فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-05-2
الصفحات: ٣٥٢

على المتواتر ، وموافقة الكتاب لا تجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه تخصيص الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد.

فكلّما رجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر.

والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه سابقا (١) : من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفيّ يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة (٢) ، بل في جزءي كلام واحد لمتكلّم واحد.

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة (٣) ، وصيرورتهما كالكلام الواحد ـ على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين ـ فيدخل في قوله عليه‌السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ...» إلى آخر الرواية المتقدّمة (٤) ، وقوله عليه‌السلام : «إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فردّوا متشابهها إلى محكمها» (٥) ، ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما ، تحيّر السائل فيهما ، ولم يظهر المراد منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما أو لكليهما. نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض وتعيين

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩ و ٧١.

(٢) شطب على «غير جهة التقيّة» في (ت).

(٣) لم ترد «بل في جزئي ـ إلى ـ جهة التقيّة» في (ظ).

(٤) تقدّمت في الصفحة ٦٧.

(٥) الوسائل ١٨ : ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢.

٨١

الأظهر ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وما ذكرناه كأنّه (١) ممّا لا خلاف فيه ـ كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين (٢) ـ ، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع (٣).

ظاهر كلام الشيخ الطوسي خلاف ذلك

نعم قد يظهر من عبارة الشيخ قدس‌سره في الاستبصار خلاف ذلك ، بل يظهر منه أنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلا عن الظاهر والأظهر ؛ فإنّه قدس‌سره بعد ما (٤) ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه ، قال :

كلام الشيخ في الاستبصار

وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين.

وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا.

وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وكانا عاريين عن جميع القرائن التي ذكرناها نظر :

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل ، كان العمل به أولى من العمل بالآخر

__________________

(١) لم ترد «كأنّه» في (ر) و (ه).

(٢) هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٩٩ و ٧٠٤.

(٣) في (ظ) بدل «كما استظهر ـ إلى ـ في الفروع» : «كما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع ، كما استظهر بعض مشايخنا المعاصرين» ، انظر الفصول : ٤٤٠ ـ ٤٤١ ، والقوانين ١ : ٣٠٤.

(٤) «ما» من (ص).

٨٢

الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ؛ لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا.

وإن كان الخبران يمكن العمل بكلّ منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه ـ صريحا أو تلويحا ، لفظا أو دليلا ـ وكان الآخر عاريا عن ذلك ، كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار. وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكانا (١) متحاذيين (٢) ، كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٣) ، انتهى موضع الحاجة.

وقال في العدّة :

كلام الشيخ في لبصدّة

وأمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت ، فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء ، منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها والآخر مخالفا لهما ؛ فإنّه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما ، وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافقه وترك ما يخالفهم. فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما : فإن كان إحدى الروايتين راويها عدلا وجب العمل بها وترك العمل بما لم يروه العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب. فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما

__________________

(١) في (ت) و (ه) والمصدر : «وكان».

(٢) في المصدر : «متحاذيا».

(٣) الاستبصار ١ : ٤.

٨٣

رواة وعمل به وترك العمل بقليل الرواة. فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم. وإن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهم نظر في حالهما : فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر ، وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر ؛ لأنّ الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما ، وليس هنا قرينة تدلّ على صحّة أحدهما ، ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ، ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب اطّراح العمل بالآخر. وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما وتنافيهما ، أو أمكن (١) حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه ، كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢) ، انتهى.

وهذا كلّه كما ترى ، يشمل حتّى تعارض العامّ والخاصّ مع الاتّفاق فيه على الأخذ بالنصّ.

وقد صرّح في العدّة ـ في باب بناء العامّ على الخاصّ ـ : بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين دون العامّ والخاصّ ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا. واستدلّ على العمل بالخاصّ بما حاصله : أنّ العمل بالخاصّ ليس طرحا للعامّ ، بل حمل له على ما يمكن أن يريده الحكيم ، وأنّ العمل بالترجيح والتخيير فرع

__________________

(١) في المصدر : «وأمكن».

