فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

وبالجملة : فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأوّليّ محكومة بالحرمة ، والحكم بحلّيتها إنّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانويّ ، فالحلّ غير مستند إلى أصالة الإباحة في شيء منها.

هذا ، ولكن في (١) الأخبار المتقدّمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية ، مع أنّ صدرها وذيلها ظاهران في المدّعى.

توهّم عدم جريان قبح التكليف من غير بيان في المسألة والجواب عنه

وتوهّم : عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ؛ نظرا إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر ـ مثلا ـ فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمرا ـ من باب المقدّمة العلميّة ـ ؛ فالعقل لا يقبّح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام.

مدفوع : بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا المتردّدة بين محصورين (٢) ، والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة ، والثاني يتوقّف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير ، وأمّا ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجماليّ فلم يعلم من النهي تحريمه ، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه.

فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقّف العلم باجتنابه على اجتنابه ، بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه ـ كشرب التتن ـ في قبح العقاب عليه.

__________________

(١) في (ص) زيادة : «باقي».

(٢) كذا في (ه) وفي غيرها : محصور.

١٢١

وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضا ؛ لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث (١) والفواحش (٢) و (ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٣) تدلّ على حرمة امور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها.

ومنشأ التوهّم المذكور : ملاحظة تعلّق الحكم بكليّ مردّد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه ، فيتخيّل أنّ الترديد في المكلّف به مع العلم بالتكليف ، فيجب الاحتياط.

ونظير هذا التوهّم قد وقع في الشبهة الوجوبيّة ، حيث تخيّل بعض (٤) : أنّ دوران ما فات من الصلوات (٥) بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدّمة العلميّة.

وقد عرفت ، وسيأتي اندفاعه (٦).

فإن قلت : إنّ الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه ـ لاحتمال كونه محرّما ـ فيجب دفعه.

قلنا : إن اريد بالضرر العقاب وما يجري مجراه من الامور الاخرويّة ، فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

وإن اريد ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان ـ كما في

__________________

(١) آل عمران : ١٥٧.

(٢) آل عمران : ٣٣.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) سيأتي ذكرهم في الصفحة ١٧٠.

(٥) في (ر) و (ظ): «الصلاة».

(٦) انظر الصفحة ١٦٩ ـ ١٧٠.

١٢٢

المضارّ الدنيويّة ـ فوجوب دفعه عقلا لو سلّم ، كما تقدّم من الشيخ وجماعة (١) ، لم يسلّم وجوبه شرعا ؛ لأنّ الشارع صرّح بحلّية ما (٢) لم يعلم حرمته ، فلا عقاب عليه ؛ كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعيّ الغير المتعلّق بأمر المعاد ، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام؟

تقرير التوهّم بوجه آخر والجواب عنه أيضا

فإن قيل : نختار ـ أوّلا ـ احتمال الضرر المتعلّق بامور الآخرة ، والعقل لا يدفع ترتّبه من دون بيان ؛ لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل ، كما صرّح (٣) في العدّة (٤) في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الإباحة : من أنّه لو كان هناك في الفعل مضرّة آجلة لبيّنها.

وثانيا : نختار المضرّة الدنيويّة ، وتحريمه ثابت شرعا ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٥) ، كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة (٦) على دفع أصالة الإباحة ، وهذا الدليل ومثله رافع للحلّية الثابتة بقولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (٧).

__________________

(١) راجع الصفحة ٩٠.

(٢) في (ر) و (ص): «كلّما».

(٣) في (ر) زيادة : «به».

(٤) العدّة ٢ : ٧٤٢ ـ ٧٤٣.

(٥) البقرة : ١٩٥.

(٦) لم نعثر عليه في العدّة.

(٧) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

١٢٣

الجواب عن هذا الوجه أيضا

قلت : لو سلّمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاخرويّ ، إلاّ أنّ قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» بيان لعدم الضرر الاخرويّ.

وأمّا الضرر الغير الاخرويّ ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع ، وآية «التهلكة» مختصّة بمظنّة الهلاك ، وقد صرّح الفقهاء (١) في باب المسافر : بأنّ سلوك الطريق الذي يظنّ معه العطب معصية ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك. وكذا في باب التيمّم (٢) والإفطار (٣) لم يرخّصوا إلاّ مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشكّ.

نعم ، ذكر قليل من متأخّري المتأخّرين (٤) انسحاب حكم الإفطار والتيمّم مع الشكّ أيضا ، لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم في الأدلّة بخوف الضرر الصادق ، مع الشكّ ، بل مع (٥) بعض أفراد الوهم أيضا.

