فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة :

أدلّة القول بالإباحة وعدم وجوب الاحتياط :

فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها)(١).

قيل : دلالتها واضحة (٢).

الاستدلال بآية «ولا يكلّف الله ...» والمناقشة فيه

وفيه : أنّها غير ظاهرة ؛ فإنّ حقيقة الإيتاء الإعطاء ، فإمّا أن يراد بالموصول المال ـ بقرينة قوله تعالى قبل ذلك : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ)(٣) ـ ، فالمعنى : أنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد إلاّ دفع ما اعطي من المال.

وإمّا أن يراد نفس فعل الشيء أو تركه ـ بقرينة إيقاع التكليف عليه ـ ، فإعطاؤه كناية عن الإقدار عليه ، فتدلّ على نفي التكليف بغير المقدور ـ كما ذكره الطبرسيّ (٤) قدس‌سره ـ وهذا المعنى أظهر وأشمل ؛ لأنّ الإنفاق من الميسور داخل في «ما آتاه الله».

وكيف كان : فمن المعلوم أنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ؛ وإلاّ لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين ، وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه.

نعم ، لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف ، كان إيتاؤه

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) قاله الفاضل النراقي في المناهج : ٢١٠.

(٣) الطلاق : ٧.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٣٠٩.

٢١

عبارة عن الإعلام به. لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية ، وإرادة الأعمّ منه ومن المورد تستلزم (١) استعمال الموصول في معنيين ؛ إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل (٢) المحكوم عليه ، فافهم.

نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قلت له : هل كلّف النّاس بالمعرفة؟ قال : لا ، على الله البيان ؛ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها) ، و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها)» (٣).

لكنّه لا ينفع في المطلب ؛ لأنّ نفس المعرفة بالله غير مقدور قبل تعريف الله سبحانه ، فلا يحتاج دخولها في الآية إلى إرادة الإعلام من الإيتاء ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء الله تعالى (٤).

وممّا ذكرنا يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)(٥).

الاستدلال بآية «وما كنّا معذّبين ...»

ومنها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٦).

بناء على أنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف ؛ لأنّه يكون به

__________________

(١) في النسخ : «يستلزم».

(٢) في (ر) و (ه): «والفعل».

(٣) الكافي ١ : ١٦٣ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ٥. والآيتان من سورة البقرة : ٢٨٦ ، والطلاق : ٧.

(٤) انظر الصفحة ٥٦.

(٥) البقرة : ٢٨٦.

(٦) الإسراء : ١٥.

٢٢

غالبا ، كما في قولك : «لا أبرح من هذا المكان حتّى يؤذّن المؤذّن» (١) كناية عن دخول الوقت ، أو عبارة عن البيان النقلي ـ ويخصّص العموم بغير المستقلاّت ، أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب إلاّ مع اللطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذمّ ، بناء على أنّ منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذمّ ، كما صرّح به البعض (٢) ـ ، وعلى أيّ تقدير فيدلّ على نفي العقاب قبل البيان.

المناقشة في الاستدلال

وفيه : أنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيويّ الواقع في الأمم السابقة.

إيراد المحقّق القمّي على الوحيد البهبهاني

ثمّ إنّه ربما يورد التناقض (٣) على من جمع بين التمسّك بالآية في المقام وبين ردّ من استدلّ بها لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع : بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ؛ فإنّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني ، وإن لم يدلّ فلا وجه للأوّل.

دفع الإيراد

ويمكن دفعه : بأنّ عدم الفعليّة يكفي في هذا المقام ؛ لأنّ الخصم يدّعي أنّ في ارتكاب الشبهة الوقوع في العقاب والهلاك فعلا من حيث

__________________

(١) في (ص) زيادة : «فإنّه».

(٢) قاله المحقّق الطوسي في مبحث اللطف من تجريد الاعتقاد ، وأوضحه العلاّمة الحلّي في شرحه (كشف المراد) : ٣٢٧.

(٣) أورده المحقّق القمي على الوحيد البهبهاني قدس سرهما الذي عبّر عنه في القوانين ب : «بعض الأعاظم» ، انظر القوانين ٢ : ١٦ ـ ١٧ ، والرسائل الاصوليّة : ٣٥٣ ، والفوائد الحائريّة : ٣٧٣.

