فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ، فغرض الكتابيّ إثبات حقّية دينه بأسهل الوجهين.

بعض الأجوبة عن استصحاب الكتابي ومناقشتها

ثمّ إنّه قد اجيب عن استصحاب الكتابيّ المذكور بأجوبة :

منها : ما حكي (١) عن بعض الفضلاء المناظرين له :

١ ـ ما ذكره بعض الفضلاء

وهو أنّا نؤمن ونعترف بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكافر (٢) بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك. وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق (٣).

وهذا الجواب بظاهره مخدوش بما عن الكتابيّ : من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئيّ حقيقيّ اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين نسخها.

وأمّا ما ذكره الإمام عليه‌السلام (٤) ، فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق. وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به.

٢ ـ ما ذكره الفاضل النراقي

ومنها : ما ذكره بعض المعاصرين (٥) : من أنّ استصحاب النبوّة معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل حدوث أصل النبوّة ؛ بناء على أصل فاسد تقدّم حكايته عنه ، وهو : أنّ الحكم الشرعيّ الموجود يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وبعده يتعارض استصحاب وجوده

__________________

(١) حكاه المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٧٠.

(٢) كذا في النسخ ، والمناسب : «نكفر».

(٣) راجع عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٧ ، والاحتجاج ٢ : ٢٠٢.

(٤) في نسخة بدل (ص) زيادة : «في جواب الجاثليق».

(٥) هو الفاضل النراقي ، انظر مناهج الأحكام : ٢٣٧.

٢٦١

واستصحاب عدمه.

وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه (١).

٣ ـ ما ذكره المحقّق القمّي

ومنها : ما ذكره في القوانين ـ بانيا له على ما تقدّم منه في الأمر الأوّل : من أنّ الاستصحاب مشروط بمعرفة استعداد المستصحب ، فلا يجوز استصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد بعد انقضاء مدّة استعداد أقلّهما استعدادا ـ قال :

إنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي كلّيّ من حيث إنّها قابلة للنبوّة إلى آخر الأبد ، بأن يقول الله جلّ ذكره لموسى عليه‌السلام : «أنت نبيّي وصاحب ديني إلى آخر الأبد». ولأن يكون إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن يقول له : «أنت نبيّي ودينك باق إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». ولأن يكون غير مغيّا بغاية ، بأن يقول : «أنت نبيّي» بدون أحد القيدين. فعلى الخصم أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد ، أو الإطلاق. ولا سبيل إلى الأوّل ، مع أنّه يخرج عن الاستصحاب. ولا إلى الثاني ؛ لأنّ الإطلاق في معنى القيد ، فلا بدّ من إثباته. ومن المعلوم أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو الثاني دون الأوّل ؛ إذ الكلّي لا يمكن استصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقلّ أفراده (٢) ، انتهى موضع الحاجة.

وفيه :

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٠٨ ـ ٢١٣.

(٢) القوانين ٢ : ٧٠.

٢٦٢

أوّلا : ما تقدّم (١) ، من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز استعداد المستصحب.

وثانيا : أنّ ما ذكره ـ من أنّ الإطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد ـ غير صحيح ؛ لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل. نعم ، المخالف للأصل الإطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام.

والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر نبوّة مستدامة إلى آخر الأبد ، ونبوّة مغيّاة إلى وقت خاصّ ، ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة ـ بمعنى غير المقيّدة ـ ومطلق النبوّة سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت ، فلا وجه لإجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر. إلاّ أن يريد ـ بقرينة ما ذكره بعد ذلك ، من أنّ المراد من مطلقات كلّ شريعة بحكم الاستقراء الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ـ أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ؛ فإنّ استعداده غير محرز عند الشكّ ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد.

وثالثا : أنّ ما ذكره منقوض بالاستصحاب في الأحكام الشرعيّة ؛ لجريان ما ذكره في كثير منها ، بل في أكثرها.

