فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

باستصحاب الضاحك المحقّق في ضمن زيد ـ صحيح ، وقد عرفت أنّ عدم جواز استصحاب نفس الكلّي ـ وإن لم يثبت به (١) خصوصيّة (٢) ـ لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحقّ فيه التفصيل ، كما عرفت (٣).

المناقشة في ما مثل به الفاضل التوني لما نحن فيه

إلاّ أنّ كون عدم المذبوحيّة من قبيل الضاحك محلّ نظر ؛ من حيث إنّ العدم الأزليّ مستمرّ مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف ، فلا مانع من استصحابه وترتيب أحكامه عليه عند الشكّ ، وإن قطع بتبادل الوجودات المقارنة له ، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين من الكلّيّ كان الاستصحاب في الأمر العدميّ المقارن للوجودات خاليا عن الإشكال إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخّر المقارن له ـ نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية ـ أو ارتباط الموجود المقارن له به ، كما إذا فرض الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن حيضا فهو استحاضة ، فإنّ استصحاب عدم الحيض في زمان خروج الدم المشكوك لا يوجب انطباق هذا السلب على ذلك الدم وصدقه عليه ، حتّى يصدق «ليس بحيض» على هذا الدم ، فيحكم عليه بالاستحاضة ؛ إذ فرق بين الدم المقارن لعدم الحيض وبين الدم المنفيّ عنه الحيضيّة.

وسيجيء (٤) نظير هذا الاستصحاب الوجوديّ والعدميّ في الفرق

__________________

(١) «به» من (ت) و (ه).

(٢) في (ه): «خصوصيّته».

(٣) راجع الصفحة ١٩٦.

(٤) انظر الصفحة ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٢٠١

بين الماء المقارن لوجود الكرّ وبين الماء (١) المتّصف بالكرّيّة.

والمعيار : عدم الخلط بين المتّصف بوصف عنواني وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ؛ فإنّ استصحاب وجود المتّصف أو عدمه لا يثبت كون المحلّ موردا لذلك (٢) الوصف العنوانيّ ، فافهم.

__________________

(١) في نسخة بدل (ص) زيادة : «المقارن».

(٢) لم ترد «الوصف بمحلّ ـ إلى ـ لذلك» في (ظ).

٢٠٢

الأمر الثاني

هل يجري الاستصحاب في الزمان والزمانيّات؟

أنّه قد علم من تعريف الاستصحاب وأدلّته أنّ مورده الشكّ في البقاء ، وهو وجود ما كان موجودا في الزمان السابق. ويترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ، ولا في الزمانيّ الذي لا استقرار لوجوده بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ، وكذا في المستقرّ الذي يؤخذ قيدا له. إلاّ أنّه يظهر من كلمات جماعة (١) جريان الاستصحاب في الزمان ، فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ، بل تقدّم من بعض الأخباريين : أنّ استصحاب الليل والنهار من الضروريّات (٢).

الأقسام ثلاثة : ١ ـ استصحاب نفس الزمان

والتحقيق : أنّ هنا أقساما ثلاثة :

أمّا نفس الزمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل أو النهار ؛ لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السابق ، فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا.

__________________

(١) حيث يستدلّون في كتاب الصوم باستصحاب الليل والنهار ، انظر اللمعة : ٥٦ ، كفاية الأحكام : ٤٦ ، مشارق الشموس : ٤٠٦ ، والجواهر ١٦ : ٢٧٦.

(٢) راجع الصفحة ٤٤.

٢٠٣

نعم لو اخذ المستصحب مجموع الليل أو النهار ، ولوحظ كونه أمرا خارجيّا واحدا ، وجعل بقاؤه وارتفاعه عبارة عن عدم تحقّق جزئه الأخير وتحقّقه (١) أو عن عدم تجدّد جزء مقابله وتجدّده ، أمكن القول بالاستصحاب بهذا المعنى فيه أيضا (٢) ؛ لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصوّره (٣) العرف له (٤) من الوجود ، فيصدق أنّ الشخص كان على يقين من وجود الليل فشكّ فيه ، فالعبرة بالشكّ في وجوده والعلم بتحقّقه قبل زمان الشكّ وإن كان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشكّ. وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيّات ، حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال ، أو لتعميم (٥) البقاء لمثل هذا مسامحة.

