فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

مبنى نسبة هذا القول إلى المحقّق

ثمّ إنّ نسبة القول المذكور إلى المحقّق قدس‌سره مبنيّ على أنّ مراده (١) من دليل الحكم في كلامه ـ بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور ـ هو المقتضي ، وعلى أن يكون حكم الشكّ في وجود الرافع حكم الشكّ في رافعيّة الشيء ؛ إمّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ، وإمّا لعدم القول بالإثبات في الشكّ في الرافعيّة والإنكار في الشكّ في وجود الرافع ، وإن كان العكس موجودا ، كما سيجيء من المحقّق السبزواري (٢).

لكن في كلا الوجهين نظر :

المناقشة في المبنى المذكور

أمّا الأوّل ، فالإمكان الفرق في الدليل الذي ذكره ؛ لأنّ مرجع ما ذكره في الاستدلال إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العامّ والمخصّص ، فإذا ثبت عموم المقتضي ـ وهو عقد النكاح ـ لحلّ الوطء في جميع الأوقات ، فلا يجوز رفع اليد عنه بالألفاظ التي وقع الشكّ في كونها مزيلة لقيد (٣) النكاح ؛ إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه بمجرّد الشكّ في التخصيص.

أمّا لو ثبت تخصيص العامّ ـ وهو المقتضي لحلّ الوطء ، أعني عقد النكاح ـ بمخصّص ، وهو اللفظ الذي اتّفق على كونه مزيلا لقيد (٤) النكاح ، فإذا شكّ في تحقّقه وعدمه فيمكن منع التمسّك بالعموم حينئذ ؛ إذ الشكّ ليس في طروّ التخصيص على العامّ ، بل في وجود ما خصّص العامّ به يقينا ، فيحتاج إثبات عدمه المتمّم للتمسّك بالعامّ إلى إجراء

__________________

(١) في (ظ) ، (ه) ونسخة بدل (ت): «يراد».

(٢) انظر الصفحة ١٦٥.

(٣ و ٤) في نسخة بدل (ص): «لعقد».

١٦١

الاستصحاب ، بخلاف ما لو شكّ في أصل التخصيص ، فإنّ العامّ يكفى لإثبات حكمه في مورد الشكّ (١).

وبالجملة : فالفرق بينهما ، أنّ الشكّ في الرافعيّة ـ في ما نحن فيه (٢) ـ من قبيل الشكّ في تخصيص العامّ زائدا على ما علم تخصيصه ، نظير ما إذا ثبت تخصيص العلماء في «أكرم العلماء» بمرتكبي الكبائر ، وشكّ في تخصيصه بمرتكب الصغائر ، فإنّه يجب التمسّك بالعموم.

والشكّ في وجود الرافع ـ فيما نحن فيه (٣) ـ شكّ في وجود ما خصّص العامّ به يقينا ، نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشكّ في تحقّق الارتكاب وعدمه في عالم ، فإنّه لو لا إحراز عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها إلى الاستصحاب المختلف فيه لم ينفع العامّ في إيجاب إكرام ذلك المشكوك.

توجيه نسبة هذا القول إلى المحقّق

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ مبنى كلام المحقّق قدس‌سره لمّا كان على وجود المقتضي حال الشكّ وكفاية ذلك في الحكم بالمقتضى ، فلا فرق في كون الشكّ في وجود الرافع أو رافعيّة الموجود.

والفرق بين الشكّ في الخروج والشكّ في تحقّق الخارج في مثال العموم والخصوص ، من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل ـ من جهة أصالة الحقيقة (٤) ـ وعدم إحرازه في المثال الثاني

__________________

(١) في (ص) و (ظ) زيادة : «وأمّا أصالة عدم التخصيص فهي من الاصول اللفظيّة المتّفق عليها كما هو ظاهر» ، ولم ترد كلمة «ظاهر» في (ظ).

(٢ و ٣) لم ترد «في ما نحن فيه» في (ر).

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «والعموم».

١٦٢

لعدم جريان ذلك الأصل ، لا لإحراز المقتضي لنفس الحكم ـ وهو وجوب الإكرام ـ في الأوّل دون الثاني ، فظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين المثالين (١).

وأمّا دعوى عدم الفصل بين الشكّين على الوجه المذكور فهو ممّا لم يثبت.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المحقّق قدس‌سره لم يتعرّض لحكم الشكّ في وجود الرافع ؛ لأنّ ما كان من الشبهة الحكميّة من هذا القبيل ليس إلاّ النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه إجماعيّ بل ضروريّ ، كما تقدّم (٢)(٣).