(٢) العدّة ١ : ١٤٧ ـ ١٤٨.

٨٤

التعارض الذي لا يجري فيه الجمع (١).

وهو مناقض صريح لما ذكره هنا : من أنّ الجمع من جهة عدم ما يرجّح أحدهما على الآخر (٢).

ظهور كلام المحدّث البحراني في ذلك أيضاً

وقد يظهر ما في العدّة من كلام بعض المحدّثين (٣) ، حيث أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة لمعارضة خبر الرخصة (٤) ، زاعما أنّه طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرها تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة.

يلوح ذلك من المحقّق القمّي أيضاً

وربما يلوح هذا أيضا من كلام المحقّق القمّي ، في باب بناء العامّ على الخاصّ ، فإنّه بعد ما حكم بوجوب البناء ، قال :

وقد يستشكل : بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة أو موافق للكتاب ونحو ذلك ، وهو يقتضي تقديم العامّ لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة أو نحو ذلك.

وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العامّ والخاصّ من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح خارجيّ ، وهو خارج عن المتنازع (٥) ، انتهى.

__________________

(١) انظر العدّة ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٥.

(٢) في (ظ) زيادة : «لكونهما سواء في صفات الراوي».

(٣) هو المحدّث البحراني في الحدائق ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٤) في (ظ) زيادة : «الذي هو الأظهر».

(٥) القوانين ١ : ٣١٥ ـ ٣١٦.

٨٥

المناقشة فيها ذكروه قدس‌سره

والتحقيق : أنّ هذا كلّه خلاف ما يقتضيه الدليل ؛ لأنّ الأصل في الخبرين الصدق والحكم بصدورهما فيفرضان كالمتواترين ، ولا مانع عن فرض صدورهما حتّى يحصل التعارض ؛ ولهذا لا يطرح الخبر الواحد الخاصّ بمعارضة العامّ المتواتر.

مرجع التعارض بين النصّ والظاهر

وإن شئت قلت : إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ودليل حجيّة النصّ ، ومن المعلوم ارتفاع الأصل بالدليل. وكذا الكلام في الظاهر والأظهر ؛ فإنّ دليل حجيّة الأظهر يجعله قرينة صارفة عن إرادة الظاهر ، ولا يمكن طرحه لأجل أصالة الظهور ، ولا طرح ظهوره لظهور الظاهر ، فتعيّن العمل به وتأويل الظاهر به (١). وقد تقدّم في إبطال الجمع بين الدليلين ما يوضح ذلك (٢).

الإشكال في الظاهرين اللذين يمكن رفع المنافاة بينهما بالتصرّف في كلّ واحد منهما

نعم ، يبقى الإشكال في الظاهرين اللذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما يرفع منافاته لظاهر الآخر ، فيدور الأمر بين الترجيح من حيث السند وطرح المرجوح ، وبين الحكم بصدورهما وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما.

فعلى ما ذكرنا ـ من أنّ دليل حجّيّة المعارض لا يجوز طرحه لأجل أصالة الظهور في صاحبه ، بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ الأصل لا يزاحم الدليل ـ يجب الحكم في المقام بالإجمال ؛ لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ، مع العلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ،

__________________

(١) في (ت) و (ه) بدل «به» : «منهما».

(٢) راجع الصفحة ٢٥ ـ ٢٦.

٨٦

فيتساقط الظهوران من الطرفين ، فيصيران مجملين بالنسبة إلى مورد التعارض ، فهما كظاهري مقطوعي الصدور ، أو ككلام واحد تصادم فيه ظاهران.

ويشكل بصدق التعارض بينهما عرفا ودخولهما في الأخبار العلاجيّة ؛ إذ تخصيصها بخصوص المتعارضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلاّ بإخراج كليهما عن ظاهرهما خلاف الظاهر ، مع أنّه لا محصّل للحكم بصدور الخبرين والتعبّد بكليهما ؛ لأجل أن يكون كلّ منهما سببا لإجمال الآخر ، ويتوقّف في العمل بهما فيرجع إلى الأصل ؛ إذ لا يترتّب حينئذ ثمرة على الأمر بالعمل بهما. نعم ، كلاهما دليل واحد على نفي الثالث ، كما في المتباينين.