وقد تفطّن لورود هذا عليه ، ودفعه بما لا يندفع به ، فقال :

كلام آخر للمحقق القمي

إنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة ـ في غير ما ثبت في الشرع له حدّ ـ ليست بآنيّة ، ولا محدودة إلى حدّ معيّن ، وأنّ الشارع اكتفى فيها فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ، ويظهر

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩٤.

٢٦٣

من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ؛ فإنّ من (١) تتبّع أكثر الموارد واستقرأها (٢) يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقليّ أو نقليّ (٣) ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه :

المناقشة في هذا الكلام أيضاً

أمّا أوّلا : فلأنّ مورد النقض لا يختصّ بما شكّ في رفع الحكم الشرعيّ الكلّيّ ، بل قد يكون الشكّ لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الشكّ في رفع الحكم الشرعيّ إنّما هو بحسب ظاهر دليله الظاهر في الاستمرار ـ بنفسه أو بمعونة القرائن ، مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات ـ لكنّ الحكم الشرعيّ الكلّي في الحقيقة إنّما يرتفع بتمام استعداده ، حتّى في النسخ ، فضلا عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي ، والنسخ أيضا رفع صوريّ ، وحقيقته انتهاء استعداد الحكم ، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ لا يكون إلاّ من جهة الشكّ في مقدار استعداده ، نظير الحيوان المجهول استعداده.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره ـ من حصول الظنّ بإرادة الاستمرار من الإطلاق ـ لو تمّ ، يكون دليلا اجتهاديّا مغنيا عن التمسّك بالاستصحاب ؛ فإنّ التحقيق : أنّ الشكّ في نسخ الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر ـ في

__________________

(١) لم ترد «من» في المصدر.

(٢) في المصدر : «استقراءها».

(٣) القوانين ٢ : ٧٣.

٢٦٤

نفسه أو بمعونة دليل خارجيّ ـ في الاستمرار ، ليس موردا للاستصحاب ؛ لوجود الدليل الاجتهاديّ في مورد الشكّ ، وهو ظنّ الاستمرار. نعم ، هو من قبيل استصحاب حكم العامّ إلى أن يرد المخصّص ، وهو ليس استصحابا في حكم شرعيّ ، كما لا يخفى.

ما أورده المحقّق القمّي على نفسه وأجاب عنه

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على ما ذكره ـ من قضاء التتبّع (١) بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الإطلاق ـ : بأنّ النبوّة أيضا من تلك الأحكام.

ثمّ أجاب : بأنّ غالب النبوّات محدودة ، والذي ثبت علينا استمراره نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ولا يخفى ما في هذا الجواب :

المناقشة في جوابه قدس‌سره

أمّا أوّلا : فلأنّ نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها ـ في أنفسها أو بمعونة الاستقراء ـ في الاستمرار ، فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات غير مجدية ؛ للقطع بكون إحداها (٣) مستمرّة ، فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب وإلحاقه بالنادر ، بل يشكّ في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون هذا ملحقا بالغالب.

والحاصل : أنّ هنا أفرادا غالبة وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير

__________________

(١) في (ظ) ونسخة بدل (ص) بدل «قضاء التتبّع» : «اكتفاء الشارع».

(٢) القوانين ٢ : ٧٣.

(٣) في (ظ) و (ه): «إحداهما».

٢٦٥

النادر ، أو ما قبله الغالب ، بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه (١) كون هذا هو الأخير المغاير للباقي.

ما أورده على نفسه ثانياً وأجابعنه

ثمّ أورد قدس‌سره على نفسه : بجواز استصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة.

وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينفعهم (٢).

الإيراد على جوابه قدس‌سره

وربما يورد عليه : أنّ الكتابيّ لا يسلّم البشارة المذكورة حتّى يضرّه في التمسّك بالاستصحاب أو لا ينفعه.

توجيه كلامه قدس‌سره

ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد أنّه إذا (٣) لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة ، فإذا فرض قضيّة نبوّته مهملة غير دالّة إلاّ على مطلق النبوّة ، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة ؛ فإنّها تصير أيضا حينئذ مهملة.

