فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

فإن قلت : إذا كان متعلّق الخطاب مجملا فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالإتيان بمراده ، واستحقّ العقاب على تركه مع وصف كونه مجملا ، وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب.

عدم تعلّق التكليف بمفهوم المراد من اللفظ بل بمصداقه

قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله ، حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين ، حتّى يجب الاحتياط فيه ولو كان المصداق مردّدا بين الأقلّ والأكثر ؛ نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة الرابعة (١). وإنّما هو متعلّق بمصداق المراد والمدلول ؛ لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر لا مصداقه.

توهّم ودفع

ونظير هذا ، توهّم : أنّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه الاحتياط.

ويندفع : بأنّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ، فافهم.

ما ذكره بعض من الثمرة بين الصحيحي والأعمّي

وأمّا ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين (٢) : من (٣) الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للأعمّ ، فغرضه بيان الثمرة

__________________

(١) في الصفحة ٣٥٢.

(٢) هو الشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ١١٣.

(٣) في (ر) زيادة : «أنّه».

٣٤١

على مختاره من وجوب الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة ، لا أنّ كلّ من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائل بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البراءة في أجزاء العبادات ؛ كيف؟ والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من إجراء الأصل عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادهم بالأصل غير أصالة البراءة.

والتحقيق : أنّ ما ذكروه ثمرة للقولين : من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ، وعدمه على القول بوضعها للأعمّ ، محلّ نظر.

عدم كون الثمرة وجوب الاحتياط بناء على الصحيحي

أمّا الأوّل ، فلما عرفت (١) : من (٢) أنّ غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح كون هذه الألفاظ مجملة ، وقد عرفت (٣) : أنّ المختار والمشهور في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر عدم وجوب الاحتياط.

توضيح ما ذكروه ثمرة للصحيحي والأعمّي

وأمّا الثاني ، فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعمّ ، وهو :

أنّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح ، كان كلّ جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ «الصلاة» ، فالشكّ في جزئيّة شيء شكّ في صدق الصلاة ، فلا إطلاق للفظ «الصلاة» على هذا

__________________

(١) راجع الصفحة السابقة.

(٢) «من» من (ظ).

(٣) راجع الصفحة ٣٤٠.

٣٤٢

القول بالنسبة إلى واجدة الأجزاء وفاقدة بعضها ؛ لأنّ الفاقدة ليس بصلاة ؛ فالشكّ في كون المأتيّ به فاقدا أو واجدا شكّ في كونها صلاة أو ليست بها.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو القدر المشترك بين الواجدة لجميع الأجزاء والفاقدة لبعضها ـ نظير «السرير» الموضوع للأعمّ من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها الغير المقوّم لحقيقته بحيث لا يخلّ فقده بصدق (١) اسم «السرير» على الباقي ـ كان لفظ «الصلاة» من الألفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة والفاسدة.

فإذا اريد بقوله : «أقيموا الصلاة» فرد مشتمل على جزء زائد على مسمّى الصلاة كالصلاة مع السورة ، كان ذلك تقييدا للمطلق ، وهكذا إذا اريد المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ، فإرادة الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء يحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة على ما يتوقّف عليها صدق مسمّى الصلاة ، أمّا القدر الذي يتوقّف عليه صدق «الصلاة» ، فهو من مقوّمات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له.

وحينئذ : فإذا شكّ في جزئيّة شيء للصلاة ، فإن شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق فالشكّ فيه راجع إلى الشكّ في صدق اسم «الصلاة» ، ولا يجوز فيه إجراء البراءة ؛ لوجوب القطع بتحقّق مفهوم الصلاة كما أشرنا إليه فيما سبق (٢) ، ولا إجراء أصالة إطلاق اللفظ وعدم

__________________

(١) كذا في (ه) ومحتمل (ت) ، وفي غيرهما : «لصدق».

(٢) راجع الصفحة ٣٤١.

٣٤٣

تقييده ؛ لأنّه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك ، فحكم هذا المشكوك عند القائل بالأعمّ حكم جميع الأجزاء عند القائل بالصحيح.