وأمّا الشبهة الموضوعيّة ، فقد تقدّم (٤) خروجها في كلام القدماء عن (٥) مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام ، فالتكلّم فيها إنّما يقع تبعا للشبهة الحكميّة ، ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في الأحكام وعدم جريانه بالاستصحاب (٦) في الموضوعات الخارجيّة ، فترى المنكرين (٧) يمثّلون بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة

__________________

(١) لم ترد «هذا ولكن ـ إلى ـ بين المثالين» في (ظ).

(٢) راجع الصفحة ٣١.

(٣) في (ص) زيادة : «فتأمّل».

(٤) راجع الصفحة ٤٣.

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «معقد».

(٦) شطب على «بالاستصحاب» في (ت) ، وكتب فوقها في (ص): «زائد».

(٧) انظر الذريعة ٢ : ٨٣٣.

١٦٣

ببقائه فإنّه لا يحكم ببقائه بمجرّد احتماله ، والمثبتين (١) بما إذا غاب زيد عن أهله وماله فإنّه يحرم التصرّف فيهما بمجرّد احتمال الموت.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة المحقّق وإن أوهم اختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأييد الحكم ، فلا يشمل ما لو كان الحكم موقّتا ـ حتّى جعل بعض (٢) هذا من وجوه الفرق بين قول المحقّق والمختار ، بعد ما ذكر وجوها أخر ضعيفة غير فارقة ـ لكن مقتضى دليله (٣) شموله لذلك إذا كان الشكّ في رافعيّة شيء للحكم قبل مجيء الوقت.

__________________

(١) انظر المعارج : ٢٠٧.

(٢) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٦٩.

(٣) في (ه) زيادة : «بتنقيح المناط فيه».

١٦٤

حجّة القول العاشر

التفصيل بين الشك في وجود الغاية وعدمه

ما حكي عن المحقّق السبزواري في الذخيرة (١) ، فإنّه استدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الإطلاق ـ بممازجته مع المضاف النجس ـ بالاستصحاب. ثمّ ردّه : بأنّ استمرار الحكم تابع لدلالة الدليل ، والإجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة. ثمّ قال :

ما استدلّ به المحقّق السبزواري على هذا القول

لا يقال : قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، ولكن تنقضه بيقين آخر» يدلّ على استمرار أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع.

لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعيّ الذي تعلّق به اليقين : إمّا أن يكون مستمرّا ـ بمعنى أنّ له دليلا دالا على الاستمرار بظاهره ـ أم لا ، وعلى الأوّل فالشكّ في رفعه يكون على أقسام.

ثمّ ذكر الشكّ في وجود الرافع ، والشكّ في رافعيّة الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء ، والشكّ في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشكّ في كون الشيء رافعا مستقلا. ثمّ قال :

إنّ الخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة دون غيره ؛ لأنّ في غيره لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شكّ في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما شكّ في

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٥٢.

١٦٥

كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه ، لا بالشكّ ؛ فإنّ الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنّما حصل (١) النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ؛ لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشكّ ، وإنّما يكون ذلك في صورة خاصّة دون (٢) غيرها (٣). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : ظاهره تسليم صدق النقض في صورة الشكّ في استمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل أيضا (٤) ، وإنّما المانع عدم صدق النقض بالشكّ فيها.

المناقشة فيما أفاده المحقّق السبزواري

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ الشكّ واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشكّ في كونه رافعا ، ومقيّدة بكونها بعده ، فيتعلّق اليقين بالاولى والشكّ بالثانية ، واليقين والشكّ بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ـ سواء كان قبل حدوث ذلك الشيء أو بعده ـ فهذا الشكّ كان حاصلا من قبل ، كما أنّ اليقين باق من بعد.

وقد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة المطلقة ، وهما بهذا الاعتبار لا يجتمعان في زمان واحد ، بل الشكّ متأخّر عن اليقين.

__________________

(١) كذا في الذخيرة والقوانين ، ولكن في النسخ بدل «حصل» : «يعقل».

(٢) لم ترد «دون» في الذخيرة والقوانين.

(٣) الذخيرة : ١١٥ ـ ١١٦.

(٤) لم ترد «أيضا» في (ر).

