فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

يصدق إتمام العمل.

ألا ترى : أنّه إذا شكّ بعد الفراغ عن الحمد في وجوب السورة وعدمه ، لم يحكم على إلحاق ما عداها إلى الأجزاء السابقة ، أنّه إتمام للعمل؟

الجواب عن الاستصحابين بوجه آخر

وربما يجاب عن حرمة الإبطال ووجوب الإتمام الثابتين بالأصل :

بأنّهما لا يدلاّن على صحّة العمل ، فيجمع بينهما وبين أصالة الاشتغال بوجوب إتمام العمل ثمّ إعادته ؛ للشكّ في أنّ التكليف هو إتمام هذا العمل أو عمل آخر مستأنف؟

المناقشة في هذا الجواب

وفيه نظر ؛ فإنّ البراءة اليقينيّة ـ على تقدير العمل (١) باستصحاب وجوب التمام ـ يحصل بالتمام ؛ لأنّ (٢) هذا الوجوب يرجع إلى إيجاب امتثال الأمر بكلّي الصلاة في ضمن هذا الفرد. وعلى تقدير عدم العمل به تحصل بالإعادة من دون الإتمام.

واحتمال وجوبه وحرمة القطع مدفوع بالأصل ؛ لأنّ الشبهة في أصل التكليف الوجوبيّ أو التحريميّ.

بل لا احتياط في الإتمام مراعاة لاحتمال وجوبه وحرمة القطع ؛ لأنّه موجب لإلغاء الاحتياط من جهة اخرى ، وهي مراعاة نيّة الوجه التفصيليّ في العبادة ؛ فإنّه لو قطع العمل المشكوك فيه واستأنفه نوى الوجوب على وجه الجزم ، وإن أتمّه ثمّ أعاد فاتت منه نيّة الوجوب فيما هو الواجب عليه ، ولا شكّ أنّ هذا الاحتياط على تقدير عدم وجوبه

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «مستحبّا».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «وأنّ».

٣٨١

أولى من الاحتياط المتقدّم ؛ لأنّه كان الشكّ فيه في أصل التكليف ، وهذا شكّ في المكلّف به.

والحاصل : أنّ الفقيه إذا كان متردّدا بين الإتمام والاستئناف ، فالأولى له : الحكم بالقطع ، ثمّ الأمر بالإعادة بنيّة الوجوب.

الدليل الخاصّ على مبطليّة الزيادة في بعض العبادات

ثمّ إنّ ما ذكرناه : من حكم الزيادة وأنّ مقتضى أصل البراءة عدم مانعيّتها ، إنّما هو بالنظر إلى الأصل الأوّلي ، وإلاّ فقد يقتضي الدليل في خصوص بعض المركّبات البطلان كما في الصلاة ؛ حيث دلّت الأخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة فيها.

ما ورد في الصلاة

مثل قوله عليه‌السلام : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (١).

وقوله عليه‌السلام : «إذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته» (٢).

وقوله عليه‌السلام فيما حكي عن تفسير العياشي في من أتمّ في السفر : «إنّه يعيده» ؛ قال : «لأنّه زاد في فرض الله عزّ وجلّ» (٣) ، دلّ ـ بعموم التعليل ـ على وجوب الإعادة لكلّ زيادة في فرض الله عزّ وجلّ.

وما ورد في النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة : من التعليل بقوله عليه‌السلام : «لأنّ السجود زيادة في المكتوبة» (٤).

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

(٣) لم نقف عليه في تفسير العياشي ، نعم حكاه في الوسائل عن الخصال ، انظر الوسائل ٥ : ٥٣٢ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٨ ، والخصال : ٦٠٤ ، باب الواحد إلى المائة ، ضمن الحديث ٩.

(٤) الوسائل ٤ : ٧٧٩ ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث الأوّل.

٣٨٢

ما ورد في الطواف

وما ورد في الطواف من : «أنّه مثل الصلاة المفروضة في أنّ الزيادة فيه مبطلة له» (١).

ولبيان معنى الزيادة وأنّ سجود العزيمة كيف يكون زيادة في المكتوبة ، مقام آخر. وإن كان ذكره هنا لا يخلو عن مناسبة ، إلاّ أنّ الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة أهمّ من ذكر ما يناسب (٢).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٤٣٨ ، الباب ٣٤ من أبواب الطواف ، الحديث ١١.