الجواب عن استصحاب الكتابي بوجوه أخر

ثمّ إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ المقصود من التمسّك به :

الوجه الأوّل

إن كان الاقتناع به في العمل عند الشكّ ، فهو ـ مع مخالفته للمحكيّ عنه من قوله : «فعليكم كذا وكذا» ؛ فإنّه ظاهر في أنّ غرضه الإسكات والإلزام ـ فاسد جدّا ؛ لأنّ العمل به على تقدير تسليم جوازه غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث ، وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين

__________________

(١) في (ظ) و (ص) بدل «ما عداه» : «ما عدا غيرهم».

(٢) القوانين ٢ : ٧٤.

(٣) شطب في (ت) على : «إذا».

٢٦٦

بناء على ما ثبت : من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفّار (١) ، والإجماع المدّعى (٢) على عدم معذوريّة الجاهل (٣) ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشئ في بلاد الإسلام. وكيف كان ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالاستصحاب.

وإن أراد به الإسكات والإلزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيّا ؛ لأنّه فرع الشكّ ، وهو أمر وجدانيّ ـ كالقطع ـ لا يلزم (٤) به أحد.

وإن أراد بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلط ؛ لأنّ مدّعي البقاء في مثل المسألة ـ أيضا ـ يحتاج إلى الاستدلال عليه.

الوجه الثاني

الوجه الثاني : أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار ، فلا ينفع الكتابيّ التمسّك به ؛ لأنّ ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم. نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسّك به ؛ لصيرورته حكما إلهيّا (٥) غير منسوخ يجب تعبّد

__________________

(١) فصّلت : ٦.

(٢) انظر شرح الألفيّة (رسائل المحقّق الكركي) ٣ : ٣٠٣ ، ومفتاح الكرامة ٣ : ٢٨٣.

(٣) تقدّم الكلام عن عدم معذوريّة الجاهل في مبحث البراءة ٢ : ٤١٢.

(٤) في غير (ظ) بدل «لا يلزم» : «لا يلتزم».

(٥) لم ترد «إلهيّا» في (ظ).

٢٦٧

الفريقين به.

وإن كان من باب الظنّ ، فقد عرفت ـ في صدر المبحث ـ أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعيّ الكلّيّ ممنوع جدّا ، وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوع. وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّيّة الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي ؛ لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكّن من التوقّف والاحتياط في العمل. ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.

ودعوى : قيام الدليل الخاصّ على اعتبار هذا الظنّ ؛ بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين (١) : من أنّ شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبيّ اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ، ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم ؛ من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقرّ لهم البناء على أحكامهم.

مدفوعة : بأنّ استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ؛ وإلاّ لزم كونهم شاكّين في حقّيّة شريعتهم ونبوّة نبيّهم (٢) في أكثر الأوقات لما تقدّم (٣) : من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ لا يفيد

__________________

(١) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٨٠.

(٢) لم ترد «نبوّة نبيّهم» في (ظ) ، وشطب عليها في (ت) و (ه).

(٣) راجع الصفحة ٨٧ ـ ٨٨.

٢٦٨

الظنّ الشخصيّ في كلّ مورد. وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب ، هي ترتيب الأعمال المترتّبة على الدين السابق دون حقّيّة دينهم ونبوّة نبيّهم التي هي من اصول الدين.

فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم ؛ من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبيّ السابق. نعم ، بعد ظهور النبيّ الجديد ، الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال ، وحينئذ فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود بإثبات حقيّة دينهم ؛ لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر (١).

الوجه الثالث

الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب ـ وهي نبوّة موسى أو عيسى عليهما‌السلام ـ إلاّ بإخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصّ القرآن ؛ وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.

ودعوى : أنّ النبوّة موقوفة على صدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا على نبوّته ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث نبوّته.

والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة. وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام ؛ لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود (٢).

الوجه الرابع

الرابع : أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبيّ ، وإلاّ فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا معنى لاستصحابه ؛ لعدم قابليّته للارتفاع أبدا. ولا ريب

__________________

(١) في (ص) و (ظ) زيادة : «فتأمّل».