١٦٦

ولا ريب أنّ المراد باليقين والشكّ في قوله عليه‌السلام في صدر الصحيحة المذكورة : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» وغيرها من أخبار الاستصحاب ، هو اليقين والشكّ المتعلّقان بشيء واحد ـ أعني الطهارة المطلقة ـ وحينئذ فالنقض المنهيّ عنه هو نقض اليقين بالطهارة بهذا الشكّ المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين.

وأمّا وجود الشيء المشكوك الرافعيّة ، فهو بوصف الشكّ في كونه رافعا الحاصل من قبل سبب لهذا الشكّ ؛ فإنّ كلّ شكّ (١) لا بدّ له من سبب متيقّن الوجود حتّى الشكّ في وجود الرافع ، فوجود الشيء المشكوك في رافعيّته جزء أخير (٢) للعلّة التامّة للشكّ المتأخّر الناقض ، لا للنقض.

وثانيا : أنّ رفع اليد عن أحكام اليقين عند الشكّ في بقائه وارتفاعه لا يعقل إلاّ أن يكون مسبّبا عن نفس الشكّ ؛ لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق أو العمل بالاصول المخالفة له لا يكون إلاّ لأجل الشكّ ، غاية الأمر كون الشيء المشكوك كونه رافعا منشأ للشكّ. والفرق بين الوجهين : أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع ، والثاني إلى عدم الإمكان.

وثالثا : سلّمنا أنّ النقض في هذه الصور ليس بالشكّ ، لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف ، ولا يخفى أنّ ظاهر ما ذكره في ذيل الصحيحة : «ولكن تنقضه بيقين آخر» حصر الناقض لليقين السابق في اليقين

__________________

(١) في (ص) بدل «شكّ» : «شيء».

(٢) في (ظ) بدل «أخير» : «آخر».

١٦٧

بخلافه ، وحرمة النقض بغيره ـ شكّا كان أم يقينا بوجود ما شكّ في كونه رافعا ـ ألا ترى أنّه لو قيل في صورة الشكّ في وجود الرافع : أنّ النقض بما هو متيقّن من سبب الشكّ لا بنفسه ، لا يسمع.

وبالجملة : فهذا القول ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الإجماع المركّب بل البسيط على خلافه.

وقد يتوهّم (١) : أنّ مورد صحيحة زرارة الاولى (٢) ممّا أنكر المحقّق المذكور الاستصحاب فيه ؛ لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين من نقضهما للوضوء.

وفيه : ما لا يخفى ؛ فإنّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليه‌السلام : «قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن» ، وإنّما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارة على النوم ، مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ، فأجاب بعدم اعتبار ما عدا اليقين بقوله عليه‌السلام : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين ... الخ».

نعم ، يمكن أن يلزم المحقّق المذكور ـ كما ذكرنا سابقا (٣) ـ بأنّ الشكّ في أصل النوم في مورد الرواية مسبّب عن وجود ما يوجب الشكّ في تحقّق النوم ، فالنقض به ، لا بالشكّ (٤) ، فتأمّل.

__________________

(١) هو شريف العلماء ، انظر ضوابط الاصول : ٣٥١ ، وكذا صاحب الفصول في الفصول : ٣٧٢ ، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام : ٢٣١.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٥٥.

(٣) راجع الصفحة السابقة.

(٤) في (ص) زيادة : «فيه».

١٦٨

حجّة القول الحادي عشر

التفصيل المتقدم مع زيادة الشك في مصداق الغاية

ما ذكره المحقّق الخوانساري قدس‌سره في شرح الدروس ـ عند قول الشهيد قدس‌سره : «ويجزي ذو الجهات الثلاث» ـ ما لفظه :

استدلال المحقّق الخوانساري على هذا القول

حجّة القول بعدم الإجزاء : الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ـ والحجر الواحد لا يسمّى بذلك ـ ، واستصحاب حكم النجاسة حتّى يعلم لها مطهّر شرعيّ ، وبدون الثلاثة لا يعلم المطهّر الشرعيّ.

وحسنة ابن المغيرة (١) وموثّقة ابن يعقوب (٢) لا يخرجان عن الأصل ؛ لعدم صحّة سندهما ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار.

وأصل البراءة ـ بعد ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها ـ لا يبقى بحاله.

إلى أن قال ـ بعد منع حجّيّة الاستصحاب ـ :

اعلم أنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم إلى قسمين ، باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى شرعيّ وغيره.

