فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر : معارضته لما يفرض من الدليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا ، وجعل الآخر بدلا عن الحرام الواقعيّ ؛ فإنّ مثل هذا الدليل ـ لو فرض وجوده (١) ـ حاكم على الأدلّة الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعيّ ، لكنّه معارض بمثل خبر التثليث وبالنبويّين (٢) ، بل مخصّص بهما (٣) لو فرض عمومه للشبهة. الابتدائيّة ، فيسلم تلك الأدلّة ، فتأمّل (٤).

ما يستفاد من أخبار كثيرة : من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما

الثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة : من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمّة عليهم‌السلام والشيعة ، بل العامّة أيضا ، بل استدلّ صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة (٥)

لكنّ الإنصاف : عدم بلوغ ذلك حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلا ، وإن كان ما يستشمّ منها قولا وتقريرا ـ من الروايات ـ كثيرة :

منها : ما ورد في الماءين المشتبهين (٦) ، خصوصا مع فتوى الأصحاب (٧) ـ بلا خلاف بينهم ـ على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا.

__________________

(١) لم ترد «لو فرض وجوده» في (ظ).

(٢) المتقدّمين في الصفحة ٢١٩.

(٣) في (ه): «بها».

(٤) «فتأمّل» من (ت) و (ه).

(٥) انظر الحدائق ١ : ٥٠٣.

(٦) الوسائل ١ : ١١٦ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٤.

(٧) انظر مفتاح الكرامة ١ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، والجواهر ١ : ٢٩٠.

٢٢١

ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين (١).

ومنها : ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معلّلا بقوله عليه‌السلام : «حتّى يكون على يقين من طهارته» (٢).

فإنّ وجوب تحصيل اليقين بالطهارة ـ على ما يستفاد من التعليل ـ يدلّ على عدم جريان أصالة الطهارة بعد العلم الإجماليّ بالنجاسة ، وهو الذي بنينا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ ؛ فإنّه لو جرت (٣) أصالة الطهارة وأصالة حلّ الطهارة والصلاة (٤) في بعض المشتبهين ، لم يكن للأحكام المذكورة وجه ، ولا للتعليل في الحكم (٥) الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة.

ومنها : ما دلّ على بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّاها (٦) من أهل الكتاب (٧) ؛ بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة ، بأن يقصد بيع المذكّى خاصّة أو مع ما لا تحلّه الحياة

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٨٢ ، الباب ٦٤ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٠٦ ، الباب ٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٣) كذا في (ت) و (ه) ، وفي (ظ): «اجري».

(٤) كذا في (ص) و (ظ) ، وفي (ر) بدل «حلّ الطهارة والصلاة» : «الحلّ».

(٥) في (ر) و (ه): «حكم».

(٦) في (ه) زيادة : «ممّن يستحلّ الميتة».

(٧) الوسائل ١٢ : ٦٧ ، الباب ٧ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ و ٢.

٢٢٢

من الميتة (١).

الاستئناس لما ذكرنا برواية وجوب القرعة في قطيع الغنم

وقد يستأنس له : بما (٢) ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ، وهي الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه‌السلام لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ثمّ أرسلها في الغنم؟ حيث قال عليه‌السلام :

«يقسّم الغنم نصفين ثمّ يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين ، وهكذا حتّى يبقى واحد ونجا الباقي» (٣).

وهي حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لا تنهض لإثبات حكم مخالف للاصول.

نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ؛ فإنّ التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعيّة واجب بالاجتناب عن الكلّ حتّى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ.

الرواية أدلّ على مطلب الخصم

هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب ؛ إذ على قول المشهور لا بدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها.

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «فتدبّر».

(٢) في (ه): «ممّا».

(٣) تحف العقول : ٤٨٠ ، الحديث منقول بالمعنى.

٢٢٣
٢٢٤

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

لا الفرق بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغيره

أنّه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه الحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك ؛ لعموم ما تقدّم من الأدلّة.

ظاهر صاحب الحدائق التفصيل بينهما

ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ؛ فإنّه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه ، من عدم وجوب الاجتناب عن (١) المشتبهين ، وهو : أنّ المستفاد من قواعد الأصحاب : أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرناه (٢).

كلام صاحب الحدائق في جواب صاحب المدارك

قال ، مجيبا عن ذلك :

أوّلا : أنّه (٣) من باب الشبهة الغير المحصورة.

