فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

الترخيص الشرعيّ من جهة الغفلة ، فافهم.

وممّا يؤيّد مراد الشهور

وممّا يؤيّد إرادة المشهور الوجه (١) الأوّل دون الأخير : أنّه يلزم حينئذ عدم العقاب في التكاليف الموقّتة التي لا تتنجّز على المكلّف إلاّ بعد دخول أوقاتها ، فإذا فرض غفلة المكلّف عند الاستطاعة عن تكليف الحجّ ، والمفروض أن (٢) لا تكليف قبلها ، فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا. أمّا حين الالتفات إلى امتثال (٣) تكليف الحجّ ؛ فلعدم التكليف به ؛ لفقد الاستطاعة. وأمّا بعد الاستطاعة ؛ فلفقد الالتفات وحصول الغفلة. وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها.

عدم إباء كلام صاحب المدارك عن كون العلم واجبا نفسيا

ومن هنا قد يلتجئ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك (٤) ومن تبعه (٥) ، من أنّ العلم واجب نفسيّ ، والعقاب على تركه من حيث هو ، لا من حيث إفضائه إلى المعصية ، أعني ترك الواجبات وفعل المحرّمات المجهولة تفصيلا.

وما دلّ بظاهره ـ من الأدلّة المتقدّمة (٦) ـ على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدّمة ، محمول على بيان الحكمة في وجوبه ، وأنّ الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلّف قابلا للتكليف بالواجبات والمحرّمات

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «للوجه».

(٢) في (ت) و (ر): «أنّه».

(٣) في (ظ) بدل «امتثال» : «احتمال».

(٤) المدارك ٢ : ٣٤٥.

(٥) كالمحقّق السبزواري في الذخيرة : ١٦٧.

(٦) في الوجه الثالث.

٤٢١

حتّى لا يفوته منفعة التكليف بها ولا تناله مضرّة إهماله عنها ؛ فإنّه قد يكون الحكمة في وجوب الشيء لنفسه صيرورة المكلّف قابلا للخطاب ، بل الحكمة الظاهرة في الإرشاد وتبليغ الأنبياء والحجج عليهم‌السلام ليست إلاّ صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف.

ظاهر أدلّة وجوب العلم كونه واجبا غيريّا

لكنّ الإنصاف : ظهور أدلّة وجوب العلم في كونه واجبا غيريّا ، مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث (١) الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة.

ويمكن أن يلتزم ـ حينئذ ـ : باستحقاق العقاب على ترك تعلّم التكاليف ، الواجب مقدّمة ، وإن كانت مشروطة بشروط مفقودة حين الالتفات إلى ما يعلمه إجمالا من الواجبات المطلقة والمشروطة ؛ لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدّم (٢) على عدم الفرق في المذمّة على ترك التكاليف المسطورة فيه بين المطلقة والمشروطة ، فتأمّل.

هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى عقاب الجاهل التارك للفحص العامل بما يطابق البراءة.

هل العمل الصادر من الجاهل صحيح أو فاسد؟

وأمّا الكلام في الحكم الوضعي : وهي صحّة العمل الصادر من الجاهل وفساده ، فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات ، واخرى في العبادات.

فالمشهور أنّ العبرة في المعاملات بمطابقة الواقع ومخالفته

أمّا المعاملات :

فالمشهور فيها : أنّ العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفته ، سواء

__________________

(١) راجع الصفحة ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٢) المتقدّم في الصفحة ٤١٤.

٤٢٢

وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد ، أم لا عنهما ، فاتّفقت المطابقة (١) للواقع ؛ لأنّها من قبيل الأسباب لامور شرعيّة ، فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها.

فمن عقد على امرأة عقدا لا يعرف تأثيره في حلّية الوطء فانكشف بعد ذلك صحّته ، كفى في صحّته من حين وقوعه ، وكذا لو انكشف فساده رتّب (٢) عليه حكم الفاسد من حين الوقوع. وكذا من ذبح ذبيحة بفري ودجيه ، فانكشف كونه صحيحا أو فاسدا.

ولو رتّب عليه أثرا قبل الانكشاف ، فحكمه في العقاب ما تقدّم (٣) : من كونه مراعى بمخالفة الواقع ، كما إذا وطأها فإنّ العقاب عليه مراعى. وأمّا حكمه الوضعيّ ـ كما لو باع لحم تلك الذبيحة ـ فكما ذكرنا هنا : من مراعاته حتّى ينكشف الحال.

