فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

وفي التحرير : أنّ الأصل عدم الضمان من جانبه واستمرار الحياة من جانب الملفوف ، فيرجّح قول الجاني. وفيه نظر (١).

والظاهر أنّ مراده النظر في عدم الضمان ؛ من حيث إنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ سبب في الضمان ، فلا يجرى أصالة عدمه ، وهو الذي ضعّفه المحقّق ، لكن قوّاه بعض محشّيه (٢).

والمستفاد من الكلّ نهوض استصحاب الحياة لإثبات القتل الذي هو سبب الضمان ، لكنّه مقدّم على ما عداه عند العلاّمة (٣) وبعض من تأخّر عنه (٤) ، ومكافئ لأصالة عدم الضمان من غير ترجيح عند الشيخ في المبسوط ، ويرجّح عليه أصالة عدم الضمان عند المحقّق والشهيد في المسالك (٥)(٦).

الفرع الرابع

ومنها : ما في التحرير ـ بعد هذا الفرع ـ : ولو ادّعى الجاني نقصان يد المجنيّ عليه بإصبع ، احتمل تقديم قوله عملا بأصالة عدم القصاص ، وتقديم قول المجنيّ عليه إذ الأصل السلامة ، هذا إن ادّعى

__________________

(١) التحرير ٢ : ٢٦١.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) انظر قواعد الأحكام (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٣١١.

(٤) كفخر المحققين في إيضاح الفوائد ٤ : ٦٥٢ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٤ : ١٢٦ ـ ١٢٨.

(٥) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٣٨٥.

(٦) لم ترد «لكنّه ـ إلى ـ في المسالك» في (ر) و (ه) ، وكتب فوقه في (ت) : «نسخة بدل» ، وفي (ص): «نسخة».

٢٤١

الجاني نفي السلامة أصلا. وأمّا لو ادّعى زوالها طارئا ، فالأقرب أنّ القول قول المجنيّ عليه (١) ، انتهى.

ولا يخفى صراحته في العمل بأصالة عدم زوال الإصبع في إثبات الجناية على اليد التامّة.

والظاهر أنّ مقابل الأقرب ما يظهر من الشيخ ; في الخلاف (٢) في نظير المسألة ، وهو ما إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه ، فإنّه قوّى عدم ضمان الصحيح.

الفرع الخامس

ومنها : ما ذكره جماعة (٣) ـ تبعا للمبسوط (٤) والشرائع (٥) ـ في اختلاف الجاني والوليّ في موت المجنيّ عليه بعد الاندمال أو قبله.

إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه ، خصوصا كتب الشيخ والفاضلين والشهيدين.

عدم عمل الأصحاب بكلّ أصل مثبت

لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب عدم العمل بكلّ أصل مثبت.

فإذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة على ضرب اللّفاف (٦)

__________________

(١) التحرير ٢ : ٢٦١.

(٢) الخلاف ٥ : ٢٠٣.

(٣) انظر المسالك ٢ : ٣٨٥ ، وكشف اللثام ٢ : ٤٨٠ ، والجواهر ٤٢ : ٤١٦ و ٤١٧.

(٤) المبسوط ٧ : ١٠٦.

(٥) الشرائع ٤ : ٢٤٠.

(٦) المراد به اللّفافة.

٢٤٢

بالسيف على وجه لو كان زيد الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف لقتله ، إلاّ أنّهما اختلفا في بقائه ملفوفا أو خروجه عن اللفّ ، فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم بأنّ الأصل بقاء لفّه ، فيثبت القتل إلاّ أن يثبت الآخر خروجه؟! أو تجد فرقا بين بقاء زيد على اللفّ وبقائه على الحياة ؛ لتوقّف تحقّق عنوان القتل عليهما؟!

وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شكّ في بقائه فيه ، فهل يحكم أحد بطهارة الثوب بثبوت انغساله بأصالة بقاء الماء؟!

وكذا لو رمى صيدا أو شخصا على وجه لو لم يطرأ حائل لأصابه ، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل؟!

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لإثبات الموضوعات الخارجيّة التي يترتّب عليها الأحكام الشرعيّة.