٢٣

لا يعلم ـ كما هو مقتضى رواية التثليث (١) ونحوها (٢) التي هي عمدة أدلّتهم ـ ، ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعليّة ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعليّة ، بخلاف مقام التكلّم في الملازمة ؛ فإنّ المقصود فيه إثبات الحكم الشرعيّ في مورد حكم العقل ، وعدم ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته ، كما في الظهار حيث قيل : إنّه محرّم معفوّ عنه (٣) ، وكما في العزم على المعصية على احتمال.

نعم ، لو فرض هناك ـ أيضا ـ إجماع على أنّه لو انتفت الفعليّة انتفى الاستحقاق ـ كما يظهر من بعض ما فرّعوا على تلك المسألة ـ لجاز التمسّك بها هناك.

والإنصاف : أنّ الآية لا دلالة لها على المطلب في المقامين.

الاستدلال بآية «وما كان الله ليضلّ»

ومنها : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(٤) ، أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتروك. وظاهرها : أنّه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم إلى الإسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم.

وعن الكافي (٥) وتفسير العياشي (٦) وكتاب التوحيد (٧) : «حتّى

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٤ و ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩ و ٢٣.

(٢) انظر الصفحة ٦٤ ـ ٦٧.

(٣) يظهر من الشيخ الطبرسي القول به في تفسير مجمع البيان ٥ : ٢٤٧.

(٤) التوبة : ١١٥.

(٥) الكافي ١ : ١٦٣ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، الحديث ٣.

(٦) تفسير العيّاشي ٢ : ١١٥ ، الحديث ١٥٠.

(٧) كتاب التوحيد للصدوق : ٤١٤ ، باب التعريف والبيان والحجّة ، الحديث ١١.

٢٤

يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه».

المناقشة في الاستدلال

وفيه : ما تقدّم في الآية السابقة (١). مع أنّ دلالتها أضعف ؛ من حيث إنّ توقّف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب ، اللهمّ إلاّ بالفحوى.

الاستدلال بآية «ليهلك من هلك ...» والمناقشة فيه

ومنها : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٢).

وفي دلالتها تأمّل ظاهر.

إيرادّ عامّ

ويرد على الكلّ : أنّ غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعا ، فلا ينافي ورود الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم ، ومعلوم أنّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلاّ عن دليل علميّ ، وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل ، بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه ، كما لا يخفى.

الاستدلال بآية «قل لا أجد»

ومنها : قوله تعالى مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ملقّنا إيّاه طريق الردّ على اليهود حيث حرّموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٣).

فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرّمات التي أوحى الله إليه ، وعدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك فيما اوحي إليه وإن كان دليلا

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٣.

(٢) الأنفال : ٤٢.

(٣) الانعام : ١٤٥.

٢٥

قطعيّا على عدم الوجود ، إلاّ أنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة.

المناقشة في الاستدلال

لكنّ الإنصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب ، وأمّا الدلالة فلا ؛ ولذا قال في الوافية : وفي الآية إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع (١).

مع أنّه لو سلّم دلالتها ، فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الأحكام يوجب عدم التحريم ، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام الله تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا ، وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالإجماع العمليّ على هذا المطلب (٢).

الاستدلال بآية «وما لكم»

ومنها : قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (٣).

يعني مع خلوّ ما فصّل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.

ولعلّ هذه الآية أظهر من سابقتها ؛ لأنّ السابقة دلّت على أنّه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى الله سبحانه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه تدل على أنّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصّل وإن لم يحكم بحرمته ، فيبطل وجوب الاحتياط أيضا.

__________________

(١) الوافية : ١٨٦.

(٢) انظر الصفحة ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) الأنعام : ١١٩.

٢٦

المناقشة في الاستدلال

إلاّ أنّ دلالتها موهونة من جهة اخرى ، وهي : أنّ ظاهر الموصول العموم ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع المحرّمات الواقعيّة وعدم كون المتروك منها ، ولا ريب أنّ اللازم من ذلك ، العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا ، فالتوبيخ في محلّه.

عدم نهوض الآيات المذكورة لإبطال وجوب الاحتياط

والإنصاف ما ذكرنا : من أنّ الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط ؛ لأنّ غاية مدلول الدالّ منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل أو النقل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد ، وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه ، فاللازم على منكره ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما يدلّ على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط في ما لا نصّ فيه ، وأمّا الآيات المذكورة فهي ـ كبعض الأخبار الآتية (١) ـ لا تنهض لذلك (٢) ؛ ضرورة أنّه إذا فرض أنّه ورد بطريق معتبر في نفسه أنّه يجب الاحتياط في كلّ ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة ، لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة.