وأمّا إن علم أنّه ليس من مقوّمات حقيقة الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا في الواقع ليس إلاّ من الأجزاء التي يقيّد معنى اللفظ بها ؛ لكون اللفظ موضوعا للأعمّ من واجده وفاقده ، فحينئذ فالشكّ في اعتباره وجزئيّته راجع إلى الشكّ في تقييد إطلاق الصلاة في «أقيموا الصلاة» بهذا الشيء ، بأن يراد منه مثلا : أقيموا الصلاة المشتملة على جلسة الاستراحة.

ومن المعلوم : أنّ الشكّ في التقييد يرجع فيه إلى أصالة الإطلاق وعدم التقييد ، فيحكم بأنّ مطلوب الآمر غير مقيّد بوجود هذا المشكوك ، وبأنّ الامتثال يحصل بدونه ، وأنّ هذا المشكوك غير معتبر في الامتثال ، وهذا معنى نفي جزئيّته بمقتضى الإطلاق.

نعم ، هنا توهّم نظير ما ذكرناه سابقا من الخلط بين المفهوم والمصداق (١) ، وهو توهّم : أنّه إذا قام الإجماع بل الضرورة على أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ؛ لأنّ الفاسد ما خالف المأمور به ، فكيف يكون مأمورا به؟ فقد ثبت تقييد الصلاة دفعة واحدة بكونها صحيحة جامعة لجميع الأجزاء ، فكلّما شكّ في جزئيّة شيء كان راجعا إلى الشكّ في تحقّق العنوان المقيّد المأمور به ، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقّق ذلك العنوان على تقيّده (٢) ؛ لأنّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٤١.

(٢) كذا في (ظ) ، وفي نسخة بدل (ص): «المقيّد» ، وفي غيرهما : «تقييده».

٣٤٤

الصلاة ، فلا بدّ من إتيان كلّ ما يحتمل دخله في تحقّقها كما أشرنا إليه (١) ، كذلك يجب القطع بتحصيل القيد (٢) المعلوم الذي قيّد به العنوان ، كما لو قال : «أعتق مملوكا مؤمنا» فإنّه يجب القطع بحصول الإيمان ، كالقطع (٣) بكونه مملوكا.

ودفعه يظهر ممّا ذكرناه : من أنّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم «الصحيحة» وهو الجامع لجميع الأجزاء ، وإنّما قيّدت بما علم من الأدلّة الخارجيّة اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة «الفاسدة» يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للامور التي دلّ الدليل على تقييد الصلاة بها ، لا أنّ مفهوم «الفاسدة» خرج عن المطلق وبقي مفهوم «الصحيحة» ، فكلّما شكّ في صدق «الصحيحة» و «الفاسدة» وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم «الصحيحة».

وهذه المغالطة جارية في جميع المطلقات ، بأن يقال : إنّ المراد بالمأمور به في قوله : «اعتق رقبة» ليس إلاّ الجامع لشروط الصحّة ؛ لأنّ الفاقد للشرط (٤) غير مراد قطعا ، فكلّما شكّ في شرطيّة شيء كان شكّا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ، فيجب الاحتياط للقطع بإحرازه.

وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير خفيّ بأدنى التفات ، فلنرجع إلى المقصود ، ونقول :

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٤٣.

(٢) في (ص) و (ه): «المقيّد».

(٣) في (ت) و (ه) بدل «كالقطع» : «كما يجب القطع» ، وفي (ر): «كما يقطع».

(٤) في (ر) و (ص): «للشروط».

٣٤٥

عدم كون الثمرة البراءة بناء على الأعمّي

إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ كغيرها من المطلقات ، كان لها حكمها ، ومن المعلوم أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسّك (١) بإطلاقه ، بل له شروط ، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضيّة المهملة بحيث لا يكون المقام مقام بيان ؛ ألا ترى : أنّه لو راجع المريض الطبيب فقال له في غير وقت الحاجة : «لا بدّ لك من شرب الدواء أو المسهل» ، فهل يجوز للمريض أن يأخذ بإطلاق الدواء والمسهل؟ وكذا لو قال المولى لعبده : «يجب عليك المسافرة غدا».

وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلّم ذكر اللفظ المجمل ـ لعدم كونه إلاّ في مقام هذا المقدار من البيان ـ لا يجوز (٢) أن يدفع القيود المحتملة للمطلق بالأصل ؛ لأنّ جريان الأصل لا يثبت الإطلاق وعدم إرادة المقيّد (٣) إلاّ بضميمة : أنّه إذا فرض ـ ولو بحكم الأصل ـ عدم ذكر القيد ، وجب إرادة الأعمّ من المقيّد ؛ وإلاّ قبح التكليف ؛ لعدم البيان ، فإذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الإخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع.

والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات الواردة في الكتاب في مقام الأمر بالعبادة : كونها في غير مقام بيان كيفيّة العبادة (٤) ؛ فإنّ قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٥) إنّما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة

__________________

(١) في غير (ظ) زيادة : «به».

(٢) في (ظ): «فلا يجوز».

(٣) في (ت) ، (ر) و (ص): «القيد».

(٤) كذا في (ت) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرهما بدل «العبادة» : «الصلاة».

(٥) البقرة : ٤٣ ، ٨٣ و ١١٠ وغيرها.

٣٤٦

والمحافظة عليها ، نظير قوله : «من ترك الصلاة فهو كذا وكذا» (١) ، و «أنّ صلاة فريضة خير من عشرين أو ألف حجّة» (٢) ، نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء ، إمّا قبل بيانه له حتّى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وإمّا بعد البيان له حتّى يكون إشارة إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب. والأوامر الواردة بالعبادات فيه ـ كالصلاة والصوم والحجّ ـ كلّها على أحد الوجهين ، والغالب فيها الثاني.

وقد ذكر موانع أخر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابليّة التمسّك فيها بأصالة الإطلاق وعدم التقييد ، لكنّها قابلة للدفع أو غير مطّردة في جميع المقامات ، وعمدة الموهن لها ما ذكرناه.

فحينئذ : إذا شكّ في جزئيّة شيء لعبادة ، لم يكن هنا (٣) ما يثبت به عدم الجزئيّة من أصالة عدم التقييد ، بل الحكم هنا هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط أو إلى أصالة البراءة ، على الخلاف في المسألة.

ما ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي

فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي : ىهو لزوم الإجمال على القول بالصحيح ، وحكم المجمل (٤) مبنيّ على الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراءة ، وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئيّة ـ لأصالة عدم التقييد ـ على القول بالأعمّ ، فافهم.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩ ، الباب ١١ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث ٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٧ ، الباب ١٠ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث ٨ و ٩.

(٣) في (ر) و (ص): «هناك».

(٤) في غير (ظ) زيادة : «هو».

٣٤٧

المسألة الثالثة

مقتضى إطلاق أكثر الأصحاب ثبوت التخيير

فيما إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئيّة شيء لشيء وعدمها

مقتضى إطلاق أكثر الأصحاب ثبوت التغيير

كأن يدلّ أحدهما على جزئيّة السورة والآخر على عدمها. ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ : ثبوت التخيير هنا.

لكن ينبغي أن يحمل هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده (١) عدم جزئيّة هذا المشكوك ، كأن يكون هنا (٢) إطلاق معتبر للأمر بالصلاة بقول مطلق ؛ وإلاّ فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ؛ لسلامته عن المقيّد بعد ابتلاء ما يصلح لتقييده بمعارض مكافئ.

موضوع المسألة

وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ؛ لأنّها ـ كأمثالها من مسائل هذا المقصد ـ مفروضة فيما إذا لم يكن هناك (٣) دليل اجتهاديّ سليم عن المعارض متكفّلا لحكم المسألة حتّى تكون موردا للاصول العمليّة.

__________________

(١) لم ترد «عدم تقييده» في (ظ).

(٢) في (ص): «هناك».

(٣) لم ترد «هناك» في (ر) ، (ص) و (ظ).

٣٤٨

فإن قلت : فأيّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا ، كما لو لم يكن مطلق؟

فإنّ حكم المتكافئين إن كان هو التساقط ، حتّى أنّ المقيّد المبتلى بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما ، كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق ـ التي حكم فيها بالتخيير ـ هو التساقط والرجوع إلى الأصل المؤسّس فيما لا نصّ فيه : من البراءة أو الاحتياط ، على الخلاف.

وإن كان حكمهما التخيير ـ كما هو المشهور نصّا وفتوى ـ كان اللازم عند تعارض المقيّد للمطلق الموجود بمثله ، الحكم بالتخيير هاهنا (١) ، لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد.

المتعارضان مع وجود المطلق

قلت : أمّا لو قلنا : بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق غير متكافئين ـ لأنّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجّح له ، فيؤخذ به ويطرح الآخر ـ فلا إشكال في الحكم ، وفي خروج مورده عن محلّ الكلام.