وهذا هو المتعيّن ؛ ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ، إلاّ أنّ اللازم من ذلك وجوب التخيير بينهما عند فقد المرجّحات ، كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين. كما أنّ اللازم على الأوّل التوقّف من أوّل الأمر والرجوع إلى الأصل إن لم يكن مخالفا لهما ، وإلاّ فالتخيير من جهة العقل ، بناء على القول به في دوران الأمر بين احتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّه قد يفصّل في المسألة (١) :

بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين مورد سليم عن التعارض ، كما في العامّين من وجه ؛ حيث إنّ الرجوع إلى المرجّحات السنديّة

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٨.

٨٧

فيهما على الإطلاق ، يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ولا وجه له ، والاقتصار في الترجيح بها على (١) خصوص مادّة الاجتماع التي هي محلّ المعارضة وطرح المرجوح بالنسبة إليها مع العمل به في مادّة الافتراق ، بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجيّة.

وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : «اغتسل للجمعة» الظاهر في الوجوب ، وقوله : «ينبغي غسل الجمعة» الظاهر في الاستحباب ، فيطرح الخبر المرجوح رأسا لأجل بعض المرجّحات.

لكنّ الاستبعاد المذكور في الأخبار العلاجيّة إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم من حيث الظنّ بالصدور ، فلا يمكن التبعيض (٢) في صدور العامّين من وجه من حيث مادّتي الافتراق والاجتماع (٣).

وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض.

وكيف كان فترك التفصيل أوجه منه ، وهو أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات.

وأمّا ما ذكرنا في وجهه : من عدم جواز طرح دليل حجّيّة أحد الخبرين لأصالة الظهور في (٤) الآخر ، فهو إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر

__________________

(١) في غير (ت) بدل «على» : «في».

(٢) في غير (ظ) : «التبعّض».

(٣) في (ص) ، (ه) و (ر) زيادة : «كما أشرنا سابقا إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل».

(٤) في غير (ص) بدل «الظهور في» : «ظهور».

٨٨

بنفسه قرينة على إرادة (١) خلاف الظاهر في الآخر ، وأمّا إذا كان محتاجا إلى دليل ثالث يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين ، في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يعدّ (٢) غير ممكن ، فلا بدّ من طرح أحدهما معيّنا ؛ للترجيح ، أو غير معيّن ؛ للتخيير. ولا يقاس حالهما على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ، كما أشرنا (٣) إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة (٤) الجمع على الطرح ، والمسألة محلّ إشكال.

تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح

وقد تلخّص ممّا ذكرنا : أنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة ؛ إذ الظاهر لا يعارض النصّ حتّى يرجّح النصّ عليه. نعم ، النصّ الظنّي السند يعارض دليل سنده لدليل حجّية الظهور ، لكنّه حاكم على دليل اعتبار الظاهر.

انحصار الترجيح بالدلالة في تعارض الأظهر والظاهر

فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ؛ نظرا إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر.

ولا فرق في الظاهر والنصّ بين العامّ والخاصّ المطلقين إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ يبقى معه ظهور العامّ ـ وإلاّ دخل (٥) في تعارض

__________________

(١) «إرادة» من (ص).

(٢) في (ظ) ونسخة بدل (ص) بدل «يعدّ» : «بعد».

(٣) راجع الصفحة ٢٢.

(٤) في (ظ) بدل «أولويّة» : «أدلّة تقديم».

(٥) كذا في (ظ) ، وفي (ر) بدل «وإلاّ دخل» : «ويدخل» ، وفي (ت) ، (ه) و (ص) بدلها : «لئلاّ يدخل».

٨٩

الظاهرين أو تعارض الظاهر والأظهر ـ وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا ، وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا (١) ، مثل : صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ؛ لأنّ العبرة بوجود احتمال في أحد الدليلين لا يحتمل ذلك في الآخر وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا في الغاية ؛ لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ بعينه موجود فيه.

