فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

الاستصحاب ، فتأمّل.

وبالجملة : فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب.

ومنها : أنّ الاحتياط عسر منفيّ وجوبه (١).

٢ ـ كون الاحتياط عسراً

وفيه : أنّ تعسّره ليس إلاّ من حيث كثرة موارده ، وهي (٢) ممنوعة ؛ لأنّ مجراها عند الأخباريّين موارد فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ، وعند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصّة ، وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحرج.

ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة فلا بدّ له من العمل بالظنّ الغير المنصوص على حجّيته ؛ حذرا عن لزوم محذور الحرج ، ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد الذي أقاموه على وجوب التعدّي عن الظنون المخصوصة المنصوصة (٣) ، فراجع.

٣ ـ كون الاحتياط متعذّراً أحياناً

ومنها : أنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة.

وفيه : ما لا يخفى ، ولم أر ذكره إلاّ في كلام شاذّ لا يعبأ به (٤).

__________________

(١) استدل بهذا الوجه السيد المجاهد في المفاتيح : ٥٠٦.

(٢) كذا في (ف) وفي غيرها : «فهي».

(٣) لم ترد «المنصوصة» في (ر) ، (ص) و (ظ).

(٤) استدلّ بهذا الوجه ـ كما قيل ـ المحقّق جمال الدين الخوانساري في حاشيته على شرح المختصر (مخطوط) ، وكذا السيد المجاهد في المفاتيح : ٥٠٩.

٦١

[أدلّة القول بالاحتياط](١)

احتجّ للقول الثاني ـ وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ـ بالأدلّة الثلاثة :

الاستدلال بالكتاب :

فمن الكتاب طائفتان :

١ ـ الآيات الناهية عن القول غير علم

إحداهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم (٢) ؛ فإنّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء ؛ حيث إنّه لم يؤذن فيه.

ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ؛ لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ؛ فإنّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.

٢ ـ الآيات الدالّة على لزوم الاحتياط والاتقاء

والاخرى : ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط والاتّقاء والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت (٣) ـ للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد ـ ، وهي قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٤) و (جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)(٥).

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) مثل قوله تعالى في سورة الإسراء : ٣٦(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

(٣) الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ٢٣٨.

(٤) آل عمران : ١٠٢.

(٥) الحج : ٧٨.

٦٢

أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(١) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(٣).

والجواب :

الجواب عن آيات النهي عن القول بغير علم

أمّا عن الآيات الناهية عن القول بغير علم ـ مضافا إلى النقض بشبهة الوجوب والشبهة في الموضوع ـ : فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا على قبح العقاب من غير بيان المتّفق عليه بين المجتهدين والأخباريين ، ليس من ذلك.

الجواب عن آيات الاحتياط

وأمّا عمّا عدا آية التهلكة : فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى والمجاهدة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله (٤).

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالنّة

وأمّا عن آية التهلكة : فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم ، وبمعنى غيره يكون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاجتناب بالاتّفاق.

ومن السنّة طوائف :

١ ـ الأخبار الداّلة على حرمة القول والعمل بغير علم والجواب عنها

إحداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم(٥).

__________________

(١) التغابن : ١٦.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) الذكرى ٢ : ٤٤٤.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ٩ و ٢٠ ، الباب ٤ و ٦ من أبواب صفات القاضي.

٦٣

وقد ظهر جوابها ممّا ذكر في الآيات (١).

٢ ـ الأخبار الدالّة على وجوب التوقّف

والثانية : ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة وعدم العلم ، وهي لا تحصى كثرة.

وظاهر التوقّف المطلق السكون وعدم المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٢).

فلا يرد على الاستدلال (٣) : أنّ التوقّف في الحكم الواقعيّ مسلّم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهريّ منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقّف في العمل لا معنى له.

فنذكر بعض تلك الأخبار تيمّنا :

مقبول ابن حنظلة

منها : مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : «إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٤).

صحيحة جميل ابن درّاج

ونحوها صحيحة جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وزاد فيها : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (٥).

__________________

(١) راجع الصفحة السابقة.

