محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

محيط به ، فعلم الله وفعله مفهومان مختلفان ، ولكنّهما متصادقان في الخارج.

وقد اتّضح بما تعرّفت أنّ علمه بأفعاله بعد إيجادها حضوري ، كما أنّ علمه سبحانه بذاته وبأفعاله قبل إيجادها حضوريّ ، فإنّ المناط في كون العلم حضورياً هو حصول نفس المعلوم وحضوره لدى العالم لا حضور صورته وماهيته ، وهذا المناط متحقّق في علمه تعالى بذاته وبأفعاله مطلقاً.

علمه تعالى بالجزئيات

والإمعان فيما ذكرنا حول الموجودات الإمكانية يوضح لزوم علمه سبحانه بالجزئيات وضوحاً كاملاً ، وذلك لما تقدّم أنّ نفس وجود كلّ شيء عين معلوميته لله تعالى ولا فرق في مناط هذا الحكم بين المجرّد والمادّي ، والكلّي والجزئي ، فكما أنّ الموجود الثابت معلوم له تعالى بثباته ، كذلك الموجود المتغيّر معلوم لله سبحانه بتغيّره وتبدّله فالإفاضة التدريجيّة ، والحضور بوصف التدرّج لديه سبحانه يلازم علمه تبارك وتعالى بالجزئيات الخارجيّة.

شبهات المنكرين

قد عرفت برهان علمه سبحانه بالجزئيات ، وبقي الكلام في تحليل الشبهات الّتي أُثيرت في هذا المجال ، وإليك بيانها :

١٠١

١. العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه تعالى

قالوا لو علم سبحانه ما يجري في الكون من الجزئيات لزم تغيّر علمه بتغيّر المعلوم وإلّا لانتفت المطابقة ، وعلى هذا فهو سبحانه إنّما يعلم الجزئيات من حيث هي ماهيات معقولة لا بما هي جزئية متغيّرة.

إنّ الشبهة قائمة على فرض كون علمه سبحانه بالأشياء علماً حصولياً على طريق الصور المرتسمة القائمة بذاته سبحانه ، وعند ذلك يكون التغيّر في المعلوم ملازما لتغيّر الصور القائمة به سبحانه ويلزم على ذلك كون ذاته محلاً للتغيّر والتبدّل.

وقد عرفت أنّ علمه تعالى بالموجودات حضورى بمعنى أنّ الأشياء بهويّاتها الخارجية وحقائقها العينية حاضرة لديه سبحانه ، فلا مانع من القول بطروء التغيّر على علمه سبحانه إثر طروء التغيّر على الموجودات العينية ، فإنّ التغيّر الممتنع على علمه إنّما هو العلم الموصوف بالعلم الذاتي ، وأمّا العلم الفعلي أي العلم في مقام الفعل ، فلا مانع من تغيّره كتغيّر فعله ، فإنّ العلم في مقام الفعل لا يعدو عن كون نفس الفعل علمه لا غير.

٢. إدراك الجزئيات يحتاج إلى آلة

إنّ إدراك الجزئيات يحتاج إلى أدوات مادّية وآلات جسمانية ، وهو سبحانه منزّه عن الجسم ولوازمه الجسمانية.

والجواب عن هذه الشبهة واضح ، فإنّ العلم بالجزئيات عن طريق

١٠٢

الأدوات المادّية إنّما هو شأن من لم يحط الأشياء إحاطة قيّوميّة ، ولم تكن الأشياء قائمة به حاضرة لديه ، كالإنسان في علمه الحصولي بالجزئيات الخارجية ، فإنّ علمه بها لمّا كان عن طريق انتزاع الصور بوسيلة الأدوات الحسيّة كان إدراك الجزئيات متوقّفاً على تلك الأدوات ، وأمّا الواجب عزّ اسمه فلمّا كان علمه عن طريق إحاطته بالأشياء وقيامها به قياماً حقيقياً فلا يتوقّف علمه بها على الأدوات وإعمالها.