وكيف كان ، فالمتّبع هو الدليل.

وقد عرفت (١) أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعيّ ـ كما هو ظاهر أكثر القدماء ـ فهو كإحدى الأمارات الاجتهاديّة يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابيّ.

وأمّا على المختار : من اعتباره من باب الأخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب.

__________________

(١) في الصفحة ٢٣٨.

٢٤٣

حجّية الأصل المثبت مع خفاء الواسطة

نعم هنا شيء :

وهو أنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعيّ ، من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاما لنفس المستصحب ، وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاء باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف.

نماذج من خفاء الواسطة

منها : ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها ، بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة ، ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه بها ، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض ، المثبت لانغسال الثوب به.

وحكى في الذكرى عن المحقّق (١) تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه. فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض كما يظهر من المحقّق (٢) ؛ حيث عارض استصحاب طهارة الشاكّ في الحدث باستصحاب اشتغال ذمّته (٣).

__________________

(١) حكاه عنه في الفتاوى ، انظر الذكرى ١ : ٨٣ ، ولم نعثر عليه في كتب المحقّق قدس‌سره.

(٢) انظر المعتبر ١ : ٣٢.

(٣) في غير (ص) زيادة : «بالعبادة».

٢٤٤

ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ ، المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام العيد ، من الصلاة والغسل وغيرهما. فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريّته (١) ، ولا أوّليّة غده للشهر اللاحق ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال ، إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوّليّة غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يسبق بمثله والآخر ما اتّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر.

وكيف كان ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العاديّ والعقليّ بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب.

وربما يتمسّك (٢) في بعض موارد الاصول المثبتة ، بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك ، مثل : إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشكّ في وجوده على محلّ الغسل أو المسح ، لإثبات غسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغسل.

وفيه نظر.

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «حتّى يترتّب عليه أحكام آخريّة رمضان».

(٢) المتمسّك هو صاحب الفصول ، لكن ليس في كلامه ذكر الإجماع ، انظر الفصول : ٣٧٨.

٢٤٥
٢٤٦

الأمر السابع

هل تجري أصالة تأخّر الحادث؟

لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق رأسا ، وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء.

فإذا شكّ في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق ، فلا يقدح في جريان استصحاب حياته علمنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان وعدمه.

وهذا هو الذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان ، فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك ، ويلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث. فإذا شكّ في مبدأ موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ، فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب مستلزمة عقلا لكون مبدأ موته يوم الجمعة.

وحيث تقدّم في الأمر السابق (١) أنّه لا يثبت بالاستصحاب ـ بناء

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٣٣ و ٢٤٣.

٢٤٧

على العمل به من باب الأخبار ـ لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ـ لا على مجرّد حياته قبل الجمعة ـ حكم شرعيّ لم يترتّب على ذلك.

صور تأخّر الحادث

نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، أو كان اللازم العقليّ من اللوازم الخفيّة ، جرى فيه ما تقدّم ذكره (١).

وتحقيق المقام وتوضيحه :

١ ـ إذا لوحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان

أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ـ كالمثال المتقدّم ـ فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم ، لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ؛ إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه.

إلاّ أن يقال : إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل عدم الشيء سابقا ، وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل ، تحقّق مفهوم الحدوث ، وقد عرفت (٢) حال الموضوع الخارجيّ الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل.

وممّا ذكرنا يعلم : أنّه لو كان الحادث ممّا نعلم بارتفاعه بعد حدوثه فلا يترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ؛ لأنّ وجوده مساو لحدوثه. نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان (٣) من الزمانين ، كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كرّا قبل الخميس ،

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٣٨ و ٢٤٤.

(٢) راجع الصفحة ٢٣٦.

(٣) في (ر) زيادة : «ما».

٢٤٨

فعلم أنّه صار كرّا بعده وارتفع كرّيّته بعد ذلك ، فنقول : الأصل عدم كرّيّته في يوم الخميس ، ولا يثبت بذلك كرّيّته يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ؛ لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه. نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين حكم بطهارته من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين.