(٢) وعد المصنّف سابقا ـ في الصفحة ٣٧٠ ـ أن يبيّن معنى الزيادة في الصلاة هنا ، لكن أحاله هنا ـ أيضا ـ على مقام آخر ، انظر كتاب الصلاة للمصنّف ١ : ٣٩٩.

٣٨٣

المسألة الثالثة

هل تبطل العبادة بزيادة الجزء سهوا؟

في ذكر الزيادة سهوا

التي تقدح عمدا ، وإلاّ فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح.

الأقوى البطلان

والكلام هنا كما في النقص نسيانا ؛ لأنّ مرجعه إلى الإخلال (١) بالشرط نسيانا ، وقد عرفت : أنّ حكمه البطلان ووجوب الإعادة (٢).

الأصل في الجزء أن يكون نقصه مخلّاً دون زيادته

فثبت من جميع المسائل الثلاث : أنّ الأصل في الجزء أن يكون نقصه مخلا ومفسدا دون زيادته.

نعم ، لو دلّ دليل على قدح زيادته عمدا كان مقتضى القاعدة البطلان بها سهوا ، إلاّ أن يدلّ دليل على خلافه.

مثل قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة» (٣) ؛ بناء على شموله لمطلق الإخلال (٤) الشامل للزيادة.

وقوله عليه‌السلام في المرسلة : «تسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة تدخل عليك» (٥).

ملخّص ما ذكرنا في هسذا التنبيه

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ الأصل الأوّلي فيما ثبت جزئيّته : الركنيّة إن فسّر الركن بما يبطل الصلاة بنقصه. وإن عطف على النقص

__________________

(١) كذا في (ر) ومحتمل (ت) ، وفي غيرهما : «الاختلال».

(٢) راجع الصفحة ٣٦٣.

(٣) الوسائل ٤ : ٦٨٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

(٤) في (ت) و (ظ): «الاختلال».

(٥) الوسائل ٥ : ٣٤٦ ، الباب ٣٢ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٣٨٤

الزيادة عمدا وسهوا ، فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة عمدا (١) وسهوا.

مقتضى الاصول

لكنّ التفصيل بينهما غير موجود في الصلاة ؛ إذ كلّ ما يبطل الصلاة بالإخلال به سهوا يبطل بزيادته عمدا وسهوا ، فأصالة البراءة الحاكمة بعدم البأس بالزيادة ، معارضة ـ بضميمة عدم القول بالفصل ـ بأصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهوا. فإن جوّزنا الفصل في الحكم الظاهريّ الذي يقتضيه الاصول العمليّة فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعيّ ، فيعمل بكلّ واحد من الأصلين ، وإلاّ فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البراءة ، كما لا يخفى.

مقتضى القواعد الحاكمة على الاصول

هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الاصول ، وأمّا بملاحظتها :

فمقتضى «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة» والمرسلة المذكورة : عدم قدح النقص سهوا والزيادة سهوا ، ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدّمة (٢) : قدح الزيادة عمدا وسهوا ، وبينهما تعارض العموم من وجه في الزيادة السهويّة بناء على اختصاص «لا تعاد» بالسهو.

والظاهر حكومة قوله : «لا تعاد» على أخبار الزيادة ؛ لأنّها كأدلّة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ، وقوله : «لا تعاد» يفيد أنّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به إذا وقع سهوا ، لا يوجب الإعادة وإن كان من حقّه أن يوجبها.

__________________

(١) لم ترد «عمدا و» في (ت) ، (ظ) و (ه).

(٢) راجع الصفحة ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

٣٨٥

والحاصل : أنّ هذه الصحيحة مسوقة لبيان عدم قدح الإخلال سهوا بما ثبت قدح الإخلال به في الجملة.

ثمّ لو دلّ دليل على قدح الإخلال بشيء سهوا ، كان أخصّ من الصحيحة إن اختصّت بالنسيان وعمّمت بالزيادة والنقصان. والظاهر أنّ بعض أدلّة الزيادة مختصّة بالسهو ، مثل قوله : «إذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة استقبل الصلاة» (١).