وثانيا : أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «كلا».

(٢) المدارك ١ : ١٠٨.

(٣) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بأنّه».

٢٢٥

ماهيّة واحدة والجزئيّات التي تحويها حقيقة واحدة إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنته تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف اتّفق (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيما أفاده صاحب الحدائق قدس‌سره

وفيه ـ بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ، بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الإناء أو ظهر الإناء ، فظاهرهم الحكم بطهارة الماء أيضا ، كما يدلّ عليه تأويلهم (٢) لصحيحة علي بن جعفر الواردة في الدم الغير المستبين في الماء بذلك (٣) ـ : أنّه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة.

أمّا أوّلا : فلعموم الأدلّة المذكورة ، خصوصا عمدتها وهي أدلّة الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ كالنجس والخمر ومال الغير وغير ذلك ـ بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ، ولم يعلم الفرق بين تردّد النجس بين ظاهر الإناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومائع آخر ، أو بين مائعين مختلفي الحقيقة ، وبين تردّده بين ماءين أو ثوبين أو مائعين متّحدي الحقيقة.

نعم ، هنا شيء آخر : وهو أنّه هل يشترط في العنوان المحرّم

__________________

(١) الحدائق ١ : ٥١٧.

(٢) سيشير إلى هذا التأويل في الصفحة ٢٣٦.

(٣) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل.

٢٢٦

هل يشترط في المحترم الواقعي أن يكون على كلُ تقدير متعلّقاً لحكمٍ واحد؟

الواقعيّ أو النجس الواقعيّ المردّد بين المشتبهين ، أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا لحكم واحد أم لا؟ مثلا : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا والآخر مسجدا ؛ حيث إنّ المحرّم في أحدهما اللبس وفي الآخر السجدة ، فليس هنا خطاب جامع للنجس الواقعيّ ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : «لا تلبس النجس في الصلاة» ، و «لا تسجد على النجس».

لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر

وأولى من ذلك بالإشكال : ما لو كان المحرّم على كلّ تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير ؛ لإمكان تكلّف (١) إدراج الفرض الأوّل تحت خطاب «الاجتناب عن النجس» بخلاف الثاني.

وأولى من ذلك : ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبيّة أو كون هذا المائع خمرا.

لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبيّة أو هذا المائع خمرا

وتوهّم إدراج ذلك كلّه في وجوب الاجتناب عن الحرام ، مدفوع : بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلّقة بالعناوين الواقعيّة ، فالاعتبار بها لا به ، كما لا يخفى.

الأقوى عدم جواز المخالفة القطعيّة في جميع ذلك

والأقوى : أنّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ، ولا فرق عقلا وعرفا في مخالفة نواهي الشارع بين العلم التفصيليّ بخصوص ما خالفه وبين العلم الإجماليّ بمخالفة أحد النهيين ؛ ألا ترى أنّه لو ارتكب مائعا واحدا يعلم أنّه مال الغير أو نجس ، لم يعذر لجهله التفصيليّ بما خالفه ، فكذا حال من ارتكب النظر إلى المرأة وشرب المائع في المثال الأخير.

__________________

(١) لم ترد «تكلّف» في (ه).

٢٢٧

والحاصل : أنّ النواهي الشرعيّة بعد الاطّلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور ، فكما تقدّم أنّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعيّ واحد كالخمر مع الإذن في ارتكاب المائعين المردّد بينهما الخمر ، فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الإذن في ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما.

الأقوى وجوب الموافقة القطعيّة أيضا

وأمّا الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها ؛ لعدم جريان أدلّة الحلّية ولا أدلّة البراءة عقليّها ونقليّها (١).

أمّا النقليّة : فلما تقدّم من استوائها بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين ، وإبقاؤهما يوجب التنافي مع أدلّة تحريم العناوين الواقعيّة ، وإبقاء واحد على سبيل البدل غير جائز ؛ إذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم.

وأمّا العقل ؛ فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام المردّد بين الأمرين ، بل الظاهر استقلال العقل في المقام ـ بعد عدم القبح المذكور ـ بوجوب دفع الضرر ، أعني العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما.

وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فإمّا أن تجوّز الاولى وإمّا أن تمنع الثانية.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ظ): «عقلها ونقلها».

