فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

١
٢

٣
٤

٥
٦

المقصَدُ الثَّالِثُ

في الشَّكِّ

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين (١).

__________________

(١) لم ترد الخطبة الشريفة في (ت).

٨

المقصد الثالث

من مقاصد هذا الكتاب

في الشكّ

[المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي]

قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام ؛ لأنّه إمّا أن يحصل له القطع بحكمه (١) الشرعي ، وإمّا أن يحصل له الظنّ ، وإمّا أن يحصل له الشكّ.

[إمكان اعتبار الظنّ]

وقد عرفت : أنّ القطع حجّة في نفسه لا بجعل جاعل ، والظنّ يمكن أن يعتبر في متعلّقه (٢) ؛ لأنّه كاشف عنه ظنّا ، لكنّ العمل به والاعتماد عليه في الشرعيّات موقوف على وقوع التعبّد به شرعا ، وهو غير واقع إلاّ في الجملة ، وقد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعيّة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (٣).

__________________

(١) في (ه): «بالحكم».

(٢) في (ر) و (ظ) بدل «متعلّقه» : «الطرف المظنون».

(٣) وردت في (ظ) و (ه) زيادة ، وهي : «وأنّ ما لم يرد اعتباره في الشرع فهو داخل في الشكّ ، فالمقصود هنا بيان حكم الشكّ بالمعنى الأعمّ من ظنّ غير ثابت الاعتبار». وكتب فوقها في (ظ): «زائد».

٩

[عدم إمكان اعتبار الشكّ]

[الحكم الواقعي والظاهري]

وأمّا الشكّ ، فلمّا لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل (١) أن يعتبر ، فلو ورد في مورده حكم شرعيّ ـ كأن يقول : الواقعة المشكوكة حكمها كذا ـ كان حكما ظاهريّا ؛ لكونه مقابلا للحكم الواقعيّ المشكوك بالفرض. ويطلق عليه الواقعيّ الثانويّ أيضا ؛ لأنّه حكم واقعيّ للواقعة المشكوك في حكمها ، وثانويّ بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم الظاهريّ ـ وهي الواقعة المشكوك في حكمها ـ لا يتحقّق إلاّ بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشكّ فيه.

مثلا : شرب التتن في نفسه له حكم فرضنا في ما نحن فيه شكّ المكلّف فيه ، فإذا فرضنا ورود حكم شرعيّ لهذا الفعل المشكوك الحكم ، كان هذا الحكم الوارد (٢) متأخّرا طبعا عن ذلك المشكوك ، فذلك الحكم (٣) واقعيّ بقول مطلق ، وهذا الوارد ظاهريّ ؛ لكونه المعمول به في الظاهر ، وواقعيّ ثانويّ ؛ لأنّه متأخّر عن ذلك الحكم ؛ لتأخّر موضوعه عنه.

[الدليل «الاجتهادي» و «الفقاهتي»]

ويسمّى الدليل الدالّ على هذا الحكم الظاهريّ «أصلا» ، وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل ـ علما أو ظنّا معتبرا ـ فيختصّ باسم «الدليل» ، وقد يقيّد ب «الاجتهادي» ، كما أنّ الأوّل قد يسمّى ب «الدليل» مقيّدا ب «الفقاهتي». وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني ؛ لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد (٤).

__________________

(١) في غير (ت) زيادة : «فيه».

(٢) لم ترد «الوارد» في (ت) و (ه).

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «حكم».

(٤) انظر الفوائد الحائرية : ٤٩٩ ، الفائدة ٣٣ ، في تعريف المجتهد والفقيه.

١٠

ثمّ إنّ الظنّ الغير المعتبر حكمه حكم الشكّ كما لا يخفى.

وجه تقديم الأدلّة على الاصول

وممّا ذكرنا : من تأخّر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي ـ لأجل تقييد موضوعه بالشكّ في الحكم الواقعي ـ يظهر لك وجه تقديم الأدلّة على الأصول ؛ لأنّ موضوع الاصول يرتفع بوجود الدليل ، فلا معارضة بينهما ، لا لعدم اتّحاد الموضوع ، بل لارتفاع موضوع الأصل ـ وهو الشكّ ـ بوجود الدليل.