تكملة

قد ورد في الشريعة الإسلامية الحقّة توصيفه تعالى بالسمع والبصر وعدّ السميع والبصير من أسمائه سبحانه (١) والحقّ أنّ سمعه وبصره تعالى ليسا وصفين يغايران وصف العلم ، إنمّا المغايرة بلحاظ المفهوم لا من حيث الحقيقة والمصداق ، فقد عرفت أنّ جميع العوالم الإمكانية حاضرة لديه سبحانه ، فالأشياء على الاطلاق ، والمسموعات ، والمبصرات خصوصاً ، أفعاله سبحانه ، وفي الوقت نفسه علمه تعالى.

ثمّ إنّ الملاك المتقدّم وإن كان موجوداً في المشمومات والمذوقات والملموسات ، فإنّها أيضاً حاضرة لديه سبحانه كالمسموعات والمبصرات ، لكن لمّا كان إطلاق هذه الاسماء ملازما للمادّة والإحساس في أذهان الناس ، لم يصحّ إطلاق اللامس والذائق والشامّ عليه.

ومن الغايات الّتي يرشد إليها الذكر الحكيم في مقام التوصيف

__________________

(١) انّه سبحانه وصف نفسه بالبصير ٤٢ مرّة ، وبالسميع ٤١ مرّة في الكتاب العزيز.

١٠٣

بالسميع والبصير هو إيقاف الإنسان على أنّ ربّه سميع يسمع ما يتلفّظه من كلام ، بصير يرى كلّ عمل يصدر منه فيحاسبه يوماً حسب ما سمعه ورآه.

ثمّ إنّ بعض المتكلمين قد عدّ الإدراك من صفاته تعالى والمدرِك ـ بصيغة الفاعل ـ من أسمائه ، تبعاً لقوله سبحانه :

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).

ولا شكّ أنّه سبحانه ـ بحكم الآية الشريفة ـ مدرك ، لكن الكلام في أنّ الإدراك هل هو وصف وراء العلم بالكليات والجزئيات؟ أو هو يعادل العلم ويرادفه؟ أو هو علم خاص؟ والأقرب هو الأخير وهو العلم بالموجودات الجزئية العينية ، فإدراكه سبحانه هو شهود الأشياء الخارجية ووقوفه عليه وقوفاً تامّاً. قال سبحانه :

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢).

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣.

(٢) فصلت : ٥٣.

١٠٤

الفصل الرابع

قدرته تعالى

اتّفق الإلهيّون على أنّ القدرة من صفاته الذاتية الكمالية كالعلم ، ولأجل ذلك يعدّ القادر والقدير من أسمائه سبحانه ، لكنّهم اختلفوا في حقيقة قدرته تعالى. فيجب تعريف القدرة أوّلاً وبيان المعنى المناسب لساحته تعالى من القدرة ثانياً.

تعريف القدرة

إنّ هناك تعريفين للقدرة مشهورين : (١)

الأوّل : أنّها عبارة عن صحّة الفعل والترك ، والمراد من الصحّة : الإمكان ، فالقادر هو الّذي يصحّ أن يفعل وأن يترك.

والثاني : أنّها عبارة عن صدور الفعل بالمشيّة والاختيار ، فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

وقد أُورد على التعريف الأوّل بأنّ الإمكان المأخوذ في التعريف ، إمّا إمكان ماهوي يقع وصفاً للماهية ، أو إمكان استعدادي يقع وصفاً للمادّة ؛

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣٠٧. التعريف الأوّل للمتكلمين والثاني للفلاسفة.

١٠٥

وعلى كلا التقديرين لا يصحّ أخذه في تعريف قدرته سبحانه ، لأنّ الله تعالى منزّه عن الماهية والمادّة.

والمراد من المشيّة في التعريف الثاني هو الاختيار الذاتي له سبحانه ، فهو تعالى يفعل باختياره الذاتي ويترك كذلك ، أي ليس فعله وتركه لازماً عليه ، لعدم وجود قدرة غالبة تضطرّه على الفعل أو الترك.

برهان قدرته تعالى

إذا كان الفعل متَّسماً بالإحكام والإتقان ، والجمال والبهاء يدلّ ذلك على علم الفاعل بتلك الجهات وقدرته على إيجاد مثل ذلك الصنع.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عند ما يصف روائع أفعاله وبدائع صنعه في آيات الذكر الحكيم ، يختمها بذكر علمه تعالى وقدرته ، يقول سبحانه :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١).

