فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

المثال ، فاختصّ الاستصحاب المفيد للظنّ بما كان الشكّ فيه غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ، فافهم ؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ويشهد لما ذكرنا : أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب في امور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات إلى هذا الاستصحاب أبدا ، ولو نبّههم أحد لم يعتنوا ، فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ، ويصحّحون معاملة وكلائه ، ويؤدّون عنه فطرته إذا كان عيالهم ، إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب.

ظهور الخلاف في المسألة عن جماعة

ثمّ إنّه يظهر الخلاف في المسألة من جماعة ، منهم : الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة في بعض أقواله ، وجماعة من متأخّري المتأخّرين (١).

فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يعلم خبره (٢).

واستحسنه المحقّق في المعتبر (٣) ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء ، بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ، وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفّارة ، بالمنع عن الأصل تارة ، والفرق بينهما اخرى.

وقد صرّح في اصول المعتبر (٤) بأنّ استصحاب الطهارة عند الشكّ في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة

__________________

(١) سيأتي ذكرهم في الصفحة ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) المبسوط ١ : ٢٣٩.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٩٨.

(٤) المعتبر ١ : ٣٢.

٤٠١

المستصحبة. وقد عرفت (١) أنّ المنصوص في صحيحة زرارة العمل باستصحاب الطهارة على وجه يظهر منه خلوّه عن المعارض ، وعدم جريان استصحاب الاشتغال.

وحكي عن العلاّمة ـ في بعض كتبه (٢) ـ الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرمي ، لكنّه اختار في غير واحد من كتبه (٣) الحكم بنجاسة الماء ، وتبعه عليه الشهيدان (٤) وغيرهما (٥). وهو المختار ؛ بناء على ما عرفت تحقيقه (٦) ، وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي منها انفعال الماء الملاقي له.

نعم ربما قيل (٧) : إنّ تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية فلا يوجب تنجيس الملاقي ، وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتّجه الحكم بالتنجيس.

ومرجع الأوّل إلى كون حرمة الصيد مع الشكّ في التذكية للتعبّد ؛

__________________

(١) راجع الصفحة ٥٨١.

(٢) انظر التحرير : ٦ ، وحكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١٣٣.

(٣) انظر قواعد الأحكام ١ : ١٩٠ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٥٦ ، والمنتهى ١ : ١٧٣.

(٤) انظر الذكرى ١ : ١٠٦ ، والبيان : ١٠٣ ، وتمهيد القواعد : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(٥) مثل فخر الدين في الإيضاح ١ : ٢٥ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٣٧٩.

(٦) من تقدّم الاستصحاب في الشكّ السببيّ ، راجع الصفحة ٣٩٤.

(٧) القائل هو المحقّق الثاني في جامع المقاصد ١ : ١٥٦.

٤٠٢

من جهة الأخبار المعلّلة (١) لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بالتذكية (٢). وهو حسن لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلاّ حرمة الأكل ، ولا أظنّ أحدا يلتزمه ، مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ؛ ولذا استفيد بعض ما يعتبر في التذكية من النهي عن الأكل بدونه (٣).

تصريح بعضهم بالجمع بين الاستصحابين «السببي والمسبّبي»

ثمّ إنّ بعض من يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام (٤) صرّح بالجمع بينهما ، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا.

عدم صحّة الجمع

ويرد عليه : أنّه لا وجه (٥) للجمع في مثل هذين الاستصحابين ؛ فإنّ الحكم بطهارة الماء إن كان بمعنى ترتيب آثار الطهارة من رفع الحدث والخبث به ، فلا ريب أنّ نسبة استصحاب بقاء الحدث والخبث إلى استصحاب طهارة الماء ، بعينها نسبة استصحاب طهارة الماء إلى استصحاب عدم التذكية. وكذا الحكم بموت الصيد ، فإنّه إن كان بمعنى انفعال الملاقي له بعد ذلك والمنع عن استصحابه في الصلاة ، فلا ريب أنّ استصحاب طهارة الملاقي واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق

__________________

(١) انظر الوسائل ١٦ : ٢١٥ ، الباب ٥ من أبواب الصيد ، الحديث ٢.