٢٢٨

الثاني

هل تختصّ المؤاخذة بصورة الوقوع في الحرام ، أم لا؟

أنّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين ، هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعيّ ؛ فلا مؤاخذة إلاّ على تقدير الوقوع في الحرام ، أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث إنّه مشتبه ؛ فيستحقّ المؤاخذة بارتكاب أحدهما ولو لم يصادف الحرام ، ولو ارتكبهما استحقّ عقابين؟

الأقوى الاختصاص والدليل عليه

فيه وجهان ، بل قولان. أقواهما : الأوّل ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ـ بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع ـ حكم إرشاديّ ، وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» ، لم يكن إلاّ إرشاديّا ، ولم يترتّب على موافقته ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ، كما هو شأن الطلب الإرشاديّ.

وإلى هذا المعنى أشار صلوات الله عليه بقوله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» (١) ، وقوله : «من ارتكب الشبهات

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ، نعم ورد ما يقرب منه في البحار ٧٧ : ١٦٦ ، الحديث ١٩٢.

٢٢٩

وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (١).

لا فرق بين الاستناد إلى حكم العقل أو حكم الشرع

ومن هنا ظهر : أنّه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب إلى حكم العقل وبين الاستناد فيه إلى حكم الشرع بوجوب الاحتياط.

وأمّا حكمهم بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه وإن لم يصادف الواقع ، فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ الضرر الدنيويّ ارتكابه مع العلم حرام شرعا ، والمفروض أنّ الظنّ في باب الضرر طريق شرعيّ إليه ، فالمقدم مع الظنّ كالمقدم مع القطع مستحقّ للعقاب ، كما لو ظنّ سائر المحرّمات بالظنّ المعتبر.

نعم ، لو شكّ في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الإباحة وعدم الضرر ؛ لعدم استحالة ترخيص الشارع في الإقدام (٢) على الضرر الدنيويّ المقطوع إذا كان في الترخيص مصلحة اخرويّة ، فيجوز ترخيصه في الإقدام (٣) على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الإقدام على إرادته. وهذا بخلاف الضرر الاخرويّ ؛ فإنّه على تقدير ثبوته واقعا يقبح من الشارع الترخيص فيه.

نعم ، وجوب دفعه عقليّ ولو مع الشكّ ، لكن لا يترتّب على ترك دفعه إلاّ نفسه على تقدير ثبوته واقعا ، حتّى أنّه لو قطع به ثمّ لم يدفعه واتّفق عدمه واقعا لم يعاقب عليه إلاّ من باب التجرّي ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل ـ المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع ـ الكلام فيه (٤) ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ): «بالإقدام».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ظ): «بالإقدام».

(٤) راجع مبحث القطع ١ : ٣٧.

٢٣٠

وسيجيء أيضا (١).

فإن قلت : قد ذكر العدليّة في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : أنّ في تركه احتمال المضرّة ، وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبيّ زمانه ، فيدلّ ذلك على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل.

قلت : حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه ، لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ؛ فإنّ الشكر لمّا علمنا بوجوبه عند الشارع وترتّب العقاب على تركه ، فإذا احتمل العاقل العقاب على تركه ، فإن قلنا بحكومة العقل في مسألة «دفع الضرر المحتمل» صحّ عقاب تارك الشكر ؛ من أجل إتمام الحجّة عليه بمخالفة عقله ، وإلاّ فلا ، فغرضهم : أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنّما يظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع ، لا أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ، وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريميّة شطر من الكلام في ذلك.

التمسّك للحرمة في المسألة بكونه تجرّيا والمناقشة فيه

وقد يتمسّك لإثبات الحرمة في المقام بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلا ، فيحرم شرعا.

وقد تقدّم في فروع حجيّة العلم : الكلام على (٢) حرمة التجرّي

__________________

(١) انظر الصفحة ٣٠٦.

(٢) كذا في النسخ.

٢٣١

حتّى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع ، كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر وانكشف بقاء الوقت (١) ، وإن تردّد في النهاية (٢).

التمسّك بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على الاحتياط والمناقشة فيه أيضا

وأضعف من ذلك : التمسّك بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على الاحتياط ؛ لما تقدّم : من أنّ الظاهر من مادّة «الاحتياط» التحرّز عن الوقوع في الحرام ، كما يوضح ذلك النبويّان السابقان (٣) ، وقولهم صلوات الله عليهم : «إنّ الوقوف عند الشبهة أولى من الاقتحام في الهلكة» (٤).