(٢) الوسائل ١٨ : ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

(٣) تعريض بالفاضل النراقي وتضعيف لما ذكره في جواب الاستدلال ، انظر مناهج الأحكام : ٢١٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ٦٧ ـ ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ١٨ : ٨٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

٦٤

روايات الزهري والسسكوني وعبد الأعلى

رواية أبي شبية

وفي روايات الزهريّ (١) ، والسكونيّ (٢) ، وعبد الأعلى (٣) : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» ، ورواية أبي شيبة عن أحدهما عليهما‌السلام (٤) ، وموثّقة سعد بن زياد ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة» ـ إلى أن قال ـ : «فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٥).

وتوهّم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب ، مدفوع بملاحظة : أنّ الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا ، مع أنّ جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة ، قرينة على المطلوب.

فمساقه مساق قول القائل : «أترك الأكل يوما خير من أن امنع منه سنة» ، وقوله عليه‌السلام في مقام وجوب الصبر حتّى يتيقّن الوقت : «لأن اصلّي بعد الوقت أحبّ إليّ من أن اصلّي قبل الوقت» (٦) ، وقوله عليه‌السلام في مقام التقيّة : «لأن افطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحبّ إليّ من

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٠.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٢٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٥٠.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٥ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

(٥) الوسائل ١٨ : ١١٦ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥ ، وفيه مسعدة بن زياد.

(٦) الوسائل ٣ : ١٢٤ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، الحديث ١١ ، مع تفاوت.

٦٥

أن يضرب عنقي» (١).

وصيّة علّي عليه‌السلام لاينه

ونظيره في أخبار الشبهة قول عليّ عليه‌السلام في وصيّته لابنه : «أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته (٢) ؛ فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال (٣)» (٤).

موثّقة حمزة ابن طيّار

ومنها : موثّقة حمزة بن الطيّار : «أنّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه عليه‌السلام ، حتّى إذا بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّه لا يسعكم فيما ينزل (٥) بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه ، والتّثبّت ، والرّدّ إلى أئمة الهدى عليهم‌السلام حتّى يحملوكم فيه على (٦) القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ؛ قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٧)».

رواية جميل

ومنها : رواية جميل ، عن الصادق ، عن آبائه عليهم‌السلام : «أنّه قال

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٩٥ ، الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٤ ، مع تفاوت.

(٢) كذا في المصدر ، وفي (ت) ، (ظ) و (ه): «ضلالة» وفي (ر) و (ص) : «ضلاله».

(٣) كذا في المصدر ، وفي (ر) ، (ص) و (ه): «فإنّ الكفّ عنده خير من الضلال وخير من ركوب الأهوال».

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٥) كذا في (ص) والمصدر ، وفي غيرهما : «نزل».

(٦) كذا في (ص) والمصدر ، وفي غيرهما : «إلى».

(٧) الوسائل ١٨ : ١٢ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ ، والآية من سورة النحل : ٤٣.

٦٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الامور ثلاثة : أمر بيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزّ وجلّ» (١).

رواية جابر

ومنها : رواية جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصيّته لأصحابه : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح الله لنا» (٢).

رواية زرارة

ومنها : رواية زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «حقّ الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون» (٣).

وقوله عليه‌السلام في رواية المسمعيّ الواردة في اختلاف الحديثين : «وما لم تجدوا في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا» (٤) ، إلى غير ذلك ممّا ظاهره وجوب التوقّف (٥).

والجواب عن الاستدلال بأخبار التوقّف

والجواب : أنّ بعض هذه الأخبار مختصّ بما إذا كان المضيّ في الشبهة اقتحاما في الهلكة ، ولا يكون ذلك إلاّ مع عدم معذوريّة الفاعل (٦) ؛

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من صفات القاضي ، الحديث ٤٣.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٤) الوسائل ١٨ : ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٦) في (ص): «الجاهل».

٦٧

لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام أو إلى الطرق المنصوبة منه عليه‌السلام ، كما هو ظاهر المقبولة ، وموثّقة حمزة بن الطيار ، ورواية جابر ، ورواية المسمعيّ.