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «به».

٢٦٩

أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبيّ السابق الإخبار بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى ـ حكاية عن عيسى ـ : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(١) فكلّ ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدين عيسى عليه‌السلام المختصّ به عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المعلوم أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ المسلمين فضلا عن استصحابه.

فإن أراد الكتابيّ دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة ، فنحن منكرون له ، وإن أراد هذه الجملة ، فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ انتهاء مدّة الحكم المعلومة (٢) إجمالا.

فإن قلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ ، في تحقّق الغاية المعلومة ، وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا ، فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب.

قلت : المسلّم هو الدين المغيّا بمجيء هذا الشخص الخاصّ ، لا بمجيء موصوف كلّيّ حتّى يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص ، ويتمسّك بالاستصحاب.

الوجه الخامس

الخامس : أن يقال : إنّا ـ معاشر المسلمين ـ لمّا علمنا أنّ النبيّ السالف أخبر بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الإقرار به والإيمان به متوقّف على تبليغ ذلك إلى رعيّته ، صحّ لنا أن

__________________

(١) الصفّ : ٦.

(٢) في (ر): «المعلوم».

٢٧٠

نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبيّ السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنبوّة التقديريّة لا يضرّنا ولا ينفعهم في بقاء شريعتهم.

كلام الإمام الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليه‌السلام :

ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟

قال عليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه ولم يبشّر به أمّته.

ثمّ قال الجاثليق : أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال عليه‌السلام : بلى.

قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين (١) ـ من غير أهل ملّتك ـ على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال عليه‌السلام : الآن جئت بالنّصفة يا نصرانيّ.

ثمّ ذكر عليه‌السلام إخبار خواصّ عيسى عليه‌السلام بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ولا يخفى : أنّ الإقرار بنبوّة عيسى عليه‌السلام وكتابه وما بشّر به أمّته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ، إلاّ إذا اريد المجموع من حيث المجموع ، بجعل الإقرار بعيسى عليه‌السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.

ويشهد له قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم

__________________

(١) لم ترد «عدلين» في المصدر.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٦ و ١٥٧ ، والاحتجاج ٢ : ٢٠٢.

٢٧١

يبشّر» ؛ فإنّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.

وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه ، فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ، بل لأنّه عليه‌السلام من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات ، وإلاّ فالظاهر المؤيّد بقول الجاثليق : «وسلنا مثل ذلك» كون كلّ منهما مدّعيا ، إلاّ أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى عليه‌السلام ؛ إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم.

٢٧٢

الأمر العاشر

دوران الأمر بين التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص

أنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق :

إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان» ، وكقوله : «لا تهن فقيرا» ؛ حيث إنّ النهي للدوام.

الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق على ثلاثة أنحاء

وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو : «أكرم العلماء إلى أن يفسقوا» ؛ بناء على مفهوم الغاية.

وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا : إمّا لإجماله ، كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة.

وإمّا لقصور دلالته ، كما إذا قال : «إذا تغيّر الماء نجس» ؛ فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ، ومثل الإجماع المنعقد على حكم في زمان ؛ فإنّ الإجماع لا يشمل ما (١) بعد ذلك الزمان.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث.

وأمّا القسم الثاني ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛

__________________

(١) «ما» من (ه) و (ت).

٢٧٣

لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني.

وكذلك القسم الأوّل ؛ لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كاف ومغن عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ؛ إذ المعتبر في الاستصحاب عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة.

هل يجري استصحاب حكم المخصّص مع العموم الأزماني أم لا؟

ثمّ إذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ، فشكّ فيما بعد ذلك الزمان المخرج ، بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟

الحقّ : هو التفصيل في المقام ، بأن يقال :

إذا كان العموم الأزماني أفراديّا

إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديّا ، بأن اخذ كلّ زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ؛ لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان (١) ، كقوله : «أكرم العلماء كلّ يوم» فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة. ومثله ما لو قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» إذا فرض (٢) الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلا ، فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاصول ؛ لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.