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٩١.

(٢) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ١١ و ٩٤.

(٣) السابقان في الصفحة ٢٢٩ ، يعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اتركوا ما لا بأس به ... الخ» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من ارتكب الشبهات ... الخ».

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٢٣٢

الثالث

وجوب الاجتناب إنّما هو مع تنجّز التكليف على كلّ تقدير

لو لم يكلّف بالتكليف على كلّ تقدير

أنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعيّ على كلّ تقدير ، بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف بالاجتناب منجّزا ، فلو لم يكن كذلك بأن لم يكلّف به أصلا ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد إناءين أحدهما بول أو متنجّس بالبول أو كثير لا ينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه ، لم يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ؛ إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا ، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ في أصل التكليف لا المكلّف به.

لو كان التكليف في أحدهما معلّقا على تمكّن المكلّف منه

وكذا : لو كان التكليف في أحدهما معلوما لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه ، فإنّ ما لا يتمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم بوقوع (١) النجاسة

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «وقوع».

٢٣٣

في أحد شيئين لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الشكّ في أصل تنجّز التكليف ، لا في المكلّف به تكليفا منجّزا.

لو كان أحدهما المعيّن غير مبتلى به

وكذا : لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكنا عقلا ، لكنّ المكلّف أجنبيّ عنه وغير مبتل به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النجس بين إنائه وإناء آخر (١) لا دخل للمكلّف فيه أصلا ؛ فإنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكّن عقلا غير منجّز عرفا ؛ ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به.

نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتّفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو تملّك (٢) أو إباحة فاجتنب عنه.

اختصاص النواهي بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّة عنها والسرّ في ذلك

والحاصل : أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصّة ـ بحكم العقل والعرف ـ بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها ؛ ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا إلاّ على وجه التقييد بصورة الابتلاء.

ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ غير المبتلي تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه (٣) ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ.

وهذا باب واسع ينحلّ به الإشكال عمّا علم من عدم وجوب

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه): «وبين إناء الآخر».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بملك».

(٣) في (ت) و (ه): «الابتلاء».

٢٣٤

حل الإشكال بها ذكرنا عن كثير من مواقع عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة

الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض لا يبتلي به المكلّف عادة ، أو بوقوع النجاسة في ثوب أو ثوب الغير ، فإنّ الثوبين لكلّ (١) منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ، فإذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ؛ إذ لا يترتّب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتّبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجّز بالأمر المعلوم إجمالا.

ألا ترى : أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنّها هي المطلّقة أو غيرها من ضرّاتها جاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، ولو شكّ الزوج هذا الشكّ لم يجز له النظر إلى إحداهما ؛ وليس ذلك إلاّ لأنّ أصالة عدم تطليقه كلاّ (٢) منهما متعارضان في حقّ الزوج ، بخلاف الزوجة ؛ فإنّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا تثمر لها ثمرة عمليّة.

نعم ، لو اتّفق ترتّب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة المحصورة ، ومثل ذلك كثير في الغاية.

اندفاع ما أفاده صاحب المدارك فيما تقدّم بما ذكرنا

وممّا ذكرنا يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك رحمه‌الله (٣) : من الاستنهاض على ما اختاره ـ من عدم وجوب الاجتناب (٤) في الشبهة المحصورة ـ بما (٥) يستفاد من الأصحاب : من عدم وجوب الاجتناب عن

__________________

(١) في (ت) و (ه): «كلّ».

(٢) كذا في (ص) ، وفي (ت) و (ر): «لكلّ» ، وفي (ه): «في كلّ».

(٣) راجع الصفحة ٢٢٥.

(٤) في (ظ): «الاحتياط».

(٥) في (ص): «ممّا».

٢٣٥

الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ؛ إذ لا يخفى أنّ خارج الإناء ـ سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ـ ليس ممّا يبتلي به المكلّف عادة ، ولو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا بوجوب الاجتناب عنهما ؛ للعلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس وحرمة السجدة على الأرض النجسة.

تأييد ما ذكرنا

ويؤيّد ما ذكرنا : صحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه عليهما‌السلام ، الواردة في من رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا بيّنا فلا» (١).