الاستدلال على البراءة بالسنّة :

وأمّا السنّة :

فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة :

بحديث «الرفع»

منها : المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسند صحيح في الخصال (٣) ، كما عن

__________________

(١) انظر الصفحة ٤٢ و ٥٠.

(٢) في (ر) و (ظ): «بذلك».

(٣) الخصال : ٤١٧ ، باب التسعة ، الحديث ٩.

٢٧

التوحيد (١) : «رفع عن امّتي تسعة (٢) : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ... الخبر» (٣).

وجه الاستدلال به

فإنّ حرمة شرب التتن ـ مثلا ـ ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها ـ كرفع الخطأ والنسيان ـ رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة ، فهو نظير قوله (٤) عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٥).

المناقشة في الاستدلال

ويمكن أن يورد عليه : بأنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» ـ بقرينة أخواتها ـ هو الموضوع ، أعني فعل المكلّف الغير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب الخمر أو شرب الخلّ وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ، فلا يشمل الحكم الغير المعلوم.

مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ؛ لأنّ المقدّر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ، ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.

نعم ، هي من آثارها ، فلو جعل المقدّر في كلّ من هذه التسعة ما هو المناسب من أثره ، أمكن أن يقال : إنّ أثر حرمة شرب التتن ـ مثلا ـ المؤاخذة على فعله ، فهي مرفوعة.

__________________

(١) كتاب التوحيد للصدوق : ٣٥٣ ، باب الاستطاعة ، الحديث ٢٤.

(٢) كذا في (ر) والمصدر ، وفي غيرهما زيادة : «أشياء».

(٣) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، باب جملة ممّا عفي عنه ، الحديث الأوّل.

(٤) كذا في (ظ) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «فهو كقوله».

(٥) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

٢٨

لكنّ الظاهر ـ بناء على تقدير المؤاخذة ـ نسبة المؤاخذة إلى نفس المذكورات.

والحاصل : أنّ المقدّر في الرواية ـ باعتبار دلالة الاقتضاء ـ يحتمل أن يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ، وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقيّ.

وأن يكون في كلّ منها ما هو الأثر الظاهر فيه.

و (١) أن يقدّر المؤاخذة في الكلّ ، وهذا أقرب عرفا من الأوّل وأظهر من الثاني أيضا ؛ لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد ، فإذا اريد من «الخطأ» و «النسيان» و «ما اكرهوا عليه» و «ما اضطرّوا» المؤاخذة على أنفسها ، كان الظاهر في «ما لا يعلمون» ذلك أيضا.

ظاهر بعض الإخبار أنّ لمرفوع جميع الآثار والجواب عنه

نعم ، يظهر من بعض الأخبار الصحيحة : عدم اختصاص الموضوع (٢) عن الامّة بخصوص المؤاخذة ، فعن المحاسن ، عن أبيه ، عن صفوان بن يحيى والبزنطيّ جميعا ، عن أبي الحسن عليه‌السلام :

«في الرجل يستكره (٣) على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطئوا ... الخبر (٤)».

__________________

(١) في غير (ر): «والظاهر أن».

(٢) كذا في (ر) و (ظ) ، وفي (ت) و (ص): «المرفوع».

(٣) كذا في المصدر ومحتمل (ت) ، وفي غيرهما : «يستحلف».

(٤) كذا في النسخ ، ولكن ليست للحديث تتمّة. انظر المحاسن ٢ : ٧٠ ، كتاب العلل ، الحديث ١٢٤ ، والوسائل ١٦ : ١٣٦ ، الباب ١٢ من كتاب الأيمان ، الحديث ١٢.

٢٩

فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضا ، إلاّ أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع ، شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة.

لكنّ النبويّ المحكيّ في كلام الإمام عليه‌السلام مختصّ بثلاثة من التسعة فلعلّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ، فتأمّل.

وممّا يؤيّد إرادة العموم : ظهور كون رفع كلّ واحد من التسعة من خواصّ أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ لو اختصّ الرفع بالمؤاخذة أشكل الأمر في كثير من تلك الامور ؛ من حيث إنّ العقل مستقلّ بقبح المؤاخذة عليها ، فلا اختصاص له بامّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يظهر من الرواية.