إذا كان العموم الأزماني استمراريّا

وإن اخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : «أكرم العلماء دائما» ، ثمّ خرج فرد في زمان ، وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ؛ لأنّ مورد التخصيص

__________________

(١) لم ترد «موضوعا ـ إلى ـ الأزمان» في (ظ) ، وورد بدلها : «فردا».

(٢) في (ظ) بدل «إذا فرض» : «فإنّ».

٢٧٤

الأفراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاصول الأخر.

ولا فرق بين استفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ، أو من الإطلاق ، كقوله : «تواضع للناس» ـ بناء على استفادة الاستمرار منه ـ فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة ، على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلا لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج ، وليس هذا من باب تخصيص العامّ بالاستصحاب.

المخالفة لما ذكرنا في موضعين

وقد صدر خلاف ما ذكرنا ـ من أنّ مثل هذا من مورد (١) الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العامّ به ـ في موضعين :

١ ـ ما ذكره المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن وما يرد عليه

أحدهما : ما ذكره المحقّق الثاني ; في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان : من أنّه فوريّ ؛ لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد ، يستتبع عموم الأزمان (٢).

وحاصله : منع جريان الاستصحاب ؛ لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن وبقي الباقي.

وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار. وهو الأقوى ؛ بناء على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء إلاّ كون الحكم مستمرّا ، لا أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ ، حتّى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي.

__________________

(١) في (ص): «من موارد».

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٨.

٢٧٥

نعم لو استظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمان ، بالإضافة إلى غيره من الأزمنة ، صحّ ما ادّعاه المحقّق قدس‌سره.

لكنّه بعيد ؛ ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من متأخّري المتأخّرين (١) تبعا للمسالك (٢).

إلاّ أنّ بعضهم (٣) قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو الإجماع ، لا أدلّة نفي الضرر ؛ لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل.

ولا أجد وجها لهذا التفصيل ؛ لأنّ نفي الضرر إنّما نفى لزوم العقد ، ولم يحدّد زمان الجواز ، فإن كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ، ويرجع في الزائد (٤) إلى العموم ، فالإجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده.

٢ ـ ما ذكره السيّد بحر العلوم قدس‌سره

والثاني : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول (٥) : من أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعيّ مخصّص للعمومات ، ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيّته ، من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ؛ إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلاّ لم

__________________

(١) كالمحدّث البحراني في الحدائق ١٩ : ٤٣ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٤٧٦ ، و ٢٣ : ٤٣.

(٢) المسالك ٣ : ١٩٠.

(٣) هو صاحب الرياض على ما نقله المصنّف في خيارات المكاسب (طبعة الشهيدي) : ٢٤٢ ، وانظر الرياض (الطبعة الحجرية) ١ : ٥٢١ و ٥٢٥.

(٤) في (ص) زيادة : «عليه».

(٥) هو السيّد بحر العلوم.

٢٧٦

يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ؛ لانتهاء (١) كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل.

ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ به (٢) ، لا يتعدّاه إلى غيره ، فيقدّم على العامّ ، كما يقدّم غيره من الأدلّة عليه ؛ ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيّتها. ومن ذلك : استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير ، وفي كون التحديد تحقيقيّا أو تقريبيّا ، وفي (٣) صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك (٤). انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين (٥).

المناقشة في ما أفاده بحر العلوم

ولا يخفى ما في ظاهره ؛ لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم لا يجري الاستصحاب حتّى لو لم يكن عموم ، ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب.

ثمّ ما ذكره من الأمثلة خارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ؛ لأنّ الاصول المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب ليست من قبيل العامّ بالنسبة إلى الخاصّ ، كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع

__________________

(١) في المصدر زيادة : «حجّيّة».

(٢) «به» من المصدر.

(٣) في المصدر زيادة : «صورة».

(٤) انظر فوائد السيد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧.

(٥) هو صاحب الفصول في الفصول : ٢١٤.

