فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

بالمركّب على الوجه الثاني.

وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الإناء لإثبات كرّيّة (١) الباقي فيه.

ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات :

ثمرة هذه التوجيهات

فيما إذا لم يبق إلاّ قليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث دون الثاني ؛ لأنّ العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحة ؛ لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم والحكم له.

وفيما لو كان المفقود شرطا ، فإنّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ويجري على الأخيرين.

الصحيح من هذه التوجيهات

وحيث (٢) إنّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء وإجرائه في فاقد الشرط ، كشف عن فساد التوجيه الأوّل.

وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّيّة دون الذات

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «الماء».

(٢) في نسخة بدل (ت) و (ص) بدل «وحيث ـ إلى ـ من الأخيرين» ما يلي : «وحيث إنّ بناء العرف على الظاهر على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء ، وعلى إلحاق فاقد الشرط لفاقد الجزء في هذا الحكم ، أمكن جعله كاشفا عن عدم استقامة التوجيه الأوّل».

٢٨١

المتّصف بها ، كشف عن صحّة الأوّل من الأخيرين (١).

لكنّ الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّيّة من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق.

عدم الفرق بناء على جريان الاستصحاب بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف أو قبله

ثمّ إنّه لا فرق ـ بناء على جريان الاستصحاب ـ بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ، كما إذا زالت الشمس متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما إذا فقده قبل الزوال ؛ لأنّ المستصحب هو الوجوب النوعيّ المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ، لا الشخصيّ المتوقّف على تحقّق الشرائط فعلا. نعم ، هنا أوضح.

وكذا لا فرق ـ بناء على عدم الجريان ـ بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهاديّ ، وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال.

تخيّل ودفع

وربما يتخيّل : أنّه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني ؛ لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء لم يكن إلاّ لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا بعينه مقتض لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء.

وفيه : ما تقدّم (٢) ، من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل لا بالاستصحاب ، والاستصحاب لا ينفع إلاّ

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «وقد عرفت أنّه لو لا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين» ، وفي نسخة بدل (ص) بعد «من الوجهين» زيادة : «وأمّا الوجه الثالث ، فهو مبنيّ على الأصل المثبت ، وستعرف بطلانه ، فتعيّن الوجه الثاني».

(٢) راجع الصفحة ٢٢٠.

٢٨٢

بناء على الأصل المثبت. ولو قلنا به لم يفرق بين ثبوت الجزء بالدليل أو بالأصل ؛ لما عرفت : من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف ، وإن كان بينهما فرق ؛ من حيث إنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق سابقا في ضمن فرد معيّن بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ، وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ، وقد عرفت (١) عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، إلاّ في بعض مواردها بمساعدة العرف.

نسبة التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة إلى الفاضلين

ثمّ اعلم : أنّه نسب إلى الفاضلين قدس‌سرهما (٢) التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة ، في (٣) مسألة الأقطع.

والمذكور في المعتبر والمنتهى الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق : بأنّ غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر (٤) ، انتهى.

المناقشة في هذه النسبة

وهذا الاستدلال يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» ؛ ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة (٥).

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩٦.

(٢) نسبه اليهما الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٢٦٧ ، والسيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٢٢.

(٣) في (ظ) و (ه): «وفي».

(٤) المعتبر ١ : ١٤٤ ، والمنتهى ٢ : ٣٧ ، واللفظ للأوّل.

(٥) الذكرى ٢ : ١٣٣.

٢٨٣

ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب ، بأن يراد منه : أنّ هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب ، فإذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه ، أو لم يسقط بحكم الاستصحاب.

ويحتمل أن يراد به التمسّك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ، لكنّه ضعيف احتمالا ومحتملا.

٢٨٤

الأمر الثاني عشر

جريان الاستصحاب حتّى مع الظنّ بالخلاف والدليل عليه من وجوه

أنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه ، أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة.

ويدلّ عليه وجوه :

الوجه الأوّل

الأوّل : الإجماع القطعيّ على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

الوجه : الثاني

الثاني : أنّ المراد بالشكّ في الروايات معناه اللغويّ ، وهو خلاف اليقين ، كما في الصحاح (١). ولا خلاف فيه ظاهرا (٢).