ألا ترى : أنّه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الإباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشكّ فيه هي الحرمة ، فإذا علمنا بالثاني ـ لكونه علميّا ، والمفروض (١) سلامته عن معارضة الأوّل ـ خرج شرب التتن عن موضوع دليل (٢) الأوّل وهو كونه مشكوك الحكم ، لا عن حكمه حتّى يلزم فيه تخصيص و (٣) طرح لظاهره.

أخصّية الأدلّة غير العلميّة من الاصول

ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا ؛ لأنّ الترجيح فرع المعارضة. وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليل والعامّ على الأصل ، فيقال : يخصّص الأصل بالدليل ، أو يخرج عن الأصل بالدليل.

ويمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلّة الغير العلميّة ، بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البراءة ـ مثلا ـ : أنّه إذا لم يعلم حرمة شرب التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ ، ومفاد الدليل

__________________

(١) في (ر): «والفرض» ، وفي (ظ) و (ه): «ولفرض».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ): «الدليل».

(٣) في (ظ): «أو».

١١

الدالّ على اعتبار تلك الأمارة الغير العلميّة المقابلة للأصل : أنّه إذا قام تلك الأمارة الغير العلميّة على حرمة الشيء الفلاني فهو حرام ، وهذا أخصّ من دليل أصل البراءة مثلا ، فيخرج به عنه.

وكون دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ـ باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة ـ لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك الأمارة (١) بين مواردها.

الدليل العلمي رافع لموضوع الأصل

توضيح ذلك : أنّ كون الدليل رافعا لموضوع الأصل ـ وهو الشكّ ـ إنّما يصحّ في الدليل العلميّ ؛ حيث إنّ وجوده يخرج حكم الواقعة عن كونه مشكوكا فيه ، وأمّا الدليل الغير العلميّ فهو بنفسه (٢) غير رافع لموضوع الأصل وهو عدم العلم ، وأما الدليل الدالّ على اعتباره فهو وإن كان علميّا ، إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ حكما ظاهريا نظير مفاد الأصل ؛ إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخليّة العلم والجهل ، فكما أنّ مفاد قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣) يفيد الرخصة في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه ، فكذلك ما دلّ على حجية الشهرة الدالّة مثلا على وجوب شيء ، يفيد وجوب ذلك الشيء من حيث إنّه مظنون مطلقا أو بهذه الأمارة ـ ولذا (٤) اشتهر : أنّ علم المجتهد

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «حينئذ».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «بالنسبة إلى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم رافع للموضوع ، وأمّا بالنسبة إلى ما عداهما فهو بنفسه».

(٣) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

(٤) في (ص): «وكذا».

١٢

بالحكم مستفاد من صغرى وجدانيّة ، وهي : «هذا ما أدّى إليه ظنّي» ، وكبرى برهانيّة ، وهي : «كلّ ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي» ، فإنّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهريّ ـ ، فإذا كان مفاد الأصل ثبوت الإباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة ، كانا متعارضين لا محالة ، فإذا بني على العمل بتلك الأمارة كان فيه خروج عن عموم الأصل وتخصيص له لا محالة.

التحقيق حكومة دليل الأمارة على الاصول الشرعيّة

هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّ دليل تلك الأمارة وإن لم يكن كالدليل العلميّ رافعا لموضوع الأصل ، إلاّ أنّه نزّل شرعا منزلة الرافع ، فهو حاكم على الأصل لا مخصّص له ، كما سيتّضح (١) إن شاء الله تعالى.

ارتفاع موضوع الاصول العقليّة بالأدلّة الظنّية

على : أنّ ذلك إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة ، وأمّا الأدلّة العقليّة القائمة على البراءة والاشتغال فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنّيّة واضح ؛ لجواز الاقتناع بها في مقام البيان وانتهاضها رافعا لاحتمال العقاب كما هو ظاهر. وأمّا التخيير فهو أصل عقليّ لا غير (٢).

انحصار الاصول في أربعة

واعلم : أنّ المقصود بالكلام في هذه الرسالة (٣) الاصول المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعيّ الكليّ وإن تضمّنت حكم الشبهة في الموضوع أيضا ، وهي منحصرة في أربعة : «أصل البراءة» ، و «أصل الاحتياط» ، و «التخيير» ، و «الاستصحاب» بناء على كونه ظاهريّا ثبت

__________________

(١) انظر مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ١٣.

(٢) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «كما سيتّضح إن شاء الله».