وإن قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجع ، لا مرجّح ـ نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد تعبّديّا ، لا من باب الظهور النوعيّ ـ فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين : دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعيّ في تلك الواقعة ، وأنّها مسوقة لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاصول العقليّة والنقليّة المقرّرة لحكم صورة فقدان

__________________

(١) في (ر): «هنا».

٣٤٩

قول الشارع فيها ، والمفروض وجود قول الشارع هنا ولو بضميمة أصالة الإطلاق المتعبّد بها عند الشكّ في المقيّد.

الفرق بين أصالة الإطلاق وسائر الاصول العقليّة والنقليّة

والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الاصول الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين (١) : هو أنّ تلك الاصول عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعيّ فيها ، وهذا الأصل مقرّر لإثبات كون الشيء وهو المطلق دليلا وحجّة عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك.

فالتخيير مع جريان هذا الأصل تخيير مع وجود الدليل الشرعيّ المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصّان ، بخلاف التخيير مع جريان تلك الاصول ؛ فإنّه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما.

الإنصاف حكومة أخبار التخيير على أصالة الإطلاق

هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصوليّة ، كما أنّها حاكمة على تلك الاصول الجارية في المسألة الفرعيّة ؛ لأنّ مؤدّاها بيان حجّية أحد المتعارضين كمؤدّى أدلّة حجّية الأخبار ، ومن المعلوم حكومتها على مثل هذا الأصل ، فهي دالّة على مسألة اصوليّة ، وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا (٢).

فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق : «اعمل بالخبر

__________________

(١) لم ترد «وترك المتكافئين» في (ظ).

(٢) لم ترد عبارة «فهي ـ إلى ـ صرفا» في (ظ) ، ولم ترد «صرفا» في (ت) و (ه).

٣٥٠

الفلانيّ المقيّد لهذا المطلق» ، وبين قوله : «اعمل بأحد هذين المقيّد أحدهما له».

فالظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق وعدم التخيير مبنيّ على ما هو المشهور ـ فتوى ونصّا ـ : من ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق أو العامّ الموجود في تلك المسألة ، كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى. وسيأتي توضيح ما هو الحقّ من المسلكين في باب التعادل والتراجيح (١) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) انظر مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ١٤٧ ـ ١٤٨.

٣٥١

المسألة الرابعة

فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به

الشكّ في الجزئيّتة من جهة اشتباه الموضوع

من جهة الشبهة في الموضوع الخارجيّ

كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر. ومنه : ما إذا وجب صوم شهر هلاليّ ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص. ومثل : ما إذا (١) أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني الفعل (٢) الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشكّ في جزئيّة شيء للوضوء أو الغسل الرافعين.

اللازم في المسألة الاحتياط

واللازم في المقام : الاحتياط ؛ لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلا ، وإنّما الشكّ في تحقّقه بالأقلّ ، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه وبقاء الاشتغال : عدم الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر.

عدم جريان أدلّة البراءة في المسألة

ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقليّ والنقليّ الدالّ على البراءة ؛ لأنّ البيان الذي لا بدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع ، فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلا ، فإذا شكّ في تحقّقه في

__________________

(١) «إذا» من (ظ).

(٢) في (ت) و (ه) بدل «الفعل» : «الغسل».

٣٥٢

الخارج فالأصل عدمه. والعقل ـ أيضا ـ يحكم بوجوب القطع بإحراز ما علم وجوبه تفصيلا ، أعني المفهوم المعيّن المبيّن المأمور به ؛ ألا ترى : أنّه لو شكّ في وجود باقي الأجزاء المعلومة ـ كأن لم يعلم أنّه أتى بها أم لا ـ كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوب الإتيان بها؟

الفرق بين المسألة والمسائل المتقدّمة من الشبهة الحكميّة

والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة هو : أنّ نفس (١) التكليف فيها (٢) مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلّقه بالمشكوك ، وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ؛ لأنّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي قبيحة بحكم العقل ، فالعقل والنقل الدالاّن على البراءة مبيّنان لمتعلّق (٣) التكليف (٤) من أوّل الأمر في مرحلة الظاهر.