عدم الخلاف في المسألة إلّا من الفاضل النراقي

ولا إشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أدلّة سببيّة تلك المعاملات ، ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلاّ من بعض مشايخنا المعاصرين قدس‌سره (٤) ، حيث أطال الكلام هنا في تفصيل ذكره بعد مقدّمة ، هي :

أنّ العقود والإيقاعات بل كلّ ما جعله الشارع سببا ، لها حقائق واقعيّة : هي ما قرّره الشارع أوّلا ، وحقائق ظاهريّة : هي ما يظنّه المجتهد أنّه ما وضعه الشارع. وهي قد تطابق الواقعيّة وقد تخالفها ، ولمّا

__________________

(١) في (ت) و (ظ): «مطابقته».

(٢) في (ظ): «ترتّب».

(٣) كذا في (ص) ، وفي (ر) و (ظ): «فحكمه كما».

(٤) هو الفاضل النراقي في المناهج.

٤٢٣

كلام الفاضل النراقي قدس‌سره

لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهاديّة إلى الواقعيّة فالسبب والشرط والمانع في حقّنا هي الحقائق الظاهريّة ، ومن البديهيّات التي انعقد عليها الإجماع بل الضرورة : أنّ ترتّب الآثار على الحقائق الظاهريّة يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ؛ فإنّ ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجّسه عند واحد دون غيره ، وكذا قطع الحلقوم للتذكية ، والعقد الفارسيّ للتمليك أو الزوجيّة.

وحاصل ما ذكره من التفصيل :

أنّ غير المجتهد والمقلّد على ثلاثة أقسام ؛ لأنّه إمّا غافل عن احتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع ، وإمّا أن يكون غير غافل ، بل يترك التقليد مسامحة.

فالأوّل ، في حكم المجتهد والمقلّد ؛ لأنّه يتعبّد باعتقاده ـ كتعبّد المجتهد باجتهاده والمقلّد بتقليده ـ ما دام غافلا ، فإذا تنبّه : فإن وافق اعتقاده قول من يقلّده فهو ، وإلاّ كان كالمجتهد المتبدّل رأيه ، وقد مرّ حكمه في باب رجوع المجتهد.

وأمّا الثاني ، وهو المتفطّن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع : فإمّا أن يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهاديّة.

فالأوّل ، يترتّب عليه الأثر مع الموافقة ، ولا يترتّب عليه مع المخالفة ؛ إذ المفروض أنّه ثبت من الشارع ـ قطعا ـ أنّ المعاملة الفلانيّة سبب لكذا ، وليس معتقدا لخلافه حتّى يتعبّد بخلافه ، ولا دليل على التقييد في مثله بعلم واعتقاد ، ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانا

٤٢٤

به ؛ لأنّه مأمور بالفحص والسؤال ، كما أنّ من اعتقد حلّية الخمر مع احتمال الخلاف يحرم عليه الخمر وإن لم يسأل ؛ لأنّه مأمور بالسؤال.

وأمّا الثاني ، فالحقّ عدم ترتّب الأثر في حقّه ما دام باقيا على عدم التقليد ، بل وجود المعاملة كعدمها ، سواء طابقت على أحد الأقوال أم لا ؛ إذ المفروض عدم القطع بالوضع الواقعيّ من الشارع ، بل هو مظنون للمجتهد ، فترتّب الأثر إنّما هو في حقّه.

ثمّ إن قلّد بعد صدور المعاملة المجتهد القائل بالفساد ، فلا إشكال فيه. وإن قلّد من يقول بترتّب الأثر ، فالتحقيق فيه التفصيل بما مرّ في نقض الفتوى بالمعنى الثالث ، فيقال : إنّ ما لم يختصّ أثره بمعيّن أو بمعيّنين كالطهارة والنجاسة والحلّية والحرمة وأمثالها ، يترتّب عليه الأثر ، فإذا غسل ثوبه من البول مرّة بدون تقليد ، أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم مثلا كذلك ، ثمّ قلّد من يقول بكفاية الأوّل في الطهارة والثاني في التذكية ، ترتّب الأثر على فعله السابق ؛ إذ المغسول يصير طاهرا بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ، وكذا المذبوح حلالا بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ، ولا يشترط كونه مقلّدا حين الغسل والذبح.

وأمّا ما يختصّ أثره بمعيّن أو معيّنين ، كالعقود والإيقاعات وأسباب شغل الذمّة وأمثالها ، فلا يترتّب عليه الأثر ؛ إذ آثار هذه الامور لا بدّ وأن تتعلّق بالمعيّن ؛ إذ لا معنى لسببيّة عقد صادر عن رجل خاصّ على امرأة خاصّة لحلّيتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه.