(٢) كذا في (ت) ، وفي غيره : «بتذكيته».

(٣) كالتسمية ، لما ورد من النهي عن الأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه في سورة الأنعام : ١٢١.

(٤) كالعلاّمة في بعض كتبه كما تقدّم ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد ١ : ١٥٦ ، والسيد الصدر في شرح الوافية (مخطوط) : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٥) في (ر) ، (ظ) ونسخة بدل (ص): «لا معنى».

٤٠٣

روحه ، نسبتهما إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في الإيضاح ـ تقريبا للجمع بين الأصلين ـ في الصيد الواقع في الماء القليل ، من أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء ، وحلّ الصيد ، ولأصالة الموت حكمان : لحوق أحكام الميتة للصيد ، ونجاسة الماء ، فيعمل بكلّ من الأصلين في نفسه لأصالته (١) ، دون الآخر لفرعيّته فيه (٢) ، انتهى.

وليت شعري! هل نجاسة الماء إلاّ من أحكام الميتة؟ فأين الأصالة والفرعيّة؟

وتبعه في ذلك بعض من عاصرناه (٣) ، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه. ويظهر ضعف ذلك ممّا تقدّم (٤).

وأضعف من ذلك حكمه في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض ، بطهارة الأرض ؛ إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس (٥).

وليت شعري! إذا لم يكن النجس بالاستصحاب منجّسا ، ولا الطاهر به مطهّرا ، فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعيّ عليه ؛ لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ، فأيّ فائدة في الاستصحاب؟!

__________________

(١) في المصدر زيادة : «فيه».

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٢٤ و ٢٥.

(٣) هو المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٧٦ و ٧٩.

(٤) في الصفحة السابقة.

(٥) القوانين ٢ : ٧٩.

٤٠٤

قال في الوافية في شرائط الاستصحاب :

الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب. مثلا : إذا ثبت في الشرع أنّ الحكم بكون الحيوان ميتة يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع ذلك الحيوان فيه ، فلا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء ولا نجاسة الحيوان ، في مسألة : «من رمى صيدا فغاب ، ثمّ وجده في ماء قليل ، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء». وأنكر بعض الأصحاب (١) ثبوت هذا التلازم وحكم بكلا الأصلين : بنجاسة الصيد ، وطهارة الماء (٢) ، انتهى.

دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعيّ على الحكميّ

ثمّ اعلم : أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين (٣) عن الشيخ علي في حاشية الروضة : دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعيّ على الحكميّ.

ولعلّها مستنبطة حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ، فلا يعارض أحد استصحاب كرّية الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به ، ولا استصحاب القلّة باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ، ولا استصحاب حياة الموكّل باستصحاب فساد تصرّفات وكيله.

المناقشة في دعوى الإجماع

لكنّك قد عرفت فيما تقدّم (٤) من الشيخ والمحقّق خلاف ذلك.

هذا ، مع أنّ الاستصحاب في الشكّ السببيّ دائما من قبيل

__________________

(١) كفخر الدين والمحقق الثاني وغيرهما ، كما تقدّم.

(٢) الوافية : ٢١٠.

(٣) هو شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٣٨٦.

(٤) راجع الصفحة ٤٠١.

٤٠٥

الموضوعيّ بالنسبة إلى الآخر ؛ لأنّ زوال المستصحب (١) الآخر من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببيّ ، فهو له من قبيل الموضوع للحكم ، فإنّ طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليه زوال النجاسة عن المغسول به ، وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب كرّيّته؟

هذا كلّه فيما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر.

وأمّا القسم الثاني :

إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث

وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ، فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشكّ في تعيينه :

صور المسألة

فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عمليّة لذلك العلم الإجماليّ ـ كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين ـ وإمّا أن لا يكون.

وعلى الثاني : فإمّا أن يقوم دليل من الخارج (٢) على عدم الجمع ـ كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ؛ حيث قام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين ـ أو لا.