وبعضها وارد في مقام النهي عن ذلك ؛ لاتّكاله في الامور العمليّة (١) على الاستنباطات العقليّة الظّنية ، أو لكون المسألة من الاعتقاديّات كصفات الله تعالى ورسوله والأئمة صلوات الله عليهم ، كما يظهر من قوله عليه‌السلام في رواية زرارة : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» (٢) ، والتوقّف (٣) في هذه المقامات واجب.

وبعضها ظاهر في الاستحباب ، مثل قوله عليه‌السلام : «أورع النّاس من وقف عند الشبهة» (٤) ، وقوله عليه‌السلام : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» (٥) ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» (٦) ، وفي رواية النعمان بن بشير قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لكلّ ملك حمى ، وحمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك. لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه ،

__________________

(١) في (ت) ، (ه) ونسخة بدل (ص): «العلميّة».

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٥ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١.

(٣) في (ر) و (ظ): «الوقف».

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٤.

(٥) الوسائل ١٨ : ١١٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٦) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢.

٦٨

فدعوا المشتبهات» (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه» (٢).

ملخّص الجواب

وملخّص الجواب عن تلك الأخبار : أنّه لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للإرشاد ، من قبيل أوامر الأطبّاء المقصود منها عدم الوقوع في المضارّ ؛ إذ قد تبيّن فيها حكمة طلب التوقّف ، ولا يترتّب على مخالفته عقاب غير ما يترتّب على ارتكاب الشبهة أحيانا ، من الهلاك المحتمل فيها.

إن كان الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الاُخروي

فالمطلوب في تلك الأخبار ترك التعرّض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة ، فإن كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الاخروي ـ كما لو كان التكليف متحقّقا فعلا في موارد الشبهة نظير الشبهة المحصورة ونحوها ، أو كان المكلّف قادرا على الفحص وإزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام أو الطرق المنصوبة ، أو كانت الشبهة من العقائد و (٣) الغوامض التي لم يرد الشارع التديّن به بغير علم وبصيرة ، بل نهى عن ذلك بقوله عليه‌السلام : «إنّ الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا ، فلا تتكلّفوها ؛ رحمة من الله لكم» (٤) ، فربما يوقع تكلّف (٥) التديّن فيه بالاعتبارات العقليّة أو الشواذّ النقليّة ، إلى العقاب

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٢٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٧.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ظ): «أو».

(٤) الوسائل ١٨ : ١٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦١.

(٥) في (ت) و (ص): «تكليف».

٦٩

بل إلى الخلود فيه إذا وقع التقصير في مقدّمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة ـ ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقّف لازما عقلا وشرعا من باب الإرشاد ، كأوامر الطبيب بترك المضارّ.

إن كان مفسدةٌ اُخرى غير العقاب

وإن كان الهلاك المحتمل مفسدة اخرى غير العقاب ـ سواء كانت (١) دينيّة كصيرورة المكلّف بارتكاب الشبهة أقرب إلى ارتكاب المعصية ، كما دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة (٢) ، أم دنيويّة كالاحتراز عن (٣) أموال الظلمة ـ فمجرّد احتماله لا يوجب العقاب على فعله لو فرض حرمته واقعا ، والمفروض أنّ الأمر بالتوقّف في هذه الشبهة لا يفيد استحقاق العقاب على مخالفته ؛ لأنّ المفروض كونه للارشاد ، فيكون المقصود منه التخويف عن لحوق غير العقاب من المضارّ المحتملة : فاجتناب هذه الشبهة لا يصير واجبا شرعيّا بمعنى ترتّب العقاب على ارتكابه.

الهلاك المحتمل فيما نحن فيه من قبيل غير العقاب

وما نحن فيه وهي الشبهة الحكميّة التحريميّة من هذا القبيل ؛ لأنّ الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤاخذة الاخروية باتّفاق الأخباريّين ؛ لاعترافهم بقبح المؤاخذة على مجرّد مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة وإن زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقّف والاحتياط ، فإذا لم يكن المحتمل فيها هو العقاب الاخروي كان حالها حال الشبهة الموضوعيّة ـ كأموال الظلمة والشبهة الوجوبيّة ـ في أنّه

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «كان».

(٢) المتقدمة في الصفحة ٦٤ ـ ٦٦.