(٣) في (ت) ، (ص) و (ه) بدل «هذه الرسالة» : «هذا المقصد».

١٣

التعبّد به من الأخبار ؛ إذ بناء على كونه مفيدا للظنّ يدخل في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعيّ.

وأمّا الاصول. المشخّصة لحكم الشبهة في الموضوع ـ كأصالة الصحّة ، وأصالة الوقوع فيما شكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ـ فلا يقع الكلام فيها إلاّ لمناسبة يقتضيها المقام.

الانحصار عقليّ

مجاري الاصول الأربعة

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الاصول الأربعة عقليّ ؛ لأنّ حكم الشك إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ ، والأوّل هو مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.

تداخل موارد الاصول أحيانا

وقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ موارد الاصول قد تتداخل ؛ لأنّ المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقّنة (١) ، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.

ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين :

أحدهما : حكم الشكّ في الحكم الواقعيّ من دون ملاحظة الحالة السابقة ، الراجع إلى الاصول الثلاثة.

الثاني : حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب.

__________________

(١) في (ت) ، (ظ) و (ه): «المتيقّنة السابقة».

١٤

المقام الأوّل

في البراءة والاشتغال والتّخيير

١٥
١٦

أمّا المقام الأوّل

فيقع الكلام فيه في موضعين :

حكم الشأن من دون ملاحظة الحالة السابقة

لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف وهو النوع الخاصّ من الإلزام وإن علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم.

وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ، كما إذا علم وجوب شيء وشكّ بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتة وتردّدت بين الظهر والمغرب.

[الموضع الأوّل] (١)

الشكّ في نفس التكليف

والموضع الأول يقع الكلام فيه في مطالب ؛ لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب (٢) ، وصور الاشتباه كثيرة.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) بدل «إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ـ إلى ـ بالوجوب» : «إمّا إيجاب مشتبه بغيره ، وإمّا تحريم كذلك».

١٧

وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام ، أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ، ولو فرض (١) شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ؛ فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

ثمّ إنّ (٢) متعلّق التكليف المشكوك :

متعلّق التكليف المشكوك إمّا فعل كليّ أو فعل جزئي

إمّا أن يكون فعلا كلّيّا متعلّقا للحكم الشرعي الكلّي ، كشرب التتن المشكوك في حرمته ، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه.

وإمّا أن يكون فعلا جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئي ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا.

منشأ الشكّ في لشبهة الموضوعيّة والحكميّة

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني : اشتباه الامور الخارجيّة.

ومنشؤه في الأوّل : إمّا أن يكون عدم النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمال النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٣) بين التشديد والتخفيف مثلا ، وإمّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات.

وتوضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب :

الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية.

الثاني : دورانه بين الوجوب وغير التحريم.

الثالث : دورانه بين الوجوب والتحريم.

__________________

(١) كذا في (ت) و (ظ) ، وفي غيرهما : «فلو فرض».

(٢) «إنّ» من (ه).

(٣) البقرة : ٢٢٢.

١٨

فالمطلب الأوّل

فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب

وقد عرفت (١) : أنّ متعلّق الشكّ تارة : الواقعة الكلّية كشرب التتن ، ومنشأ الشكّ فيه عدم النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، واخرى : الواقعة الجزئيّة.

فهنا أربع مسائل :

__________________

(١) راجع الصفحة ١٧ ـ ١٨.

١٩

الاولى

ما لا نصّ فيه

الشبهة التحريميّة من جهة فقدان النصّ

وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين :

أحدهما : إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك.

قولان في المسألة

والثاني : وجوب الترك ، ويعبّر عنه بالاحتياط.

والأوّل منسوب إلى المجتهدين ، والثاني إلى معظم الأخباريّين (١).

وربما نسب إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقّف ، والاحتياط (٢). ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان ، ويحتمل الفرق بينها أو بين (٣) بعضها من وجوه أخر تأتي بعد ذكر أدلّة الأخباريّين (٤).

__________________

(١) انظر القوانين ٢ : ١٦.

(٢) الناسب هو الوحيد البهبهاني ، كما سيأتي في الصفحة ١٠٥ ، وانظر الفصول : ٣٥٢.

(٣) في (ت) و (ر): «وبين».

(٤) انظر الصفحة ١٠٥ ـ ١٠٨.

٢٠