إلاّ أنّ هذا المعنى ـ على تقدير صحّته والإغماض عمّا فيه ـ لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متّصفا بكونه من النهار أو من الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض الوجوه الآتية (٦) ، ولو بنينا على ذلك أغنانا عمّا ذكر من التوجيه (٧) استصحابات

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها بدل «تحقّقه» : «تجدّده».

(٢) لم ترد «أمكن ـ إلى ـ أيضا» في (ر) و (ص).

(٣) كذا في (ر) ، وفي غيرها بدل «يتصوّره» : «يتصوّر فيه».

(٤) لم ترد «له» في (ت).

(٥) في (ظ) بدل «لتعميم» : «بتعميم».

(٦) انظر الصفحة ٢٤٤.

(٧) في (ظ) ومصحّحة (ص) زيادة : «ثمّ إنّ هنا».

٢٠٤

آخر في (١) امور متلازمة مع الزمان ، كطلوع الفجر ، وغروب الشمس ، وذهاب الحمرة ، وعدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها.

فالأولى : التمسّك في هذا المقام باستصحاب الحكم المترتّب على الزمان (٢) لو كان جاريا فيه ، كعدم تحقّق حكم الصوم والإفطار عند الشكّ في هلال رمضان أو شوّال ، ولعلّه المراد بقوله عليه‌السلام في المكاتبة المتقدّمة (٣) في أدلّة الاستصحاب : «اليقين لا يدخله الشّكّ ، صم للرّؤية وأفطر للرّؤية» ، إلاّ أنّ جواز الإفطار (٤) للرؤية لا يتفرّع على الاستصحاب الحكميّ ، إلاّ بناء على جريان استصحاب الاشتغال والتكليف بصوم رمضان ، مع أنّ الحقّ في مثله التمسّك بالبراءة ؛ لكون صوم كلّ يوم واجبا مستقلا.

٢ ـ استصحاب الامور التدريجيّة غير القارّة

وأمّا القسم الثاني ، أعني : الامور التدريجيّة (٥) الغير القارّة ـ كالتكلّم والكتابة والمشي ونبع الماء من العين وسيلان دم الحيض من الرحم ـ فالظاهر جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها (٦) أمرا واحدا مستمرّا ، نظير ما ذكرناه في نفس الزمان ، فيفرض التكلّم ـ مثلا ـ مجموع أجزائه أمرا واحدا ، والشكّ في بقائه لأجل الشكّ في قلّة أجزاء

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها بدل «في» : «و».

(٢) في (ص) زيادة : «و».

(٣) المتقدّمة في الصفحة ٧١.

(٤) في (ص) و (ظ) زيادة : «أو وجوبه».

(٥) في (ه) زيادة : «الخارجيّة».

(٦) في (ت): «منها».

٢٠٥

ذلك الفرد الموجود منه في الخارج وكثرتها ، فيستصحب القدر المشترك المردّد بين قليل الأجزاء وكثيرها.

ودعوى : أنّ الشكّ في بقاء القدر المشترك ناش عن حدوث جزء آخر من الكلام ، والأصل عدمه المستلزم لارتفاع القدر المشترك ، فهو من قبيل (١) القسم الثالث من الأقسام المذكورة في الأمر السابق.

مدفوعة : بأنّ الظاهر كونه من قبيل الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة ؛ لأنّ المفروض في توجيه الاستصحاب جعل كلّ فرد من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطة توجب عدّها شيئا واحدا وفردا من الطبيعة ، لا جعل كلّ قطعة من الكلام الواحد فردا واحدا حتّى يكون بقاء الطبيعة بتبادل أفراده ، غاية الأمر كون المراد بالبقاء هنا وجود المجموع في الزمان الأوّل بوجود جزء منه ووجوده في الزمان الثاني بوجود جزء آخر منه. والحاصل : أنّ المفروض كون كلّ قطعة جزء من الكلّ ، لا جزئيّا من الكلّيّ.

هذا ، مع ما عرفت ـ في الأمر السابق (٢) ـ من جريان الاستصحاب فيما كان من القسم الثالث فيما إذا لم يعدّ الفرد اللاحق على تقدير وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأوّل ، كما في السواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع القويّ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فافهم.

ثمّ إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع (٣) أمرا واحدا موكولة إلى

__________________

(١) في (ه) ومصححة (ت) زيادة : «القسم الثاني من».

