فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه ؛ من جهة استظهار أنّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون الخارج بولا ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه.

وبه يندفع تعجّب صاحب الحدائق من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كلّ منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة (١).

رواية عمرو ابن شمر

وأمّا الرواية ، فهي رواية عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفيّ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله ، فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (٢).

الاستدلال برواية عمرو بن شمر على تنجّس الملاقي

وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولو لا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ؛ فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

الجواب عن الرواية

لكنّ الرواية ضعيفة سندا. مع أنّ الظاهر من الحرمة فيها النجاسة ؛

__________________

(١) انظر الحدائق ١ : ٥١٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٩ ، الباب ٥ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

٢٤١

لأنّ مجرّد التحريم لا يدلّ على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي ، وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرّمات ، كما ترى ؛ فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.

فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلاّ أنّه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كلّ منهما أحد طرفي الشبهة ، فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء.

أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي سليمة عن المعارض

قلت : ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالفتح ـ فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر.

والسرّ في ذلك : أنّ الشكّ في الملاقي ـ بالكسر ـ ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ؛ فالأصل فيهما (١) أصل في الشكّ السببيّ ، والأصل فيه أصل في الشكّ المسبّبي (٢) ، وقد تقرّر في محلّه (٣) : أنّ الأصل في الشكّ السببيّ حاكم (٤) على الأصل في الشكّ المسبّبي (٥) ـ سواء كان مخالفا له ،

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ومحتمل (ظ): «فيها».

(٢) في (ظ) و (ه): «المسبّب».

(٣) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٤.

(٤) في (ت) ، (ظ) و (ه) زيادة : «ووارد».

(٥) في (ر) ، (ظ) و (ه): «المسبّب».

٢٤٢

كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به ، أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب ـ ، فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم ؛ لأنّ الأوّل رافع شرعيّ للشكّ المسبّب بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع من جريان الأصل في الشكّ المسبّب ووجب الرجوع إليه ؛ لأنّه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين.

ألا ترى : أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة ـ عند تتميم الماء النجس كرّا بطاهر ، وعند غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس ـ إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟

نعم ، ربما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها (١) بزعم كونهما في مرتبة واحدة.

لكنّه توهّم فاسد ؛ ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي ، بالكسر.

التحقيق في تعارض الأصلين الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول

فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتّحاد مرتبتهما لاتّحاد الشبهة الموجبة لهما : الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما كقاعدة الطهارة في المثالين ، فافهم واغتنم.

__________________

(١) كذا في (ت) وهامش (ه) ، وفي غيرهما : «له».

٢٤٣

وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى (١).

نعم ، لو حصل للأصل في هذا الملاقي ـ بالكسر ـ أصل آخر في مرتبته كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ، كانا من الشبهة المحصورة.

ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ؛ لأنّ أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر ؛ لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ؛ لما أشرنا إليه في الأمر الثالث (٢) : من عدم جريان الأصل في ما لا يبتلي به المكلّف ولا أثر له بالنسبة إليه.

فمحصّل ما ذكرنا : أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة.

ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولا يخفى وجهه ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٣.

(٢) راجع الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٢٤٤

الخامس

الاضطرار إلى بعض المحتملات

لو كان المضطرّ إليه بعضا معيّنا

لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات : فإن كان بعضا معيّنا ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ؛ لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ ؛ لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم (١).

وإن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ، يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات.

لو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن

ولو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن ، وجب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجماليّ ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

__________________

(١) تقدّم توضيحه في الأمر الثالث ، الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٢٤٥

فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعيّ ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي.

قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ، واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ رأسا ، وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ـ بملاحظة تعلّق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ـ ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة من (١) ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسّط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه.

وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ، وهو ترك باقي المحتملات. وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا كما في موارد التخيير.

وممّا ذكرنا تبيّن : أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي (٢) فيها

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها بدل «من» : «في» ، وشطب في (ت) و (ه) على : «الحاصلة».