فالأوّل ، مثل : ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيقولون : إنّ بعد ذلك الزمان (٣) يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٧ ، الباب ١٣ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٣ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٥.

(٣) في المصدر زيادة : «أيضا».

١٦٩

والثاني ، مثل : ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، ففي ما بعد ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف.

فذهب بعضهم إلى حجّيّته بقسميه ، وذهب بعضهم إلى حجّيّة القسم الأوّل (١). واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ، كلّها قاصرة عن إفادة المرام ، كما يظهر بالتأمّل فيها. ولم نتعرّض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب ، فنقول :

إنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجّيّة فيه أصلا بكلا قسميه ؛ إذ لا دليل عليه تامّا ، لا عقلا ولا نقلا. نعم ، الظاهر حجّيّة الاستصحاب بمعنى آخر : وهو أن يكون دليل شرعيّ على أنّ الحكم الفلانيّ بعد تحقّقه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا ـ مثلا ـ معيّن في الواقع ، بلا اشتراطه بشيء أصلا ، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في وجوده.

والدليل على حجّيّته أمران :

الأوّل : أنّ هذا الحكم إمّا وضعيّ ، أو اقتضائيّ ، أو تخييريّ ، ولمّا كان الأوّل عند التحقيق يرجع إليهما فينحصر في الأخيرين.

وعلى التقديرين فيثبت ما رمناه (٢) :

أمّا على الأوّل ، فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة ـ مثلا ـ فعند الشكّ في حدوث تلك الغاية ، لو لم يمتثل التكليف المذكور

__________________

(١) في المصدر زيادة : «فقط».

(٢) في (ر) ومصحّحة (ص) بدل «رمناه» : «ادّعيناه» ، وفي المصدر : «ذكرنا».

١٧٠

لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال ، فلا بدّ من بقاء ذلك التكليف حال الشكّ أيضا ، وهو المطلوب.

وأمّا على الثاني ، فالأمر أظهر ، كما لا يخفى.

والثاني : ما ورد في الروايات : من أنّ «اليقين لا ينقض بالشكّ».

فإن قلت : هذا كما يدلّ على (١) المعنى الذي ذكرته ، كذلك يدلّ على (٢) المعنى الذي ذكره القوم ؛ لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فلا ينبغي أن ينقض في زمان آخر بالشكّ ، نظرا إلى الروايات ، وهو بعينه ما ذكروه.

قلت : الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ. وفيما ذكروه ليس كذلك ؛ لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ ، وهو ظاهر.

فإن قلت : هل الشكّ في كون الشيء مزيلا للحكم مع العلم بوجوده كالشكّ في وجود المزيل أو لا؟

قلت : فيه تفصيل ؛ لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ إلى غاية معيّنة في الواقع ، ثمّ علمنا صدق تلك الغاية على شيء ، وشككنا في صدقها على شيء آخر ، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشكّ.

__________________

(١ و ٢) في المصدر زيادة : «حجيّة».

١٧١

وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ، ومزيله الشيء الفلانيّ ، وشككنا في أنّ الشيء الآخر أيضا يزيله أم لا؟ فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره ؛ إذ الدليل الأوّل غير جاز فيه ؛ لعدم ثبوت حكم العقل في مثل هذه الصورة ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم. والدليل الثاني ، الحقّ أنّه لا يخلو من إجمال ، وغاية ما يسلّم منها ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما ، وإن كان فيه أيضا بعض المناقشات ، لكنّه لا يخلو عن تأييد للدليل الأوّل ، فتأمّل.

فإن قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه فيما نحن فيه وأنت منعته ، الظاهر أنّه من قبيل ما اعترفت به ؛ لأنّ حكم النجاسة ثابت ما لم يحصل مطهّر شرعيّ إجماعا ، وهنا لم يحصل الظنّ المعتبر شرعا بوجود المطهّر ؛ لأنّ حسنة ابن المغيرة وموثّقة ابن يعقوب (١) ليستا حجّة شرعيّة ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدّمة ، فغاية الأمر حصول الشكّ بوجود المطهّر ، وهو لا ينقض اليقين (٢).