(٣) في (ص) بدل «كالاحتراز عن» : «كارتكاب».

٧٠

لا يحتمل فيها إلاّ غير العقاب من المضارّ ، والمفروض كون الأمر بالتوقّف فيها للإرشاد والتخويف عن تلك المضرّة المحتملة.

مفاد الأخبار المذكورة

وبالجملة : فمفاد هذه الأخبار بأسرها التحذير عن التهلكة (١) المحتملة ، فلا بدّ من إحراز احتمال التهلكة (٢) عقابا كانت أو غيره ، وعلى تقدير إحراز هذا الاحتمال لا إشكال ولا خلاف في وجوب التحرّز عنه إذا كان المحتمل عقابا ، واستحبابه إذا كان غيره ؛ فهذه الأخبار لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ولا في حكمه.

فإن قلت : إنّ المستفاد منها احتمال التهلكة في كلّ محتمل التكليف ، والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعيّة الدينيّة هي الاخرويّة ، فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة لأجل الجهل ، ولازم ذلك إيجاب الشارع للاحتياط (٣) ؛ إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهريّ بالاحتياط قبيح.

قلت : إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعيّ فهو مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول ، وهو قبيح كما اعترف به ، وإن كان حكما ظاهريّا نفسيّا فالهلكة الاخروية مترتّبة على مخالفته لا مخالفة الواقع ، وصريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة.

هذا كلّه ، مضافا إلى دوران الأمر في هذه الأخبار بين حملها على

__________________

(١) في (ر) و (ص): «الهلكة».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ): «الهلكة».

(٣) في (ر) و (ص): «الاحتياط».

٧١

ما ذكرنا ، وبين ارتكاب التخصيص فيها بإخراج الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة. وما ذكرنا أولى.

استعمال خيريّة الوقوف عند الشبهة في مقامين :

وحينئذ : فخيريّة الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعمّ من الرجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه ، فهي قضيّة تستعمل في المقامين ، وقد استعملها الأئمّة عليهم‌السلام كذلك.

١ ـ استعمالها في مقام لزوم التوقّف

فمن موارد استعمالها في مقام لزوم التوقّف : مقبولة عمر بن حنظلة (١) التي جعلت هذه القضيّة فيها علّة لوجوب التوقّف في الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح ، وصحيحة جميل ـ المتقدمة (٢) ـ التي جعلت القضيّة فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب الله.

٢ ـ استعمالها في غير اللازم

ومن موارد استعمالها في غير اللازم : رواية الزهريّ المتقدّمة (٣) التي جعل القضيّة فيها تمهيدا لترك رواية الخبر الغير المعلوم صدوره أو دلالته ؛ فإنّ من المعلوم رجحان ذلك لا لزومه ، وموثّقة سعد بن زياد المتقدّمة (٤) التي فيها قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة» ؛ فإنّ مولانا الصادق عليه‌السلام فسّره في تلك الموثّقة بقوله عليه‌السلام : «إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها أو أنّها لك محرم (٥) وما أشبه ذلك ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في

__________________

(١) المتقدّمة في الصفحة ٦٤.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٦٤ ، أيضا.

(٣) تقدّمت في الصفحة ٦٥.

(٤) تقدّمت في الصفحة ٦٥ ، أيضا.

(٥) كذا في (ت) ، (ظ) والمصدر ، وفي غيرها : «محرّمة».

٧٢

الهلكة ... الخبر» (١) ، ومن المعلوم أنّ الاحتراز عن نكاح ما في الرواية من النسوة المشتبهة ، غير لازم باتّفاق الأخباريّين ؛ لكونها شبهة موضوعيّة ، ولأصالة عدم تحقّق مانع النكاح.

الجواب عن أخبار التوقّف بوجوه غير تامّة

وقد يجاب عن أخبار التوقّف بوجوه غير خالية عن النظر :

الجواب الأوّل

منها : أنّ ظاهر أخبار التوقّف حرمة الحكم والفتوى من غير علم ، ونحن نقول بمقتضاها ، ولكنّا (٢) ندّعي علمنا بالحكم الظاهريّ وهي الإباحة ؛ لأدلّة البراءة (٣).