وهذا الشخص حال العقد لم يكن مقلّدا ، فلم يترتّب في حقّه

٤٢٥

الأثر كما تقدّم ، وأمّا بعده وإن دخل في مقلّديه ، لكن لا يفيد لترتّب الأثر في حقّه ؛ إذ المظنون لمجتهده سببيّة هذا العقد متّصلا بصدوره للأثر ، ولم يصر هذا سببا كذلك. وأمّا السببيّة المنفصلة فلا دليل عليها ؛ إذ ليس هو مظنون المجتهد ، ولا دليل على كون الدخول في التقليد كإجازة المالك ، والأصل في المعاملات الفساد.

المناقشة فيها أفاده الفاضل النراقي

مع أنّ عدم ترتّب الأثر كان ثابتا قبل التقليد فيستصحب (١) ، انتهى كلامه ملخّصا.

والمهمّ في المقام بيان (٢) ما ذكره في المقدّمة : من أنّ كلّ ما جعله الشارع من الأسباب لها حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة.

فنقول ـ بعد الإغماض عمّا هو التحقيق عندنا تبعا للمحقّقين ، من أنّ التسبيبات الشرعيّة راجعة إلى تكاليف شرعيّة ـ :

إنّ الأحكام الوضعيّة على القول بتأصّلها ، هي الامور الواقعيّة المجعولة للشارع ، نظير الامور الخارجيّة الغير المجعولة كحياة زيد وموت عمرو ، ولكنّ الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظنّ الاجتهاديّ أو التقليد ، وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده. ولا فرق بينها في أنّه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٣١٠.

(٢) في (ظ) زيادة : «حال».

٤٢٦

للزوجيّة ، فكلّ من حصل له إلى سببيّة هذا العقد طريق عقليّ أعني العلم ، أو جعليّ بالظنّ الاجتهاديّ أو التقليد ، يترتّب في حقّه أحكام تلك الزوجيّة من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ؛ فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد ليست مختصّة بهما ، فقد يتعلّق بثالث حكم مترتّب على هذه الزوجيّة ، كأحكام المصاهرة ، وتوريثها منه ، والإنفاق عليها من ماله ، وحرمة العقد عليها حال حياته.

ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد أو قبله أو بعده.

ثمّ إنّه إذا اعتقد السببيّة وهو في الواقع غير سبب ، فلا يترتّب عليه شيء في الواقع. نعم لا يكون مكلّفا بالواقع ما دام معتقدا ، فإذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه.

وبالجملة : فحال الأسباب الشرعيّة حال الامور الخارجيّة كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضيّ مدّة من موته وبين قيام الطريق الشرعيّ في وجوب ترتيب (١) آثار الموت من حينه ، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببيّة العقد لأثر بعد صدوره وبين الظنّ الاجتهاديّ به بعد الصدور ؛ فإنّ مؤدّى الظنّ الاجتهادي الذي يكون حجّة له وحكما ظاهريّا في حقّه : هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجيّة بين زيد وهند ، والمفروض أنّ دليل حجّية هذا الظنّ لا يفيد سوى كونه طريقا إلى الواقع ، فأيّ فرق بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا وبين الظنّ به بعد صدوره؟

__________________

(١) في غير (ظ): «ترتّب».

٤٢٧

وإذا تأمّلت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها.

محصّل ما ذكرنا

ومحصّل ما ذكرنا : أنّ الفعل الصادر من الجاهل باق على حكمه الواقعيّ التكليفيّ والوضعيّ ، فإذا لحقه العلم أو الظنّ الاجتهاديّ أو التقليد ، كان هذا الطريق كاشفا حقيقيّا أو جعليّا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف.

بل حقّقنا في مباحث الاجتهاد والتقليد : أنّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد أيضا باق على حكمه الواقعيّ (١) ، فإذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف ، خلافا لجماعة (٢) حيث تخيّلوا أنّ الفعل الصادر عن الاجتهاد أو التقليد (٣) إذا كان مبنيّا على الدوام واستمرار الآثار ـ كالزوجيّة والملكيّة ـ لا يؤثّر فيه الاجتهاد اللاحق. وتمام الكلام في محلّه.

وربما يتوهّم الفساد في معاملة الجاهل ؛ من حيث الشكّ في ترتّب الأثر على ما يوقعه ، فلا يتأتّى منه قصد الإنشاء في العقود والإيقاعات.