والقول بأنّ الاختصاص باعتبار رفع المجموع وإن لم يكن رفع كلّ واحد من الخواصّ ، شطط من الكلام.

لكنّ الذي يهوّن الأمر في الرواية : جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضا ؛ فإنّ موارد الإشكال فيها ـ وهي الخطأ والنسيان وما لا يطاق (١) ـ هي بعينها ما استوهبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ربّه جلّ ذكره ليلة المعراج ، على ما حكاه الله تعالى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن بقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)(٢).

والذي يحسم أصل الإشكال : منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها زيادة : «وما اضطرّوا إليه».

(٢) البقرة : ٢٨٦.

٣٠

على هذه الامور بقول مطلق ؛ فإنّ الخطأ والنسيان الصادرين من ترك التحفّظ لا يقبح المؤاخذة عليهما ، وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط ، وكذا (١) التكليف الشاقّ الناشئ عن اختيار المكلّف.

والمراد ب «ما لا يطاق» في الرواية هو ما لا يتحمّل في العادة ، لا ما لا يقدر عليه أصلا كالطيران في الهواء. وأمّا في الآية فلا يبعد أن يراد به العذاب والعقوبة ، فمعنى (لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) : لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة.

وبالجملة : فتأييد إرادة رفع جميع الآثار بلزوم الإشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيف جدا.

وهن العموم بلزوم كثرة الإضار والجواب عنه

وأضعف منه : وهن إرادة العموم بلزوم كثرة الإضمار ، وقلّة الإضمار أولى. وهو كما ترى وإن ذكره بعض الفحول (٢) ، ولعلّه أراد بذلك أنّ المتيقن رفع المؤاخذة ، ورفع ما عداه يحتاج إلى دليل (٣).

وفيه : أنّه إنّما يحسن الرجوع إليه بعد الاعتراف بإجمال الرواية ، لا لإثبات ظهورها في رفع المؤاخذة.

إلاّ أن يراد إثبات ظهورها ؛ من حيث إنّ حملها على خصوص المؤاخذة يوجب عدم التخصيص في عموم الأدلّة المثبتة لآثار تلك الامور ، وحملها على العموم يوجب التخصيص فيها ؛ فعموم تلك الأدلّة مبيّن لتلك الرواية ؛ فإنّ المخصّص إذا كان مجملا من جهة تردّده بين ما

__________________

(١) في (ت) و (ر) زيادة : «في».

(٢) لم نقف عليه.

(٣) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «قطعيّ» ، ولكن يحتمل شطبها في (ت).

٣١

يوجب كثرة الخارج وبين ما يوجب قلّته ، كان عموم العامّ بالنسبة إلى التخصيص (١) المشكوك فيه مبيّنا لاجماله ، فتأمّل.

وهن العموم بلزوم كثرة تخصيص والجواب عنه

وأضعف من الوهن المذكور : وهن العموم بلزوم تخصيص كثير (٢) من الآثار بل أكثرها ؛ حيث إنّها لا ترتفع بالخطإ والنسيان وأخواتهما. وهو ناش عن عدم تحصيل معنى الرواية كما هو حقّه.

فاعلم : أنّه إذا بنينا على رفع (٣) عموم الآثار ، فليس المراد بها الآثار المترتّبة على هذه العنوانات من حيث هي ؛ إذ لا يعقل رفع الآثار الشرعية المترتّبة على الخطأ والسهو من حيث هذين العنوانين ، كوجوب الكفّارة المترتّب على قتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء.

وليس المراد أيضا رفع الآثار المترتّبة على الشيء بوصف عدم الخطأ ، مثل قوله : «من تعمّد الافطار فعليه كذا» ؛ لأنّ هذا الأثر يرتفع بنفسه في صورة الخطأ.

بل المراد : أنّ الآثار المترتّبة على نفس الفعل لا بشرط الخطأ والعمد قد رفعها الشارع عن ذلك الفعل إذا صدر عن خطأ.

المرفوع هو الآثار الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة

ثم المراد بالآثار : هي الآثار المجعولة الشرعيّة التي وضعها الشارع ؛ لأنّها هي (٤) القابلة للارتفاع برفعه ، وأمّا ما لم يكن بجعله ـ من الآثار

__________________

(١) في (ه): «المخصّص».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه): «التخصيص بكثير».