لكنّ الإنصاف : إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه كالحكم

__________________

(١) انظر الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ٢٥٨ ، والروض : ٣٨٨ ، والذخيرة : ٤٠٩ ، وكشف الغطاء : ٢٧٢.

(٢) انظر المنتهى ٣ : ٣٤ ، والمدارك ٢ : ١٩٤ ، ومستند الشيعة ٣ : ٣٨٠.

(٣) انظر الشرائع ١ : ٢١٠ ، والمدارك ٦ : ٢٨٥.

(٤) كالمحدّث البحراني في الحدائق ١٣ : ١٧١ ، والسيّد الطباطبائي في الرياض ١ : ٣٢٩ ، والفاضل النراقي في المستند ١٠ : ٣٧٥ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٥ : ١١٠ ، و ١٦ : ٣٤٦.

(٥) لم ترد «مع» في (ت) ، (ظ) و (ه).

١٢٤

بدفع الضرر المتيقّن ، كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمّية إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه.

عدم حكم العقل بوجوب دفع الضرر إذا ترتّب عليه نفع اخروي

لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيويّ من حيث هو ، كما يحكم بوجوب دفع الضرر الاخروي كذلك ، إلاّ أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيويّ عنوان يترتّب عليه نفع اخرويّ ، فلا يستقلّ العقل بوجوب دفعه ؛ ولذا (١) لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص ، وتعريضها (٢) في الجهاد والإكراه على القتل أو على الارتداد.

وحينئذ : فالضرر الدنيويّ المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ، فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز (٣).

فإن قلت : إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة ، فيظنّ الضرر ، فيجب دفعه ، مع انعقاد الإجماع على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر.

قلنا : الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظنّ بالضرر ، أمّا الاخرويّ ؛ فلأنّ المفروض عدم البيان ، فيقبح. وأمّا الدنيويّ ؛ فلأنّ الحرمة لا تلازم

__________________

(١) لم ترد «لذا» في (ظ).

(٢) في غير (ه) زيادة : «له».

(٣) في (ت) وهامش (ص) ونسخة بدل (ه) زيادة : «هذا تمام الكلام في هذا المقام ، وقد تقدّم في الاستدلال على حجّيّة الظنّ بلزوم دفع الضرر المظنون ، ما ينفع نقضا وإبراما ، فراجع» ، مع اختلاف يسير بينها.

١٢٥

الضرر الدنيويّ ، بل القطع بها أيضا لا يلازمه ؛ لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلّق بالامور الاخرويّة.

ولو فرض حصول الظنّ بالضرر الدنيويّ فلا محيص عن التزام حرمته ، كسائر ما ظنّ فيه الضرر الدنيويّ من الحركات والسكنات (١).

__________________

(١) لم ترد عبارة «فإن قلت ـ إلى ـ السكنات» في (ت) ، وكتب عليها في (ص) و (ه): «زائد».

١٢٦

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة ما إذا لم يكن أصل موضوعيّ يقضي بالحرمة

أنّ محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة المحكومة بالإباحة ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ يقضي بالحرمة ؛ فمثل المرأة المردّدة (١) بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ أصالة عدم علاقة الزوجيّة ـ المقتضية للحرمة ـ بل استصحاب الحرمة ، حاكمة على أصالة الإباحة.

ونحوها : المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير (٢) مع سبق ملك الغير له ، وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه ، فلا ينبغي الإشكال في عدم ترتّب أحكام ملكه عليه : من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقّق الماليّة.

وأمّا إباحة التصرّفات الغير المترتّبة في الأدلّة على ماله وملكه ، فيمكن القول بها ؛ للأصل. ويمكن عدمه ؛ لأنّ الحلّية في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل ؛ بالاستقراء ، ولقوله (٣) عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلاّ من

__________________

(١) في أكثر النسخ : «المتردّدة».

(٢) في (ت) ، (ص) و (ه): «غيره».

(٣) في (ظ): «بقوله».

١٢٧

حيث أحلّه الله» (١).

ومبنى الوجهين : أنّ إباحة التصرّف هي المحتاجة إلى السبب ، فيحرم مع عدمه ولو بالأصل. و (٢) أنّ حرمة التصرّف محمولة في الأدلّة على ملك الغير ، فمع عدم تملّك الغير ـ ولو بالأصل ـ ينتفي الحرمة.

ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة : اللحم المردّد بين المذكّى والميتة ؛ فإنّ أصالة عدم التذكية ـ المقتضية للحرمة والنجاسة ـ حاكمة على أصالتي الإباحة والطهارة.