ودعوى : انصراف المطلق في الروايات إلى معناه الأخصّ ، وهو الاحتمال المساوي ، لا شاهد لها ، بل يشهد بخلافها ـ مضافا إلى تعارف إطلاق الشكّ في الأخبار على المعنى الأعمّ (٣) ـ موارد من الأخبار :

منها : مقابلة الشكّ باليقين في جميع الأخبار.

__________________

(١) الصحاح ٤ : ١٥٩٤ ، مادّة «شكك».

(٢) انظر المصباح المنير : ٣٢٠ ، مادّة «شكك».

(٣) انظر الوسائل ٥ : ٣٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢ ، ٤ ، ٥ ، والصفحة ٣٣٧ ، الباب ٢٣ منها ، الحديث ٩.

٢٨٥

ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الاولى (١) : «فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به» ؛ فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «لا ، حتّى يستيقن» ؛ حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ومجيء أمر بيّن عنه.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ولكن ينقضه بيقين آخر» ؛ فإنّ الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين.

ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الثانية (٢) : «فلعلّه شيء أوقع عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ» ؛ فإنّ كلمة «لعلّ» ظاهرة في مجرّد الاحتمال ، خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك كما في المقام ، فيكون الحكم متفرّعا عليه.

ومنها : تفريع قوله عليه‌السلام : «صم للرّؤية وأفطر للرّؤية» على قوله عليه‌السلام : «اليقين لا يدخله الشّكّ» (٣).

الوجه : الثالث

الثالث : أنّ الظنّ الغير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده. وإن كان ممّا شكّ في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعليّ السابق بسببه ، إلى نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل جدّا (٤).

__________________

(١) تقدمت في الصفحة ٥٥.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٥٨.

(٣) الوسائل ٧ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

(٤) في (ظ): «جيّدا».

٢٨٦

هذا كلّه على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار.

وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم أنّه لا يقدح فيه أيضا وجود الأمارة الغير المعتبرة ، فيكون العبرة فيه عندهم بالظنّ النوعيّ وإن كان الظنّ الشخصيّ على خلافه ؛ ولذا تمسّكوا به في مقامات غير محصورة على الوجه الكلّيّ ، من غير التفات إلى وجود الأمارات الغير المعتبرة في خصوصيّات الموارد.

واعلم : أنّ الشهيد قدس‌سره في الذكرى ـ بعد ما ذكر مسألة الشكّ في تقدّم الحدث على الطهارة ـ قال :

كلام الشهيد في الذكرى

تنبيه : قولنا : «اليقين لا يرفعه الشكّ» ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ؛ لامتناع ذلك ، ضرورة أنّ الشكّ في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر ، بل المعنيّ به : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات (١) ، انتهى.

توجيه كلام الشهيد «قدس‌سره»

ومراده من الشكّ معناه اللغويّ ، وهو مجرّد الاحتمال المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان ، فلا يرد ما اورد عليه (٢) : من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ.

__________________

(١) الذكرى ٢ : ٢٠٧.

(٢) هذا الإيراد من المحقق الخوانساري في مشارق الشموس : ١٤٢.

٢٨٧

ما يرد على هذا التوجيه

نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه : أنّ الشهيد قدس‌سره في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم (١) في قولهم : «اليقين لا يرفعه الشّكّ» ، ولا ريب أنّ الشكّ الذي حكم بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه الاحتمال الموهوم ؛ لأنّه إنّما يصير موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان ، نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب ، فإنّه يصير مظنونا (٢) بعد ملاحظة الغلبة. وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ـ كما ذكره المدقّق الخوانساري (٣) ـ فلا يندفع به توهّم اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل للثاني. وإرادة اليقين السابق والشكّ اللاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشكّ.

وكيف كان ، فما ذكره المورد ـ من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ مطلقا ـ في محلّه.

المراد من قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ»

فالأولى أن يقال : إنّ قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ» لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ، إلاّ من حيث الحكم في تلك القضيّة بعدم الرفع. ولا ريب أنّ هذا ليس إخبارا عن الواقع ؛ لأنّه كذب ، وليس حكما شرعيّا بإبقاء نفس اليقين أيضا ؛ لأنّه غير معقول ، وإنّما هو حكم شرعيّ بعدم (٤) رفع آثار اليقين السابق بالشكّ اللاحق ، سواء كان احتمالا مساويا أو مرجوحا.