قلت : كونه من قبيل الثاني ممنوع ؛ إذ لا دليل على أنّ النجاسة باقية ما لم يحصل مطهّر شرعيّ ، وما ذكر من الإجماع غير معلوم ؛ لأنّ غاية ما أجمعوا عليه أنّ التغوّط إذا حصل لا يصحّ الصلاة (٣) بدون الماء والتمسّح رأسا ـ لا بالثلاثة ولا بشعب الحجر الواحد ـ فهذا الإجماع

__________________

(١) تقدّم تخريجهما في الصفحة ١٦٩ ، الهامش ١ و ٢.

(٢) في المصدر زيادة : «كما ذكرت فما وجه المنع؟».

(٣) في المصدر زيادة : «مثلا».

١٧٢

لا يستلزم الإجماع على ثبوت حكم النجاسة حتّى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا ، فلا يكون من قبيل ما ذكرنا.

فإن قلت : هب أنّه ليس داخلا تحت الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : قد ثبت بالإجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع ، وهو مردّد بين أن يكون المسح بثلاثة أحجار أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ، فما لم يأت بالأوّل لم يحصل اليقين بالامتثال والخروج عن العهدة ، فيكون الإتيان به واجبا.

قلت : نمنع الإجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مبهم في نظر المكلّف ، بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لاستحقّ العقاب ، بل الإجماع على أنّ ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لا يتركهما.

والحاصل : أنّه إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن ـ مثلا ـ معلوم عندنا ، أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم ، حتّى يتحقّق الامتثال ، ولا يكفي الشكّ في وجوده. وكذا يلزم الحكم ببقاء ذلك الحكم إلى أن يحصل العلم أو الظنّ بوجود تلك الغاية المعلومة ، ولا يكفي الشكّ في وجودها في ارتفاع ذلك الحكم.

وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين امور ، ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء مثلا ، أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم مثلا ،

١٧٣

يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة (١) في نظرنا ، وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا ، ولا يكفي الإتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في ارتفاع الحكم. وسواء في ذلك كون الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولا عندنا أو أشياء كذلك ، أو غاية معيّنة في الواقع مجهولة عندنا أو غايات كذلك ، وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات أو تباينها بالكلّيّة.

وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل ورد نصّ ـ مثلا ـ على أنّ الواجب الشيء الفلانيّ ونصّ آخر على أنّ ذلك الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الأمّة إلى وجوب شيء وبعض آخر إلى وجوب شيء آخر ، وظهر ـ بالنصّ و (٢) الإجماع في الصورتين ـ أنّ ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما معا حتّى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أم تباينا كلّيّة. وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الكلّي إلى الغاية.

هذا مجمل القول في هذا المقام. وعليك بالتأمّل في خصوصيّات الموارد ، واستنباط أحكامها عن هذا الأصل ، ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المعارضات. والله الهادي إلى سواء الطريق (٣). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

__________________

(١) في المصدر زيادة : «فيها».

(٢) في المصدر بدل «و» : «أو».

(٣) مشارق الشموس : ٧٥ ـ ٧٦.

١٧٤

وحكى السيّد الصدر في شرح الوافية عنه قدس‌سره حاشية اخرى له (١) ـ عند قول الشهيد ; : «ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه ... الخ» ـ ما لفظه :

كلام آخر للمحقّق الخوانساري

وتوضيحه : أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيّته عقلا ، وما تمسّكوا به ضعيف. وغاية ما تمسّكوا (٢) فيها ما ورد في بعض الروايات الصحيحة : «إنّ اليقين لا ينقض بالشكّ» ، وعلى تقدير تسليم صحّة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل (٣) وعدم منعها ـ بناء على أنّ هذا الحكم الظاهر أنّه من الاصول ، ويشكل التمسّك بخبر الواحد في الاصول ، إن سلّم التمسّك به في الفروع ـ نقول :

أوّلا : أنّه لا يظهر شموله للامور الخارجيّة ، مثل رطوبة الثوب ونحوها ؛ إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الامور التي ليست أحكاما شرعيّة ، وإن أمكن أن يصير منشأ لحكم شرعيّ ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به.

ثمّ بعد تخصيصه بالأحكام الشرعيّة ، فنقول : الأمر على وجهين :

أحدهما : أن يثبت حكم شرعيّ في مورد خاصّ باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحال لا يستلزم زوال ذلك الحكم.

والآخر : أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك.

__________________

(١) ليست هذه الحاشية في الموضع المذكور فيما عندنا من نسخة مشارق الشموس.

(٢) في المصدر بدل «تمسّكوا» : «يتمسّك».

(٣) في المصدر بدل «الأصل» : «الحكم».