٢ ـ إذا لوحظ بالقياس إلى حادث آخر وجهل تأريخهما

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فإمّا أن يجهل تأريخهما أو يعلم تأريخ أحدهما :

فإن جهل تأريخهما فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ؛ لأنّ التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ؛ لعدم مسبوقيّته باليقين. وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين ، وسيجيء تحقيقه (١) إن شاء الله تعالى. وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن ؛ لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر؟ وجهان :

من كون التقارن أمرا وجوديّا لازما لعدم (٢) كلّ منهما قبل الآخر.

ومن كونه من اللوازم الخفيّة حتّى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود.

لو كان أحدهما معلوم التأريخ

وإن كان أحدهما معلوم التأريخ فلا يحكم على مجهول التأريخ إلاّ بأصالة عدم وجوده في تأريخ ذلك ، لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده. نعم ، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت. فإذا علم تأريخ

__________________

(١) في مبحث تعارض الاستصحابين ، الصفحة ٤٠٧.

(٢) في (ت) و (ص) زيادة : «كون».

٢٤٩

ملاقاة الثوب للحوض وجهل تأريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته وعدم كرّيّته في زمان الملاقاة. وإذا علم تأريخ الكريّة حكم أيضا بأصالة عدم تقدّم (١) الملاقاة في زمان الكرّيّة ، وهكذا.

وربما يتوهّم (٢) : جريان الأصل في طرف المعلوم أيضا (٣) ، بأن يقال : الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعيّ للآخر.

قولان آخران في هذه الصورة

ويندفع : بأنّ نفس وجوده غير مشكوك في زمان ، وأمّا وجوده في زمان الآخر فليس مسبوقا بالعدم.

ثمّ إنّه يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران :

القول الأوّل

أحدهما : جريان هذا الأصل في طرف مجهول التأريخ ، وإثبات تأخّره عن معلوم التأريخ بذلك. وهو ظاهر المشهور ، وقد صرّح بالعمل به الشيخ (٤) وابن حمزة (٥) والمحقّق (٦) والعلاّمة (٧) والشهيدان (٨) وغيرهم (٩) في

__________________

(١) لم ترد «تقدّم» في (ر).

(٢) توهّمه جماعة ، منهم : صاحب الجواهر وشيخه كاشف الغطاء ـ كما سيأتي ـ حيث توهّموا جريان أصالة العدم في المعلوم أيضا ، وجعلوا المورد من المتعارضين ، كما في مجهولي التأريخ.

(٣) «أيضا» من نسخة (حاشية بارفروش ٢ : ١٢٤).

(٤) المبسوط ٨ : ٢٧٣.

(٥) الوسيلة : ٢٢٥.

(٦) الشرائع ٤ : ١٢٠.

(٧) قواعد الأحكام (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٢٢٩ ، والتحرير ٢ : ٣٠٠.

(٨) الدروس ٢ : ١٠٨ ، والمسالك ٢ : ٣١٩.

(٩) مثل الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٦١.

٢٥٠

بعض الموارد ، منها : مسألة اتّفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، فإنّهم حكموا بأنّ القول قول مدّعي تأخّر الموت.

نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقّف في بعض المقامات ـ من غير تفصيل بين العلم بتأريخ أحد الحادثين وبين الجهل بهما ـ عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم تأريخ الآخر ، كمسألة اشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ، ومسألة اشتباه الجمعتين ، واشتباه موت المتوارثين ، ومسألة اشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع أو تأخّره عنه ، وغير ذلك.

لكنّ الإنصاف : عدم الوثوق بهذا الإطلاق ، بل هو إمّا محمول على صورة الجهل بتأريخهما ـ وأحالوا صورة العلم بتأريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر ـ أو على محامل أخر.

وكيف كان ، فحكمهم في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الإسلام وتأخّره مع إطلاقهم في تلك الموارد ، من قبيل النصّ والظاهر. مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الإطلاق في موارد ، كالشهيدين في الدروس (١) والمسالك (٢) في مسألة الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الإذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلاّمة الطباطبائيّ (٣) في مسألة

__________________

(١) الدروس ٣ : ٤٠٩.