وقد يظهر خلاف ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل : حمل الخاصّ المطلق على التقيّة لموافقته لمذهب العامّة :

منها : ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله في مسألة «من زاد في صلاته ركعة» ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهّد على التقيّة ، وعمل على عمومات إبطال الزيادة (٢) ، وتبعه بعض متأخّري المتأخّرين (٣). لكنّ الشيخ رحمه‌الله كأنّه بنى على ما تقدّم عن العدّة والاستبصار (٤) ـ من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر ـ أو على استفادة التقيّة من قرائن أخر غير موافقة مذهب العامّة.

__________________

(١) لم ترد «وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا ـ إلى ـ بعيدا» في (ظ) ، وورد بدلها في (ع) : «وبين ما يكون التوجيه فيه آبيا ، مثل ...» ، وفي (آ) : «وبين مثل ...» ، وفي (ن) لم ترد «وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا».

(٢) الخلاف : ٤٥١ ـ ٤٥٣.

(٣) كالعلاّمة المجلسي في البحار ٨٨ : ٢٠٤ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ٩ : ١١٧ ، واحتمله في الرياض ٤ : ٢٠٩.

(٤) راجع الصفحة ٨٢ ـ ٨٤.

٩٠

ومنها : ما تقدّم عن بعض المحدّثين (١) ، من مؤاخذة حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة.

وقد يظهر من بعض (٢) الفرق بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ (٣) في الاستحباب وما يتلوهما في قرب التوجيه ، وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ، حيث إنّه (٤) ـ بعد نفي الإشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ (٥) في الاستحباب ـ استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ دليل على أنّ القبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما ، وقال :

كلام الوحيد البهبهاني قدس‌سره

«إنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستند إلى النصّ المذكور ، وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ، لأنّ تأويل كلامهم لم يثبت حجّيته إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته ، والفتوى والعمل به محتاج إلى مستند شرعيّ ، ومجرّد أولويّة الجمع غير صالح» (٦).

المناقشة فيها أفادة الوحيد البهبهاني

أقول ـ بعد ما ذكرنا من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاصّ وشبهه (٧) بعينه جار فيما نحن فيه ، وليس الوجه في الجمع

__________________

(١) راجع الصفحة ٨٥.

(٢) هو الوحيد البهبهاني ، كما سيأتي.

(٣) في (ظ) ونسختي بدل (ت) و (ه) بدل «النصّ» : «الصريح».

(٤) كذا في (ت) ، وفي غيرها بدل «إنّه» : «قال».

(٥) في (ظ) ، (ت) و (ه) بدل «النصّ» : «الصريح».

(٦) الرسائل الاصوليّة : ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٧) لم ترد «وشبهه» في (ظ).

٩١

شيوع التخصيص ، بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر (١) ، مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شايع على ما اعترف به سابقا ـ : ليت شعري ما الذي أراد بقوله : تأويل كلامهم لم يثبت حجّيّته إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته؟

فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء وعدم البناء على أنّه كلامهم عليهم‌السلام ، فأين كلامهم (٢) حتّى يمنع من تأويله إلاّ بدليل؟! وهل (٣) هو إلاّ طرح السند لأجل الفرار عن تأويله؟! وهو غير معقول.

وإن بنى على عدم طرحه وعلى التعبّد بصدوره ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريب من الأوّل ؛ إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ؛ إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه.

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي إذا دار الأمر بين طرح سنده ، وحمله ، وتأويله ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المتعيّن تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ، ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّة فرارا عن تأويله. وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء الله (٤).

__________________

(١) في (ه) زيادة : «كما مرّ».

(٢) لم ترد «فأين كلامهم» في (ظ).

(٣) في (ت) بدل «وهل» : «وليس» ، وفي (ه) بدلها : «فليس» ، وفي (ظ) : «فهل».

(٤) انظر الصفحة ١٣٧.