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر زيادة لفظة «المتوهّم».

(٢) في (ظ) بدل «مظنونا» : «موهوما».

(٣) مشارق الشموس : ١٤٢.

(٤) كذا في (ف) ، (خ) و (ن) ، وفي غيرها : «لعدم».

٢٨٨

خاتمة

شرائط العمل بالاستصحاب :

ذكر بعضهم (١) للعمل بالاستصحاب شروطا ، كبقاء الموضوع ، وعدم المعارض ، ووجوب الفحص.

والتحقيق : رجوع الكلّ إلى شروط جريان الاستصحاب.

وتوضيح ذلك : أنّك قد عرفت أنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شكّ في بقائه ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع الشكّ في بقاء القضيّة المحقّقة (٢) في السابق بعينها في الزمان اللاحق.

والشكّ على هذا الوجه لا يتحقّق إلاّ بامور :

الأوّل

١ ـ اشتراط بقاء الموضوع

بقاء الموضوع في الزمان اللاحق ، والمراد به معروض المستصحب.

__________________

(١) انظر الوافية : ٢٠٨ و ٢٠٩ ، والفصول : ٣٧٧ و ٣٨١ ، ومناهج الأحكام : ٢٣٢ و ٢٣٣ ، وضوابط الاصول : ٣٨٠ و ٣٨٨.

(٢) في (ظ) و (ه): «المتحقّقة».

٢٨٩

فإذا اريد استصحاب قيام زيد ، أو وجوده ، فلا بدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا ، فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجيّ ، وللوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا وجوده الخارجيّ.

وبهذا اندفع ما استشكله بعض (١) في كلّيّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، بانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائها ؛ زعما منه أنّ المراد ببقائه وجوده الخارجيّ الثانويّ ، وغفلة عن أنّ المراد وجوده الثانويّ على نحو وجوده الأوّليّ الصالح لأن يحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ، وإلاّ لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في الزمان السابق. فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت اخرى ، وهذا المعنى لا شكّ في تحقّقه عند الشكّ في بقاء حياته.

الدليل على هذا الشرط

ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح ؛ لأنّه لو لم يعلم تحقّقه لاحقا ، فإذا اريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به :

فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع ، وهو محال.

وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق ، ومن المعلوم أنّ هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض ، وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ، فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه للموضوع

__________________

(١) هو شريف العلماء قدس‌سره ، انظر ضوابط الاصول : ٣٨٠.

٢٩٠

الجديد كان مسبوقا بالعدم ، فهو المستصحب دون وجوده.

وبعبارة اخرى : بقاء المستصحب لا في موضوع محال ، وكذا في موضوع آخر ؛ إمّا لاستحالة انتقال العرض ، وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا وجوده في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقّن السابق.

المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع

وممّا ذكرنا يعلم : أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ، ولا يكفي احتمال البقاء ؛ إذ لا بدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء ، والحكم بعدمه نقضا.

هل يجوز إحراز الموضوع في الزمان اللاحق بالاستصحاب؟

فإن قلت : إذا كان الموضوع محتمل البقاء فيجوز إحرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب (١).

قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه في بعض الصور ، إلاّ أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه : إمّا أن يكون مسبّبا عن سبب غير الشكّ في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ـ مثل أن يشكّ في عدالة مجتهده مع الشكّ في حياته ـ وإمّا أن يكون مسبّبا عنه.

فإن كان الأوّل ، فلا إشكال في استصحاب الموضوع عند الشكّ ، لكن استصحاب الحكم كالعدالة ـ مثلا ـ لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ؛ لأنّ موضوع العدالة : زيد على تقدير الحياة ؛ إذ لا شكّ فيها إلاّ على فرض الحياة ، فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة.

__________________

(١) إشارة إلى ما ذكره صاحب الفصول في الفصول : ٣٨١.

٢٩١

وبالجملة : فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة : حياة زيد ، وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة (١).