وربما يتخيّل خلاف ذلك : تارة لعدم حجّية استصحاب عدم التذكية (٣) ، واخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت ، والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة (٤).

والأوّل مبنيّ على عدم حجّية الاستصحاب ولو في الامور العدميّة.

والثاني مدفوع :

أوّلا : بأنّه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ، ولا يتوقّف على ثبوت الموت حتّى ينتفي بانتفائه ولو بحكم الأصل ؛ والدليل عليه : استثناء (ما ذَكَّيْتُمْ) من قوله (وَما أَكَلَ السَّبُعُ)(٥) ، فلم يبح الشارع إلاّ ما ذكّي ، وإناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٧٥ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٢.

(٢) في (ظ) و (ه): «أو».

(٣) هذا الوجه للسيّد العاملي في المدارك ٢ : ٣٨٧.

(٤) هذا الوجه للسيّد الصدر في شرح الوافية (مخطوط) : ٣٦٥.

(٥) المائدة : ٣.

١٢٨

وغيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية ، فإذا انتفى بعضها ـ ولو بحكم الأصل ـ انتفت الإباحة.

وثانيا : أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ؛ إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ، بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا. وتمام الكلام في الفقه (١).

__________________

(١) قد عنون الفقهاء هذه المسألة في مواضع عديدة ، منها : كتاب الصيد والذباحة ، ومنها : كتاب الطهارة في مسألة الجلد المطروح.

١٢٩

الثاني

كلمات المحدّث العاملي في الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه والمناقشة فيها

أنّ الشيخ الحرّ أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الأخباريّين ، وحاصله : أنّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه ، حيث أوجبتم الاحتياط في الأوّل دون الثاني؟

وأجاب بما لفظه :

أنّ حدّ الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعيّ أعني الإباحة والتحريم ، كمن شكّ في أكل الميتة أنّه حلال أو حرام ، وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعيّ ما اشتبه فيه موضوع الحكم مع كون محموله معلوما ، كما في اشتباه اللحم الذي يشترى من السوق لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بأنّ المذكّى حلال والميتة حرام.

ويستفاد هذا التقسيم من أحاديث الأئمة عليهم‌السلام ومن وجوه عقليّة مؤيّدة لتلك الأحاديث ، ويأتي بعضها.

وقسم متردّد بين القسمين ، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الأنواع ، وليس اشتباهها بسبب شيء من الامور الدنيويّة كاختلاط الحلال بالحرام ، بل اشتباهها بسبب أمر ذاتيّ أعني اشتباه صنفها في نفسها ، كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه

١٣٠

أنواعه في أفراد يسيرة ، وبعض أفراد الخبائث الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض أفراده حتّى اختلف العقلاء فيها ، ومنها شرب التتن. وهذا النوع يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها.

وهذه التفاصيل تستفاد من مجموع الأحاديث ، ونذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها :

منها : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١) ، فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم.

إلى أن قال :

وإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة لم يصدق عليها أنّ فيها حلالا وحراما (٢).

أقول : كأنّ مطلبه أنّ هذه الرواية وأمثالها مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقّف والاحتياط في مطلق الشبهة ؛ وإلاّ فجريان أصالة الإباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية.

مع أنّ سياق أخبار التوقّف والاحتياط يأبى عن التخصيص ؛ من حيث اشتمالها على العلّة العقليّة لحسن التوقّف والاحتياط ـ أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة ـ فحملها على الاستحباب أولى.

ثمّ قال :

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) الفوائد الطوسيّة : ٥١٨ ـ ٥١٩ ، وما اخترناه من النسخ وأثبتناه أقرب إلى المصدر.

١٣١

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات» (١) ، وهذا إنّما ينطبق على الشبهة في نفس الحكم ؛ وإلاّ لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ، ولا يعلم أحدهما من الآخر إلاّ علاّم الغيوب ، وهذا ظاهر واضح (٢).

أقول : فيه ـ مضافا إلى ما ذكرنا ، من إباء سياق الخبر عن التخصيص ـ : أنّ رواية التثليث ـ التي هي العمدة من أدلّتهم ـ ظاهرة في حصر ما يبتلي به المكلّف من الأفعال في ثلاثة ، فإن كانت عامّة للشبهة الموضوعيّة أيضا صحّ الحصر ، وإن اختصّت بالشبهة الحكميّة كان الفرد الخارجيّ المردّد بين الحلال والحرام قسما رابعا ؛ لأنّه ليس حلالا بيّنا ولا حراما بيّنا ولا مشتبه الحكم.

ولو استشهد بما قبل النبويّ (٣) ، من قول الصادق عليه‌السلام : «إنّما الامور ثلاثة» ، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكميّة ؛ إذ المحصور في هذه الفقرة الامور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع ، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجيّ المشتبه أمرا رابعا للثلاثة.