وفيه : أنّ قصد الإنشاء إنّما يحصل بقصد تحقّق مضمون الصيغة ـ وهو الانتقال في البيع والزوجيّة في النكاح ـ ، وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا ، فضلا عن الشكّ فيه ؛ ألا ترى : أنّ الناس يقصدون

__________________

(١) انظر رسالة «التقليد» للمصنّف : ٨٠.

(٢) منهم المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢٤٨ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

(٣) في (ت) و (ظ): «عن اجتهاد أو تقليد».

٤٢٨

التمليك في القمار وبيع المغصوب وغيرهما من البيوع الفاسدة.

عدم الفرق في صحّة معاملة الجاهل بين شكّه في الصحّة حين صدورها أو قطعه بفسادها

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في صحّة معاملة الجاهل مع (١) انكشافها بعد العقد ، بين شكّه في الصحّة حين صدورها وبين قطعه بفسادها ، فافهم.

هذا كلّه حال المعاملات.

وأمّا العبادات :

إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما تقتضيه البراءة

فملخّص الكلام فيها : أنّه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما يقتضيه البراءة ، كأن صلّى بدون السورة ، فإن كان حين العمل متزلزلا في صحّة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحّة بعد ذلك ، بلا خلاف في ذلك ظاهرا ؛ لعدم تحقّق نيّة القربة ؛ لأنّ الشاكّ في كون المأتيّ به موافقا للمأمور به كيف يتقرّب به؟

وما يرى : من الحكم بالصحّة فيما شكّ في صدور الأمر به على تقدير صدوره ، كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ، وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا من باب الاحتياط ، فلا يشبه ما نحن فيه.

لأنّ الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد امتثاله إلاّ بهذا النحو ، فهو أقصى ما يمكن هناك من الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فإنّ امتثاله لا يكون إلاّ بإتيان ما يعلم مطابقته له ، وإتيان ما يحتمله ـ لاحتمال مطابقته له ـ لا يعدّ إطاعة عرفا.

__________________

(١) في (ت) بدل «مع» : «من حين».

٤٢٩

عدم تحقّق قصد القربة مع الشكّ في كون العمل مقرّبا

وبالجملة : فقصد التقرّب شرط في صحّة العبادة إجماعا ـ نصّا (١) وفتوى (٢) ـ ، وهو لا يتحقّق مع الشكّ في كون العمل مقرّبا.

وأمّا قصد التقرّب في الموارد المذكورة من الاحتياط ، فهو غير ممكن على وجه الجزم ، والجزم فيه غير معتبر إجماعا ؛ إذ لولاه لم يتحقّق احتياط في كثير من الموارد ، مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا.

وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البراءة مع الشكّ حين العمل ، لا يصحّ عبادته وإن انكشف مطابقته للواقع.

إذا كان غافلا وعمل باعتقاد التقرّب

أمّا لو غفل عن ذلك أو سكن فيه إلى قول (٣) من يسكن إليه ـ من أبويه وأمثالهما ـ فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محلّ كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما يقتضيه البراءة ؛ إذ مجرى البراءة في الشاكّ دون الغافل ومعتقد (٤) الخلاف.

وعلى أيّ حال : فالأقوى صحّته إذا انكشف مطابقته للواقع ؛ إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض حصوله.

والعلم بمطابقته للواقع أو الظنّ بها من طريق معتبر شرعي ،

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ٤٣ ، الباب ٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٢) انظر المنتهى ٢ : ٨ و ٩ ، ومجمع الفائدة ١ : ٩٨ ـ ٩٩ ، والمدارك ١ : ١٨٧ ، ومستند الشيعة ٢ : ٤٧.

(٣) في (ر) و (ص): «فعل».

(٤) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «أو معتقد».

٤٣٠

غير معتبر في صحّة العبادة ؛ لعدم الدليل ؛ فإنّ أدلّة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلّة ورجوع المقلّد إلى المجتهد ، إنّما هي لبيان الطرق الشرعيّة التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع ، لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ، كما لا يخفى على من لاحظها.

ثمّ إنّ مرآة مطابقة العمل الصادر للواقع : العلم بها ، أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلّد.

وتوهّم : أنّ ظنّ المجتهد أو فتواه (١) لا يؤثّر في الواقعة السابقة غلط ؛ لأنّ مؤدّى ظنّه نفس الحكم الشرعيّ الثابت للأعمال الماضية والمستقبلة.

وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ؛ فإنّ فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم في أنّ أثرها قبل العمل عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ، كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات.

__________________

(١) في (ر): «وفتواه».