وعلى الثاني ، فالموضوع : إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّريّة هو الماء بوصف الكرّيّة والإطلاق ، ثمّ شكّ في بقاء تغيّر الماء الأوّل وكرّيّة الماء الثاني أو إطلاقه.

وإمّا أن يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما إذا لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو الماء الذي حدث فيه التغيّر آناً ما ، أو الماء المتلبّس فعلا بالتغيّر. وكما إذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب ، أو المشترك بين الكلب وبين ما يستحال إليه من الملح أو غيره.

أمّا الأوّل ، فلا إشكال في استصحاب الموضوع ، وقد عرفت ـ في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجيّة (٢) ـ أنّ استصحاب الموضوع ، حقيقته (٣) ترتيب الأحكام الشرعيّة المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا ، فحقيقة استصحاب التغيّر والكرّيّة والإطلاق في الماء ، ترتيب أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل ، والمطهّريّة في الأخيرين.

فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب إجراء الأحكام ، فلا مجال

__________________

(١) لم ترد «حياة زيد ـ إلى ـ إثبات الحياة» في (ظ).

(٢) راجع الصفحة ١١٣ ـ ١١٥.

(٣) في (ت) و (ظ): «حقيقة».

٢٩٢

لاستصحاب الأحكام حينئذ (١) ؛ لارتفاع الشكّ ، بل لو اريد استصحابها لم يجر (٢) ؛ لأنّ صحّة استصحاب النجاسة مثلا ليس من أحكام التغيّر الواقعيّ ليثبت باستصحابه ؛ لأنّ أثر التغيّر الواقعيّ هي النجاسة الواقعيّة ، لا استصحابها ؛ إذ مع فرض التغيّر لا شكّ في النجاسة.

مع أنّ قضيّة ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب ، حكم العقل باشتراط بقائه فيه ، فالمتغيّر (٣) الواقعيّ إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل ، فهذا الحكم ـ أعني ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ـ ليس أمرا جعليّا حتّى يترتّب على وجوده الاستصحابيّ ، فتأمّل.

وعلى الثاني ، فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة ، إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم (٤) في أصالة بقاء الكرّ المثبتة لكرّيّة المشكوك بقاؤه على الكرّيّة ، وعلى هذا القول فحكم هذا القسم حكم القسم الأوّل. وأمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا فهو في معنى استصحاب الحكم ؛ لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه.

وأمّا استصحاب الحكم ؛ فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه ،

__________________

(١) لم ترد «حينئذ» في (ظ).

(٢) في (ت): «لم يجز».

(٣) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «فالتغيّر».

(٤) راجع الصفحة ٢٨١.

٢٩٣

وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي (١) ليس قياما بنفس ما قام به أوّلا ، حتّى يكون إثباته إبقاء ونفيه نقضا.

الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في القيود المأخوذة في الموضوع

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : أنّه كثيرا ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته ، حتّى يكون الحكم مرتفعا ، أو هو الأمر الباقي ، والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، فلو فرض شكّ في الحكم كان من جهة اخرى غير الموضوع ، كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر ، موضوعه نفس الماء ، والتغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشكّ في علّيّته للبقاء.

ما يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع أحد امور

فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ، وهو أحد امور :

١ ـ العقل

الأوّل : العقل ، فيقال : إنّ مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد يجمعها ؛ وذلك لأنّ كلّ قضيّة وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة إلى موضوع واحد ومحمول واحد ، فإذا شكّ في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء علم كونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم أحدهما ، فلا يجوز الاستصحاب ؛ لأنّه إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع الشكّ في أحدهما. نعم ، لو شكّ بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفا للحكم ـ كالخيار ـ لم يقدح في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب مبنيّ على إلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل.

__________________

(١) لم ترد «الباقي» في (ظ).

٢٩٤

فالاستصحاب في الحكم الشرعيّ لا يجري إلاّ في الشكّ من جهة الرافع ذاتا أو وصفا ، وفيما (١) كان من جهة مدخليّة الزمان. نعم ، يجري في الموضوعات الخارجيّة بأسرها.

ثمّ لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع كفى في عدم جريان الاستصحاب الشكّ في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلا (٢).