(٢) المسالك ٤ : ٧٨.

(٣) حيث قال في منظومته في الفقه ـ الدرّة النجفيّة : ٢٣ ـ :

وإن يكن يعلم كلّ منهما

مشتبها عليه ما تقدّما

فهو على الأظهر مثل المحدث

إلاّ إذا عيّن وقت الحدث

٢٥١

اشتباه السابق من الحدث والطهارة.

هذا ، مع أنّه لا يخفى ـ على متتبّع موارد هذه المسائل وشبهها ممّا يرجع في حكمها إلى الاصول ـ أنّ غفلة بعضهم بل أكثرهم عن مجاري الاصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة.

الثاني : عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تأريخ أحدهما بصورة جهل تأريخهما. وقد صرّح به بعض المعاصرين (١) ـ تبعا لبعض الأساطين (٢) ـ مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين والطهارة والحدث وموت المتوارثين ، مستدلا على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل.

وظاهر استدلاله إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر وكون المجهول متحقّقا بعد (٣) المعلوم.

لكن ظاهر استشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتأريخ أحدهما أصلا. فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده ، فيحكم له بإرث أبيه ، وظاهر هذا القائل عدم الحكم بذلك ، وكون حكمه حكم الجهل بتأريخ موت زيد أيضا في عدم التوارث بينهما.

وكيف كان ، فإن أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخّر ذلك الحادث

__________________

(١) وهو صاحب الجواهر في الجواهر ٢٥ : ٢٦٩ ، و ٢ : ٣٥٣ و ٣٥٤.

(٢) وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ١٠٢.

(٣) في (ص) زيادة : «تحقّق».

٢٥٢

ـ كما هو ظاهر المشهور ـ فإنكاره في محلّه.

وإن أراد عدم جواز التمسّك باستصحاب عدم ذلك الحادث ووجود ضدّه وترتيب جميع آثاره الشرعيّة في زمان الشكّ ، فلا وجه لإنكاره ؛ إذ لا يعقل (١) الفرق بين مستصحب علم بارتفاعه في زمان وما لم يعلم.

وأمّا ما ذكره : من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها ، فقد عرفت ما فيه (٢).

فالحاصل : أنّ المعتبر في مورد الشكّ في تأخّر حادث عن آخر استصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر.

فإن كان زمان حدوثه معلوما فيجري أحكام بقاء المستصحب في زمان الحادث المعلوم لا غيرها ، فإذا علم بتطهّره في الساعة الاولى من النهار ، وشكّ في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة (٣) ، لكن لا يلزم من ذلك ارتفاع الطهارة المتحقّقة في الساعة الاولى ، كما تخيّله بعض الفحول (٤).

وإن كان مجهولا كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالا ، وسيجيء توضيحه (٥).

__________________

(١) في (ظ): «يعلم».

(٢) راجع الصفحة ٢٥١.

(٣) في (ص) زيادة : «الاولى».

(٤) قيل : هو السيّد بحر العلوم ، ولكن لم نعثر عليه في المصابيح.

(٥) في باب تعارض الاستصحابين ، الصفحة ٤٠٦.

٢٥٣

صحّة الاستصحاب القهقرى بناء على الأصل المثبت

واعلم : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه ، ويحكم بتقدّمه ؛ لأنّ تأخّره لازم لحدوث حادث آخر قبله والأصل عدمه ، وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقرى.

مثاله : أنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشكّ في كونها كذلك قبل ذلك حتّى تحمل خطابات الشارع على ذلك ، فيقال : مقتضى الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك الزمان ، بل قبله ؛ إذ لو كان (١) في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه.

الاتفاق على هذا الاستصحاب في الاصول اللفظيّة

وهذا إنّما يصحّ بناء على الأصل المثبت ، وقد استظهرنا سابقا (٢) أنّه متّفق عليه في الاصول اللفظيّة ، ومورده : صورة الشكّ في وحدة المعنى وتعدّده. أمّا إذا علم التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في زماننا ، فمقتضى الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم ؛ ولذا اتّفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة على أنّ الأصل فيها عدم الثبوت.