(٣) لم ترد «رفع» في (ر) و (ه).

(٤) لم ترد «هي» في (ر) و (ظ).

٣٢

العقليّة والعاديّة ـ فلا تدلّ الرواية على رفعها ولا رفع الآثار المجعولة المترتّبة عليها.

المراد من الرفع

ثمّ المراد بالرفع : ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضي له ، فيعمّ الدفع ولو بأن يوجّه التكليف على وجه يختصّ بالعامد ، وسيجيء بيانه.

فإن قلت : على ما ذكرت يخرج أثر التكليف في «ما لا يعلمون» عن مورد الرواية ؛ لأنّ استحقاق العقاب أثر عقليّ له ، مع أنّه متفرّع على المخالفة بقيد العمد ؛ إذ مناطه ـ أعني المعصية ـ لا يتحقق إلاّ بذلك. وأمّا نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعيّة.

والحاصل : أنّه ليس في «ما لا يعلمون» أثر مجعول من الشارع مترتّب على الفعل لا بقيد العلم ولا الجهل ، حتّى يحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل.

قلت : قد عرفت : أنّ المراد ب «رفع التكليف» عدم توجيهه إلى المكلّف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هنا (١) دليل يثبته لو لا الرفع أم لا ، فالرفع هنا نظير رفع الحرج في الشريعة ، وحينئذ : فإذا فرضنا أنّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشكّ فيه ، فلم يفعل ذلك ولم يوجب تحصيل العلم ولو بالاحتياط ، ووجّه التكليف على وجه يختصّ بالعالم تسهيلا على المكلّف ، كفى في صدق الرفع. وهكذا الكلام في الخطأ والنسيان.

فلا يشترط في تحقّق الرفع وجود دليل يثبت التكليف في حال

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه): «هناك».

٣٣

العمد وغيره.

نعم ، لو قبح عقلا المؤاخذة على الترك ، كما في الغافل الغير المتمكّن من الاحتياط ، لم يكن في حقّه رفع أصلا ؛ إذ ليس من شأنه أن يوجّه إليه التكليف (١).

وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التحريم في «ما لا يعلمون» عدم إيجاب الاحتياط والتحفّظ فيه حتّى يلزمه ترتّب العقاب إذا أفضى ترك التحفّظ إلى الوقوع في الحرام الواقعيّ.

وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ ؛ فإنّ مرجعه إلى عدم إيجاب التحفّظ عليه ؛ وإلاّ فليس في التكاليف ما يعمّ صورة النسيان ؛ لقبح تكليف الغافل.

المرتفع هو إيجاب التحفّظ والاحتياط

والحاصل : أنّ المرتفع في «ما لا يعلمون» وأشباهه ممّا لا يشمله أدلّة التكليف ، هو إيجاب التحفّظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعيّ ، ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه ؛ فالمرتفع أوّلا وبالذات أمر مجعول يترتّب عليه ارتفاع أمر غير مجعول.

ونظير ذلك : ما ربّما يقال في ردّ من تمسّك على عدم وجوب الإعادة على من صلّى في النجاسة ناسيا بعموم حديث الرفع : من أنّ وجوب الإعادة وإن كان حكما شرعيّا ، إلاّ أنّه مترتّب على مخالفة المأتيّ به للمأمور به الموجبة لبقاء الأمر الأوّل ، وهي ليست من الآثار الشرعيّة للنسيان ، وقد تقدّم (٢) أنّ الرواية لا تدلّ على رفع الآثار الغير

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه): «التكليف إليه».

(٢) راجع الصفحة ٣٢.

٣٤

المجعولة ولا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، كوجوب الإعادة فيما نحن فيه.

ويردّه : ما تقدّم في نظيره : من أنّ الرفع راجع (١) إلى شرطيّة طهارة اللباس بالنسبة إلى الناسي ، فيقال ـ بحكم حديث الرفع ـ : إنّ شرطيّة الطهارة شرعا مختصّة بحال الذكر ، فيصير صلاة الناسي في النجاسة مطابقة للمأمور به ، فلا يجب الإعادة. وكذلك الكلام في الجزء المنسيّ ، فتأمّل.

اختصاص الرفع بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان

واعلم ـ أيضا ـ : أنّه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار ، فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الامّة ، كما إذا استلزم إضرار المسلم ؛ فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضّمان. وكذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم «ما اضطرّوا إليه» ؛ إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير ؛ فليس الإضرار بالغير نظير سائر المحرّمات الإلهيّة المسوّغة لدفع الضرر.