٤٣١
٤٣٢

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بامور :

الأوّل

هل العبرة في عقاب الجاهل بمخالفة الواقع أو الطريق؟

فيالمسألة وجوهّ أربعة

هل (١) العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ، وهو الواقع الأوّلي الثابت في كلّ واقعة عند المخطّئة؟ فإذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحلّية ، فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب؟

أو العبرة بالطريق الشرعيّ المعثور عليه بعد الفحص ، فيعاقب في صورة العكس دون الأصل؟

أو يكفي مخالفة أحدهما ، فيعاقب في الصورتين؟

أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين؟

وجوه :

من : أنّ التكليف الأوّلي إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهريّة إلاّ على من (٢) عثر عليها.

__________________

(١) في غير (ص) بدل «هل» : «إنّ».

(٢) في (ت) و (ه): «لمن».

٤٣٣

دليل الوجه الثاني

ومن : أنّ الواقع إذا كان في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول إليه ، وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلا عنه ، فالمكلّف به هو مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ، فكيف يعاقب الله سبحانه على شرب العصير العنبي من يعلم أنّه لن (١) يعثر بعد الفحص على دليل حرمته؟

دليل الوجه الثالث

ومن : أنّ كلاّ من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعيّ ، أمّا إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ؛ فلأنّه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، وعلى إسقاطه عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعيّ المفروض دلالته على نفي التكليف ، فإذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من مؤاخذته.

وأمّا إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعيّ ، فلأنّه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ؛ فإنّ أدلّة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة.

دليل الوجه الرابع

ومن : عدم التكليف بالواقع ؛ لعدم القدرة ، وبالطريق الشرعيّ ؛ لكونه ثابتا في حقّ من اطّلع عليه من باب حرمة التجرّي ، فالمكلّف به فعلا (٢) المؤاخذ على مخالفته : هو الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق ، فإذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة.

نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعيّ مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمة من باب

__________________

(١) كذا في (ه) ومحتمل (ت) ، وفي غيرهما : «لم».

(٢) كذا في (ت) و (ظ) ، وفي (ر) زيادة : «الذي يكون».

٤٣٤

الانقياد وتركها تجرّ. وإذا لم يطّلع على ذلك ـ لتركه الفحص ـ فلا تجرّي أيضا.

وأمّا إذا كان وجوب واقعيّ وكان الطريق الظاهريّ نافيا ؛ فلأنّ المفروض عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمّن للتكليف متعذّر الوصول إليه ، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف.

الأقوى الوجه الأوّل والدليل على ذلك

والأقوى : هو الأوّل ، ويظهر وجهه بالتأمّل في الوجوه الأربعة.

وحاصله : أنّ التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلا ، إلاّ أنّه لا مانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملا له ، قادرا عليه ، غير مطّلع على طريق شرعيّ ينفيه ، ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه مع بقاء تردّده ، وهو العقل والنقل الدالاّن على براءة الذمّة بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه (١) ، وإن احتمل التكليف وتردّد فيه.

وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات الواقعيّة. ولو فرض هنا طريق ظاهريّ مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ، لم يعاقب عليه ؛ لأنّ مؤدّى الطريق الظاهريّ غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ، وإنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ، فإذا أخطأ لم يترتّب عليه شيء ؛ ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها.

نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ؛ لأنّ المفروض عدم العلم بمخالفته للواقع ، فيكون معصية ظاهريّة ؛ من حيث فرض كونه (٢)

__________________

(١) لم ترد «إليه» في (ر) ، (ص) و (ظ).

(٢) كذا في (ر) ، وفي غيرها بدل «كونه» : «كون دليله».

٤٣٥

طريقا شرعيّا إلى الواقع ، فهو في الحقيقة نوع من التجرّي. وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطّلاع على هذا الطريق.

و (١) وجوب رجوع العامّي إلى المفتي لأجل إحراز الواجبات الواقعيّة ، فإذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ، وإن لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ، ويترتّب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم انكشاف الخلاف ، إلاّ (٢) استحقاق العقاب على الترك ؛ فإنّه يثبت واقعا من باب التجرّي.

ومن هنا يظهر : أنّه لا يتعدّد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة تعدّد التكليف.

نعم ، لو قلنا بأنّ مؤدّيات الطرق الشرعيّة أحكام واقعيّة ثانويّة ، لزم من ذلك انقلاب التكليف إلى مؤدّيات تلك الطرق ، وكان أوجه الاحتمالات حينئذ الثاني منها.