(٢) راجع الصفحة ١٩٦.

(٣) في (ت): «الموجود».

٢٠٦

العرف ، فإنّ المشتغل بقراءة القرآن لداع ، يعدّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرا واحدا ، فإذا شكّ في بقاء اشتغاله بها في زمان لأجل الشكّ في حدوث الصارف أو لأجل الشكّ في مقدار اقتضاء الداعي ، فالأصل بقاؤه. أمّا لو تكلّم لداع أو لدواع ثمّ شكّ في بقائه على صفة التكلّم لداع آخر ، فالأصل عدم حدوث (١) الزائد على المتيقّن.

وكذا لو شكّ بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة أم لا ، فيمكن إجراء الاستصحاب ؛ نظرا إلى أنّ الشكّ في اقتضاء طبيعتها (٢) لقذف الرحم (٣) الدم في أيّ مقدار من الزمان ، فالأصل عدم انقطاعه.

وكذا لو شكّ في اليأس ، فرأت الدم ، فإنّه قد يقال باستصحاب الحيض ؛ نظرا إلى كون الشكّ في انقضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر.

وحاصل وجه الاستصحاب : ملاحظة كون الشكّ في استمرار الأمر الواحد الذي اقتضاه السبب الواحد ، وإذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلا ، فالأصل عدم الزائد على المتيقّن وعدم حدوث سببه.

ومنشأ اختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه

__________________

(١) في (ه) بدل «حدوث» : «حصول».

(٢) في (ت) و (ه) بدل «طبيعتها» : «الطبيعة».

(٣) في (ص) بدل «طبيعتها لقذف الرحم» : «طبيعة الرحم لقذف».

٢٠٧

الموارد اختلاف أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمرّ حادثا واحدا أو حوادث متعدّدة.

والإنصاف : وضوح الوحدة في بعض الموارد ، وعدمها في بعض ، والتباس الأمر في ثالث. والله الهادي إلى سواء السبيل ، فتدبّر.

٣ ـ استصحاب الامور المقيّدة بالزمان

وأمّا القسم الثالث ـ وهو ما كان مقيّدا بالزمان ـ فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه. ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاصّ لا يعقل فيه البقاء ؛ لأنّ البقاء : وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني ، وقد تقدّم الاستشكال (١) في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة ؛ لكون متعلّقاتها هي الأفعال المتشخّصة بالمشخّصات التي لها دخل وجودا وعدما في تعلّق الحكم ، ومن جملتها الزمان.

ما ذكره الفاضل النراقي : من معارضة استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا مع استصحاب وجوده

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين (٢) : من تخيّل جريان استصحاب عدم الأمر الوجوديّ المتيقّن سابقا ، ومعارضته مع استصحاب وجوده ؛ بزعم أنّ المتيقّن وجود ذلك الأمر في القطعة الاولى من الزمان ، والأصل بقاؤه ـ عند الشكّ ـ على العدم الأزليّ الذي لم يعلم انقلابه إلى الوجود إلاّ في القطعة السابقة من الزمان. قال في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين :

إنّه إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنّه واجب إلى الزوال ، ولم يعلم وجوبه فيما بعده ، فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال ، وبعده معلوما قبل

__________________

(١) تقدّم هذا الإشكال وجوابه في ذيل القول السابع في الصفحة ١٤٥ ـ ١٤٨.

(٢) هو الفاضل النراقي في مناهج الأحكام.

٢٠٨

ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة ، وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال ، وصار بعده موضع الشكّ ، فهنا شكّ ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت : يحكم ببقاء (١) اليقين المتّصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس.

قلنا : إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع ، فشكّ في يوم الخميس ـ مثلا ، حال ورود الأمر ـ في أنّ الجلوس غدا هل هو المكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتّصل به هو عدم التكليف ، فيستصحب ويستمرّ ذلك إلى وقت الزوال (٢) ، انتهى.

ثمّ أجرى ما ذكره ـ من تعارض استصحابي الوجود والعدم ـ في مثل : وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ في بقاء وجوب الصوم معه ، وفي الطهارة إذا حصل الشكّ فيها لأجل المذي ، وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرّة.