وفيه : أنّ المراد بالتوقّف ـ كما يشهد سياق تلك الأخبار وموارد أكثرها ـ هو التوقّف في العمل في مقابل المضيّ فيه على حسب الإرادة الذي هو الاقتحام في الهلكة ، لا التوقّف في الحكم. نعم ، قد يشمله من حيث كون الحكم عملا مشتبها ، لا من حيث كونه حكما في شبهة ، فوجوب التوقّف عبارة عن ترك العمل المشتبه الحكم.

الجواب الثاني

ومنها : أنّها ضعيفة السند (٤).

الجواب الثالث

ومنها : أنّها في مقام المنع من العمل بالقياس ، وأنه يجب التوقّف عن القول إذا لم يكن هنا نصّ عن أهل بيت الوحي عليهم‌السلام (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١٩٣ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ٢.

(٢) كذا في (ص) و (ظ) ، وفي غيرهما : «لكن».

(٣) هذا الجواب ذكره صاحب الفصول في الفصول : ٣٥٦ ، تبعا للمحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢١.

(٤) هذا الجواب مذكور في ضوابط الاصول : ٣٢٣.

(٥) هذا الجواب ذكره المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢١.

٧٣

وفي كلا الجوابين ما لا يخفى على من راجع تلك الأخبار.

جواب الرابع

ومنها : أنّها معارضة بأخبار البراءة ، وهي أقوى سندا ودلالة واعتضادا بالكتاب والسنة والعقل ، وغاية الأمر التكافؤ ، فيرجع إلى ما تعارض فيه النصّان ، والمختار فيه التخيير ، فيرجع إلى أصل البراءة (١).

وفيه : أنّ مقتضى أكثر أدلّة البراءة المتقدّمة ـ وهي جميع آيات الكتاب ، والعقل ، وأكثر السنّة ، وبعض تقريرات الإجماع ـ عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف ، ومن المعلوم أنّ هذا من مستقلاّت العقل الذي لا يدلّ أخبار التوقف ولا غيرها من الأدلة النقليّة على خلافه ، وإنّما يثبت أخبار التوقف ـ بعد الاعتراف (٢) بتماميّتها على ما هو المفروض ـ تكليفا ظاهريّا بوجوب الكفّ وترك المضيّ عند الشبهة ، والأدلّة المذكورة لا تنفي هذا المطلب ، فتلك الأدلّة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل ، فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما.

وما يبقى من السنّة من قبيل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» (٣) لا يكافئ أخبار التوقّف ؛ لكونها أكثر وأصحّ سندا.

وأمّا قوّة الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم.

وظهر (٤) أنّ الكتاب والعقل لا ينافي وجوب التوقّف.

__________________

(١) هذا الجواب أيضا ذكره المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢٢.

(٢) في (ظ): «وإنّما تثبت بعد الاعتراف».

(٣) تقدّم الحديث في الصفحة ٤٣.

(٤) في (ت) ، (ر) و (ه): «وظاهر».

٧٤

وأمّا ما ذكره : من الرجوع إلى التخيير مع التكافؤ ، فيمكن للخصم منع التكافؤ ؛ لأنّ أخبار الاحتياط مخالفة للعامّة ؛ لاتّفاقهم ـ كما قيل (١) ـ على البراءة ، ومنع التخيير على تقدير التكافؤ ؛ لأنّ الحكم في تعارض النصّين الاحتياط ، مع أنّ التخيير لا يضرّه ؛ لأنّه يختار أدلّة وجوب الاحتراز عن الشبهات.

جواب الخامس

ومنها : أنّ أخبار البراءة أخصّ ؛ لاختصاصها بمجهول الحلّية والحرمة ، وأخبار التوقّف تشمل كلّ شبهة ، فتخصّص بأخبار البراءة (٢).

وفيه : ما تقدّم (٣) ، من أنّ أكثر أدلّة البراءة بالإضافة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل والدليل ، وما يبقى وإن (٤) كان ظاهره الاختصاص بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٥) ، لكن يوجد (٦) في أدلّة التوقّف ما لا يكون أعمّ منه ؛ فإنّ ما ورد فيه نهي معارض بما دلّ على الاباحة غير داخل في هذا الخبر ويشمله أخبار التوقف ، فإذا وجب التوقّف هنا وجب فيما لا نصّ فيه بالإجماع المركّب ، فتأمّل.