__________________

(١) في (ظ) بدل «و» : «مثلا».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «لا».

٤٣٦

الثاني

قد عرفت (١) : أنّ الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ، لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الآثار ، بمعنى : أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول ـ عقابا أو غيره من الآثار المترتّبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ـ لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله.

معذوريّة الجاهل بالقصر والإتمام والجهر والإخفات

وقد استثنى الأصحاب من ذلك : القصر والإتمام والجهر والإخفات ، فحكموا بمعذوريّة الجاهل في هذين الموضعين (٢). وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعيّ ، وهي الصحّة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة ، وهو الذي يقتضيه دليل المعذوريّة في الموضعين أيضا.

الإشكال الوارد في المسألة

فحينئذ : يقع الإشكال في أنّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفيّ كسائر الأحكام المجهولة للمكلّف المقصّر ، فيكون تكليفه بالواقع

__________________

(١) راجع الصفحة ٤١٢.

(٢) انظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٨٤ ، و ٣ : ٦٠١.

٤٣٧

وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا ، وما يأتي به ـ من الإتمام المحكوم بكونه مسقطا ـ إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟ وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟

دفع الإشكال من وجوه ،

ودفع هذا الإشكال : إمّا بمنع تعلّق التكليف فعلا بالواقعيّ المتروك ، وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتيّ به ، وإمّا بمنع التنافي بينهما.

الوجه الأوّل

فالأوّل ، إمّا بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم ، وكذا الجهر والإخفات.

وإمّا بمعنى معذوريّته فيه ، بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه ، ويحكم عليه ظاهرا بخلاف الحكم الواقعيّ. وهذا الجاهل وإن لم يتوجّه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهريّ ـ كما في الجاهل بالموضوع ـ ، إلاّ أنّه مستغنى عنه (١) باعتقاده لوجوب هذا الشيء عليه في الواقع.

وإمّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع ، وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ، فلا يجب عليه القصر ؛ لغفلته عنه. نعم يعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم استظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه (٢).

وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ، إلاّ أنّ الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة ؛ لقبح خطاب العاجز. وإن كان العجز بسوء اختياره فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنّه ليس مأمورا به حتّى يجتمع مع فرض وجود الأمر بالإتمام.

__________________

(١) كذا في غير (ه) ، وفيها : «مستثنى عنه» ، ولعلّ الأنسب : «مستغن عنه».

(٢) راجع الصفحة ٤٢١.

٤٣٨

المناقشة في هذا الوجه

لكن هذا كلّه خلاف ظاهر المشهور ؛ حيث إنّ الظاهر منهم ـ كما تقدّم (١) ـ بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل ؛ ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ؛ إذ لو لا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.

الوجه الثاني

والثاني ، منع تعلّق الأمر بالمأتيّ به ، والتزام (٢) أنّ غير الواجب مسقط عن الواجب ؛ فإنّ قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعيّ غير ممتنع.

نعم ، قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم بناء على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ ، كما في آخر الوقت ؛ حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر.

ويردّ هذا الوجه : أنّ الظاهر من الأدلّة كون المأتيّ به مأمورا به في حقّه ، مثل قوله عليه‌السلام في الجهر والإخفات : «تمّت صلاته» (٣) ونحو ذلك.

وفي (٤) الموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب نمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الأمر الواقعيّ وثبوت الأمر بالبدل ، فتأمّل.

الوجه الثالث

والثالث ، بما (٥) ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله : من أنّ التكليف بالإتمام

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٢٠.

(٢) في (ت) و (ه): «بالتزام».

(٣) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٤) لم ترد «في» في (ر) ، (ص) و (ظ).

(٥) في (ر) ، (ص) و (ظ): «ما».

٤٣٩

مرتّب على معصية (١) الشارع بترك القصر ، فقد كلّفه بالقصر والإتمام على تقدير معصيته في التكليف بالقصر. وسلك هذا الطريق في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير الأهمّ من الواجبين المضيّقين ، إذا ترك المكلّف الامتثال بالأهمّ (٢).

المناقشة في هذا الوجه

ويردّه : أنّا لا نعقل الترتّب (٣) في المقامين ، وإنّما يعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقّق معصية (٤) الأوّل ، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائيّة ، فكلّف لضيق الوقت بالترابيّة.

__________________

(١) في (ت) و (ر): «معصيته».

(٢) انظر كشف الغطاء : ٢٧٠.

(٣) في (ص) ، (ظ) و (ه): «الترتيب».

(٤) في (ر) و (ت): «معصيته».

٤٤٠