فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-05-2
الصفحات: ٣٥٢

والثاني على عذرة مأكول اللحم (١) ـ ليس عملا بهما (٢) ؛ إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجّيّة ، كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام المفروض وجوب التعبّد بصدوره إذا لم يكن هناك قرينة صارفة ، ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما ـ المعيّن إذا كان هناك مرجّح ، والمخيّر إذا لم يكن ـ ثابت على تقدير الجمع وعدمه ، فالتعبّد بظاهره واجب ، كما أنّ التعبّد بصدور الآخر أيضا واجب.

فيدور الأمر بين عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق على التعبّد به ، ولا أولويّة للثاني.

بل قد يتخيّل العكس ؛ من حيث إنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما ترك التعبّد بسند واحد.

لكنّه فاسد ؛ من حيث إنّ ترك التعبّد بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره (٣) ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلّم ـ وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ـ ليس مخالفا للأصل ، بل التعبّد غير معقول ؛ إذ لا ظاهر حتّى يتعبّد به (٤).

__________________

(١) كما فعله الشيخ قدس‌سره في الاستبصار ٣ : ٥٦ ، ذيل الحديث ١٨٢.

(٢) في (ظ) بدل «عملا بهما» : «علاجهما».

(٣) في (ت) : «صدوره».

(٤) في (ص) ، و (ر) زيادة : «وليس مخالفا للأصل وتركا للتعبّد بما يجب التعبّد به». وفي (ظ) بدل «ما لم يثبت ـ إلى حتّى يتعبّد به» : «ما لا تعبّد بسنده ليس مخالفا للأصل وتركا للتعبّد بما يجب التعبّد به».

٢١

وممّا ذكرنا يظهر فساد توهّم : أنّه إذا عملنا بدليل حجّيّة الأمارة فيهما وقلنا بأنّ الخبرين معتبران سندا ، فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ـ كآيتين أو متواترين ـ وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما ، فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم عليه‌السلام قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين.

وتوضيح الفرق وفساد القياس : أنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند.

وبعبارة اخرى : العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر ـ بمعنى : الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ـ غير ممكن ، والممكن من هذه الامور الأربعة اثنان لا غير : إمّا الأخذ بالسندين ، وإمّا الأخذ بظاهر وسند من أحدهما ، فالسند الواحد منهما متيقّن (١) الأخذ به.

وطرح أحد الظاهرين ـ وهو ظاهر الآخر الغير المتيقّن الأخذ بسنده ـ ليس مخالفا للأصل ؛ لأنّ المخالف للأصل ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره.

فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، وأحدهما ليس حاكما على الآخر ؛ لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ، فيتعارضان.

__________________

(١) في (ت) بدل «متيقّن» : «متعيّن» ، وكذا في الموارد المشابهة الآتية.

٢٢

ومنه يظهر : فساد قياس ذلك بالنصّ الظنّيّ السند مع الظاهر ، حيث يجب (١) الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النصّ.

توضيحه : أنّ سند الظاهر لا يزاحم دلالته (٢) ـ بديهة (٣) ـ ولا سند النصّ ولا دلالته (٤) ، وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده ، وهما حاكمان (٥) على ظهوره ؛ لأنّ من آثار التعبّد به رفع اليد عن ذلك الظهور ؛ لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ.

وأضعف ممّا ذكر : توهّم قياس ذلك بما إذا كان خبر بلا معارض ، لكن ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله.

لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس ؛ إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين أمكننا العمل بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك. بل الظاهر هو الطرح ؛ لأنّ المرجع والمحكّم في الإمكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين هو العرف ، ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : «أكرم العلماء» ، و «لا تكرم العلماء». نعم ، لو فرض علمهم

__________________

(١) كذا في (د) ، وفي غيرها : «يوجب».

(٢) في (ظ) بدل «لا يزاحم دلالته» : «لا يزاحمه».

(٣) لم ترد «بديهة» في (ت) و (ظ).