وأمّا ما نحن فيه ، فمتعلّق التكليف فيه مبيّن معيّن معلوم تفصيلا ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما الشكّ في تحقّقه في الخارج بإتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحقّقه في الخارج ، بل الأصل عدم تحقّقه ، والعقل أيضا مستقلّ بوجوب الاحتياط مع الشكّ في التحقّق.

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) و (ه) زيادة : «متعلّق».

(٢) في (ه) بدل «فيها» : «فيهما» ، وفي (ص) بدلها : «في المسائل المتقدّمة المحكومة بالبراءة فيها» ، وفي (ظ) بدلها : «في المسألتين المتقدّمتين المحكوم فيها بالبراءة».

(٣) في (ت) و (ر): «لتعلّق».

(٤) في (ت) و (ص) زيادة : «بما عداه» ، وفي (ر) زيادة : «لما عداه».

٣٥٣

الشكّ في القيد

وأمّا القسم الثاني ، وهو الشكّ في كون الشيء قيدا للمأمور به :

القيد قد يكون منشؤه مغايرا للمقيّد وقد يكون قيدا متّحدا معه

فقد عرفت (١) أنّه على قسمين ؛ لأنّ القيد قد يكون منشؤه فعلا خارجيّا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ كالطهارة الناشئة من الوضوء ، وقد يكون قيدا متّحدا معه في الوجود الخارجيّ.

الظاهر اتّحاد حكمهما

أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم (٢) ، فلا نطيل بالإعادة.

وأمّا الثاني : فالظاهر اتّحاد حكمهما (٣).

قد يفرّق بين القسمين بإلحاق الأوّل بالشكّ في الجزئيّة دون الثاني

وقد يفرّق بينهما : بإلحاق الأوّل بالشكّ في الجزئيّة دون الثاني ؛ نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ؛ فإنّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٥.

(٢) وهو الشكّ في الجزء الخارجي.

(٣) وردت في (ت) و (ه) بدل «أمّا الأوّل ـ إلى ـ حكمهما» : «والظاهر اتحاد حكمهما ، والكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم» ، إلاّ أنّ في (ت) بدل «فيه» : «فيها».

٣٥٤

المؤاخذة عليه كان التكليف به ـ ولو مقدّمة ـ منفيّا بحكم العقل والنقل ، والمفروض أنّ الشرط الشرعيّ إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ، فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر.

وأمّا ما كان متّحدا مع المقيّد في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة ، فليس ممّا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدّمة ، فلا يندرج فيما حجب الله (١) علمه عن العباد.

والحاصل : أنّ أدلّة البراءة من العقل والنقل إنّما تنفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتّب على تركه مع إتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا ؛ فإنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك (٢) وجوبه معذور في ترك التسليم ؛ لجهله. وأمّا الآتي بالرقبة. الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتّى يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور به رأسا.

وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ، لا الأقلّ والأكثر.

وكأنّ هذا هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة كالمحقّق القمّي رحمه‌الله في باب المطلق والمقيّد : من تأييد استدلال العلاّمة رحمه‌الله في النهاية على وجوب حمل المطلق على المقيّد بقاعدة «الاشتغال» (٣) ، وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتّى

__________________

(١) لم ترد لفظ الجلالة في (ر) و (ظ).

(٢) في غير (ر) زيادة : «في».

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ١٧٤.

٣٥٥

يستدعي العلم بالبراءة (١) ، بقوله :

كلام المحقّق القميّ في وجوب الاحتياط في القسم الثاني

وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو المردّد بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ؛ لاشتغال الذمّة بالمجمل ، ولا يحصل البراءة إلاّ بالمقيّد ـ إلى أن قال ـ :

وليس هنا قدر مشترك يقينيّ يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ؛ لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمّل (٢) ، انتهى.

المناقشة فيما ذكر من الفرق بين القسمين

هذا ، ولكنّ الإنصاف : عدم خلوّ المذكور عن النظر ؛ فإنّه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلّة البراءة من العقل والنقل ؛ لأنّ المنفيّ فيها الإلزام بما لا يعلم وكلفته ، ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ، ولا فرق عند التأمّل بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء.

مع أنّ ما ذكر (٣) ـ من تغاير منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء واتّحادهما في الرقبة المؤمنة ـ كلام ظاهريّ ؛ فإنّ الصلاة حال (٤) الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا

__________________

(١) المعترض هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم (الطبعة الحجرية) : ١٥٥ ، الحاشية المبدوّة بقوله : «الجمع بين الدليلين لا ينحصر ... الخ».