٩٢

[المرجّحات في الدلالة](١)

فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر.

الأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين وقد تكون بملاحظة نوعهما

والأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة ، وهذا لا يدخل تحت ضابطة.

وقد تكون بملاحظة نوع المتعارضين ، كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان (٢) ، فيقع الكلام في ترجيح المفهوم على العموم. وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ ، والتخصيص والتقييد.

وقد تكون باعتبار الصنف ، كترجيح أحد العامّين أو المطلقين على الآخر لبعد التخصيص أو التقييد فيه.

المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين

ولنشر إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل :

منها : لا إشكال في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «كتعارض مفهوم : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) ومنطوق عموم : (خلق الله الماء طهورا)». الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢ ، و ١ : ١٠١ ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩.

٩٣

ترجيح التخصيص على النسخ

التشريع في استمراره باستمرار الشريعة ، على ظهور العامّ في العموم الأفراديّ ، ويعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العامّ أو في الخاصّ. والمعروف تعليل ذلك بشيوع التخصيص وندرة النسخ.

وقد وقع الخلاف في بعض الصور ، وتمام ذلك في بحث العامّ والخاصّ من مباحث الألفاظ.

وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور.

فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ يتعيّن فيه النسخ ، وأمّا ارتكاب كون الخاصّ كاشفا عن قرينة كانت مع العامّ واختفت فهو خلاف الأصل. والكلام في علاج المتعارضين من دون التزام وجود شيء زائد عليهما.

نعم ، لو كان هناك دليل على امتناع النسخ وجب المصير إلى التخصيص مع التزام اختفاء القرينة حين العمل ، أو جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين واقعا مع مخاطبتهم بالظاهر الموجبة لعملهم بظهوره ، وبعبارة اخرى : تكليفهم ظاهرا هو العمل بالعموم.

الإشكال في تخصيص العمومات المتقدّمة بالمخصّصات المتأخّرة

ومن هنا يقع الإشكال في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام النبيّ أو الوصيّ أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام بالمخصّصات الواردة بعد ذلك بمدّة عن باقي الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فإنّه لا بدّ أن يرتكب فيها النسخ ، أو كشف الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية ، أو كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا.

٩٤

أمّا النسخ ـ فبعد توجيه وقوعه بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرادة كشف ما بيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للوصيّ عليه‌السلام عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني ـ مدفوع : بأنّ غلبة هذا النحو (١) من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ، مع أنّ الحمل على النسخ يوجب طرح ظهور كلا الخبرين في كون مضمونهما حكما مستمرّا من أوّل الشريعة إلى آخرها ، إلاّ أن يفرض المتقدّم ظاهرا في الاستمرار ، والمتأخّر غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل صدوره ، فحينئذ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخّر ، كما لا يخفى (٢). وهذا لم (٣) يحصل في كثير من الموارد بل أكثرها.

وأمّا اختفاء المخصّصات ، فيبعّده بل يحيله ـ عادة ـ عموم البلوى بها من حيث العلم والعمل ، مع إمكان دعوى العلم بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ، بل المعلوم جهلهم بها.

الأوجه في دفع الإشكال

فالأوجه هو الاحتمال الثالث ، فكما أنّ رفع مقتضى البراءة العقليّة ببيان التكليف كان على التدريج ـ كما يظهر من الأخبار والآثار ـ مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز أن يكون الحكم الظاهريّ للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرّمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات ، وإن كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك.

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «وهو كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا».

(٢) لم ترد «فحينئذ ـ إلى ـ كما لا يخفى» في (ظ).

(٣) في غير (ص) بدل «لم» : «لا».

٩٥

ودعوى : الفرق بين إخفاء (١) التكليف الفعليّ وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقليّة ، وبين إنشاء الرخصة له في فعل الحرام وترك الواجب ، ممنوعة.

غاية الأمر أنّ الأوّل من قبيل عدم البيان ، والثاني من قبيل بيان العدم ، ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة ، مع أنّ بيان العدم قد يدّعى وجوده في الكلّ ، بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة الغدير في حجّة الوداع :

«معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه» (٢).