(٤) في (ت) و (ص) زيادة : «أمّا دلالته فواضح ؛ إذ لا يبقى مع طرح السند مراعاة للظاهر» ، لكن كتب عليها : «نسخة».

(٥) في (ظ) : «وهو حاكم».

٢٣

بصدور كليهما حملوا أمر الآمر (١) بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف.

دليل آخر على عدم كليّة هذه القاعدة

ولأجل ما ذكرنا وقع من جماعة ـ من أجلاّء الرواة (٢) ـ السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ أحد : من أنّ كلّ دليل شرعيّ يجب العمل به مهما أمكن ؛ فلو لم يفهموا عدم الإمكان في المتعارضين لم يبق وجه للتحيّر الموجب للسؤال. مع أنّه لم يقع (٣) الجواب في شيء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معا. وحمل مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة.

مخالفة هذه القاعدة للإجماع

وهذا دليل آخر على عدم كلّيّة هذه القاعدة.

هذا كلّه ، مضافا إلى مخالفتها للإجماع ؛ فإنّ علماء الإسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثمّ اختيار أحدهما وطرح الآخر من دون تأويلهما معا لأجل الجمع.

رجوعّ إلى كلام عوالي اللآلي

وأمّا ما تقدّم من عوالي اللآلي (٤) ، فليس نصّا ، بل ولا ظاهرا في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيح والتخيير ؛ فإنّ الظاهر من الإمكان في قوله : «فإن أمكنك التوفيق بينهما» ، هو الإمكان العرفيّ ، في

__________________

(١) في (ه) بدل «أمر الآمر» : «الأمر».

(٢) انظر الصفحة ٥٧ ـ ٦٧.

(٣) يبدو أنّ هذا هو مراده من النصّ الذي أشار إليه في الصفحة ٢٠ ، بقوله : «بل الدليل على خلافه من الإجماع والنصّ».

(٤) تقدّم في الصفحة ١٩.

٢٤

مقابل الامتناع العرفيّ بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف حمل العامّ والمطلق على الخاصّ والمقيّد.

ويؤيّده قوله أخيرا : «فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث» ؛ فإنّ مورد عدم التمكّن ـ ولو بعيدا (١) ـ نادر جدّا.

وبالجملة : فلا يظنّ بصاحب العوالي ولا بمن هو دونه أن يقتصر في الترجيح على موارد لا يمكن تأويل كليهما ، فضلا عن دعواه الإجماع على ذلك.

أقسام الجمع

والتحقيق الذي عليه أهله : أنّ الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما يكون متوقّفا على تأويلهما معا.

والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن.

والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لا بعينه.

أمّا الأوّل ، فهو الذي تقدّم (٢) أنّه مخالف للدليل والنصّ والإجماع.

وأمّا الثاني ، فهو تعارض النصّ والظاهر ، الذي تقدّم (٣) أنّه ليس بتعارض في الحقيقة.

تعارض الظاهرين

وأمّا الثالث ، فمن أمثلته (٤) : العامّ والخاصّ من وجه ، حيث يحصل

__________________

(١) «ولو بعيدا» من (ظ).

(٢) راجع الصفحة ٢٠.

(٣) راجع الصفحة ١٦.

(٤) في (ظ) بدل «فمن أمثلته» : «فمثاله».

٢٥

الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره. ومثل قوله : «اغتسل يوم الجمعة» ، بناء على أنّ ظاهر الصيغة الوجوب. وقوله : «ينبغي غسل الجمعة» ، بناء على ظهور هذه المادّة في الاستحباب ، فإنّ الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما.

لو كان لأحد الظاهرين مزيّة على الآخر

وحينئذ ، فإن كان لأحد الظاهرين مزيّة وقوّة على الآخر ـ بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ، نحو رأيت أسدا يرمي (١) ، أو اتّصلا في كلامين لمتكلّم واحد ، تعيّن العمل بالأظهر وصرف الظاهر إلى ما لا يخالفه ـ كان حكم هذا حكم القسم الثاني ، في أنّه إذا تعبّدنا (٢) بصدور الأظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس.