حيث استدلّ به الشيخ قدس‌سره على العفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم (٢) ، وحملها المشهور (٣) على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء في الماء يحكم بطهارته ، ومعلوم أنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة.

وما ذكرنا ، واضح لمن تدبّر.

خفاء تشخيص موارد الابتلاء وعدمه غالبا

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى.

ألا ترى : أنّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه لا يتّفق عادة ابتلاؤه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر الاستبصار ١ : ٢٣ ، الباب ١٠ من أبواب المياه ، ذيل الحديث ١٢.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى هذا التأويل في الصفحة ٢٢٦.

٢٣٦

بالموضع النجس منه ، لم يشكّ أحد في عدم وجوب الاجتناب عن ثوبه ، وأمّا لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلا ، ففيه تأمّل.

المعيار صحّة التكليف وحسنه غير مقيّد بصورة الابتلاء

والمعيار في ذلك وإن كان صحّة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء (١) واتّفاق صيرورته واقعة له ، إلاّ أنّ تشخيص ذلك مشكل جدّا.

لو شكّ في حسن التكليف التنجيزي فالأصل البراءة

نعم ، يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجيزيّ عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلاّ معلّقا : الأصل البراءة من التكليف المنجّز ، كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا أو معلّقا على أمر محقّق العدم ، أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في تحقّقه أو كون المتحقّق من أفراده كما في المقام.

الأولى الرجوع إلى الإطلاقات

إلاّ أنّ هذا ليس بأولى من أن يقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلّق (٢) بالابتلاء ، كما لو قال : «اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدّام أمير البلد» مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ، أو : «لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه» ، مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلا ولا عادة ، إلاّ

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «به».

(٢) الأنسب : «تعليق».

٢٣٧

أنّه بعيد الاتّفاق ، وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.

هل يجوز التمسّك بالمطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق لتعذّر ضبط مفهوم ، أم لا؟

فمرجع المسألة إلى : أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد ـ لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه ، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفيّة ـ هل يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى : الجواز ، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب ، إلاّ ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام.

إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة (١) كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه ؛ إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ ، فافهم.

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٢٣٦.

٢٣٨

الرابع

الثابت في المشتبهين وجوب الاجتناب دون سائر الآثار الشرعيّة

أنّ الثابت في كلّ من المشتبهين ـ لأجل العلم الإجماليّ بوجود الحرام الواقعيّ فيهما ـ هو وجوب الاجتناب ؛ لأنّه اللازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ ، أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام فلا تترتّب عليهما ؛ لعدم جريان باب المقدّمة فيها ، فيرجع فيها إلى الاصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ، فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب ، بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ ووجوبه.

هل يحكم بتنجّس ملاقي أحد المشتبهين؟

وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ؛ بناء على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ؛ ولذا استدلّ السيّد أبو المكارم في الغنية على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(١) ، ويدلّ عليه أيضا ما في بعض الأخبار ،

__________________

(١) الغنية : ٤٦ ، والآية من سورة المدّثّر : ٥.

٢٣٩

من استدلاله عليه‌السلام على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة ب : «أنّ الله سبحانه حرّم الميتة» (١) ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه. وهذا معنى ما استدلّ به العلاّمة قدس‌سره في المنتهى على ذلك (٢) : بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ؛ وإلاّ فلم يقل أحد : إنّ كلاّ من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.

أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلاّ الاجتناب عن العين ، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعيّ سببيّ يترتّب على العنوان الواقعيّ من النجاسات نظير وجوب الحدّ للخمر ، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة.

الأقوى عدم الحكم بالتنجّس وعدم تماميّة الأدلّة المذكورة

والأقوى : هو الثاني.

أمّا أوّلا : فلما ذكر ، وحاصله : منع ما في الغنية ، من دلالة وجوب هجر الرجز (٣) على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتجنّبه (٤) حينئذ ليس إلاّ لمجرّد تعبّد خاصّ ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر ما يلاقيه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٩ ، الباب ٥ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢ ، وسيأتي نصّ الرواية في الصفحة اللاحقة.

(٢) انظر المنتهى ١ : ١٧٨.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ظ): «النجس».

(٤) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «فتنجيسه».

٢٤٠