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.

٣٨٦

الأمر الثاني

هل يسقط التكليف بالكلّ أو المشروط إذا تعذّر الجزء أو الشرط ، أم لا؟

إذا ثبت جزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة ، فهل يقتضي الأصل جزئيّته وشرطيّته المطلقتين حتّى إذا تعذّرا (١) سقط التكليف بالكلّ أو المشروط ، أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكّن ، فلو تعذّرا (٢) لم يسقط التكليف؟ وجهان ، بل قولان.

القول بالسقوط ودليله

للأوّل : أصالة البراءة من الفاقد وعدم ما يصلح لإثبات التكليف به ، كما سنبيّن.

ولا يعارضها استصحاب وجوب الباقي ؛ لأنّ وجوبه كان مقدّمة لوجوب الكلّ ، فينتفي بانتفائه. وثبوت الوجوب النفسيّ له مفروض الانتفاء.

نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ وقلنا بكونها اسما للأعمّ ، كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء الغير المقوّمة فيها من قبيل التقييد ، فإذا لم يكن للمقيّد إطلاق ـ بأن قام الإجماع على جزئيّته في الجملة ،

__________________

(١) في (ر): «تعذّر».

(٢) في (ر) و (ه): «تعذّر».

٣٨٧

أو على وجوب المركّب من هذا الجزء في حقّ القادر عليه ـ كان القدر المتيقّن منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر ، أمّا العاجز فيبقى إطلاق الصلاة بالنسبة إليه سليما عن المقيّد ، ومثل ذلك الكلام في الشروط.

نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ـ كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ـ لزم من انتفائهما انتفاء الأمر ، ولا أمر آخر بالعاري عن المفقود. وكذلك لو ثبت أجزاء المركّب من أوامر متعدّدة ؛ فإنّ كلاّ منها أمر غيريّ إذا ارتفع (١) بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدّمة ، أعني الكلّ (٢).

فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل كما ذكرنا.

ولا يلزم من ذلك استعمال لفظ «المطلق» في المعنيين ، أعني : المجرّد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء بالنسبة إلى القادر ؛ لأنّ المطلق ـ كما بيّن في موضعه (٣) ـ موضوع للماهيّة المهملة الصادقة على المجرّد عن القيد والمقيّد ؛ كيف؟ ولو كان كذلك كان كثير من المطلقات مستعملا كذلك ؛ فإنّ الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلّفين الموجودين أو مطلقا ، مع كونهم مختلفين في التمكّن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر ، والصحّة والمرض ، وغير

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «فيه الأمر».

(٢) لم ترد «أعني الكلّ» في (ر) و (ظ).

(٣) انظر مطارح الأنظار : ٢١٦ ، والفصول : ٢٢٣.

٣٨٨

ذلك. وكذا غير الصلاة من الواجبات.

القول بعدم السقوط ودليله

وللقول الثاني : استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلف مسبوقا بالقدرة ، بناء على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب ، بمعنى لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ، أو الوجوب النفسيّ المتعلّق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، بدعوى (١) صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللاحق ولو مسامحة ؛ فإنّ أهل (٢) العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : أنّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة ، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها.

ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختلّ جريانه في كثير من الاستصحابات ، مثل استصحاب كثرة الماء وقلّته ؛ فإنّ الماء المعيّن الذي اخذ بعضه أو زيد عليه يقال : إنّه كان كثيرا أو قليلا ، والأصل بقاء ما كان ، مع أنّ هذا الماء الموجود لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ؛ وإلاّ لم يعقل الشكّ فيه ، فليس الموضوع فيه إلاّ (٣) هذا الماء مسامحة في مدخليّة الجزء الناقص أو الزائد في المشار إليه ؛ ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا ، وشكّ في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته ونقيصته.

ويدلّ على المطلب أيضا : النبويّ والعلويّان المرويّات في عوالي اللآلي.

__________________

(١) في (ظ) و (ه): «ودعوى».

(٢) لم ترد «أهل» في (ت) و (ظ).

(٣) في (ر) و (ص) زيادة : «أعمّ من».

٣٨٩

فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١).