وأمّا ورود الصحيحة المتقدّمة عن المحاسن (٢) في مورد حقّ الناس ـ أعني العتق والصدقة ـ فرفع أثر الإكراه عن الحالف يوجب فوات نفع على المعتق والفقراء ، لا إضرارا بهم.

وكذلك رفع أثر الإكراه عن المكره في ما إذا تعلّق (٣) بإضرار

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «هنا» ، ولكن شطب عليها ظاهرا في (ص).

(٢) تقدّمت في الصفحة ٢٩.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «الإكراه».

٣٥

مسلم ، من باب عدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير ولا ينافي الامتنان ، وليس من باب الإضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس لينافي ترخيصه الامتنان على العباد ؛ فإنّ الضرر أوّلا وبالذات متوجّه على الغير بمقتضى إرادة المكره ـ بالكسر ـ ، لا على المكره ـ بالفتح ـ ، فافهم.

المراد من رفع الحسد

بقي في المقام شيء وان لم يكن مربوطا به ، وهو :

أنّ النبويّ المذكور مشتمل على ذكر «الطيرة» و «الحسد» و «التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفته» (١). وظاهره رفع المؤاخذة على (٢) الحسد مع مخالفته لظاهر الأخبار الكثيرة (٣). ويمكن حمله على ما لم يظهر الحاسد أثره باللسان أو غيره ؛ بجعل عدم النطق باللسان قيدا له أيضا.

ويؤيّده : تأخير الحسد عن الكلّ في مرفوعة النهديّ (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، المرويّة في آخر أبواب الكفر والإيمان من اصول الكافي :

«قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد

__________________

(١) في (ظ): «بشفة» ، وفي (ت) و (ه): «بشفتيه».

(٢) في (ص): «عن».

(٣) انظر البحار ٧٣ : ٢٣٧ ، باب الحسد.

(٤) كذا في المصدر ، وفي النسخ «الهندي».

٣٦

ما لم يظهر بلسان أو يد ... الحديث (١)».

ولعلّ الاقتصار في النبويّ الأوّل على قوله : «ما لم ينطق» ؛ لكونه أدنى مراتب الإظهار.

وروي : «ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطيرة ، والحسد ، والظنّ. قيل : فما نصنع؟ قال : إذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقّق» (٢).

والبغي : عبارة عن استعمال الحسد ؛ وسيأتي في رواية الخصال : «إنّ المؤمن لا يستعمل حسده» (٣) ؛ ولأجل ذلك عدّ في الدروس من الكبائر ـ في باب الشهادات ـ إظهار الحسد ، لا نفسه (٤) ، وفي الشرائع : إنّ الحسد معصية وكذا الظنّ بالمؤمن (٥) ، والتظاهر بذلك قادح في

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولكن ليست للحديث تتمّة. انظر الكافي ٢ : ٤٦٣ ، باب ما رفع عن الامّة ، الحديث ٢ ، والوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣.

(٢) البحار ٥٨ : ٣٢٠ ، ذيل الحديث ٩.

(٣) لم يذكر ذلك في رواية الخصال الآتية في الصفحة ٤٠. نعم ، في الوسائل عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه : التفكّر في الوسوسة في الخلق ، والطيرة ، والحسد ، إلاّ أنّ المؤمن لا يستعمل حسده» الوسائل ١١ : ٢٩٣ ، الباب ٥٥ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٨.

(٤) الدروس ٢ : ١٢٦.

(٥) في (ت) و (ه) بدل : «الظنّ بالمؤمن» : «بغض المؤمن» ، وفي المصدر : «بغضة المؤمن».

٣٧

العدالة (١).

والإنصاف : أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك.

المراد من رفع الطيرة

وأمّا «الطيرة» ـ بفتح الياء ، وقد يسكّن ـ : وهي في الأصل التشؤّم بالطير (٢) ؛ لأنّ أكثر تشؤم العرب كان به ، خصوصا الغراب.

والمراد : إمّا رفع المؤاخذة عليها ؛ ويؤيّده ما روي من : «أنّ الطيرة شرك وإنّما يذهبه التوكّل» (٣) ، وإمّا رفع أثرها ؛ لأنّ التطيّر (٤) كان يصدّهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع.