بل يجوز أن يكون مضمون العموم والإطلاق هو الحكم الإلزاميّ وإخفاء (٣) القرينة المتضمّنة لنفي الإلزام ، فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه لا في المكلّف به.

فالحاصل : أنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار والظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل الوصيّ عليه‌السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه واطلق في كتاب الله ، وأودعه علم ذلك وغيره. وكذلك الوصيّ بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة ، وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه.

__________________

(١) في (ظ) و (ه) ونسخة بدل (ت) بدل «إخفاء» : «إمضاء».

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

(٣) في غير (ت) و (ر) : «اختفاء».

٩٦

فإن قلت : اللازم من ذلك عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات ـ بناء على اختصاص الخطاب بالمشافهين أو فرض الخطاب في غير الكتاب ـ إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها في الواقع إرادة العموم ؛ لأنّ المفروض حينئذ جواز تأخير المخصّص عن وقت العمل بالخطاب.

قلت : المستند في إثبات أصالة الحقيقة بأصالة عدم القرينة قبح الخطاب بالظاهر المجرّد وإرادة خلافه ، بضميمة أنّ الأصل الذي استقرّ عليه طريقة التخاطب هو أنّ المتكلّم لا يلقي الكلام إلاّ لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقيّ أو المجازيّ ، فإذا لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم (١) المجاز تعيّن إرادة الحقيقة فعلا ، وحينئذ فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر كان هذا كاشفا عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل لنكتة ، وأمّا إذا لم نطّلع عليه ونفيناه بالأصل فاللازم الحكم بإرادة تفهيم (٢) الظاهر فعلا (٣) من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم.

ترجيح التقييد على التخصيص عند تعارض الإطلاق والعموم

ومنها : تعارض الإطلاق والعموم ، فيتعارض تقييد المطلق وتخصيص العامّ.

ولا إشكال في ترجيح التقييد ، على ما حقّقه سلطان العلماء (٤) :

__________________

(١) لم ترد «تفهيم» في (ظ).

(٢) شطب على «تفهيم» في (ت).

(٣) لم ترد «فعلا» في (ظ).

(٤) حقّقه سلطان العلماء ١ في حاشيته على المعالم في مباحث المطلق والمقيّد ، انظر معالم الاصول (الطبعة الحجريّة) الصفحة ١٥٥ ، الحاشية المبدوّة بقوله : الجمع بين الدليلين ... الخ.

٩٧

من كونه حقيقة ؛ لأنّ الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان ، والعامّ بيان ، فعدم البيان للتقييد جزء من مقتضي الإطلاق ، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم ، فإذا دفعنا المانع عن العموم بالأصل ، والمفروض وجود المقتضي له ، ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضي للإطلاق ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي ، والعمل بالتعليقيّ موقوف على طرح التنجيزيّ ؛ لتوقّف موضوعه على عدمه ، فلو كان طرح التنجيزيّ متوقّفا على العمل بالتعليقيّ ومسبّبا عنه لزم الدور ، بل هو يتوقّف على حجّة اخرى راجحة عليه (١).

وأمّا على القول بكونه مجازا ، فالمعروف في وجه تقديم التقييد كونه أغلب من التخصيص. وفيه تأمّل (٢).

تقديم التخصيص عند تعارض العموم مع غير الإطلاق

نعم ، إذا استفيد العموم الشموليّ من دليل الحكمة كانت الإفادة غير مستندة إلى الوضع ، كمذهب السلطان في العموم البدليّ (٣).

وممّا ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات.

ومنها : تعارض العموم مع غير الإطلاق من الظواهر. والظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبته وشيوعه (٤).

__________________

(١) لم ترد «والعمل ـ إلى ـ راجحة عليه» في (ظ).