فحكم في الأوّل بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم ، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وفي الثالث بتعارض استصحاب

__________________

(١) في المصدر زيادة : «حكم».

(٢) مناهج الأحكام : ٢٣٧.

٢٠٩

النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ، فيتساقط الاستصحابان (١) في هذه الصور ، إلاّ أن (٢) يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم ، وهو عدم الرافع وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعيّة رافعا.

قال : ولو لم يعلم أنّ الطهارة ممّا لا يرتفع إلاّ برافع ، لم نقل فيه باستصحاب الوجود.

ثمّ قال : هذا في الامور الشرعيّة ، وأمّا الامور الخارجيّة ـ كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ـ فاستصحاب (٣) الوجود فيها حجّة بلا معارض ؛ لعدم تحقّق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها (٤) ، انتهى.

مناقشات في ما أفاده الفاضل النراقي

أقول : الظاهر التباس الأمر عليه.

مناقشة أولى : الزمان قد يؤخذ قيدا وقد يؤخذ ظرفا

أمّا أوّلا : فلأنّ الأمر الوجوديّ المجعول ، إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه ـ بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلّقا للوجوب ـ فلا مجال لاستصحاب الوجوب ؛ للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشكّ في حدوث ما عداه ؛ ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : «صم يوم الخميس» إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة.

__________________

(١) في (ر): «الاستصحابات».

(٢) في (ت): «أنّه».

(٣) في المصدر هكذا : «فاستصحاب حال الشرع فيها ، أي استصحاب وجودها».

(٤) مناهج الأحكام : ٢٣٨.

٢١٠

وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس فلا مجال لاستصحاب العدم ؛ لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان وكونه أزيد ، والمفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار العدم السابق.

وما ذكره قدس‌سره : من أنّ الشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس ، مدفوع : بأنّ ذلك (١) أيضا ـ حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ـ مهمل بحكم الشارع بإبقاء كلّ حادث لا يعلم مدّة بقائه ، كما لو شكّ قبل حدوث حادث في مدّة بقائه.

والحاصل : أنّ الموجود في الزمان الأوّل ، إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ، فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ، فلا مجال لاستصحاب الموجود (٢) ؛ إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان الأوّل من مقوّماته.

وإن لوحظ متّحدا مع الثاني لا مغايرا له إلاّ من حيث ظرفه الزمانيّ ، فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود ؛ لأنّه انقلب إلى الوجود.

وكأنّ المتوهّم ينظر في دعوى جريان استصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا واحدا قابلا للاستمرار بعد زمان الشكّ ، وفي دعوى جريان استصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود وجعل كلّ

__________________

(١) في (ت) و (ظ) و (ه) زيادة : «الشكّ».

(٢) في (ظ) و (ه): «الوجود».

٢١١

واحد منها بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ، فيؤخذ بالمتيقّن منها ويحكم على المشكوك منها (١) بالعدم.

وملخّص الكلام في دفعه : أنّ الزمان إن اخذ ظرفا للشيء فلا يجري إلاّ استصحاب وجوده ؛ لأنّ العدم انتقض بالوجود المطلق ، وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلّة الاستصحاب. وإن اخذ قيدا له فلا يجري إلاّ استصحاب العدم ؛ لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق (٢) ، والأصل عدم الانتقاض ، كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ولم يثبت غيره.

مناقشة ثانية فيما أفاده النراقي

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره ، من استصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشكّ في الرافع ، غير مستقيم ؛ لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة ، وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرّة بمقتضى استعدادها ، فليس الشكّ متعلّقا بمقدار سببيّة السبب. وكذا الكلام في سببيّة ملاقاة البول للنجاسة عند الشكّ في ارتفاعها بالغسل مرّة.

فإن قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلا ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعيّ قبل المذي ، وشككنا في الحكم بوجودها بعده ، والأصل عدم ثبوتها بالشرع.

قلت : لا بدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشكّ في ثبوت

__________________

(١) لم ترد «منها» في (ظ) ، وشطب عليها في (ت).

(٢) وردت العبارة في (ظ) هكذا : «لأنّ انتقاض العدم بالوجود المقيّد لا يستلزم انتقاضه بالمطلق».