فالإحكام والإتقان في الفعل آيتا العلم وعلامتا القدرة ، وإنّا نرى في كلمات الإمام علي عليه‌السلام أنّه يستند في البرهنة على قدرته تعالى بروعة فعله وجمال صنعه سبحانه. قال عليه‌السلام : «وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته». (٢)

__________________

(١) الطلاق : ١٢.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٩١.

١٠٦

وقال أيضاً : «واقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته». (١)

وقال أيضاً : «فأقام من الأشياء أودها ، ونهج حدودها ، ولائم بقدرته بين متضادّها». (٢)

سعة قدرته تعالى

إنّ الفطرة البشرية تقضي بأنّ الكمال المطلق الّذي ينجذب إليه الإنسان قادر على كلّ شيء ممكن ، ولا يتبادر إلى الأذهان ابداً ـ لو لا تشكيك المشكّكين ـ أنّ لقدرته حدوداً ، أو أنّه قادر على شيء دون شيء. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «الأشياء له سواء علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً». (٣)

والعقل الفلسفي يؤيّد هذا القضاء الفطري ، لأنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، وما هو غير متناه في الوجود ، غير متناه في الكمال والجمال ، لأنّ منبع الكمال هو الوجود ، فعدم التناهي في جانب الوجود يلازم عدمه في جانب الكمال ، وأيّ كمال أبهى من القدرة ، فهي غير متناهية تبعاً لعدم تناهي وجوده وكماله والنصوص الدينية أيضاً دالّة على سعة قدرته تعالى. قال سبحانه : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٦٥.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٩١.

(٣) التوحيد ، الباب ٩ ، الحديث ١٥.

(٤) الأحزاب : ٢٧.

١٠٧

وقال تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (١).

كما صرّح بعمومية قدرته تعالى في الأحاديث المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

دفع شبهات في المقام

إنّ هناك شبهات ، أوردت على القول بعمومية قدرته تعالى ربما يعسر دفعها على الطالب ، يجب أن نذكرها ونبيّن وجه الدفع عنها :

١. هل هو سبحانه قادر على خلق مثله؟ فلو أجيب بالإيجاب لزم افتراض الشريك له سبحانه ، ولو أجيب بالنفي ثبت ضيق قدرته وعدم عمومها.

ويدفع ذلك بأنّه ممتنع فلا يصل الكلام إلى تعلّق القدرة به أو عدمه ، والوجه في امتناعه هو لزوم اجتماع النقيضين ، أعني : كون شيء واحد واجباً بالذات وممكناً كذلك ، فإنّ ذلك المثل بما أنّه مخلوق ، يكون ممكناً وبما انّه مثل له تعالى ، فهو واجب بالذات ، وهو محال بالضرورة.

٢. هل هو قادر على أن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم أو تكبر البيضة؟

والجواب عنه كسابقه ، فإنّ جعل الشيء الكبير في الظرف الصغير أمر ممتنع في حدّ ذاته ، إذ البداهة تحكم بأنّ الظرف يجب أن يكون مساويا للمظروف ، فجعل الشيء الكبير في الظرف الصغير يستلزم كون ذلك

__________________

(١) الكهف : ٤٥.

١٠٨

الظرف مساويا للمظروف لما يقتضيه قانون مساواة الظرف والمظروف ، وأن يكون أصغر منه غير مساوٍ له ـ لما هو المفروض ـ وهذا محال ، وإنّما يبحث عن عمومية القدرة وعدمها بعد فرض كون الشيء ممكناً في ذاته ، وإلى هذا أشار الإمام علي عليه‌السلام في الجواب عن نفس السؤال بقوله :

«إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والّذي سألتني لا يكون». (١)

٣. هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائه ، فإن أُجيب بالإيجاب لزم عدم سعة قدرته حيث لا يقدر على إفنائه وإن أجيب بالسلب لزم أيضا عدم عموم قدرته.