الاستدلال على هذا القول بثلاثة روايات أيضاً

وعن عليّ عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٢) ، و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٣).

وضعف أسنادها مجبور باشتهار التمسّك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبّع (٤).

نعم ، قد يناقش في دلالتها :

الإشكال في دلالة الرواية الاُولى ودفعه

أمّا الأولى ، فلاحتمال كون «من» بمعنى الباء أو بيانيّا ، و «ما» مصدريّة زمانيّة (٥).

وفيه : أنّ كون «من» بمعنى الباء مطلقا وبيانيّة في خصوص المقام مخالف للظاهر بعيد ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

والعجب معارضة هذا الظاهر (٦) بلزوم تقييد الشيء ـ بناء على المعنى المشهور ـ بما كان له أجزاء حتّى يصحّ الأمر بإتيان ما استطيع منه ، ثمّ تقييده بصورة تعذّر إتيان جميعه ، ثمّ ارتكاب التخصيص فيه بإخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتفاقا ، كما في كثير من المواضع ؛

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٤٨ ، الحديث ٢٠٦.

(٢) نفس المصدر ، الحديث ٢٠٥.

(٣) نفس المصدر ، الحديث ٢٠٧.

(٤) انظر التنقيح الرائع ١ : ١١٧ ، والرياض ١ : ٢٢٢ ، و ٦ : ٢٠١ ، والفوائد الحائريّة : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، ومفاتيح الاصول : ٥٢٢.

(٥) هذه المناقشة من الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٢٦٣.

(٦) هذه المعارضة مذكورة في العوائد أيضا : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٣٩٠

إذ لا يخفى أنّ التقييدين الأوّلين يستفادان من قوله : «فأتوا منه ... الخ» ، وظهوره حاكم عليهما.

نعم ، إخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد.

والحاصل : أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة.

الإشكال في دلالة الرواية الثانية

وأمّا الثانية ، فلما قيل (١) : من أنّ معناه أنّ الحكم الثابت للميسور لا يسقط بسبب سقوط المعسور ، ولا كلام في ذلك ؛ لأنّ سقوط حكم شيء لا يوجب بنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر.

فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها دليل واحد ، كما في «أكرم العلماء».

وفيه :

أوّلا : أنّ عدم السقوط (٢) محمول على نفس الميسور لا على حكمه ، فالمراد به عدم سقوط الفعل الميسور بسبب سقوط (٣) المعسور يعني : أنّ الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء فلا يسقط بسبب (٤) تعسّره. وبعبارة اخرى : ما وجب عند التمكّن من شيء آخر فلا يسقط عند تعذّره. وهذا الكلام إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء

__________________

(١) القائل هو الفاضل النراقي أيضا في العوائد : ٢٦٥.

(٢) في (ت) و (ظ) زيادة : «في الرواية».

(٣) لم ترد «سقوط» في (ت) ، (ر) و (ص).

(٤) في (ظ) بدل «بسبب» : «عند».

٣٩١

بالتمكّن من ذلك الشيء الآخر محقّقا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكلّ ، أو متوهّما كما في الأمر بما له عموم أفراديّ.

وثانيا : أنّ ما ذكر من عدم سقوط الحكم الثابت للميسور بسبب سقوط الحكم الثابت للمعسور ، كاف في إثبات المطلوب ، بناء على ما ذكرنا في توجيه الاستصحاب (١) : من أنّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الأجزاء بعد تعذّر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها ، وعن عدم وجوبها بارتفاع وجوبها وسقوطه ؛ لعدم مداقّتهم في كون الوجوب الثابت سابقا غيريّا وهذا الوجوب الذي يتكلّم في ثبوته وعدمه نفسيّ فلا يصدق على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع.

فكما يصدق هذه الرواية لو شكّ ـ بعد ورود الأمر بإكرام العلماء بالاستغراق الأفراديّ ـ في ثبوت حكم إكرام البعض الممكن الإكرام وسقوطه بسقوط حكم إكرام من يتعذّر إكرامه ، كذلك يصدق لو شكّ بعد الأمر بالمركّب في وجوب باقي الأجزاء بعد تعذّر بعضه ، كما لا يخفى.

وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى : جريان الإيراد المذكور على تقدير تعلّق عدم (٢) السقوط بنفس الميسور لا بحكمه ، بأن يقال : إنّ سقوط المقدّمة لمّا كان لازما (٣) لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٨٩.

(٢) «عدم» من (ر).

(٣) في (ص) زيادة : «عقليّا».

٣٩٢

الخبر لا بدّ أن يحمل على الأفعال المستقلّة في الوجوب ؛ لدفع توهّم السقوط الناشئ عن إيجابها بخطاب واحد.

الإشكال في دلالة الرواية الثالثة

وأمّا في الثالثة ، فما قيل (١) : من أنّ جملة «لا يترك» خبريّة لا تفيد إلاّ الرجحان.

مع أنّه لو اريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها ، إمّا بحمل الجملة على مطلق المرجوحيّة ، أو إخراج المندوبات ، ولا رجحان للتخصيص.

مع أنّه قد يمنع كون الجملة إنشاء ؛ لإمكان كونه إخبارا عن طريقة الناس وأنّهم لا يتركون الشيء بمجرّد عدم إدراك بعضه.

مع احتمال كون لفظ «الكلّ» للعموم الأفرادي ؛ لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكلّ المجموعي ، ولا مشتركا معنويّا بينه وبين الأفرادي ، فلعلّه مشترك لفظي أو حقيقة خاصّة في الأفرادي ، فيدلّ على أنّ الحكم الثابت لموضوع عامّ بالعموم الأفراديّ إذا لم يمكن الإتيان به على وجه العموم ، لا يترك موافقته في ما أمكن من الأفراد.

دفع الإشكال

ويرد على الأوّل : ظهور الجملة في الانشاء الإلزامي كما ثبت في محلّه. مع أنّه إذا ثبت الرجحان في الواجبات ثبت الوجوب ؛ لعدم القول بالفصل في المسألة الفرعيّة.

وأمّا دوران الأمر بين تخصيص الموصول والتجوّز في الجملة ، فممنوع ؛ لأنّ المراد بالموصول في نفسه ليس هو العموم قطعا ؛ لشموله للأفعال المباحة بل المحرّمة ، فكما يتعيّن حمله على الأفعال الراجحة

__________________

(١) القائل هو الفاضل النراقي أيضا في العوائد : ٢٦٥.

٣٩٣

بقرينة قوله : «لا يترك» ، كذلك يتعيّن حمله على الواجبات بنفس هذه القرينة الظاهرة في الوجوب.

وأمّا احتمال كونه إخبارا عن طريقة الناس ، فمدفوع : بلزوم الكذب أو إخراج أكثر وقائعهم.

وأمّا احتمال كون لفظ «الكلّ» للعموم الأفراديّ ، فلا وجه له : لأنّ المراد بالموصول هو فعل المكلّف ، وكلّه عبارة عن مجموعه.

نعم ، لو قام قرينة على إرادة المتعدّد من الموصول ـ بأن اريد أنّ الأفعال التي لا يدرك كلّها ، كإكرام زيد وإكرام عمرو وإكرام بكر ، لا يترك كلّها ـ كان لما احتمله وجه. لكنّ لفظ «الكلّ» حينئذ أيضا مجموعي لا أفراديّ ؛ إذ لو حمل على الأفراديّ كان المراد : «ما لا يدرك شيء منها لا يترك شيء منها» ، ولا معنى له ، فما ارتكبه في احتمال العموم الأفراديّ ممّا لا ينبغي له و (١) لم ينفعه في شيء.

فثبت ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى الإنصاف تماميّة الاستدلال بهذه الروايات ؛ ولذا شاع بين العلماء ـ بل بين جميع الناس ـ الاستدلال بها في المطالب ، حتّى أنّه يعرفه العوامّ ، بل النسوان والأطفال.

ثمّ إنّ الرواية الاولى والثالثة وإن كانتا ظاهرتين في الواجبات ، إلاّ أنّه يعلم بجريانهما في المستحبّات بتنقيح المناط العرفيّ. مع كفاية الرواية الثانية في ذلك.

__________________

(١) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) و (ه).