٢٧٧

غيره من الاصول (١). نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية إلى عموم «حلّ الطيّبات» و «حلّ الانتفاع بما في الأرض» ، كان استصحاب حرمة العصير في (٢) المثالين الأخيرين مثالا لمطلبه ، دون المثال الأوّل ؛ لأنّه من قبيل الشكّ في موضوع الحكم الشرعيّ ، لا في نفسه. ففي الأوّل يستصحب عنوان الخاصّ ، وفي الثاني يستصحب حكمه ، وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الأوّل.

توجيه كلام بحر العلوم

ويمكن توجيه كلامه قدس‌سره : بأنّ مراده من العمومات ـ بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ـ هي عمومات الاصول ، ومراده بالتخصيص للعمومات (٣) ما يعمّ الحكومة ـ كما ذكرنا في أوّل أصالة البراءة (٤) ـ وغرضه : أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشكّ ، فلمّا كان (٥) دليل المستصحب أخصّ من الاصول سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللاحق. وكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهاديّة ؛ فإنّه إذا خرج المستصحب من العموم بدليله ـ والمفروض أنّ الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللاحق ـ فكأنّه أيضا مخصّص ، يعني موجب للخروج عن حكم العامّ ، فافهم.

__________________

(١) انظر الصفحة ٣٨٧.

(٢) في (ت) كتب على «كان استصحاب حرمة العصير في» : «نسخة» ، وفي (ه) كتب عليها : «زائد» ، وورد بدلها فيهما : «أمكن جعل».

(٣) لم ترد «للعمومات» في (ظ).

(٤) راجع مبحث البراءة ٢ : ١١ ـ ١٣.

(٥) كذا في (ف) ، وفي غيرها بدل «فلمّا كان» : «فكما أنّ».

٢٧٨

الأمر الحادي عشر

لو تعذّر بعض المأمور به فهل يستصحب وجوب الباقي؟

قد أجرى بعضهم (١) الاستصحاب في ما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فيستصحب وجوب الباقي الممكن.

الإشكال في هذا الاستصحاب

وهو بظاهره ـ كما صرّح به بعض المحقّقين (٢) ـ غير صحيح ؛ لأنّ الثابت سابقا ـ قبل تعذّر بعض الأجزاء ـ وجوب هذه الأجزاء الباقية ، تبعا لوجوب الكلّ ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا ، والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ ، وهو معلوم الانتفاء سابقا.

توجيه الاستصحاب بوجوه ثلاثة

ويمكن توجيهه ـ بناء على ما عرفت (٣) ، من جواز إبقاء القدر

__________________

(١) كالسيّد العاملي في المدارك ١ : ٢٠٥ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢ : ١٦٣.

(٢) مثل المحدّث البحراني في الحدائق ٢ : ٢٤٥ ، والمحقّق الخوانساري في مشارق الشموس : ١١٠ ، والفاضل النراقي في مستند الشيعة ٢ : ١٠٣ ، وشريف العلماء في ضوابط الاصول : ٣٧٤.

(٣) راجع الصفحة ١٩٦.

٢٧٩

المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا ـ : بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحقّقة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ، إلاّ أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه (١).

ويمكن توجيهه بوجه آخر ـ يستصحب معه الوجوب النفسيّ ـ بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا ، والمشار إليه بقولنا : «هذا الفعل كان واجبا» هو الباقي ، إلاّ أنّه يشكّ في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسيّ مطلقا ، أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ، فيكون محلّ الوجوب النفسيّ هو الباقي (٢) ، ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها. وهذا نظير استصحاب الكرّيّة في ماء نقص منه مقدار فشكّ في بقائه على الكرّيّة ، فيقال : «هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته» مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكرّيّته. وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدار.

وهنا توجيه ثالث ، وهو : استصحاب الوجوب النفسيّ المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا (٣) يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه

__________________

(١) في (ص) زيادة : «فتأمّل».

(٢) في (ظ) زيادة : «ولو مسامحة».

(٣) في (ر) و (ه): «اختيارا».

٢٨٠