والجواب عنه : أنّ الشيء المذكور بما أنّه ممكن فهو قابل للفناء ، وبما أنّه مقيّد بعدم إمكان إفنائه فهو واجب غير ممكن ، فتصبح القضية كون شيء واحد ممكناً وواجباً ، قابلاً للفناء وغير قابل له ، وهو محال ، فالفرض المذكور مستلزم للمحال ، والمستلزم للمحال محال ، وهو خارج عن موضوع بحث عموميّة القدرة ، كما تقدّم.

__________________

(١) التوحيد : الباب ٩ ، الحديث ٩.

١٠٩
١١٠

الفصل الخامس :

حياته تعالى

اتّفق الإلهيون على أنّ الحياة من صفاته تعالى ، وأنّ الحيّ من أسمائه الحسنى ، ولكن إجراء هذا الاسم عليه سبحانه يتوقّف على فهم معنى الحياة وكيفية إجرائها على الله تعالى ، فنقول :

حقيقة الحياة

إنّ الحياة المادّية في الحيوان والإنسان ـ بما أنّه حيوان ـ تقوم بأمرين ، هما : الفعّاليّة والدرّاكيّة ، فالخصائص الأربع (١) الّتي ذكرها علماء الطبيعة راجعة إلى الفعل والانفعال ، والتأثير والتأثّر ونرمز لها «بالفعّاليّة» ، كما نرمز إلى الحسّ والإدراك المتسالم على وجودهما في انواع الحيوان ، وقد يقال بوجودهما في النبات ايضاً ، ب «الدرّاكيّة» فالحيّ هو الدرّاك والفعّال ، كما هو المصطلح عند الفلاسفة الإلهيين.

فملاك الحياة الطبيعيّة هو الفعل والدرك ، وهو محفوظ في جميع المراتب لكن بتطوير وتكامل ، أعني : حذف النواقص والشوائب الملازمة

__________________

(١) وهي : الجذب والدفع ، النمو والرشد ، التوالد والتكاثر ، الحركة وردّة الفعل.

١١١

للمرتبة النازلة عن المرتبة العالية ، فالفعل المترقّب من الحياة العقلية في الإنسان لا يقاس بفعل الخلايا النباتية والحيوانية ، كما أنّ درك الإنسان للمسائل الكلية أعلى وأكمل من حسّ النبات وشعور الحيوان ومع هذا البون الشاسع بين الحياتين ، تجد أنّا نصف الكلّ بالحياة بمعنى واحد وليس ذاك المعنى الواحد إلّا كون الموجود «درّاكاً» و «فعّالاً».

معنى حياته تعالى

فإذا صحّ إطلاق الحياة بمعنى واحد على تلك الدرجات المتفاوتة فليصحّ على الموجودات الحيّة العِلويّة لكن بنحو متكامل ، فالله سبحانه حيّ بالمعنى الّذي تفيده تلك الكلمة ، لكن حياة مناسبة لمقامه الأسنى ، بحذف النواقص والأخذ بالزّبدة واللّب ، فهو تعالى حيّ أي «فاعل» و «مدرك» وإن شئت قلت : «فعّال» و «درّاك» لا كفعّاليّة الممكنات ودرّاكيّتها.

دلائل حياته تعالى

قد ثبت بالبرهان أنّه سبحانه عالم وقادر ، وقد تقدّم البحث فيه ، وقد بيّنّا أنّ حقيقة الحياة في الدرجات العِلوية ، لا تخرج عن كون المتّصف بها درّاكاً وفعّالاً ، ولا شكّ أنّ لله تعالى أتمّ مراتب الدرك والفعل ، لأنّ له أكمل مراتب العلم والقدرة ، ففعله النابع عن علمه وقدرته أكمل مراتب الفعل فهو حيّ بأعلى مراتب الحياة.

أضف إلى ذلك انّه سبحانه خلق موجودات حيّة ، مدركة فاعلة ، فمن المستحيل أن يكون معطي الكمال فاقداً له.

