاً عن شوب الكذب ، ولمّا كان المختار عندنا في «الكلام» أنّه من الصفات الفعلية يكون الصدق في الكلام مثله وهو واضح.

ويمكن الاستدلال على صدقة بأنّ الكذب قبيح عقلاً ، وهو سبحانه منزّه عمّا يعدّ العقل من القبائح ، والبرهان مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وهي من القواعد الأساسية في كلام العدلية.

١٢٩
١٣٠

الفصل الثامن :

الصفات الخبريّة

قسّم بعض المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتيّة وخبريّة ، والمراد من الأُولى أوصافه المعروفة من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه من العلوّ والوجه واليدين إلى غير ذلك ، وقد اختلفت آراء المتكلّمين في تفسير هذا القسم من الصفات إلى أقوال :

الأوّل : الإثبات مع التكييف والتشبيه

زعمت المجسِّمة والمشبِّهة أنّ لله سبحانه عينين ويدين مثل الإنسان. قال الشهرستاني:

أمّا مشبِّهة الحشويّة ... أجازوا على ربِّهم الملامسة والمصافحة وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة ، إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص. (١)

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ١٠٥

١٣١

وبما أنّ التشبيه والتجسيم باطل بالعقل والنقل فلا ريب في بطلان هذه النظريّة.

الثاني : الإثبات بلا تكييف ولا تشبيه

إنّ الشيخ الأشعري ومن تبعه يجرون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون : «بلا تشبيه ولا تكييف». يقول الأشعري :

إنّ لله سبحانه وجهاً بلا كيف ، كما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(١).

وإنّ له يدين بلا كيف ، كما قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (٢). (٣)

وقد نقلت هذه النظريّة عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير. (٤) وحاصل هذه النظريّة أنّ له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في البشر ، فله يد وعين ، لا كأيدينا وأعيننا وبذلك توفقوا ـ على حسب زعمهم ـ في الجمع بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه.

أقول : القول بأنّ لله يداً لا كأيدينا ، أو وجهاً لا كوجوهنا ، وهكذا سائر الصفات الخبرية أشبه بالألغاز ، فاستعمالها في المعاني الحقيقية وإثبات معانيها على الله سبحانه بلا كيفيّة أشبه بكون حيوان أسداً حقيقة ولكن بلا

__________________

(١) الرحمن : ٢٧.

(٢) ص : ٧٥.

(٣) الإبانة : ٧٥.

(٤) لاحظ : «علاقة الإثبات والتفويض» : ٤٦ ـ ٤٩.

١٣٢

ذنب ولا مخلب ولا ناب ولا ... وإبراز العقيدة الإسلاميّة بصورة الإبهام والألغاز كما في هذه النظريّة كإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثور من اليهودية والنصرانية كما في النظريّة الأُولى ، لا يجتمع مع موقف الاسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي.

وممّن خالف هذه النظريّة أبو حامد الغزالي ، وحاصل ما ذكره في نقدها أنّ هذه الألفاظ الّتي تجرى في العبارات القرآنية والأحاديث النبويّة لها معان ظاهرة وهي الحسّية الّتي نراها ، وهي محالة على الله تعالى ، ومعان أخرى مجازية مشهورة يعرفها العربي من غير تأويل ولا محاولة تفسير ، فإذا سمع اليد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله خمّر آدم بيده ، وإنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» فينبغي أن يعلم أنّ هذه الألفاظ تطلق على معنيين : أحدهما ـ وهو الوضع الأصلي ـ : هو عنصر مركب من لحم وعظم وعصب ، وقد يستعار هذا اللفظ ، أعني : اليد ، لمعنى آخر ليس هذا المعنى بجسم اصلاً ، كما يقال : «البلدة في يد الأمير». فإنّ ذلك مفهوم وإن كان الامير مقطوع اليد ، فعلى العامّي وغير العامّي أن يتحقّق قطعاً ويقيناً أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرد بذلك جسماً ، وأنّ ذلك في حق الله محال ، فإن خطر بباله أنّ الله جسم مركّب من أعضاء فهو عابد صنم ، فإنّ كلّ جسم مخلوق وعبادة المخلوق كفر وعبادة الصنم كانت كفراً لأنّه مخلوق. (١)

ومن المخالفين لهذه النظريّة أبو زهرة المعاصر فإنّه قال : «قولهم بأنّ

__________________

(١) إلجاء العوام عن علم الكلام : ٥٥.

١٣٣

لله يداً ولكن لا نعرفها ولله نزولا لكن ليس كنزولنا» الخ هذه إحالات على مجهولات ، لا نفهم مؤدّاها ولا غاياتها (١).

الثالث : التفويض

ذهب جمع من الأشاعرة وغيرهم إلى اجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع تفويض المراد منها إليه. قال الشهرستاني :

إنّ جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤوّلون ذلك ، إلّا أنّهم يقولون : إنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.)

ومثل قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وذلك قد أثبتناه (٢).