نعم ، الفرق بينه وبين القسم الثاني : أنّ التعبّد بصدور النصّ لا يمكن إلاّ بكونه صارفا عن الظاهر ، ولا معنى له غير ذلك ؛ ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه بين طرح دلالة الظاهر وطرح سند النصّ ، وفيما نحن فيه يمكن التعبّد بصدور الأظهر وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ؛ لأنّ كلا من الظهورين مستند إلى أصالة الحقيقة ، إلاّ أنّ العرف يرجّحون أحد الظهورين على الآخر ، فالتعارض موجود والترجيح بالعرف بخلاف النصّ والظاهر (٣).

__________________

(١) لم ترد «نحو رأيت أسدا يرمي» في (ظ).

(٢) في (ت) ، (ه) و (ص) بدل «تعبّدنا» : «تعبّد».

(٣) هنا حاشية من المصنّف ذكرت في (خ) و (ف) ، وهي كما يلي : «نعم ، بعد إحراز الترجيح العرفي للأظهر يصير كالنصّ ويعامل معه معاملة الحاكم ؛ لأنّه يمكن أن يصير قرينة للظاهر ، ولا يصلح الظاهر أن يكون قرينة له ، بل لو اريد التصرّف فيه احتاج إلى قرينة من الخارج ، والأصل عدمها».

٢٦

لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّة على الآخر

وأمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّة على الآخر ، فالظاهر أنّ الدليل المتقدّم (١) في الجمع ـ وهو ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور ـ غير جار هنا ؛ إذ لو جمع بينهما وحكم باعتبار سندهما وبأنّ أحدهما لا بعينه مؤوّل لم يترتّب على ذلك أزيد من الأخذ بظاهر أحدهما (٢) ، إمّا من باب عروض الإجمال لهما بتساقط أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ؛ لأجل التعارض ، فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما ، وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة ، على أضعف الوجهين في حكم (٣) تعارض الأحوال إذا تكافأت. وعلى كلّ تقدير يجب طرح أحدهما.

نعم ، يظهر الثمرة في إعمال المرجّحات السنديّة في هذا القسم ؛ إذ على العمل بقاعدة (٤) «الجمع» يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ، بخلاف ما إذا أدرجناه في ما لا يمكن الجمع ، فإنّه يرجع فيه إلى المرجّحات ، وقد عرفت : أنّ هذا هو الأقوى ، وأنّه (٥) لا محصّل للعمل بهما على أن يكونا مجملين ويرجع إلى الأصل الموافق

__________________

(١) إشارة إلى ما ذكره قبل سطور بقوله : «إذا تعبّدنا بصدور الأظهر يصير قرينة صارفة للظاهر».

(٢) في (ص) بدل «بظاهر أحدهما» : «بأحدهما».

(٣) لم ترد «حكم» في (ر).

(٤) في (ت) ، (ر) و (ه) بدل «العمل بقاعدة» : «إعمال قاعدة».

(٥) في (ظ) بدل «وقد عرفت أنّ هذا هو الأقوى وأنّه» : «والظاهر أنّ حكمه حكم القسم الأوّل إذ».

٢٧

لأحدهما (١).

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه : أنّ الظاهر من العرف دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات.

لكن يوهنه : أنّ اللازم حينئذ بعد فقد المرجّحات التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ، مع أنّ الظاهر من سيرة العلماء ـ عدا ما سيجيء من الشيخ (٢) رحمه‌الله في العدّة والاستبصار ـ في مقام الاستنباط التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما.

إلاّ أن يقال : إنّ هذا من باب الترجيح بالأصل ، فيعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما ، ومع مخالفتهما للأصل فاللازم التخيير على كلّ تقدير ، غاية الأمر أنّ التخيير شرعيّ إن قلنا بدخولهما في عموم الأخبار ، وعقليّ (٣) إن لم نقل.