٣٩٤

وأمّا الكلام في الشروط :

فالأصل فيها ما مرّ في الأجزاء

فنقول : إنّ الأصل فيها ما مرّ في الأجزاء (١) : من أنّ دليل الشرط إذا لم يكن فيه إطلاق عامّ لصورة التعذّر وكان لدليل المشروط إطلاق ، فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكّن من الشرط.

عدم جريان القاعدة المستفادة من الروايات في الشروط

وأمّا القاعدة المستفادة من الروايات المتقدّمة (٢) ، فالظاهر عدم جريانها.

أمّا الاولى والثالثة ، فاختصاصهما بالمركّب الخارجيّ واضح.

وأمّا الثانية ، فلاختصاصها ـ كما عرفت سابقا (٣) ـ بالميسور الذي كان له مقتض للثبوت حتّى ينفى كون المعسور سببا لسقوطه ، ومن المعلوم أنّ العمل الفاقد للشرط ـ كالرقبة الكافرة مثلا ـ لم يكن المقتضي للثبوت فيه موجودا حتّى لا يسقط بتعسّر الشرط وهو الإيمان.

جريان القاعدة في بعض الشروط

هذا ، ولكنّ الإنصاف : جريانها في بعض الشروط التي يحكم العرف ـ ولو مسامحة ـ باتّحاد المشروط الفاقد لها مع الواجد لها.

ألا ترى : أنّ الصلاة المشروطة بالقبلة أو الستر أو الطهارة إذا لم يكن فيها هذه الشروط ، كانت عند العرف هي التي فيها هذه الشروط ، فإذا تعذّر أحد هذه صدق الميسور على الفاقد لها ، ولو لا هذه المسامحة لم يجر الاستصحاب بالتقرير المتقدّم (٤).

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٢) المتقدّمة في الصفحة ٣٩٠.

(٣) راجع الصفحة ٣٩١.

(٤) في الصفحة ٣٨٩.

٣٩٥

نعم ، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغاير كلّيّ في العرف ـ نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة ، أو الحيوان الناهق بالنسبة إلى الناطق ، وكذا ماء غير الرمّان بالنسبة إلى ماء الرمّان ـ لم يجر (١) القاعدة المذكورة.

النظر فيما ذكر صاحب الرياض

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الرياض (٢) ؛ حيث بنى وجوب غسل الميّت بالماء القراح بدل ماء السدر ، على : أن ليس الموجود في الرواية الأمر بالغسل بماء السدر على وجه التقييد ، وإنّما الموجود : «وليكن في الماء شيء من السدر» (٣).

توضيح ما فيه : أنّه لا فرق بين العبارتين ؛ فإنّه إن جعلنا ماء السدر من القيد والمقيّد ، كان قوله «وليكن فيه شيء من السدر» كذلك ، وإن كان من إضافة الشيء إلى بعض أجزائه كان الحكم فيهما (٤) واحدا.

ودعوى : أنّه من المقيّد ، لكن لمّا كان الأمر الوارد بالمقيّد مستقلا ، فيختصّ بحال التمكّن ، ويسقط حال الضرورة ، وتبقى المطلقات غير مقيّدة بالنسبة إلى الفاقد.

مدفوعة : بأنّ الأمر في هذا المقيّد للإرشاد وبيان الاشتراط ، فلا يسقط بالتعذّر ، وليس مسوقا لبيان التكليف ؛ إذ التكليف المتصوّر

__________________

(١) كذا في النسخ ، والمناسب : «لم تجر».

(٢) انظر الرياض ٢ : ١٥٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٦٨٣ ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٧.

(٤) في (ر) و (ظ): «فيها».

٣٩٦

هنا هو التكليف المقدّمي ؛ لأنّ جعل السدر في الماء مقدّمة للغسل بماء السدر المفروض فيه عدم التركيب الخارجيّ ، لا جزء خارجيّ له حتّى يسقط عند التعذّر ، فتقييده (١) بحال التمكّن ناش من تقييد وجوب ذيها ، فلا معنى لإطلاق أحدهما وتقييد الآخر ، كما لا يخفى على المتأمّل.

الاستدلال برواية عبد الأعلى على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه

ويمكن أن يستدلّ على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه ، برواية عبد الأعلى مولى آل سام ، قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ؛ امسح عليه» (٢).