وإليه جنح الرازي وقال :

هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها (٣).

__________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية : ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) الملل والنحل : ١ / ٩٢ ـ ٩٣ بتلخيص.

(٣) أساس التقديس : ٢٢٣.

١٣٤

أقول :

إنّ لأهل التفويض عذراً واضحاً في هذا المجال ، فإنّهم يتصوّرون أنّ الآيات المشتملة على الصفات الخبريّة من الآيات المتشابهة ، وقد نهى سبحانه عن ابتغاء تأويلها وأمر عباده بالإيمان بها. (١)

نعم يلاحظ على مقالتهم هذه أنّ الآيات ليست من الآيات المتشابهة ، فإنّ المفاد فيها غير متشابهة (٢) إذا أمعن فيها الإنسان المتجرّد عن كلّ رأي سابق.

الرابع : التأويل (٣)

إنّ العدليّة من المتكلّمين هم المشهورون بهذه النظريّة حيث يفسّرون اليد بالنعمة والقدرة ، والاستواء بالاستيلاء وإظهار القدرة وتبعهم في ذلك جماعة من الأشاعرة وغيرهم.

أقول : إنّ الظاهر على قسمين : الظاهر الحرفي والظاهر الجملي ، فإنّ اليد مثلاً مفردة ظاهرة في العضو الخاص ، وليست كذلك فيما إذا حفّت بها القرائن ، فإنّ قول القائل في مدح انسان انّه «باسط اليد» ، أو في ذمّه «قابض

__________________

(١) لاحظ آل عمران : ٧.

(٢) يعني انّ هذه الآيات وإن كانت متشابهة في بادئ الرأي وقبل إرجاعها إلى المحكمات ، لكنّها تصير محكمة بعد إرجاعها إليها.

(٣) قد استوفي شيخنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ الكلام في أقسام التأويل في مقدمة الجزء الخامس من موسوعته القرآنية «مفاهيم القرآن» : ١٢ ـ ١٦.

١٣٥

اليد» ليس ظاهراً في اليد العضوية الّتي أسميناها بالمعنى الحرفي ، بل ظاهر في البذل والعطاء أو في البخل والإقتار وربما يكون مقطوع اليد ، وحمل الجملة على غير ذلك المعنى ، حمل على غير ظاهرها.

وعلى ذلك يجب ملاحظة كلام المؤوِّلة ، فان كانت تأويلهم على غرار ما بيّنّاه فهؤلاء ليسوا بمؤوِّلة بل هم مقتفون لظاهر الكتاب والسنة ، ولا يكون تفسير الكتاب العزيز ـ على ضوء القرائن الموجودة فيه ـ تأويلاً وإنما هو اتّباع للنصوص والظواهر ، وان كان تأويلهم باختراع معان للآيات من دون أن تكون في الآيات قرائن متصلة أو منفصلة دالّة عليها فليس التأويل ـ بهذا المعنى ـ بأقلّ خطراً من الإثبات المنتهي إمّا إلى التجسيم أو إلى التعقيد والإبهام.

وعلى ضوء ما قرّرنا من الضابطة والميزان ، تقدر على تفسير ما ورد في التنزيل من الوجه (١) والعين (٢) والجنب (٣) والإتيان (٤) والفوقية (٥) والعرش (٦) والاستواء (٧) وما يشابهها ، من دون أن تمسّ كرامة التنزيه ، ومن دون أن تخرج عن ظواهر الآيات بالتأويلات الباردة غير الصحيحة.

__________________

(١) (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص : ٨٨).

(٢) (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) (هود : ٣٧).

(٣) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦).

(٤) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (الزمر : ٥٦).

(٥) (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح : ١٠).

(٦) (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الاسراء : ٤٢).

(٧) (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥).

١٣٦

الفصل التاسع :

الصفات السلبيّة

الصفة السلبيّة ما تفيد معنى سلبياً ، لكنّ الله تعالى لا يجوز سلب كمال من الكمالات عنه لكونه مبدأ كل كمال ، فصفاته السلبية ما دلّ على سلب النقص والحاجة ، كمن ليس بجاهل ، وليس بعاجز ، ولمّا كان معنى النقص والحاجة في معنى سلب الكمال كانت الصفة السلبية المفيدة لسلب النقص ، راجعة إلى سلب واحد وهو سلب النقص والاحتياج ولقد أجاد الحكيم السبزواري في المقام حيث قال :

وَوَصْفُهُ السَّلْبيُّ سَلْبُ السَّلْبِ جا

في سَلْبِ الاحتياجِ كُلاً أُدْرِجا (١)

وقد ظهرت في مجال صفاته السلبية عقائد وآراء سخيفة كالحلول والجهة والرؤية وغير ذلك ، فدعا ذلك المتكلّمين أن يبحثوا عن هذه الصفات السلبية في مسفوراتهم الكلامية ، والأصل الكافل لإبطال جميع تلك المذاهب والآراء وجوب الوجود بالذات ، فإنّ الجميع مستلزم للتركيب والجسمية وهما آيتا الفقر والحاجة المنافية لوجوب الوجود

__________________

(١) شرح المنظومة : ١٠٣.