تفصيل في الظاهرين المتعارضين

وقد يفصّل بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين مورد سليم عن المعارض ، كالعامّين من وجه ؛ حيث إنّ مادّة الافتراق في كلّ منهما سليمة عن المعارض ، وبين غيره ، كقوله : «اغتسل للجمعة» ، و «ينبغي غسل الجمعة» ، فيرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ؛ لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ، فيستبعد الطرح في مادّة الاجتماع ، بخلاف

__________________

(١) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة ، كتب عليها «نسخة» وهي : «ليكون حاصل الأمر بالتعبّد بهما ترك الجمع بينهما والأخذ بالأصل المطابق لأحدهما».

(٢) انظر الصفحة ٨٢ ـ ٨٤.

(٣) في (ظ) زيادة : «على القول به في مخالفي الأصل» ، وكتب عليها في (ص) : «نسخة».

٢٨

الثاني (١). وسيجيء تتمّة الكلام إن شاء الله تعالى (٢).

ما فرّعه الشهيد الثاني على قاعدة «الجمع»

بقي في المقام : أنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله فرّع في تمهيده على قضيّة أولويّة الجمع ، الحكم بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أو لا يد لأحدهما ، وأقاما بيّنة (٣) ، انتهى المحكيّ عنه.

ولو خصّ المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله (٤) ، وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن مناقشة يظهر بالتأمّل.

وكيف كان ، فالأولى التمثيل بها وبما أشبهها ، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح.

وكيف كان ، فالكلام في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني العمل بكلّ من الدليلين في بعض مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين ؛ لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب. ومثل هذا غير جار (٥) في أدلّة الأحكام الشرعيّة.

والتحقيق : أنّ العمل بالدليلين ، بمعنى الحركة والسكون على طبق مدلولهما ، غير ممكن مطلقا ، فلا بدّ ـ على القول بعموم القضيّة المشهورة ـ من العمل على وجه يكون فيه جمع بينهما من جهة وإن كان طرحا من

__________________

(١) لم ترد «وقد يفصّل ـ إلى ـ بخلاف الثاني» في (ظ) ، وورد بدله : «وهذا أظهر».

(٢) انظر الصفحة ٨٧ ـ ٨٩.

(٣) تمهيد القواعد : ٢٨٤.

(٤) انظر القوانين ٢ : ٢٧٩.

(٥) في (ظ) بدل «جار» : «جائز».

٢٩

جهة اخرى ، في مقابل طرح أحدهما رأسا.

والجمع في أدلّة الأحكام عندهم ، بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما وإن كان فيه طرح لهما من حيث ظاهرهما.

إمكان الجمع بين البيّنات بالتبعيض

وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يمكن ذلك ؛ لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ، فهي بمنزلة النصّين المتعارضين ، انحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق ، بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخبر به.

فمن أخبر بأنّ هذه الدار كلّها لزيد نصدّقه في نصف الدار. وكذا من شهد بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحا كذا ومعيبا كذا نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه منضمّا إلى نصفه الآخر نصف القيمة.

عدم إمكان الجمع بالتبعيض في تعارض الأخبار

وهذا النحو غير ممكن في الأخبار ؛ لأنّ مضمون خبر العادل ـ أعني : صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه‌السلام ـ غير قابل للتبعيض ، بل هو نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة أو النسب.

نعم قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل إذا كان كلّ من الدليلين عامّا ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الآخر في بعضها ، فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم ، فيما إذا ورد : «أكرم العلماء» ، وورد أيضا : «أهن العلماء» ، سواء كانا نصّين بحيث لا يمكن التجوّز في أحدهما ، أو ظاهرين فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز وعلى طريق التبعيض.

إلاّ أنّ المخالفة القطعية في الأحكام الشرعيّة لا ترتكب في واقعة واحدة ؛ لأنّ الحقّ فيها للشارع ولا يرضى بالمعصية القطعيّة مقدّمة للعلم بالإطاعة ، فيجب اختيار أحدهما وطرح الآخر ، بخلاف حقوق الناس ؛

٣٠

فإنّ الحقّ فيها لمتعدّد ، فالعمل بالبعض في كلّ منهما جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ، فهو أولى من الإهمال الكلّي لأحدهما وتفويض تعيين ذلك إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة الغير المنضبطة في الموارد. ولأجل هذا يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف ، وقد وقع التعبّد به في بعض النصوص (١) أيضا.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم ـ من تأويل كليهما ـ لا أولويّة له أصلا على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس.