٢١٢

الطهارة بعد المذي ، الشكّ في مقدار تأثير المؤثّر ـ وهو الوضوء ـ وأنّ المتيقّن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ، أو أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمرّ لو لا ما جعله الشارع رافعا. فعلى الأوّل ، لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ؛ لأنّ المتيقّن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء ، والأصل عدم التأثير مع وجوده ، إلاّ أن يتمسّك باستصحاب وجود المسبّب ، فهو نظير ما لو شكّ في بقاء تأثير الوضوء المبيح ـ كوضوء التقيّة بعد زوالها ـ لا من قبيل الشكّ في ناقضيّة المذي. وعلى الثاني ، لا معنى لاستصحاب العدم ؛ إذ لا شكّ في مقدار تأثير المؤثّر حتّى يؤخذ بالمتيقّن.

مناقشة ثالثة فيما أفاده النراقي قدس‌سره

وأمّا ثالثا : فلو سلّم جريان استصحاب العدم حينئذ ، لكن ليس استصحاب عدم جعل الشيء رافعا حاكما على هذا الاستصحاب ؛ لأنّ الشكّ في أحدهما ليس مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، بل مرجع الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو الحدث أو الطهارة. نعم ، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجيّ ـ أعني وجود المزيل وعدمه ـ لأنّ الشكّ في كون المكلّف حال الشكّ مجعولا في حقّه الطهارة أو الحدث مسبّب عن الشكّ في تحقّق الرافع ، إلاّ أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الإجماليّ بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غير جار (١).

__________________

(١) في (ص) زيادة : «فتأمّل».

٢١٣
٢١٤

الأمر الثالث

عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة

أنّ المتيقّن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل ـ كحرمة الظلم وقبح التكليف بما لا يطاق ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ـ فلا يجوز استصحابه ؛ لأنّ الاستصحاب إبقاء ما كان ، والحكم العقليّ موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به ، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيّا كما حكم أوّلا ، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم ، ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد.

وأمّا الشكّ في بقاء الموضوع ، فإن كان لاشتباه خارجيّ ـ كالشكّ في بقاء الإضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه ـ فذلك خارج عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه (١).

وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة الموضوع ، فهذا غير متصوّر في المستقلاّت العقليّة ؛ لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم إلاّ بعد إحراز الموضوع

__________________

(١) انظر الصفحة ٢١٧.

٢١٥

ومعرفته تفصيلا ؛ لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضروريّة لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضروريّة كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل ، مع أنّك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء الموضوع (١) ، أنّ الشكّ في الموضوع ـ خصوصا لأجل مدخليّة شيء ـ مانع عن إجراء الاستصحاب.

فإن قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعيّ مع أنّه كاشف عن حكم عقليّ مستقلّ؟ فإنّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع طبقه بوجوب الردّ ، ثمّ عرض ما يوجب الشكّ ـ مثل الاضطرار والخوف ـ فيستصحب الحكم (٢) مع أنّه كان تابعا للحكم العقليّ.

عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي أيضا

قلت : أمّا الحكم الشرعيّ المستند إلى الحكم العقليّ ، فحاله حال الحكم العقليّ في عدم جريان الاستصحاب. نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعيّ من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم ، جرى الاستصحاب وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل ؛ ومن هنا يجري استصحاب عدم التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ (٣) العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح وإن كان موردا للقبح.

هذا حال نفس الحكم العقلي.

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٨٩ ـ ٢٩١.

(٢) في مصحّحة (ص) زيادة : «الشرعي».

(٣) كذا في النسخ ، والمناسب بدل «لكنّ» : «لأنّ».

٢١٦

هل يجري الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي؟

وأمّا موضوعه ـ كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ـ فالذي ينبغي أن يقال فيه :

إنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ؛ لأنّه يظنّ الضرر بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كما في مثال الضرر (١).

وإن اعتبر من باب التعبّد ـ لأجل الأخبار ـ فلا يجوز العمل به ؛ للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشكّ في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع (٢).

مثلا : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشكّ ، وأمّا الحكم العقلي (٣) بالقبح والحرمة (٤) فلا يثبت إلاّ مع إحراز الضرر (٥). نعم ، يثبت الحرمة الشرعيّة بمعنى نهي الشارع ظاهرا (٦) ، ولا منافاة بين انتفاء

__________________

(١) لم ترد «إن كان ـ إلى ـ الضرر» في (ظ) ، وفي (ت) و (ص) كتب فوقها : «نسخة».