وعلى الثاني : إمّا أن يترتّب أثر شرعيّ على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ـ كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في من

__________________

(١) في (ت) ، (ص) و (ظ) زيادة : «بالاستصحاب» ، وكتب فوقه في (ت) : «نسخة».

(٢) في (ظ) بدل «من الخارج» : «عقلي أو نقلي».

٤٠٦

توضّأ غافلا بمائع مردّد بين الماء والبول ، ومثله استصحاب طهارة كلّ (١) من واجدي المنيّ في الثوب المشترك ـ وإمّا أن يترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية.

١ و ٢ ـ لو كان العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عمليّة أو قام الدليل على عدم الجمع بينهما

فهناك صور أربع :

أمّا الأوليان ، فيحكم فيهما بالتساقط ، دون الترجيح والتخيير (٢) ،

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي (ه) بدل «كلّ» : «المحل في كلّ واحد» ، وفي (ر) : «المحل» ، وفي (ت): «المحل في واحد».

(٢) لم ترد «كما في الماء النجس ـ إلى ـ والتخيير» في (ظ) ، وكتب عليها في (ص): «خ» ، وورد بدلها في (ظ) ما يلي : «أو لا ، فالأوّلان يحكم فيهما بالتساقط ، والثالث يحكم فيه بالجمع ، كما إذا شكّ في تعيين السابق موتا من زيد وعمرو الحيّين ، أو شكّ في تعيين الباقي من النجاسة والطهارة في الماء النجس المتمّم كرّا بطاهر ، أو شكّ في تعيين النجس من أحد الإنائين المعلوم طروّ النجاسة على أحدهما. والأقوى في هذا هو التساقط وفرض الأصلين كأن لم يكونا ، سواء كان مع أحدهما مرجّح أم لا ، فليس في تعارض الاستصحابين الترجيح ولا التخيير بعد فقد المرجّح ، بل الحكم من أوّل الأمر طرحهما. نعم ، هذا كلّه إذا لم يمكن الجمع بينهما ، بأن يكون الجمع مستلزما لمخالفة تكليف معلوم ، أمّا إذا لم يكن كذلك وجب الجمع بكليهما ، إن ترتّب على كلّ من المستصحبين أثر شرعي ، وإلاّ اختصّ العمل بما له الأثر ؛ لأنّ مرجع الاستصحاب إلى ترتيب الآثار. فهنا صور ثلاث : الاولى : ما يحكم فيه بالتساقط ، وهو كلّ مقام يمكن فيه الجمع للعلم بوجود تكليف ينافيه ، أو قام على عدم الجمع دليل عقليّ ، كما في اشتباه المتقدّم والمتأخّر ، أو نقلي كما في الماء المتمّم كرّا».

٤٠٧

فهنا دعويان :

هنا دعويان:

١ – عدم الترجيح

الاولى : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات خلافا لجماعة (١). قال في محكيّ تمهيد القواعد :

إذا تعارض أصلان عمل بالأرجح منهما ؛ لاعتضاده بما يرجّحه ، فإن تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا. ثمّ مثّل له بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء (٢) ... إلى آخر ما ذكره.

وصرّح بذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين (٣).

الدليل على عدم الترجيح

والحقّ على المختار ـ من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ـ : هو عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة ؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهريّ ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعيّ لا يجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهريّ ؛ لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتّى يوجب اعتضاده.

وبالجملة : فالمرجّحات الاجتهاديّة غير موافقة في المضمون للاصول حتّى تعاضدها. وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فلا يرجّح بعضها على بعض لموافقة الاصول التعبّديّة.

نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعيّ أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة ؛ بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في

__________________

(١) انظر الهامش ٣.

(٢) تمهيد القواعد : ٢٨٨ و ٢٨٩.

(٣) مثل المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٧٥ ، وشريف العلماء في تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٣٨٥ ، والفاضل التوني في الوافية : ٣٣٧.