١١٢

تذييل

عُدَّ من صفاته الثبوتية الذاتية ، الأزلية والأبدية والسرمديّة والقدم والبقاء ، وعليه فهو سبحانه قديم أزليّ ، باق أبديّ ، وموجود سرمديّ. قالوا : يطلق عليه الأوّلان لأجل أنّه المصاحب لمجموع الأزمنة المحقّقة أو المقدَّرة في الماضي ، كما اطلق عليه الآخران لأجل انّه الموجود المستمرّ الوجود في الأزمنة الآتية محقّقة كانت أو مقدَّرة ، ويطلق عليه السرمديّة بمعنى الموجود المجامع لجميع الأزمنة السابقة واللاحقة. هذا ما عليه المتكلّمون في تفسير هذه الأسماء والصفات.

يلاحظ عليه : أنّه يناسب شأن الموجود الزماني الّذي يصاحب الأزمنة المحقّقة أو المقدَّرة ، والماضية أو اللاحقة ، والله سبحانه منزّه عن الزمان والمصاحبة له ، بل هو خالق للزمان سابقه ولاحقه ، فهو فوق الزمان والمكان ، لا يحيطه زمان ولا يحويه مكان ، وعلى ذلك فالصحيح أن يقال : إنّ الموجود الإمكاني ما يكون وجوده غير نابع من ذاته ، مسبوقاً بالعدم في ذاته ولا يمتنع طروء العدم عليه ، ويقابله واجب الوجود بالذات وهو ما يكون وجوده نابعا من ذاته ، ويمتنع عليه طروء العدم ولا يلابسه أبداً ، ومثل ذلك لا يسبق وجوده العدم ، فيكون قديماً أزليّاً ، كما يمتنع أن يطرأ عليه العدم ، فيكون أبدياً باقياً ، وبملاحظة ذينك الأمرين ، أعني : عدم مسبوقية وجوده بالعدم وامتناع طروء العدم عليه ، يتصف بالسّرمديّة ويقال : إنّه سرمديّ.

١١٣
١١٤

الفصل السادس :

إرادته تعالى

إنّ الإرادة من صفاته سبحانه ، والمريد من أسمائه ، ولم يشكّ في ذلك أحد من الإلهيين أبداً ، وإنّما اختلفوا في حقيقتها ، وأنّها هل تكون من صفات الذات أو من صفات الفعل؟

حقيقة إرادته تعالى

إنّ الإرادة في الإنسان بأيّ معنى فسّرت ، ظاهرة تظهر في لوح النفس تدريجيّة ، ومن المعلوم أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يمكن توصيفه سبحانه بها ، لأنّه يستلزم كونه موجوداً ماديّاً يطرأ عليه التغيّر والتبدّل من الفقدان إلى الوجدان ، وما هذا شأنه لا يليق بساحة البارئ ، ولأجل ذلك اختلفت كلمة الإلهيين في تفسير ارادته تعالى ، فالمشهور عند الحكماء والمتكلمين (١) أنّ ارادة الله سبحانه هي علمه تعالى بأنّ الفعل على نظام الخير والأحسن أو علمه بأن الفعل ذو مصلحة عائدة إلى غيره تعالى وعلى هذا تكون الإرادة من الصفات الذاتية.

__________________

(١) للوقوف على جميع اقوال الحكماء والمتكلّمين في تفسير ارادته تعالى انظر «قواعد العقائد» للمحقق الطوسي بتعليقات للمؤلف : ٥٦ ـ ٥٧.

١١٥

قال صدر المتألهين :

معنى كونه مريداً أنّه سبحانه يعقل ذاته ويعقل نظام الخير الموجود في الكل من ذاته وأنّه كيف يكون. (١)

وقال ابو إسحاق النوبختي :

وهو يريد أي يعلم المصلحة في فعل فيدعوه علمه إلى إيجاده. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ مفاهيم الصفات ومعانيها متغايرة وعينيتها في حقّه تعالى راجعة إلى واقعيتها ومصداقها وعلى هذا تفسير الإرادة بالعلم ، يرجع إلى إنكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه ، ولأجل عدم صحّة هذا التفسير نرى أنّ أئمة اهل البيت عليهم‌السلام ينكرون تفسيرها بالعلم ، قال بكير بن أعين : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : علمه ومشيئته مختلفان أو متفقان ...؟

فقال عليه‌السلام : «العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول سأفعل كذا إنْ علم الله» (٣).