(٢) لم ترد «فلا يجوز ـ إلى ـ مع القطع» في (ظ) ، وفي (ت) و (ص) كتب عليها : «نسخة» ، وورد بدلها في هذه النسخ ما يلي : «فلا يثبت إلاّ الآثار الشرعيّة المجعولة القابلة للجعل الظاهريّ ، وتعبّد الشارع بالحكم العقلي يخرجه عن كونه حكما عقليّا» ، لكن شطب عليها في (ت).

(٣) في (ص): «حكم العقل».

(٤) لم ترد «الحرمة» في (ر).

(٥) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل «مع إحراز الضرر» : «بذلك».

(٦) في (ر) و (ص) زيادة : «لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي» ، وفي (ص) بدل «سابقا» : «ظاهرا» ، وكتبت على هذه الزيادة فيها : «نسخة».

٢١٧

الحكم العقليّ وثبوت الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ عدم حكم العقل (١) مع الشكّ إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعيّ الواقعيّ أيضا ، إلاّ أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعيّ بحكم ظاهريّ هي الحرمة.

ما يظهر مّما ذكرنا

وممّا ذكرنا ـ من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقليّ ـ يظهر :

ما في تمسّك بعضهم (٢) لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها ، باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان.

وما في اعتراض بعض المعاصرين (٣) على من خصّ ـ من القدماء والمتأخّرين ـ استصحاب حال العقل باستصحاب العدم ، بأنّه لا وجه للتخصيص ؛ فإنّ حكم العقل المستصحب قد يكون وجوديّا تكليفيّا كاستصحاب تحريم التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ـ كالاضطرار والخوف ـ أو وضعيّا كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشكّ في بقائها. ويظهر حال المثالين الأوّلين ممّا ذكرنا سابقا (٤). وأمّا المثال الثالث ، فلم يتصوّر فيه الشكّ في بقاء شرطيّة العلم للتكليف في زمان. نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ثمّ اشتبه وصار معلوما

__________________

(١) في (ت): «الحكم العقلي».

(٢) لم نقف عليه ، وقيل : إنّه المحقّق القمّي ، انظر أوثق الوسائل : ٤٤٥.

(٣) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٦٦.

(٤) من : عدم إمكان جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ، انظر الصفحة ٢١٥.

٢١٨

بالإجمال ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه ، مع عدم جريان الاستصحاب فيه ، كما سننبّه عليه (١).

ويظهر أيضا فساد التمسّك باستصحاب البراءة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال (٢).

مثال الأوّل : ما إذا قطع بالبراءة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه ، فإنّ مجرّد الشكّ في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبراءة ، ولا حاجة إلى إبقاء البراءة السابقة والحكم بعدم ارتفاعها ظاهرا ، فلا فرق بين الحالة السابقة واللاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما ؛ لكون المناط في القبح عدم العلم. نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من استصحابه ليس إلاّ ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلاّ عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشكّ ، فهو من آثار الشكّ لا المشكوك.

ومثال الثاني : ما إذا حكم العقل ـ عند اشتباه المكلّف به ـ بوجوب السورة في الصلاة ، ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ، ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعيّ وسقوطه ـ كأن صلّى بلا سورة أو إلى بعض الجهات أو اجتنب أحدهما ـ فربما يتمسّك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقّن سابقا.

__________________

(١) سيأتي التنبيه عليه في الصفحة اللاحقة عند قوله : «لكنّه لا يقضي».

(٢) تقدّم هذا الاستدلال في مبحث البراءة والاشتغال ٢ : ٥٩ و ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

٢١٩

وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلاّ بحكم العقل الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان ، وهو بعينه موجود في هذا الزمان. نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق : حصول العلم بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان ، وهذا لا يؤثّر في حكم العقل المذكور ؛ إذ يكفي فيه العلم بالتكليف الواقعي آناً ما. نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعيّ وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع السورة والصلاة إلى الجهة الباقية واجتناب المشتبه الباقي ، بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع. لكن مجرّد ذلك لا يثبت وجوب الإتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت ، أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، والأوّل لا نقول به ، والثاني بعينه موجود في محلّ الشكّ من دون الاستصحاب.

٢٢٠