المراد من الوسوسة في الخلق

وأمّا «الوسوسة في التفكّر في الخلق» كما في النبويّ الثاني ، أو «التفكّر في الوسوسة فيه» كما في الأوّل ، فهما واحد ، والأوّل أنسب ، ولعلّ الثاني اشتباه من الراوي.

والمراد به ـ كما قيل (٥) ـ : وسوسة الشيطان للانسان عند تفكّره في أمر الخلقة ؛ وقد استفاضت الأخبار بالعفو عنه.

ففي صحيحة جميل بن درّاج ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّه يقع في قلبي أمر عظيم ، فقال عليه‌السلام : قل : لا إله إلاّ الله ، قال جميل : فكلّما وقع في قلبي شيء قلت : لا إله إلاّ الله ، فذهب عني» (٦).

__________________

(١) الشرائع ٢ : ١٢٨.

(٢) انظر مجمع البحرين ٣ : ٣٨٥ (مادة طير).

(٣) البحار ٥٨ : ٣٢٢ ، ذيل الحديث ١٠ ، مع تفاوت.

(٤) كذا في (ص) ، (ظ) ، (ه) ومحتمل (ر) ، وفي (ت) ومحتمل (ر): «الطير».

(٥) قاله المجلسي في مرآة العقول ١١ : ٣٩٣.

(٦) الوسائل ٤ : ١١٩١ ، الباب ١٦ من أبواب الذكر ، الحديث الأوّل.

٣٨

وفي رواية حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن الوسوسة وإن كثرت ، قال : «لا شيء فيها ، تقول : لا إله إلاّ الله» (١).

وفي صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنّي هلكت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : أتاك الخبيث فقال لك : من خلقك؟ فقلت : الله تعالى ، فقال : الله (٢) من خلقه؟ فقال : إي والذي بعثك بالحقّ قال كذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك والله محض الإيمان».

قال ابن أبي عمير : فحدّثت ذلك عبد الرحمن بن الحجّاج ، فقال : حدّثني أبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما عنى بقوله : " هذا محض الإيمان" خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض في قلبه ذلك» (٣).

وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والّذي بعثني بالحقّ إنّ هذا لصريح الإيمان ، فإذا وجدتموه فقولوا : آمنّا بالله ورسوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله» (٤).

وفي رواية اخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم ، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلّكم ، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله تعالى وحده» (٥).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١١٩٢ ، الباب ١٦ من أبواب الذكر ، الحديث ٤.

(٢) كلمة «الله» المباركة من المصدر.

(٣) الكافي ٢ : ٤٢٥ ، باب الوسوسة وحديث النفس ، الحديث ٣.

(٤) الوسائل ٤ : ١١٩٢ ، الباب ١٦ من أبواب الذكر ، الحديث ٣.

(٥) الوسائل ٤ : ١١٩٢ ، الباب ١٦ من أبواب الذكر ، الحديث ٢.

٣٩

ويحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق : الوسوسة في امور الناس وسوء الظنّ بهم ، وهذا أنسب بقوله : «ما لم ينطق بشفة» (١).

ثمّ هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة.

وفي الخصال بسند فيه رفع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : ثلاث لم يعر منها نبيّ فمن دونه : الطيرة ، والحسد ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق» (٢).

ما ذكره الصدوق في تفسير الطيرة والحسد والوسوسة

وذكر الصدوق رحمه‌الله في تفسيرها (٣) : أنّ المراد بالطيرة التطيّر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المؤمن ، لا تطيّره ؛ كما حكى الله عزّ وجلّ عن الكفّار : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)(٤).

والمراد ب «الحسد» أن يحسد ، لا أن يحسد ؛ كما قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ)(٥).

والمراد ب «التفكّر» ابتلاء الأنبياء عليهم‌السلام بأهل الوسوسة ، لا غير ذلك ؛ كما حكى الله عن الوليد بن مغيرة : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(٦) ، فافهم.

__________________

(١) كذا في (ظ) والمصدر ، وفي (ت) ، (ر) و (ص): «بشفته» ، وفي (ه): «بشفتيه».

(٢) الخصال : ٨٩ ، باب الثلاثة ، الحديث ٢٧.

(٣) نفس المصدر ، ذيل الحديث المذكور.

(٤) النمل : ٤٧.

(٥) النساء : ٥٤.

(٦) المدثر : ١٨ ـ ١٩.

٤٠