(٢) القوانين : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٣) في (ر) و (ص): «ذكره».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «وجود».

٣٥٦

واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط.

وأمّا وجوب إيجاد الوضوء مقدّمة لتحصيل ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتّفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة ، ونظيره قد يتّفق في الرقبة المؤمنة ؛ حيث إنّه قد يجب بعض المقدّمات لتحصيلها في الخارج ، بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الإيمان مع التمكّن إذا لم يوجد غيرها وانحصر الواجب في العتق. وبالجملة : فالأمر بالمشروط بشيء لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجيّ ، بل قد يتّفق وقد لا يتّفق.

و (١) أمّا الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجيّ على الفاقد له ، فالفرق بين الشروط فاسد جدّا.

فالتحقيق : أنّ حكم الشرط بجميع أقسامه واحد ، سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتباينين.

المناقشة في كلام المحقّق القمّي قدس‌سره

وأمّا ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله ، فلا ينطبق على ما ذكره في باب البراءة والاحتياط (٢) : من إجراء البراءة حتّى في المتباينين ، فضلا عن غيره ، فراجع.

دوران الأمر بين التخيير والتعيين

وممّا ذكرنا : يظهر الكلام في ما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ، كما لو دار الواجب في كفّارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث ، فإنّ في إلحاق ذلك بالأقلّ والأكثر فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيّد ، أو المتباينين (٣) ،

__________________

(١) لم ترد «و» في (ت).

(٢) انظر القوانين ٢ : ٣٩.

(٣) في (ر): «بالمتباينين».

٣٥٧

وجهين بل قولين :

من عدم جريان أدلّة البراءة في المعيّن ؛ لأنّه معارض بجريانها في الواحد المخيّر ، وليس بينهما (١) قدر مشترك خارجيّ أو ذهنيّ يعلم تفصيلا وجوبه فيشكّ في جزء زائد خارجيّ أو ذهنيّ.

ومن أنّ الإلزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الإلزام بأحدهما في الجملة ، وهو ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلّف بحكم : «ما حجب الله علمه عن العباد» (٢) ، وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه بحكم : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٣). وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من جهته.

المسألة في غاية الإشكال

والمسألة (٤) في غاية الإشكال ؛ لعدم الجزم باستقلال العقل بالبراءة عن التعيين بعد العلم الإجماليّ ، وعدم كون المعيّن المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، بل هو على تقديره عين المكلّف به ، والأخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين ؛ لأنّه في معنى نفي الواحد المعيّن ، فيعارض بنفي الواحد المخيّر ؛ فلعلّ الحكم بوجوب الاحتياط وإلحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوّة ، بل الحكم

__________________

(١) في (ص): «لهما».

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩.

(٤) في غير (ظ): «فالمسألة».

٣٥٨

في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن إشكال ، لكنّ الأقوى فيه : الإلحاق.

الأقوى وجوب الاحتياط

فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء ، فراجع.

الشكّ في المانعيّة

ثمّ إنّ مرجع الشكّ في المانعيّة إلى الشكّ في شرطيّة عدمه.

الشكّ في القاطعيّة

وأمّا الشكّ في القاطعيّة ، بأن يعلم أنّ عدم الشيء لا مدخل له في العبادة إلاّ من جهة قطعه للهيئة الاتصاليّة المعتبرة في نظر الشارع ، فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصاليّة وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابليّة صيرورتها أجزاء فعليّة ، وسيتّضح ذلك (١) بعد ذلك إن شاء الله.

إذا كان الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ناشئا عن الشكّ في حكم تكليفي نفسي

ثمّ إنّ الشكّ في (٢) الشرطيّة : قد ينشأ عن الشكّ في حكم تكليفيّ نفسي ، فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفيّ حاكما على الأصل في الشرطيّة (٣) ، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبراءة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم : من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته أو عدم وجوبه.

__________________

(١) لم ترد «ذلك» في (ر) و (ص).

(٢) في (ص) و (ظ) زيادة : «الجزئيّة أو».

(٣) في (ص) ، (ظ) و (ه) زيادة : «والجزئيّة» ، لكن كتب فوقها في (ص): «خ».

٣٥٩
٣٦٠