الجمع بين البيّنات في حقوق الناس

وأمّا الجمع بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولويّة فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجّيّة البيّنة ؛ لأنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما في تمام مضمونه ، فلا فرق في مخالفتها (٢) بين الأخذ لا بكلّ منهما بل بأحدهما ، أو بكلّ منهما لا في تمام مضمونه بل في بعضه ، إلاّ أنّ ما ذكرناه (٣) من الاعتبار لعلّه يكون مرجّحا للثاني على الأوّل.

ويؤيّده : ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني (٤) ـ المعمول بها ـ في من أودعه رجل درهمين وآخر درهما (٥) ،

__________________

(١) المقصود منه رواية السكوني الآتية بعد سطور.

(٢) في غير (ظ) : «مخالفتهما».

(٣) في (ر) : «ذكر».

(٤) الوسائل ١٣ : ١٧١ ، الباب ١٢ من أحكام الصلح ، الحديث الأوّل.

(٥) في (المصدر) بدل «درهمين ودرهم» : «دينارين ودينار».

٣١

فامتزجا بغير تفريط وتلف أحدها.

الأصل في تعارض البيّنات هي القرعة

هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هي القرعة. نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين. وكذا الكلام في عموم مورد (١) القرعة أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عمليّ ـ كأصالة الطهارة ـ مع إحدى البيّنتين. وللكلام مورد آخر (٢).

الكلام في أحكام التعارض في مقامين

فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير ، فلا بدّ من الكلام في المقامين اللذين ذكرنا (٣) أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول (٤) :

إنّ المتعارضين ، إمّا أن لا يكون مع أحدهما مرجّح فيكونان متكافئين متعادلين ، وإمّا أن يكون مع أحدهما مرجّح (٥).

__________________

(١) في غير (ت) : «موارد».

(٢) انظر مبحث القرعة في عوائد الأيّام : ٦٣٩ ـ ٦٦٩ ، والعناوين ١ : ٣٥٢ ـ ٣٦٠.

(٣) راجع الصفحة ١٩.

(٤) في (ظ) بدل «حيث تبيّن ـ إلى ـ فنقول» : «هذا تمام الكلام في عدم تقدّم الجمع على الترجيح ، وأمّا على التخيير فلا بدّ من الكلام في مقامين ؛ لأنّا ذكرنا أنّ المتعارضين ...».

(٥) لم ترد «إنّ المتعارضين ـ إلى ـ مرجّح» في (ر) و (ص).

٣٢

المقام الأوّل

في المتكافئين

والكلام فيه :

ما هو مقتضى الأصل الأوّلي في المتكافئين؟

أوّلا : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقط وفرضهما كأن لم يكونا ، أو لا؟

ثمّ اللازم بعد عدم التساقط : الاحتياط ، أو التخيير ، أو التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما دون المخالف لهما ؛ لأنّه معنى تساقطهما؟

كلام السيّد المجاهد في أنّ مقتضى الأصل هو التساقط

فنقول ـ وبالله المستعان ـ :

قد يقال ، بل قيل : إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّية أحدهما (١) ؛ لأنّ دليل الحجّية مختصّ بغير صورة التعارض (٢) :

أمّا إذا كان إجماعا ؛ فلاختصاصه بغير المتعارضين ، وليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم (٣).

__________________

(١) قاله السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٨٣ ، وكذا بعض العامّة كما في المعالم : ٢٥٠.

(٢) هذا ما استدلّ به السيد المجاهد.

(٣) في (ت) ، (ه) و (ظ) زيادة : «ليكون مدّعي الاختصاص محتاجا إلى المخصّص والمقيّد».