لسان الدليل

الثاني : أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة ، ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» ، وبين قوله : «الماء ينجس إذا تغيّر» ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ، فيزول الحكم بزواله ، وفي الثاني نفس الماء فيستصحب النجاسة لو شكّ في مدخليّة التغيّر في بقائها ، وهكذا. وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع إذا كان (٣) الدليل غير لفظيّ لا يتميّز فيه الموضوع ؛ لاحتمال مدخليّة القيد الزائل فيه.

٢ ـ العرف

الثالث : أن يرجع في ذلك إلى العرف ، فكلّ مورد يصدق عرفا أنّ هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب وإن كان المشار إليه لا يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الأدلّة كونه موضوعا ، بل علم عدمه.

مثلا : قد ثبت بالأدلّة أنّ الإنسان طاهر والكلب نجس ، فإذا ماتا واطّلع أهل العرف على حكم الشارع عليهما بعد الموت ، فيحكمون (٤)

__________________

(١) في (ص) زيادة : «إذا».

(٢) راجع الصفحة ٢٩٣.

(٣) لم ترد «الشكّ من غير جهة الرافع إذا كان» في (ظ).

(٤) كذا في (ص) ، وفي غيره بدل «واطّلع ـ إلى ـ فيحكمون» : «حكم العرف».

٢٩٥

بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء فيهما بحسب التدقيق (١) ؛ لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين (٢) ، وقد ارتفعت الحيوانية بعد صيرورته جمادا.

ونحوه حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجيّة بعد موت أحد الزوجين ، وقد تقدّم (٣) حكم العرف ببقاء كرّيّة ما كان كرّا سابقا ، ووجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها ، واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ويشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ، إلى غير ذلك.

كلام الفاضلين تأييدا لكون الميزان نظر العرف

وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين قدس‌سرهما ـ في المعتبر والمنتهى ـ الاستدلال على بقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة : بأنّ النجاسة قائمة بالأعيان (٤) النجسة ، لا بأوصاف الأجزاء ، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها ، وتلك الأجزاء باقية ، فتكون النجاسة باقية ؛ لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها (٥) ، انتهى كلام المعتبر.

واحتجّ فخر الدين للنجاسة : بأصالة بقائها ، وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله (٦) ، انتهى.

__________________

(١) لم ترد «بحسب التدقيق» في (ظ).

(٢) في (ظ) ونسخة بدل (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «فلا معنى لصدق ارتفاع الأوّل وبقاء الثاني» ، وفي (ر) وردت هذه الزيادة بعد كلمة «الحيوانية».

(٣) راجع الصفحة ١٩٦ و ٢٨٠.

(٤) في غير (ه) بدل «بالأعيان» : «بالأشياء» ، وفي المعتبر : «بالأجزاء».

(٥) المعتبر ١ : ٤٥١ ، وانظر المنتهى ٣ : ٢٨٧.

(٦) إيضاح الفوائد ١ : ٣١.

٢٩٦

وهذه الكلمات وإن كانت محلّ الإيراد ؛ لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب المشترك بين الحيوان والجماد ، بل ظهور عدمه ؛ لأنّ ظاهر الأدلّة تبعيّة الأحكام للأسماء ، كما اعترف به في المنتهى في استحالة الأعيان النجسة (١) ، إلاّ أنّها شاهدة على إمكان اعتبار (٢) موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنوانيّ وفاقده ، كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ، حيث إنّ أهل العرف لا يفهمون نجاسة اخرى حاصلة بالموت ، ويفهمون ارتفاع طهارة الإنسان ، إلى غير ذلك ممّا يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنوانيّ والفاقد.

الفرق بين نجس العين والمتنجّس عند الاستحالة

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين (٣) فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل لزوال الموضوع ، دون الثاني ؛ لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ـ أعني الخشب مثلا ـ وإنّما هو الجسم ولم يزل بالاستحالة.

الإشكال في هذا الفرق

وهو حسن في بادئ النظر ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ؛ إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات : أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، إلاّ أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لبيان (٤) عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث

__________________

(١) المنتهى ٣ : ٢٨٨.

(٢) لم ترد «اعتبار» في (ر).

(٣) هو الفاضل الهندي ، وتبعه جماعة ، كما سيأتي في الصفحة ٢٩٩.