(٢) لم ترد «الإجمالي» في (ظ).

٢٤٦

بالاحتياط ـ لمكان الحرج أو قيام الإجماع على عدم وجوبه ـ : أن يرجع في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط ، مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط ووجوب العمل بالظنّ مطلقا أو في الجملة ـ على الخلاف بينهم ـ على الرجوع في غير موارد الظنّ المعتبر إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.

نعم ، لو قام بعد بطلان (١) وجوب الاحتياط دليل عقليّ أو إجماع على وجوب (٢) كون الظنّ ـ مطلقا أو في الجملة ـ حجّة وطريقا في الأحكام الشرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشكّ في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق إلى الاصول الجارية في مواردها.

لكنّك خبير : بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلاّ بطلان الاحتياط ، مع اعتراف أكثرهم بأنّه الأصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يفيد إلاّ جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص): «إبطال».

(٢) شطب على «وجوب» في (ص).

٢٤٧

السادس

لو كانت المشتبهات ممّا توجد تدريجا

لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ، فيعلم (١) إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ، ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟ وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟

التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينها إذا كان الابتلاء دفعة ، وعدمه ؛ لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب.

عدم الابتلاء دفعة في التدريجيّات

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيّات ، كما في مثال الحيض ؛ فإنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ؛ فإنّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى

__________________

(١) في (ت) و (ص): «فتعلم».

٢٤٨

يَطْهُرْنَ)(١) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ؛ إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب ، فهذا الخطاب كما (٢) أنّه مختصّ بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب إلاّ على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.

ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصّة ، ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد.

ولكنّ الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين.

بناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة ، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعيّ بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما.

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ؛ لعدم جريان استصحاب الطهر. وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد ، فيحكم في كلّ معاملة بشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها ؛ لأنّ فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفيّ ؛ ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان و (٣) الصغر على وجه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) في (ت): «بهذا الخطاب وكما».

(٣) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «أو».

٢٤٩

وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود (١) ؛ للعلم بخروج بعض المشتبهات التدريجيّة عن العموم ؛ لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العامّ عن الظهور بالنسبة إليها ، ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الإجماليّ بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في إجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في إجراء (٢) الاصول اللفظيّة ، فيمكن التمسّك فيما نحن فيه لصحّة (٣) كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظيّة والعمليّة ، فتأمّل.

__________________

(١) في (ص) و (ظ) زيادة عبارة : «وإن قلنا بالرجوع إلى العامّ عند الشكّ في مصداق ما خرج عنه» ، وفي (ر) زيادة عبارة قريبة منها.

(٢) «إجراء» من (ظ).

(٣) في (ت): «في صحّة» ، وفي (ظ) و (ه): «بصحّة».

٢٥٠

السابع

العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف

قد عرفت (١) : أنّ المانع من إجراء الأصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الإجماليّ (٢) المتعلّق بالمكلّف به (٣) ، وهذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة إحدى لباسي الرجل والمرأة عليه ، وهذا من قبيل ما إذا علم أنّ هذا الإناء خمر أو أنّ هذا الثوب مغصوب.

وقد عرفت في الأمر الأوّل (٤) : أنّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين.

حكم الخنثى

وعلى هذا فيحرم على الخنثى كشف كلّ من قبليه ؛ لأنّ أحدهما

__________________

(١) راجع الصفحة ٢١١ ـ ٢١٢.

(٢) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «بالتكليف».

(٣) لم ترد «به» في (ر) و (ص).

(٤) راجع الصفحة ٢٢٥.

٢٥١

عورة قطعا ، والتكلّم مع الرجال والنساء إلاّ لضرورة ، وكذا استماع صوتهما وإن جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها ؛ لأصالة الحلّ ، بناء على عدم العموم في آية «الغضّ» للرجال (١) وعدم جواز التمسّك بعموم آية «حرمة إبداء الزينة على النساء» (٢) ؛ لاشتباه مصداق المخصّص.

وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ؛ وإلاّ فالأصل (٣) عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج.

القول بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها

ويمكن أن يقال : بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ؛ إمّا لانصرافها إلى غيرها ، خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا وإن كان مردّدا بين خطابين موجهين (٤) إليه تفصيلا ؛ لأنّ الخطابين بشخص واحد بمنزلة خطاب واحد لشيئين (٥) ؛ إذ لا فرق بين قوله : «اجتنب عن الخمر» و «اجتنب عن مال الغير» ، وبين قوله : «اجتنب عن كليهما» ، بخلاف الخطابين الموجّهين

__________________

(١) النور : ٣٠.

(٢) النور : ٣١.

(٣) كذا في (ظ) ، وفي (ر) و (ص): «إذ الأصل» ، وفي (ت): «والأصل» ، وفي (ه): «أو الأصل».

(٤) في (ت) و (ه): «متوجّهين».

(٥) في (ت) ومحتمل (ص) و (ظ): «بشيئين».

٢٥٢

إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما.

المناقشة في القول المذكور

لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة ضعيفة ؛ فإنّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزنا أو العورة عن النظر للخنثى ، كما ترى.

وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيليّ ؛ فإنّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل الإباحة في المشتبهين ، وهو ثابت في ما نحن فيه ؛ ضرورة عدم (١) جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ؛ للعلم بوجوب حفظ الفرج من النظر والزنا على كلّ أحد ، فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابهما (٢).

__________________

(١) في غير (ت) زيادة : «جواز».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بخطابيهما».

٢٥٣

الثامن

التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين هو الحلّ أو الحرمة

أنّ ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ؛ لأنّ المفروض عدم جريان الأصل فيهما ـ لأجل معارضته بالمثل ـ ، فوجوده كعدمه.

ويمكن الفرق من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، وتخصيص الجواز بالصورة الاولى ، ويحكمون في الثانية بعدم جواز الارتكاب ؛ بناء على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ، ولا دليل على حرمتها إذا لم تتعلّق بالعمل ، خصوصا إذا وافق الاحتياط.

إلاّ أنّ استدلال بعض المجوّزين (١) للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربما يظهر منه التعميم ، وعلى التخصيص فيخرج عن محلّ النزاع ، كما (٢) لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ، أو إحدى الذبيحتين ميتة ، أو أحد المالين مال الغير ، أو أحد الأسيرين

__________________

(١) كالمحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢٦.

(٢) في (ت): «ما».

٢٥٤

محقون الدم ، أو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا فعلم طهارة أحدهما.

وربما يقال (١) : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات الماليّة ونحوها كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر (٢) أنّه لم يقل أحد فيها بجواز الارتكاب ؛ لأنّ المنع في مثل ذلك ضروريّ.

وفيه نظر.

__________________

(١) قائله هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٢٢١.

(٢) في (ه): «فيظهر».

٢٥٥

التاسع

أنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ؛ لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر.

٢٥٦

المقام الثاني

في الشبهة الغير المحصورة

المعروف عدم وجوب الاجتناب والاستدلال عليه من وجوه :

والمعروف فيها : عدم وجوب الاجتناب.

ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل

الإجماع الظاهر المصرّح به في الروض (١) وعن جامع المقاصد (٢) وادّعاه صريحا المحقّق البهبهانيّ في فوائده ـ وزاد عليه نفي الريب فيه ، وأنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار عليه (٣) ـ وتبعه في دعوى الإجماع غير واحد ممّن تأخّر عنه (٤) ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة ، وبالجملة : فنقل الإجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة.

الثاني :

٢ ـ لزوم المشقّة في الاجتناب

ما استدلّ به جماعة (٥) : من لزوم المشقّة في الاجتناب. ولعلّ المراد

__________________

(١) روض الجنان : ٢٢٤.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ١٦٦.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.

(٤) كصاحب الرياض في الرياض (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٢٩٧ ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٣.

(٥) كالمحقّق والشهيد الثانيين ، في جامع المقاصد ٢ : ١٦٦ ، وروض الجنان : ٢٢٤.