٣٣

وأمّا إذا كان لفظا ؛ فلعدم إمكان إرادة المتعارضين من عموم ذلك اللفظ ؛ لأنّه يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر ـ مثلا ـ ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين ممتنع ، والعمل بكلّ منهما تخييرا لا يدلّ عليه الكلام (١) ؛ إذ لا يجوز إرادة الوجوب العينيّ بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييريّ بالنسبة إلى المتعارضين ، من لفظ واحد. وأمّا العمل بأحدهما الكلّيّ عينا فليس من أفراد العامّ ؛ لأنّ أفراده هي المشخّصات (٢) الخارجيّة ، وليس الواحد على البدل فردا آخر ، بل هو عنوان منتزع منها غير محكوم بحكم نفس المشخّصات بعد الحكم بوجوب العمل بها عينا.

المناقشة فيما أفاده السيّد المجاهد

هذا ، لكن ما ذكره ـ من الفرق بين الإجماع والدليل اللفظيّ ـ لا محصّل ولا ثمرة له فيما نحن فيه (٣) ؛ لأنّ المفروض قيام الإجماع على

__________________

(١) في (ص) بدل «يدلّ عليه الكلام» : «لا دليل عليه».

(٢) في (ظ) : «المتشخّصات» ، وكذا في الموارد المشابهة الآتية.

(٣) لم ترد «هذا ، لكن ـ إلى ـ فيما نحن فيه» في (ظ) ، وورد بدلها ما يلي : «والإنصاف أنّ ما ذكر مغالطة ، أمّا دعوى اختصاص الإجماع بغير المتعارضين ؛ فلأنّه إنّ اريد أنّ وجوب العمل بكلّ منهما له مانع غير وجوب العمل بالآخر ، فهذا خلاف الفرض ؛ لأنّ المفروض باعتراف الطرفين أنّ المانع عن العمل هو وجود المعارض الواجب العمل في نفسه. وإن اريد أنّ وجوب العمل بكل منهما مانع عن وجوب العمل بالآخر ، ففيه : أنّه لا فرق بين الدليل العام على وجوب العمل بالمتعارضين ، وبين قيام الإجماع عليه ، فلا معنى لدعوى أنّ المتيقن منه كذا ؛ إذ ليس هنا أمر زائد على وجوب العمل بكلّ خبر لو لا معارضة حتّى يشكّ فيه.

وأمّا ما يرى من اختصاص حجّية بعض الأمارات واشتراطها بفقد الأمارة

٣٤

أنّ كلا منهما واجب العمل لو لا المانع الشرعيّ ـ وهو وجوب العمل بالآخر ـ ؛ إذ لا نعني بالمتعارضين إلاّ ما كان كذلك ، وأمّا ما كان وجود أحدهما مانعا عن وجوب العمل بالآخر فهو خارج عن موضوع التعارض ؛ لأنّ الأمارة الممنوعة لا وجوب للعمل بها ، والأمارة المانعة إن كانت واجبة العمل تعيّن العمل بها لسلامتها عن معارضة الاخرى ، فهي بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ، وتلك لا تمنع وجوب العمل بهذه ، لا بوجودها ولا بوجوبها ، فافهم.

والغرض من هذا التطويل حسم مادّة الشبهة التي توهّمها بعضهم (١) : من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات التي ليس لها عموم لفظيّ هو حجّيّتها مع الخلوّ عن المعارض.

الأصل عدم التساقط والدليل عليه

وحيث اتّضح عدم الفرق في المقام بين كون أدلّة الأمارات من العمومات أو من قبيل الإجماع ، فنقول : إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول العموم اللفظيّ

__________________

الفلانية ـ كاشتراط حجيّة الخبر بعدم كون الشهرة على خلافه ، فيكون لعدم الشهرة مدخلا في أصل الحجيّة ـ فليس من قبيل ما نحن فيه ؛ إذ فرق بيّن بين اشتراط وجوب العمل بأمارة بعدم وجود الأمارة المخالفة فيكون غير حجّة مع وجودها ، وبين اشتراطه بعدم وجوب العمل بها فيكون وجوب العمل بكلّ منهما مانعا عن وجوب العمل بالاخرى ؛ لاستحالة إيجاب العمل بالمتقابلين ، فحجيّة كلّ منهما بالذات ثابتة ، لكن وجوب العمل بهما بالفعل غير ممكن ؛ لمعارضته بوجوب مخالفها.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى لا يتفاوت بكون الدليل عامّا لفظيّا أو إجماعا».