فإنّ معرفة حكم المسألة ـ أعني المسح على المرارة من آية نفي الحرج ـ متوقّفة على كون تعسّر الشرط غير موجب لسقوط المشروط ، بأن يكون المنفيّ ـ بسبب الحرج ـ مباشرة اليد الماسحة للرجل الممسوحة ، ولا ينتفي بانتفائه أصل المسح المستفاد وجوبه من آية الوضوء ؛ إذ لو كان سقوط المعسور ـ وهي المباشرة ـ موجبا لسقوط أصل المسح ، لم يمكن (٣) معرفة وجوب المسح على المرارة من مجرّد نفي الحرج ؛ لأنّ

__________________

(١) وردت عبارة «السدر المفروض ـ إلى ـ فتقييده» مختلفة في النسخ ، وما أثبتناه موافق لنسخة (ف).

(٢) الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، والآية من سورة الحج : ٧٨.

(٣) في (ظ) و (ه): «لم يكن».

٣٩٧

نفي الحرج يدلّ على سقوط المسح في هذا الوضوء رأسا ، فيحتاج وجوب المسح على المرارة إلى دليل خاصّ (١) خارجي.

فرعان :

لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط

الفرع الأوّل : لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط ، كما في ما إذا لم يتمكّن من الإتيان بزيارة عاشوراء بجميع أجزائها (٢) في مجلس واحد ـ على القول باشتراط اتّحاد المجلس فيه ـ فالظاهر تقديم ترك الشرط ، فيأتي بالأجزاء تامّة في غير المجلس (٣) ؛ لأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ، ويحتمل التخيير.

لو جعل الشارع للكلّ بدلا اضطراريّا

الفرع الثاني : لو جعل الشارع للكلّ بدلا اضطراريّا كالتيمّم ، ففي تقديمه على الناقص وجهان :

من أنّ مقتضى البدليّة كونه بدلا عن التامّ فيقدّم على الناقص كالمبدل.

ومن أنّ الناقص (٤) حال الاضطرار تامّ ؛ لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيقدّم على البدل كالتامّ ؛ ويدلّ عليه رواية عبد الأعلى المتقدّمة (٥).

__________________

(١) لم ترد في (ر) و (ظ): «خاصّ».

(٢) في النسخ : «أجزائه».

(٣) في (ر) زيادة : «وترك الشرط بإتيان جميع الأجزاء أو بعضها بغير شرط».

(٤) في (ت) و (ظ) زيادة : «في».

(٥) في الصفحة السابقة.

٣٩٨

الأمر الثالث

لو دار الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة

لو دار الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة ، فليس في المقام أصل كلّي يتعيّن به أحدهما ، فلا بدّ من ملاحظة كلّ حكم يترتّب على أحدهما وأنّه موافق للأصل أو مخالف له.

٣٩٩

الأمر الرابع

لو دار الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا ، أو بين كونه جزءا أو زيادة مبطلة

لو دار الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا ، أو بين كونه جزءا أو (١) كونه زيادة مبطلة ، ففي التخيير هنا ؛ لأنّه من دوران الأمر في ذلك الشيء بين الوجوب والتحريم. أو وجوب الاحتياط بتكرار العبادة وفعلها مرّة مع ذلك الشيء واخرى بدونه ،

وجهان في المسألة

مثاله : الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة ، حيث قيل بوجوبه (٢) وقيل بوجوب الإخفات وإبطال الجهر (٣) ، وكالجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ، وكتدارك الحمد عند الشكّ فيه بعد الدخول في السورة.

فقد يرجّح الأوّل :

التخيير والدليل عليه

أمّا بناء على ما اخترناه : من أصالة البراءة مع الشكّ في

__________________

(١) في (ر) ، (ظ) و (ه): «و».

(٢) لم نقف عليه.

(٣) حكاه في المعتبر (٢ : ٣٠٤) عن بعض الأصحاب ، واستقربه الشهيد في البيان : ١٦٢ ، والدروس ١ : ١٧٥ ، وقوّاه الشهيد الثاني في الفوائد المليّة ٢ : ٣٩٠ ، وانظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٩٠.

٤٠٠