٢٥٧

به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله عموم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) ، وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ؛ بناء على أنّ المراد أنّ ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلّفين حتّى من لا حرج بالنسبة إليه.

وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر ، إلاّ أنّه يتعيّن الحمل عليه ؛ بمعونة ما ورد : من إناطة الأحكام الشرعيّة الكلّية (٣) ـ وجودا وعدما ـ بالعسر واليسر الغالبين (٤).

المناقشة في هذا الاستدلال

وفي هذا الاستدلال نظر ؛ لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات لا تدلّ إلاّ على أنّ ما كان فيه ضيق على مكلّف فهو مرتفع عنه ، وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السهولة ، فليس فيه امتنان على أحد ، بل فيه تفويت مصلحة التكليف من غير تداركها بالتسهيل.

عدم فائدة دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب فيما نحن فيه

وأمّا ما ورد : من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ؛ لأنّ الشبهة الغير المحصورة ليست واقعة واحدة (٥)

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) لم ترد «الكلّية» في (ر) ، ووردت في (ص) بعنوان نسخة بدل.

(٤) انظر الوسائل ٥ : ٢٤٦ ، الباب ١٤ من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، الحديث الأوّل. و ١٤ : ٧٤ ، الباب ٤٨ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث الأوّل.

(٥) لم ترد «واحدة» في (ت) و (ه).

٢٥٨

حكم فيها بحكم حتّى يدّعى أنّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة ، والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريميّ الموجود في ذلك الموضوع ، والمفروض أنّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ، ولا يرد منه حرج على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه أيضا في غاية اليسر ؛ فأيّ مدخل للأخبار الواردة في أنّ الحكم الشرعيّ يتبع الأغلب في اليسر والعسر.

وكأنّ المستدلّ بذلك ، جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر ، لكن لمّا تعسّر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كلّية.

وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ليس إلاّ دليل حرمة ذلك الموضوع.

نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرّم الواقعيّ في خصوص مشتبهاته الغير المحصورة على أغلب المكلّفين في أغلب الأوقات ـ كأن يدّعى : أنّ الحكم بوجوب الاجتناب (١) عن النجس الواقعيّ مع اشتباهه في امور غير محصورة ، يوجب الحرج الغالبيّ ـ أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبهة.

لكن لا يتوهّم (٢) من ذلك : اطّراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر

__________________

(١) في (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص): «الاحتياط».

(٢) في (ظ): «لا يلزم».

٢٥٩

المشتبه بين مائعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبهة في ناحية مخصوصة ، إلى غير ذلك من المحرّمات.

ولعلّ كثيرا ممّن تمسّك في هذا المقام بلزوم المشقّة أراد المورد الخاصّ ، كما ذكروا ذلك في الطهارة والنجاسة.

عدم لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة

هذا كلّه ، مع أنّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدّم (١) وجوب الاحتياط فيها ، ممنوع.

ووجهه : أنّ كثيرا من الشبهات الغير المحصورة لا يكون جميع المحتملات فيها (٢) مورد ابتلاء (٣) المكلّف ، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة وإن كانت محصورة كما أوضحناه سابقا (٤) ، وبعد إخراج هذا عن محلّ الكلام فالإنصاف : منع غلبة التعسّر في الاجتناب.

٣ ـ أخبار الحل

الوجه الثالث : الأخبار الدالّة على حلّية كلّ ما لم يعلم حرمته (٥) ؛ فإنّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة ، إلاّ أنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق (٦) ، هو حمل أخبار الرخصة على غير

__________________

(١) أي دليل لزوم المشقّة المتقدّم في الصفحة ٢٥٧.

(٢) «فيها» من (ص) و (ظ) ، ووردت بدلها في (ت) و (ه): «منها».

(٣) في (ت) و (ه): «موردا لابتلاء».

(٤) راجع الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٥) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، ٢ و ٤.

(٦) الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ٩ و ١٣.

٢٦٠