(١) هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول ، كما تقدّم في الصفحة ٣٣.

٣٥

لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ؛ لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة (١). لكن (٢) ، لمّا كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة مشروطا بالقدرة ، والمفروض أنّ كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بكلّ منهما ، بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة (٣).

وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ تعيين الآخر عليه كذلك.

والسرّ في ذلك : أنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ، لم يكن وجوب كلّ واحد منهما ثابتا بمجرّد الإمكان ، ولزم كون وجوب كلّ منهما مشروطا بعدم انضمامه مع الآخر ، وهذا خلاف

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٣٤.

(٢) في (خ) و (ف) بدل «لكن» : «بل».

(٣) وردت في (ظ) بدل «من حيث هذا ـ إلى ـ بالقدرة» العبارة التالية : «نظير شموله للواحد المعيّن ؛ لأنّ دخول أحدهما على البدل وخروج الآخر غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة ، وإنّما هو حكم عقليّ يحكم به العقل بعد ملاحظة وجوب كلّ منهما في حدّ نفسه ، بحيث لو أمكن الجمع بينهما وجب كلاهما ؛ لبقاء المصلحة في كلّ منهما ، غاية الأمر أنّه يفوته إحدى المصلحتين ويدرك الاخرى».

٣٦

ما فرضنا : من عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال (١) بأزيد من الإمكان ، سواء كان وجوب كلّ منهما بأمر (٢) ، أو كان بأمر واحد يشمل الواجبين. وليس التخيير في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير (٣) ـ كما توهّم (٤) ـ بل من جهة ما عرفت (٥).

والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشيء واحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقليّ والشرعي (٦) ، وإذا أمر بشيئين واتفق امتناع إيجادهما في الخارج استقلّ بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه ؛ لأنّها ممكنة ، فيقبح تركها.

مقتضى الأصل التخيير بناء على السببيّة

لكن ، هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة ، بأن يكون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا ، سببا شرعيّا لوجوبه ظاهرا على المكلّف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببيّة فيه لإعمال الآخر ، كما في كلّ واجبين متزاحمين.

__________________

(١) لم ترد «في مقام الامتثال» في (ظ).

(٢) في غير (ر) و (ص) : «بأمرين».

(٣) في (ظ) زيادة : «ولا في القسم الثاني بالعموم اللفظي» ، كما أنّه وردت عبارة «سواء كان ـ إلى ـ في التخيير» في (ظ) قبل عبارة «والسرّ في ذلك ـ إلى ـ بأزيد من الإمكان».

(٤) في نسخة بدل (ص) : «كما يتوهّم».

(٥) عبارة «كما توهّم ، بل من جهة ما عرفت» من (ت) ، (ه) ونسخة بدل (ص).

(٦) لم ترد «بشرط عدم المانع العقلي والشرعي» في (ظ).

٣٧

أمّا لو جعلناه من باب الطريقيّة ـ كما هو ظاهر أدلّة حجّيّة الأخبار بل غيرها من الأمارات ـ بمعنى : أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ؛ لغلبة إيصاله إلى الواقع (١) ، فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ؛ للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معا ؛ لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعا ، فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض ـ محالا ـ إمكان العمل بهما ، كما يعلم إرادته لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع.

مثلا : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر غالب الإيصال إلى الواقع ، فأمر بالعمل به في جميع الموارد ؛ لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره ، فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجّيّة لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما ، بحيث لو أمكن الجمع بينهما أراد الشارع إدراك المصلحتين ، بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّد بعدم معارضته بمثله.

مقتضى الأصل التوقّف بناء على الطريقيّة

ومن هنا ، يتّجه الحكم حينئذ بالتوقّف ، لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعا طريق ولا نعلمه بعينه ـ كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ـ بل بمعنى أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤدّاه بخصوصه.