٤٠٨

إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهاديّة ، كما ادّعاه صريحا بعضهم (١).

لكنّك عرفت ـ فيما مضى ـ عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريّا ، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعيّة ومخالفتها.

هذا كلّه مع الإغماض عمّا سيجيء (٢) : من عدم شمول «لا تنقض» للمتعارضين ، وفرض شمولها (٣) لهما من حيث الذات ، نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا ؛ لامتناع ذلك بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية ، فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلا ؛ لأنّه إنّما يكون مع التعارض وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل.

٢ ـ أنّ الحكم هو التساقط دون التخيير والدليل عليه

الثانية : أنّه إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين (٤) : من أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ؛ لعدم تناول دليل حجّيّتهما لصورة التعارض ـ لما تقرّر في باب التعارض (٥) ، من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما

__________________

(١) هو العلاّمة في النهاية في مبحث «القول بالأشبه» ، انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٣٩.

(٢) في الصفحة اللاحقة.

(٣) في (ت): «شموله».

(٤) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٨٣ ، وسيأتي تفصيله في مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ٣٣.

(٥) انظر مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ٣٧.

٤٠٩

من باب التعبّد لا من باب الطريقيّة (١) ـ بل لأنّ العلم الإجماليّ هنا بانتقاض أحد اليقينين (٢) يوجب خروجهما عن مدلول «لا تنقض» ؛ لأنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله» يدلّ على حرمة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعيّن ؛ لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح ، وأمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العامّ ؛ إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا لم يبق شيء. وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة (٣) ، وأنّ قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» لا يشمل شيئا من المشتبهين.

وربما يتوهّم : أنّ عموم دليل الاستصحاب نظير قوله : «أكرم العلماء» ، و «أنقذ كلّ غريق» ، و «اعمل بكلّ خير» ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعامّ في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن ـ وهو أحدهما تخييرا ـ وطرح الآخر ؛ لأنّ هذا غاية المقدور ، ولذا ذكرنا في باب التعارض (٤) : أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدّم لا التساقط. والاستصحاب أيضا

__________________

(١) لم ترد «إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد لا من باب الطريقيّة» في (ظ).

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما بدل «اليقينين» : «الضدّين».

(٣) راجع مبحث الاشتغال ٢ : ٢٠١ و ٢١١.

(٤) انظر مباحث التعادل والتراجيح ٤ : ٣٥ ـ ٣٧.

٤١٠

أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان ، فإذا تعذّر العمل باليقينين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحهما.

ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه. وفي ما نحن فيه ليس كذلك ؛ إذ بعد العلم الإجماليّ لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنها (١) عدم القدرة.

نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما (٢) من دون علم إجماليّ بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فإنّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهريّ مؤدّى أحدهما.

وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين ؛ لعدم العثور على مصداق له ؛ فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت (٣) أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ؛ لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم «لا تنقض» عنوان ينطبق

__________________

(١) كذا في (ت) و (ظ) ، وفي غيرهما : «عنهما».

(٢) في (ه) و (ص) بدل «امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما» : «ورد المنع تعبّدا عن الجمع بينهما».

(٣) تقدم ذلك آنفا.

٤١١

على الواحد التخييري.

وأيضا : فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العامّ فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ليكون الفرد الآخر الغير المعيّن باقيا تحت العامّ ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ، فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقليّ في الأفراد ؛ إذ لا استصحاب في الواقع حتّى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ؛ لأنّ الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاخرى.

نعم ، نظيره في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر ، بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشكّ ووجب نقض الآخر به. ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ المعلوم إجمالا في ما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين ـ لا بوصف زائد ـ وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد الاستصحابين (١) وإلغاء الآخر.

فتبيّن أنّ الخارج من عموم «لا تنقض» ليس واحدا من المتعارضين ـ لا معيّنا ولا مخيّرا ـ بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعيّ ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعيّ ، من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد أخر غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة. ولذا لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة ، وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ

__________________

(١) في (ر) و (ظ) ونسخة بدل (ص): «المستصحبين».