__________________

(١) كذا في النسخ ، والمناسب : «كانت» ؛ لرجوع الضمير إلى صيغة الأمر.

(٢) راجع الصفحة ١٣.

٢٥٤

الأمر الثامن

هل يجري استصحاب صحّة العبادة عند الشكّ في طروء مفسد؟

قد يستصحب صحّة العبادة عند الشكّ في طروّ مفسد ، كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة ، أو وجود ما يشكّ في اعتبار عدمه. وقد اشتهر التمسّك بها بين الأصحاب ، كالشيخ (١) والحلّي (٢) والمحقّق (٣) والعلاّمة (٤) وغيرهم (٥).

وتحقيقه وتوضيح مورد جريانه : أنّه لا شكّ ولا ريب في أنّ المراد بالصحّة المستصحبة ليس صحّة مجموع العمل ؛ لأنّ الفرض التمسّك به عند الشكّ في الأثناء.

وأمّا صحّة الأجزاء السابقة فالمراد بها : إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، وإمّا ترتّب الأثر عليها :

__________________

(١) انظر الخلاف ٣ : ١٥٠ ، والمبسوط ٢ : ١٤٧.

(٢) انظر السرائر ١ : ٢٢٠.

(٣) انظر المعتبر ١ : ٥٤.

(٤) انظر نهاية الإحكام ١ : ٥٣٨ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٢٤.

(٥) كالشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧٣.

٢٥٥

أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل أم لا ؛ لأنّ فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك ؛ ضرورة عدم انقلاب الشيء عمّا وجد عليه.

وأمّا ترتّب الأثر ، فليس الثابت منه للجزء (١) ـ من حيث إنّه جزء ـ إلاّ كونه بحيث لو ضمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ ، في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكلّ.

ومن المعلوم أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية ، أم قطع بعدمه ، أم شكّ في ذلك. فإذا شكّ في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء ، فالقطع ببقاء صحّة تلك الأجزاء لا ينفع في تحقّق الكلّ مع وصف هذا الشكّ ، فضلا عن استصحاب الصحّة. مع ما عرفت : من أنّه ليس الشكّ في بقاء صحّة تلك الأجزاء ، بأيّ معنى اعتبر من معاني الصحّة.

ومن هنا ، ردّ هذا الاستصحاب جماعة من المعاصرين (٢) ممّن يرى حجّيّة الاستصحاب مطلقا.

مختار المصنّف التفصيل

لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسّك.

بيانه : أنّه قد يكون الشكّ في الفساد من جهة احتمال فقد أمر معتبر أو وجود أمر مانع ، وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب

__________________

(١) في (ط) زيادة : «المتقدّم».

(٢) كصاحب الفصول في الفصول : ٥٠.

٢٥٦

الصحّة ؛ لما عرفت (١) : من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الامور اللاحقة لا يقدح في صحّة الأجزاء السابقة.

وقد يكون من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتّصاليّة المعتبرة في الصلاة ، فإنّا استكشفنا ـ من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع ـ أنّ للصلاة هيئة اتصاليّة ينافيها توسّط بعض الأشياء في خلال أجزائها ، الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابليّة الانضمام والأجزاء السابقة عن قابليّة الانضمام إليها ، فإذا شكّ في شيء من ذلك وجودا أو صفة جرى استصحاب صحّة الأجزاء ـ بمعنى بقائها على القابليّة المذكورة ـ فيتفرّع على ذلك عدم وجوب استئنافها ، أو استصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة وما يلحقها من الأجزاء الباقية ، فيتفرّع عليه بقاء الأمر بالإتمام.

وهذا الكلام وإن كان قابلا للنقض والإبرام ، إلاّ أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفيّة في كثير من الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام.

التمسّك في مطلق الشكّ في الفساد باستصحاب حرمة القطع وغير ذلك ومناقشتها

وربما يتمسّك (٢) في مطلق الشكّ في الفساد ، باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ.

وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشكّ في الصحّة.

وربما يتمسّك في إثبات الصحّة في محلّ الشكّ ، بقوله تعالى :

__________________

(١) في أوّل الصفحة السابقة.

(٢) تقدّم هذا الاستدلال في مبحث البراءة ٢ : ٣٨٠.

٢٥٧

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(١).

وقد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البراءة عند الكلام في مسألة الشكّ في الشرطيّة (٢) ، وكذلك التمسّك بما عداها من العمومات المقتضية للصحّة.

__________________

(١) تمسّك بها غير واحد تبعا للشيخ ، كما تقدّم في مبحث البراءة ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، والآية من سورة محمّد : ٣٣.

(٢) راجع مبحث البراءة ٢ : ٣٧٧ ـ ٣٨٠.

٢٥٨

الأمر التاسع

لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة أو الأحكام الشرعيّة العمليّة ، اصوليّة كانت أو فرعيّة.

عدم جريان الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة

وأمّا الشرعيّة الاعتقاديّة ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها ؛ لأنّه :

إن كان من باب الأخبار فليس مؤدّاها إلاّ الحكم على ما كان (١) معمولا به على تقدير اليقين (٢) ، والمفروض أنّ وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشكّ ؛ لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف.

وإن كان من باب الظنّ فهو مبنيّ على اعتبار الظنّ في اصول الدين ، بل الظنّ غير حاصل فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعيّ ؛ لأنّ الشكّ إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في المستصحب. نعم ، لو شكّ في نسخة أمكن دعوى الظنّ ، لو لم يكن احتمال النسخ ناشئا عن احتمال نسخ أصل

__________________

(١) في (ت) و (ص) بدل «الحكم على ما كان» : «حكما عمليّا».

(٢) في (ص) ، (ظ) و (ر) زيادة : «به».

٢٥٩

الشريعة ، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة.

أمّا الاحتمال الناشئ عن احتمال نسخ الشريعة فلا يحصل الظنّ بعدمه ؛ لأنّ نسخ الشرائع شائع ، بخلاف نسخ الحكم في شريعة واحدة ؛ فإنّ الغالب بقاء الأحكام.

لو شكّ في نسخ أصل الشريعة؟

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو شكّ في نسخ أصل الشريعة لم يجز التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقائها ، مع أنّه لو سلّمنا حصول الظنّ فلا دليل على حجّيّته حينئذ ؛ لعدم مساعدة العقل عليه وإن انسدّ باب العلم ؛ لإمكان الاحتياط إلاّ فيما لا يمكن. والدليل النقليّ الدالّ عليه لا يجدي ؛ لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.

تمسّك بعض أهل الكتاب باستصحاب شرعه

فعلم ممّا ذكرنا أنّ ما يحكى : من تمسّك بعض أهل الكتاب ـ في مناظرة بعض الفضلاء السادة (١) ـ باستصحاب شرعه ، ممّا لا وجه له ، إلاّ أن يريد جعل البيّنة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة ، إمّا لدفع كلفة الاستدلال عن نفسه ، وإمّا لإبطال دعوى المدّعي ؛ بناء على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوّة يحتاج إلى برهان قاطع ، فعدم الدليل القاطع للعذر على الدين الجديد ـ كالنبيّ الجديد ـ دليل قطعيّ

__________________

(١) هو السيّد باقر القزويني على ما نقله الآشتياني ـ في بحر الفوائد ٣ : ١٥٠ ـ عن المصنّف ، وقيل : إنّه السيّد حسين القزويني ، وقيل : إنّه السيّد محسن الكاظمي ، وفي أوثق الوسائل (٥١٦) عن رسالة لبعض تلامذة العلاّمة بحر العلوم : أنّ المناظرة جرت بين السيّد بحر العلوم وبين عالم يهودي حين سافر إلى زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في بلدة ذي الكفل ، وكانت محل تجمّع اليهود آنذاك ، كما أنّه يحتمل تعدّد الواقعة.

٢٦٠