ومقتضاه : الرجوع إلى الاصول العمليّة إن لم نرجّح (٢) بالأصل الخبر المطابق له ، وإن قلنا بأنّه مرجّح خرج عن مورد الكلام ـ أعني التكافؤ ـ ، فلا بدّ من فرض الكلام فيما لم يكن هناك أصل

__________________

(١) لم ترد «لغلبة إيصاله إلى الواقع» في (ظ).

(٢) كذا في (ص) ، وفي غيره : «يرجّح».

٣٨

مع أحدهما ، فيتساقطان من حيث جواز العمل بكلّ منهما ؛ لعدم كونهما طريقين ، كما أنّ التخيير مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل.

مقتضى الأخبار عدم التساقط

هذا ما تقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة (١) ، إلاّ أنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة (٢) قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح (٣).

ما هو الحكم بناء على عدم التساقط؟

وحينئذ فهل يحكم بالتخيير ، أو العمل بما طابق منهما الاحتياط ، أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما ، كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ، وكذا بين القصر والإتمام؟ وجوه :

المشهور هو التخيير للأخبار المستفيضة الدالّة على التخيير

المشهور ـ وهو الذي عليه جمهور المجتهدين (٤) ـ الأوّل ؛ للأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الدالّة عليه (٥).

__________________

(١) لم ترد «بخصوصه ـ إلى ـ من حيث الطريقيّة» في (ظ) ، ووردت بدلها العبارة التالية : «فيتساقطان من حيث وجوب العمل ، كما أنّ التخيير مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل. هذا ما تقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ، ومقتضاه الرجوع إلى الاصول العمليّة إن لم يرجّح بالأصل الخبر المطابق له».

(٢) سيأتي ذكرها في الصفحة ٥٧ ـ ٦٧.

(٣) في (ت) زيادة : «فلذا لم نحكم بالتساقط».

(٤) انظر الاستبصار ١ : ٤ و ٥ ، والمعارج : ١٥٦ ، ومبادئ الوصول : ٢٣٣ ، والمعالم : ٢٥٠ ، والفصول : ٤٥٤ ، والقوانين ٢ : ٢٨٣ ، ومناهج الأحكام : ٣١٧.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ و ٤٤.

٣٩

ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية (١) ـ المحكيّة عن عوالي اللآلي ـ الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة.

وهي ضعيفة جدّا ، وقد طعن في ذلك التأليف (٢) وفي مؤلّفه ، المحدّث البحراني قدس‌سره في مقدّمات الحدائق (٣).

أخبار التوقّف والجواب عنها

وأمّا أخبار التوقّف الدالّة على الوجه الثالث ـ من حيث إنّ التوقّف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في ما لا نصّ فيه ـ فهي محمولة على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، كما يظهر من بعضها. فيظهر منها : أنّ المراد ترك العمل وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام ، لا العمل بها بالاحتياط.

ثمّ إنّ حكم الشارع في تلك الأخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين لا يدلّ على كون حجّيّة الأخبار من باب السببيّة بتوهّم أنه لو لا ذلك (٤) لأوجب التوقّف ؛ لقوّة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريّا عمليّا في مورد التوقّف ، لا حكما واقعيّا ناشئا من تزاحم الواجبين ، بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها أصدق شاهد على ما استظهرناه : من كون حجّيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح. ومراد من جعلها من باب السببيّة (٥) عدم إناطتها بالظنّ الشخصيّ ، كما يظهر (٦)

__________________

(١) تأتي في الصفحة ٦٢.

(٢) لم ترد «التأليف» في (ظ).

(٣) الحدائق ١ : ٩٩.

(٤) كذا في (ص) ومصححة (ه) ، وفي غيرهما بدل «بتوهّم أنّه لو لا ذلك» : «وإلاّ».

(٥) كذا في (ص) ، وفي غيرها بدل «السببيّة» : «الأسباب».

(٦) كذا في النسخ ، والمناسب : «كما تظهر» ؛ لرجوع الضمير إلى الإناطة.

٤٠