٤١٢

مقتضى القاعدة الرجوع إلى الاحتياط فيهما ، وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس المتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ، وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد. فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب التعبّد لا وجه له ؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجماليّ يوجب خروج جميع مجاري الاصول عن مدلول «لا تنقض» على ما عرفت (١). نعم يتّجه الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعيّ.

وأمّا الصورة الثالثة ، وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين.

٣ – لو ترتّب أثرً شرعي على كلا المستصحبين

فهو ما كان العلم الإجماليّ بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا توجب مخالفة عمليّة لحكم شرعيّ ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فإنّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجماليّ بزوال أحدهما مانعا من ذلك ؛ إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد (٢) لا يترتّب عليه حكم شرعيّ حتّى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين ، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عمليّة لحكم شرعيّ أيضا. نعم ، ربما يشكل ذلك في الشبهة الحكميّة. وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّيّة الظنّ ، عند التكلّم في حجّية العلم (٣).

__________________

(١) راجع الصفحة ٤١١.

(٢) في (ص) بدل «اليد» : «البدن».

(٣) راجع مبحث القطع ١ : ٨٤ ـ ٨٧.

٤١٣

٤ ـ لو ترتّب أثرً على أحدهما دون الآخر

وأمّا الصورة الرابعة ، وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين. فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما ممّا يكون موردا لابتلاء المكلّف دون الآخر ، بحيث لا يتوجّه على المكلّف تكليف منجّز يترتّب أثر شرعيّ عليه. وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين ؛ إذ قوله : «لا تنقض اليقين» لا يشمل اليقين الذي لا يترتّب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعيّ بحيث لا تعلّق له به أصلا ، كما إذا علم إجمالا بطروء الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك (١).

ونظير هذا كثير ، مثل : أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكّل ، إلاّ أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ، والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فإنّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل ؛ لأصالة عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا.

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ، فإنّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث إنّه سبب للإرث ووجوب النفقة والقسم. ويتّضح ذلك بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه.

ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الأخر الجارية في لوازم المشتبهين ، إلاّ أنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الامور الخارجيّة ، أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ من واجدي المنيّ فإنّه لا وجه للتساقط هنا.

__________________

(١) راجع مبحث الاشتغال ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٥.

٤١٤

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل (١) إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجماليّ معتبر في العمل ، ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة الغير المحصورة. وفي القسم الثاني (٢) إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجماليّ معتبر.

فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجماليّ ـ من عقل أو شرع أو غيرهما ـ بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر.

والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعيّة ، ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلاّ أنّ تشخيص سلامتها عن الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد ، فلا بدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ، وإلاّ فربما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم.

وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعيّ ، نظير تشخيص حجّيّة أصل الاستصحاب وعدمها. عصمنا الله وإخواننا من الزلل ، في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين ، صلوات الله عليهم أجمعين.

__________________

(١) في (ص) بدل «القسم الأوّل» : «إحدى الصورتين الاوليين» ، وفي نسخة بدلها كما أثبتنا.

(٢) في (ص): «الصورة الثالثة» ، وفي نسخة بدلها كما أثبتنا.

٤١٥
٤١٦

تمّ

الجزء الثالث

ويليه

الجزء الرابع

في

التعادل والتراجيح

٤١٧
٤١٨

العناوين العامّة

الكلام في امور................................................................. ١٣

أخبار الاستصحاب............................................................. ٥٥

الأقوال في حجّية الاستصحاب................................................... ٨٣

تنبيهات الاستصحاب......................................................... ١٩١

شرائط العمل بالاستصحاب.................................................... ٢٨٩

تعارض الاستصحاب مع سائر الأمارات والاصول................................. ٣٢٠

قاعدة الفراغ والتجاوز.......................................................... ٣٢٥

أصالة الصحّة في فعل الغير..................................................... ٣٤٥

تعارض الاستصحابين......................................................... ٣٩٣

٤١٩
٤٢٠