مع أنّ جميع موارد الشبهة التي أمر فيها بالتوقّف ، لا تخلو عن

__________________

(١) قاله المحدّث الأسترابادي في الفوائد المدنيّة : ١٣٧.

(٢) هذا الجواب للفاضل النراقي في المناهج : ٢١٤.

(٣) راجع الصفحة ٢٧ و ٥٠.

(٤) في (ر) ، (ص) و (ظ): «فإن».

(٥) تقدّم الحديث في الصفحة ٤٣.

(٦) كذا في (ه) ، وفي (ت) ، (ر) ، (ص) و (ظ): «لكن فيوجد».

٧٥

أن يكون شيئا محتمل الحرمة ، سواء كان عملا أم حكما أم اعتقادا ، فتأمّل.

والتحقيق في الجواب ما ذكرنا.

٣ ـ الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط

الثالثة : ما دلّ على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة :

صحيحة عبدالرحمن ابن الحجّاج

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : «قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال : بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصّيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، قال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه (١) وتعلموا» (٢).

موثّقة عبدالله ابن وضّاح

ومنها : موثّقة عبد الله بن وضّاح ـ على الأقوى ـ : «قال : كتبت إلى العبد الصالح : يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنّا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، فاصلّي حينئذ وافطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟

فكتب عليه‌السلام إليّ (٣) : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (٤).

فإنّ الظاهر أنّ قوله عليه‌السلام : «وتأخذ» بيان لمناط الحكم ، كما في

__________________

(١) «عنه» من المصدر.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٣) «إليّ» من المصدر.

(٤) الوسائل ٣ : ١٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، الحديث ١٤.

٧٦

قولك للمخاطب : «أرى لك أن توفّي دينك وتخلّص نفسك» ، فيدلّ على لزوم الاحتياط مطلقا.

رواية الأمالي

ومنها : ما عن أمالي المفيد الثاني ـ ولد الشيخ قدس سرهما ـ بسند كالصحيح ، عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١). وليس في السند إلاّ عليّ بن محمد الكاتب الذي يروي عنه المفيد.

رواية عنوان البصري

ومنها : ما عن خطّ الشهيد ـ في حديث طويل ـ عن عنوان البصريّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول فيه : «سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ الاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للنّاس» (٢).

ما أرمله الشهيد قدس‌سره

ومنها : ما أرسله الشهيد وحكي عن الفريقين ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ؛ فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزّ وجلّ» (٣).

ما أرسله الشهيد أيضاً

ومنها : ما أرسله الشهيد رحمه‌الله ـ أيضا ـ من قوله عليه‌السلام : «لك أن

__________________

(١) الأمالي : ١١٠ ، الحديث ١٦٨ ، والوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٤.

(٣) انظر الذكرى ٢ : ٤٤٤ ، والوسائل ١٨ : ١٢٤ و ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧ و ٥٦ ، وسنن النسائي ٨ : ٢٣٠ ، وكنز العمال ٣ : ٤٢٩ ، الحديث ٧٢٩٧.

٧٧

تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك» (١).

ما اُرسل عنهم عليه‌السلام

ومنها : ما ارسل أيضا عنهم (٢) عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصّراط من سلك سبيل الاحتياط» (٣).

والجواب عن صحيحة عبدالرحمن ابن الحجّاج

والجواب : أمّا عن الصحيحة : فبعدم الدلالة ؛ لأنّ المشار إليه في قوله عليه‌السلام : «بمثل هذا» إمّا نفس واقعة الصيد ، وإمّا أن يكون السؤال عن حكمها.

وعلى الأوّل : فإن جعلنا المورد من قبيل الشكّ في التكليف ، بمعنى أنّ وجوب نصف الجزاء على كلّ واحد متيقّن ويشكّ في وجوب النصف الآخر عليه ، فيكون من قبيل وجوب أداء الدين المردّد بين الأقلّ والأكثر وقضاء الفوائت المردّدة ، والاحتياط في مثل هذا غير لازم بالاتّفاق ؛ لأنّه شكّ في الوجوب.

وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله ممّا ثبت التكليف فيه في الجملة ـ لأجل هذه الصحيحة وغيرها ـ لم يكن ما نحن فيه من الشبهة مماثلا له ؛ لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا.

وإن جعلنا المورد من قبيل الشكّ في متعلّق التكليف وهو المكلّف به ـ لكون الأقلّ على تقدير وجوب الأكثر غير واجب بالاستقلال ،

__________________

(١) انظر الذكرى ٢ : ٤٤٥ ، والوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٨.

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص): «ما أرسله عنهم».

(٣) لم نعثر عليه في المجاميع الحديثيّة ، نعم رواه المحدّث البحراني في الحدائق ١ : ٧٦.

٧٨

نظير وجوب التسليم في الصلاة ـ فالاحتياط هنا وإن كان مذهب جماعة من المجتهدين (١) أيضا ، إلاّ أنّ ما نحن فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة ليس مثلا لمورد الرواية ؛ لأنّ الشكّ فيه في أصل التكليف.

هذا ، مع أنّ ظاهر الرواية التمكّن من استعلام حكم الواقعة بالسؤال والتعلّم فيما بعد ، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصيّة حتّى يتعلّم المسألة لما يستقبل من الوقائع.

ومنه يظهر : أنّه إن كان المشار إليه ب «هذا» هو السؤال عن حكم الواقعة ، كما هو الثاني من شقيّ الترديد : فإن اريد بالاحتياط فيه الإفتاء (٢) بالاحتياط لم ينفع فيما نحن فيه ، وإن اريد من الاحتياط الاحتراز عن الفتوى فيها أصلا حتّى بالاحتياط ، فكذلك.

الجواب عن موثّقة عبدالله ابن وضّاح

وأمّا عن الموثّقة : فبأنّ ظاهرها الاستحباب ، والظاهر أنّ مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية ـ لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارة عليها ـ ؛ لأنّ إرادة الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدة عن منصب الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّه لا يقرّر الجاهل بالحكم على جهله ، ولا ريب أنّ الانتظار مع الشكّ في الاستتار واجب ؛ لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل ، والاشتغال بالصوم ، وقاعدة الاشتغال بالصلاة.

فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاكّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة ، ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه

__________________

(١) سيأتي ذكرهم في الصفحة ٣١٦.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «فيه».

٧٩

يقينا ، لا مطلق الشاكّ ؛ لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقّن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتّفاق من الأخباريّين أيضا.

هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب ، وكون الحمرة غير الحمرة المشرقيّة ، ويحتمل بعيدا أن يراد من الحمرة الحمرة المشرقيّة التي لا بدّ من زوالها في تحقّق المغرب (١). وتعليله حينئذ بالاحتياط وإن كان بعيدا عن منصب الإمام عليه‌السلام كما لا يخفى ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقيّة ؛ لإيهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ، لا أنّ المغرب لا يدخل مع تحقّق الاستتار. كما أنّ قوله عليه‌السلام : «أرى لك» يستشمّ منه رائحة الاستحباب ، فلعلّ التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقيّة ، وحينئذ : فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلاّ على رجحانه.

الجواب عن رواية الأمالي

وأمّا عن رواية الأمالي : فبعدم دلالتها على الوجوب ؛ للزوم إخراج أكثر موارد الشبهة وهي الشبهة الموضوعيّة مطلقا والحكميّة الوجوبيّة ، والحمل على الاستحباب أيضا مستلزم لاخراج موارد وجوب الاحتياط ، فتحمل على الإرشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ، وحينئذ : فلا ينافي وجوبه (٢) في بعض الموارد و (٣) عدم لزومه في بعض آخر ؛ لأنّ تأكّد الطلب الإرشادي وعدمه بحسب المصلحة

__________________

(١) في (ت) و (ر): «الغروب».

(٢) في نسخه بدل (ت) و (ه): «لزومه».

(٣) لم ترد «و» في (ص) و (ه).

٨٠