(٢) في أوثق الوسائل : ٦١٥ ، وحاشية نسخة (خ) زيادة من المصنّف ، وهي كما يلي : «وجه التأمّل : أنّ الكلام في التقييد بالمنفصل ، ولا نسلّم كونه أغلب. نعم ، دلالة ألفاظ العموم أقوى من دلالة المطلق ولو قلنا إنّها بالوضع».

(٣) راجع الهامش (٤) في الصفحة السابقة.

(٤) في غير (ص) و (ظ) : «لغلبة شيوعه».

٩٨

وقد يتأمّل في بعضها ، مثل ظهور الصيغة في الوجوب ؛ فإنّ استعمالها في الاستحباب شايع أيضا ، بل قيل بكونه مجازا مشهورا (١) ، ولم يقل ذلك في العامّ المخصّص ، فتأمّل.

تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ، والشرطيّة على الوصفيّة

ومنها : تعارض ظهور بعض ذوات المفهوم من الجمل مع بعض. والظاهر تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ، والشرطيّة على الوصفيّة.

ترجيح كلّ الاحتمالات على النسخ

ومنها : تعارض ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات ، فيدور الأمر بين النسخ وارتكاب خلاف ظاهر آخر.

والمعروف ترجيح الكلّ على النسخ ؛ لغلبتها بالنسبة إليه.

وقد يستدلّ على ذلك بقولهم عليهم‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (٢).

وفيه : أنّ الظاهر سوقه لبيان استمرار أحكام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوعا من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيامة في مقابل نسخها بدين آخر ، لا بيان استمرار أحكامه الشخصيّة إلاّ ما خرج بالدليل ، فالمراد أنّ حلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيامة ، لا أنّ الحلال من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال من قبله إلى يوم القيامة ، ليكون المراد استمرار حليّته.

وأضعف من ذلك التمسّك باستصحاب عدم النسخ في المقام ؛ لأنّ الكلام في قوّة أحد الظاهرين وضعف الآخر ، فلا وجه لملاحظة الاصول

__________________

(١) انظر المعالم : ٥٣ ، وهداية المسترشدين : ١٥٢.

(٢) الكافي ١ : ٥٨ ، الحديث ١٩ ، والوسائل ١٨ : ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

٩٩

العمليّة في هذا المقام ، مع أنّا إذا فرضنا عامّا متقدّما وخاصّا متأخّرا ، فالشكّ في تكليف المتقدّمين بالعامّ وعدم تكليفهم ، فاستصحاب الحكم السابق لا معنى له ، فيبقى ظهور الكلام في عدم النسخ معارضا بظهوره في العموم. نعم ، لا يجري في مثل العامّ المتأخّر عن الخاصّ (١).

ثمّ إنّ هذا التعارض إنّما هو مع عدم ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، وإلاّ تعيّن التخصيص.

تقديم الحقيقة على المجاز والمناقشة فيه

ومنها : ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازيّ ؛ وعبّروا عنه بتقديم الحقيقة على المجاز ، ورجّحوها عليه.

فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمر بين طرح الوضع اللفظيّ بإرادة المعنى المجازيّ وبين طرح مقتضى القرينة في الظهور المجازيّ بإرادة المعنى الحقيقيّ ، فلا أعرف له وجها ؛ لأنّ ظهور اللفظ في المعنى المجازيّ إن كان مستندا إلى قرينة لفظيّة فظهوره مستند إلى الوضع ، وإن استند إلى حال أو قرينة منفصلة قطعيّة فلا يقصر عن الوضع ، وإن كان ظنّا معتبرا فينبغي تقديمه على الظهور اللفظيّ المعارض ، كما يقدّم على ظهور اللفظ (٢) المقرون به ، إلاّ أن يفرض ظهوره ضعيفا يقوى عليه (٣) ظهور الدليل المعارض ، فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر.

__________________

(١) لم ترد «نعم ـ إلى ـ عن الخاصّ» في (ظ) ، وفي غير (ص) وردت بعد عبارة «ثمّ إنّ هذا التعارض ـ إلى ـ التخصيص».

(٢) لم ترد «المعارض كما يقدّم على ظهور اللفظ» في (ت).

(٣) في غير (ص) زيادة : «بخلاف».

١٠٠