١٧٥

مثال الأوّل : إذا ثبت نجاسة ثوب خاصّ باعتبار ملاقاته للبول ، بأن يستدلّ عليها : بأنّ هذا شيء لاقاه البول ، وكلّ ما لاقاه البول نجس ، فهذا نجس. والحكم الشرعي النجاسة ، وثبوته باعتبار حال هو ملاقاة البول ، وقد علم من خارج ـ ضرورة أو إجماعا أو غير ذلك ـ بأنّه لا يزول النجاسة بزوال الملاقاة فقط.

ومثال الثاني : ما نحن بصدده ، فإنّه ثبت وجوب الاجتناب عن الإناء المخصوص باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه ، وكلّ شيء كذلك يجب الاجتناب عنه ، ولم يعلم بدليل من الخارج أنّ زوال ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلوميّة بعينه لا دخل له في زوال ذلك الحكم.

وعلى هذا نقول : شمول الخبر للقسم الأوّل ظاهر ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه. وأمّا القسم الثاني فالتمسّك فيه مشكل.

فإن قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل أنّه لا يزول الحكم بزوال الوصف ، فأيّ حاجة إلى التمسّك بالاستصحاب؟ وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار ، من : أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ؟

قلت : القسم الأوّل على وجهين :

أحدهما : أن يثبت أنّ الحكم ـ مثل النجاسة بعد الملاقاة ـ حاصل ما لم يرد عليه (١) الماء على الوجه المعتبر في الشرع ، وحينئذ فائدته أنّ عند حصول الشكّ في ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة.

والآخر : أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف ، لكن

__________________

(١) في المصدر : «عليها».

١٧٦

لم يعلم أنّه ثابت دائما ، أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة ، أم لا؟ وفائدته (١) أنّه إذا ثبت الحكم في الجملة فيستصحب إلى أن يعلم المزيل.

ثمّ لا يخفى : أنّ الفرق الذي ذكرنا ـ من أنّ إثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكل ، مع انضمام أنّ الظهور (٢) في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل ، وأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ـ قد يقال : إنّ ظاهره أن يكون اليقين حاصلا ـ لو لا الشكّ ـ باعتبار دليل دالّ على الحكم في غير صورة ما شكّ فيه ؛ إذ لو فرض عدم دليل لكان نقض اليقين ـ حقيقة ـ باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم ، لا الشكّ ، كأنّه يصير قريبا. ومع ذلك ينبغي رعاية الاحتياط في كلّ من القسمين ، بل في الامور الخارجيّة أيضا (٣). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

المناقشة فيما أفاده المحقّق الخوانساري

أقول : لقد أجاد فيما أفاد ، وجاء بما فوق المراد ، إلاّ أنّ في كلامه مواقع للتأمّل ، فلنذكر مواقعه ونشير إلى وجهه ، فنقول :

قوله : «وذهب بعضهم إلى حجّيّته في القسم الأوّل».

ظاهره ـ كصريح ما تقدّم منه في حاشيته الاخرى ـ وجود القائل بحجّيّة الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة الجزئيّة كطهارة هذا الثوب ، والكلّيّة كنجاسة المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وعدم الحجّيّة في الامور الخارجيّة ، كرطوبة الثوب وحياة زيد.

__________________

(١) في المصدر زيادة : «حينئذ».

(٢) في المصدر بدل «الظهور» : «اليقين».

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ٣٣٩ ـ ٣٤١.

١٧٧

وفيه نظر ، يعرف (١) بالتتبّع في كلمات القائلين بحجّيّة الاستصحاب وعدمها ، والنظر في أدلّتهم ، مع أنّ ما ذكره في الحاشية الأخيرة ـ دليلا لعدم الجريان في الموضوع ـ جار في الحكم الجزئيّ أيضا ؛ فإنّ بيان وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاصّ واقعا وعدم وصولها ، وبيان نجاسته المسبّبة عن هذا الوصول وعدمها لعدم الوصول ، كلاهما خارج عن شأن الشارع ، كما أنّ بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا وبيان عدم وصول النجاسة إليه ظاهرا ـ الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة ظاهرا ـ ليس إلاّ شأن الشارع ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم (٢)(٣).

قوله : «الظاهر حجّيّة الاستصحاب بمعنى آخر ... الخ».