(٤) في (ر) ، (ص) و (ظ) بدل «لبيان» : «لأداء».

٢٩٧

سببيّة الملاقاة للتنجّس (١) ، لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة.

وبتقرير آخر (٢) : الحكم ثابت لأشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوّم به عند الملاقاة.

فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به ، كما إذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصّيّة وتأثير» مع كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع.

وإن أبيت إلاّ عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول : لا شكّ (٣) في أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة ـ مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك ـ ، فاستنباط القضيّة الكلّيّة المذكورة منها ليس إلاّ من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما يتقوّم به ، وإلاّ فاللازم إناطة النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله.

ودعوى : أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما ، ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضيّة العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوّم النجاسة بالجسم. نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس : أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل ، وفي المتنجّس محتمل البقاء.

__________________

(١) في (ظ) ، (ت) و (ه): «للنجس» ، وفي نسخة بدل (ص): «للنجاسة».

(٢) في (ظ) بدل «وبتقرير آخر» : «وبعبارة اخرى».

(٣) في (ت) ، (ه) و (ظ) بدل «لا شكّ» : «لا إشكال».

٢٩٨

عدم الفرق بناء على كون المحكّم نظر العرف

لكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق بعد ما (١) تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب. أرأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّيّة أو الحرمة أو النجاسة أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب؟! كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولا لمأكول اللحم ، خصوصا إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة.

كما أنّ العلماء أيضا لم يفرّقوا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع (٢) ، بل جعل بعضهم (٣) الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة (٤) ، حتّى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّيّة مطلق الظنّ (٥).

وممّا ذكرنا يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة (٦) ـ تبعا للفاضل الهندي قدس‌سره (٧) ـ : من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الاسم

__________________

(١) «ما» من (ر) و (ص).

(٢) انظر الجواهر ٦ : ٢٧٠.

(٣) كما حكاه في فقه المعالم : ٤٠٣ ، والقوانين ٢ : ٧٤.

(٤) في (ر) بدل «الجليّة» : «القطعيّة».

(٥) هو صاحب المعالم في فقه المعالم : ٤٠٣ ، في مسألة مطهّرية النار لما أحالته رمادا.

(٦) مثل المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٧٤ ، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام : ٢٣٣ ، ومستند الشيعة ١ : ٣٢٦ ، واستشكل في الحكم المحقّق السبزواري في الذخيرة : ١٧٢.

(٧) انظر المناهج السويّة (مخطوط) ، الورقة ١٢٤.

٢٩٩

حتّى يطهر (١) بالاستحالة ، بل لأنّه جسم لاقى نجسا ، وهذا المعنى لم يزل (٢).

مراتب التغيّر والأحكام مختلفة

فالتحقيق : أنّ مراتب تغيّر الصورة في الأجسام مختلفة ، بل الأحكام أيضا مختلفة ، ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب ، وفي بعض آخر لا يحكمون بذلك ويثبتون الحكم بالاستصحاب ، وفي ثالث لا يجرون الاستصحاب أيضا ، من غير فرق ـ في حكم النجاسة ـ بين النجس والمتنجّس.

فمن الأوّل : ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّيّة أو الطهارة أو النجاسة ، فإنّ الظاهر جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ، فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ ممّا جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ، مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين ؛ ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الآخر. والظاهر أنّهم لا يحتاجون في إجراء الأحكام المذكورة إلى الاستصحاب.

ومن الثاني : إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خلاّ ، وصيرورة الكلب أو الإنسان جمادا بالموت ، إلاّ أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنصّ ، كما في الخمر المستحيل خلاّ (٣) ، وإمّا لعموم ما دلّ على حكم المنتقل إليه ، فإنّ الظاهر أنّ استفادة طهارة المستحال إليه إذا

__________________

(١) المناسب : «حتّى تطهر» ؛ لرجوع الضمير إلى «المتنجّسات».

(٢) لم ترد «بل ـ إلى ـ لم يزل» في (ظ) و (ر).

(٣) انظر الوسائل ٢ : ١٠٩٨ ، الباب ٧٧ من أبواب النجاسات.

٣٠٠