١٣٧

بالذات. وقد تقدّم الكلام حول بعض هذه الصفات ، كنفي الشريك والتركيب والصفات الزائدة على الذات في مباحث التوحيد ، ونبحث الآن عن غيرها فنقول : إنّه تعالى :

١. ليس بجسم

الجسم ـ على ما نعرف له من الخواصّ ـ هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق ، وهو ملازم للتركيب ، والمركّب محتاج إلى أجزائه والمحتاج لا يكون واجب الوجود بالذات.

٢. ليس في جهة (١) ولا محلّ

وقد تبيّن استغناؤه عنهما ممّا ذكرنا من الدليل على نفي الجسمية ، فإنّ الواقع في جهة أو محلّ لا يكون إلّا جسماً أو جسمانياً.

٣. ليس حالاً في شيء

إنّ المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعيّة ، وهذا المعنى لا يصحّ في حقّه سبحانه لاستلزامه الحاجة وقيامه في الغير.

__________________

(١) إنّ طرف كلّ امتداد ونهايته من حيث هو طرف إمّا نقطة وإمّا سطح وإمّا خط ، ومن حيث هو واقع في مأخذ الإشارة الحسّية جهة ، والفرق بينها وبين المكان أنّ الجهة مقصد المتحرك من حيث الوصول إليه ، والمكان مقصد له من حيث الحصول فيه.

(الحكيم السبزوارى ، شرح المنظومة : ٢٥٦).

١٣٨

٤. ليس متّحداً مع غيره

حقيقة الاتّحاد عبارة عن صيرورة الشيئين المتغايرين شيئاً واحداً ، وهو مستحيل في حقّه تعالى مضافاً إلى استحالته في ذاته ، فإنّ ذلك الغير بحكم انحصار واجب الوجود في واحد ، ممكن ، فبعد الاتحاد إمّا أن يكونا موجودين فلا اتحاد ، أو يكون واحد منهما موجوداً والآخر معدوماً ، والمعدوم إمّا هو الممكن ، فيلزم الخلف وعدم الاتحاد ، أو الواجب فيلزم انعدام الواجب وهو محال.

٥. ليس محلّاً للحوادث

والدليل على ذلك أنّه لو قام بذاته شيء من الحوادث للزم تغيّره ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله ، بيان الملازمة : أنّ التغيّر عبارة عن الانتقال من حالة إلى أُخرى ، فعلى تقدير حدوث ذلك الأمر القائم بذاته ، يحصل في ذاته شيء لم يكن من قبل ، فيحصل الانتقال من حالة إلى أُخرى.

وأمّا بطلان اللازم ، فلأنّ التغيّر نتيجة وجود استعداد في المادّة الّتي تخرج تحت شرائط خاصّة من القوّة إلى الفعل ، فلو صحّ على الواجب كونه محلّاً للحوادث ، لصحّ أن يحمل وجوده استعداداً للخروج من القوّة إلى الفعلية ، وهذا من شئون الأُمور المادّية ، وهو سبحانه أجلّ من أن يكون مادّة أو ماديّاً.

١٣٩

٦. لا تقوم اللَّذة والألم بذاته

قد يطلق الألم واللّذة ويراد بهما الألم واللّذة المزاجيان ، والاتصاف بهما يستلزم الجسميّة والمادّة وهو تعالى منزّه عنهما كما تقدّم.

وقد يطلقان ويراد بهما العقليان ، أعني إدراك القوّة العقلية ما يلائمها أو ينافيها ، وبما أنّه لا منافي في عالم الوجود لذاته تعالى لأنّ الموجودات أفاعيله ومخلوقاته ، وبين الفعل وفاعله كمال الملائمة الوجودية ، فلا يتصوّر ألمٌ عقلي له سبحانه.

وأمّا اللَّذة العقلية فأثبتها لله تعالى بعضهم قائلين بأنّ واجب الوجود في غاية الجمال والكمال والبهاء ، فإذا عقل ذاته فقد عقل أتمّ الموجودات وأكملها ، فيكون أعظم مدرِك لأجلّ مدرَك بأتم إدراك.

ولكن منع بعضهم عن توصيفه سبحانه باللَّذة العقلية أيضاً لعدم الإذن الشرعي بذلك ، وممّن جوز الاتصاف باللّذة العقلية من متكلّمي الإماميّة ، مؤلّف الياقوت حيث قال :

المؤثّر مبتهج بالذات لأنّ علمه بكماله الأعظم يوجب له ذلك ، فكيف لا والواحد منّا يلتذُّ بكماله النقصاني (١).

وهو ظاهر كلام المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد ، حيث نفي الألم

__________________

(١) أنوار الملكوت : ١٠٢.

١٤٠