وجه مغايرة ما ذكره لما ذكره المشهور ، هو : أنّ الاعتماد في البقاء عند المشهور على الوجود السابق ـ كما هو ظاهر قوله : «لوجوده في زمان سابق عليه» ، وصريح قول شيخنا البهائيّ : «إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأوّل» (٤) ـ وليس الأمر كذلك على طريقة شارح الدروس.

قوله قدس‌سره : «إنّ الحكم الفلانيّ بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حال

__________________

(١) تقدّم وجه النظر في الصفحة ٣٣.

(٢) راجع الصفحة ١١٢.

(٣) في حاشية (ص) زيادة العبارة التالية : «ونظيره أدلّة حلّ الأشياء الواردة في الشبهة الموضوعيّة كما في رواية مسعدة بن صدقة الواردة في الثوب المشتبه بالحرام والمملوك المشتبه بالحرّ والزوجة المشتبهة بالرضيعة».

(٤) الزبدة : ٧٢ ـ ٧٣.

١٧٨

كذا أو وقت كذا ... الخ».

أقول : بقاء الحكم إلى زمان كذا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلّق به الحكم الواحد ، كأن يلاحظ الجلوس في المسجد إلى وقت الزوال فعلا واحدا تعلّق به أحد الأحكام الخمسة ، ومن أمثلته : الإمساك المستمرّ إلى الليل ؛ حيث إنّه ملحوظ فعلا واحدا تعلّق به الوجوب أو الندب أو غيرهما من أحكام الصوم.

الثاني : أن يلاحظ الفعل في كلّ جزء يسعه من الزمان المغيّا (١) موضوعا مستقلا تعلّق به حكم ، فيحدث في المقام أحكام متعدّدة لموضوعات متعدّدة ، ومن أمثلته : وجوب الصوم عند رؤية هلال رمضان إلى أن يرى هلال شوّال ؛ فإنّ صوم كلّ يوم إلى انقضاء الشهر فعل مستقلّ تعلّق به حكم مستقلّ.

أمّا الأوّل ، فالحكم التكليفيّ : إمّا أمر ، وإمّا نهي ، وإمّا تخيير :

فإن كان أمرا ، كان اللازم عند الشكّ في وجود الغاية ما ذكره :

من وجوب الإتيان بالفعل تحصيلا لليقين بالبراءة من التكليف المعلوم ، لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال ، ووجب الخروج منه من الزوال إلى الغروب ؛ فإنّ وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشكّ في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد الزوال ، فلا بدّ من الرجوع في وجوب الجلوس عند الشكّ في الزوال

__________________

(١) في نسخة بدل (ص) بدل «المغيّا» : «المعيّن».

١٧٩

إلى أصل آخر غير الاحتياط ، مثل : أصالة عدم الزوال ، أو عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس ، أو عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك.

وإن كان نهيا ، كما إذا حرم الإمساك المحدود بالغاية المذكورة أو الجلوس المذكور ، فإن قلنا بتحريم الاشتغال ـ كما هو الظاهر ـ كان المتيقّن التحريم قبل الشكّ في وجود الغاية ، وأمّا التحريم بعده فلا يثبت بما ذكر في الأمر ، بل يحتاج إلى الاستصحاب المشهور ، وإلاّ فالأصل الإباحة في صورة الشكّ. وإن قلنا : إنّه لا يتحقّق الحرام ولا استحقاق العقاب إلاّ بعد تمام (١) الإمساك والجلوس المذكورين ، فيرجع إلى مقتضى أصالة عدم استحقاق العقاب وعدم تحقّق المعصية ، ولا دخل له بما ذكره في الأمر.

وإن كان تخييرا ، فالأصل فيه وإن اقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية للفعل عند الشكّ فيها ، إلاّ أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب فيه الاحتياط ، كما إذا أباح الأكل إلى طلوع الفجر مع تنجّز وجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه ؛ فإنّ الظاهر لزوم الكفّ من الأكل عند الشكّ. هذا كلّه إذا لوحظ الفعل المحكوم عليه بالحكم الاقتضائيّ أو التخييريّ أمرا واحدا مستمرّا.

وأمّا الثاني ، وهو ما لوحظ فيه الفعل امورا متعدّدة كلّ واحد منها متّصف بذلك الحكم غير مربوط بالآخر ، فإن كان أمرا أو نهيا فأصالة الإباحة والبراءة قاضية بعدم الوجوب والحرمة في زمان الشكّ ،

__________________

(١) في (ص) و (ظ) بدل «تمام» : «إتمام».

١٨٠