والحق أنّ الإرادة من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه مجرّدة من شوائب النقص وسمات الإمكان ، فالمراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلاً مختاراً في مقابل كونه فاعلاً مضطرّاً ، لا إثبات الإرادة له بنعت كونها طارئة

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٣١٦.

(٢) أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٦٧.

(٣) الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة ، الحديث ٢.

١١٦

زائلة عند حدوث المراد ، أو كون الفاعل خارجاً بها من القوّة إلى الفعل ، لأنّها لا تعدّ من صفات الكمال مقيّدة بهذه الخصائص ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً ، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله ، فإذا كان هذا كمال الإرادة فالله سبحانه واجد له على النحو الأكمل ، إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه ، وليس هذا بمعنى إرجاع الإرادة إلى وصف سلبي وهو كونه غير مقهور ولا مستكره ، بل هي وصف وجودي هو نفس ذاته ، والتعبير عنه بوصف سلبي لا يجعله أمراً سلبياً كتفسير العلم بعدم الجهل ، والقدرة بعدم العجز.

فلو صحَّ تسمية هذا الاختيار الذاتي بالإرادة ، فالإرادة من صفات ذاته تعالى وإلّا وجب القول بكونها من صفات الفعل. (١)

الإرادة في روايات اهل البيت عليهم‌السلام

يظهر من الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ مشيئته وإرادته من صفات فعله ، كالرازقية والخالقية ، وإليك نبذاً من هذه الروايات :

__________________

(١) ما أفاده شيخنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ في تفسير إرادته تعالى يوافق نظرية العلّامة الطباطبائي قدس‌سره فإنّه أيضاً ناقش الرأي المشهور عند الفلاسفة من تفسير الإرادة بالعلم بالنظام الأصلح ، ثمّ أثبت لله تعالى اختيارا ذاتياً ، ثمّ بيّن أنّ الإرادة بمعناها المعهود عندنا إنمّا يصحّ إطلاقها على الله تعالى بعد التجريد عن النواقص ، بما هي صفة فعلية منتزعة عن مقام فعله سبحانه ، نظير الخلق والإيجاد والرحمة ، وذلك باعتبار تمامية الفعل من حيث السبب وحضور العلّة التامة للفعل كما يقال عند مشاهدة جمع الفاعل أسباب الفعل ليفعل ، إنه يريد كذا فعلاً. راجع : الأسفار : ٦ / ٣١٥ ـ ٣١٦ ؛ نهاية الحكمة : المرحلة ١٢ ، الفصل ١٣ ؛ بداية الحكمة : المرحلة ١٢ ، الفصل ٦ و ٨.

١١٧

١. روى عاصم بن حميد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : لم يزل الله مريداً؟ قال : إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه ، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد». (١)

٢. روى صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق.

قال : فقال عليه‌السلام : «الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ، ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ، كما انّه لا كيف له». (٢)

٣. روى محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المشيئة محدثة». (٣)

ترى أنّ الرواية الأُولى تنفي الأزليّة عن الإرادة ، فلا تكون من صفاته الذاتية الّتي هي عين ذاته تعالى ، كما أنّ الرواية الثالثة صرّحت على أنّ المشيئة محدثة ، فلا تكون من صفاته الذاتية وقد صرّحت الرواية الثانية على أنّ إرادته تعالى عين إحداثه تعالى وإيجاده فهي عين فعله ، ولكنّ الروايات لا تنفي كون الإرادة بالمعنى الّذي فسّرناها به ، أعني : الاختيار

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٣.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٧.

١١٨

الذاتي من صفات ذاته ، بل الّذي نفته ، هي الإرادة بالمعنى الموجود في الإنسان ، لأنّ إثبات هذه الإرادة لله تعالى يستلزم محذورين :

الأوّل : قدم المراد أو حدوث المريد ، كما ورد في الرواية الأولى ؛

الثاني : طروء التغيّر والتدريج على ذاته سبحانه ، كما ورد في الرواية الثانية.

١١٩
١٢٠