وأمّا ما ذكره من المانع لشمول النبويّ للشبهة الموضوعيّة : من أنّه لا يعلم الحلال من الحرام إلاّ علاّم الغيوب ، ففيه :

أنّه إن اريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى. وإن اريد ندرتهما ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) الفوائد الطوسيّة : ٥١٩.

(٣) أي : النبويّ المذكور في أوّل هذه الصفحة : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات».

١٣٢

ففيه : أنّ الندرة تمنع من اختصاص النبويّ بالنادر لا من شموله له. مع أنّ دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع قابلة للمنع ، بل المحرّمات الخارجيّة المعلومة أكثر بمراتب من المحرّمات الكلّية المعلوم تحريمها.

ثمّ قال :

ومنها : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والإباحة بسبب تعارض الأدلّة وعدم النصّ ، وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعيّ.

أقول : ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الإباحة مع عدم ورود النهي وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلّة التوقّف والاحتياط ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّ دلالتها على الإباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب.

ثمّ قال :

ومنها : أنّ ذلك وجه للجمع بين الأخبار لا يكاد يوجد وجه أقرب منه.

أقول : مقتضى الإنصاف أنّ حمل أدلّة الاحتياط على الرجحان المطلق أقرب ممّا ذكره.

ثمّ قال ما حاصله :

ومنها : أنّ الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام عليه‌السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ؛ لعدم وجوب السؤال عنه ، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم ؛ لأنّه من علم الغيب فلا يعلمه إلاّ الله ، وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاءوا أن يعلموا شيئا

١٣٣

علموه ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الفرق لا مدخل له ؛ فإنّ طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه‌السلام ولا من غيره من الطرق المتمكّن منها ، والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام إنّما يجب في ما تعلّق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر (١) الجاهل المتمكّن من العلم.

وأمّا مسألة مقدار معلومات الإمام عليه‌السلام من حيث العموم والخصوص ، وكيفيّة علمه بها من حيث توقّفه على مشيّتهم أو على التفاتهم إلى نفس الشيء أو عدم توقّفه على ذلك ، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئنّ به النفس ؛ فالأولى ووكول علم ذلك إليهم صلوات الله عليهم أجمعين.

ثمّ قال :

ومنها : أنّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور ؛ لأنّ أنواعه محصورة ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم فاجتنابها غير ممكن ؛ لما أشرنا إليه : من عدم وجود الحلال البيّن ، ولزوم تكليف ما لا يطاق.

والاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد ؛ لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات ، انتهى.

أقول : لا ريب أنّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لا يخلو عن أمارات الحلّ والحرمة ، ك «يد المسلم» ، و «السوق» ، و «أصالة الطهارة» ، و «قول

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «فيه».

١٣٤

المدّعي بلا معارض» ، والاصول العدميّة المجمع عليها عند المجتهدين والأخباريّين ، على ما صرّح به المحدّث الأستراباديّ كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب (١) ، وبالجملة : فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات ؛ لقلّتها.

ثمّ قال :

ومنها : أنّ اجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعيّ ومن الأفراد الغير الظاهرة الفرديّة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به وكان مقدورا فهو واجب.

إلى غير ذلك من الوجوه. وإن أمكن المناقشة في بعضها ، فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام ، والله أعلم بحقائق الأحكام (٢) ، انتهى.

أقول : الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب عن الشبهة في طريق الحكم ، بل لو تمّ لم يتمّ إلاّ فيه ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلاّ بدليل حرمة ذلك الشيء أو أمر وجوب إطاعة الأوامر والنواهي ممّا ورد في الشرع وحكم به العقل ، فهي كلّها تابعة لتحقّق الموضوع أعني الأمر والنهي ، والمفروض الشكّ في تحقّق النهي ، وحينئذ : فإذا فرض عدم الدليل على الحرمة ، فأين وجوب ذي المقدّمة حتّى يثبت وجوبها؟

__________________

(١) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣١ ، ٤٤ و ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) الفوائد الطوسيّة : ٥١٩ ـ ٥٢٠.

١٣٥

نعم ، يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم بعد ما قام الدليل على حرمة الخمر : يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العامّ إلاّ بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته.

لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا ، وأنّ التكليف بذي المقدّمة غير محرز إلاّ بالعلم التفصيليّ أو الإجماليّ ، فالاجتناب عمّا يحتمل الحرمة (١) احتمالا مجرّدا عن العلم الإجماليّ لا يجب ، لا نفسا ولا مقدّمة ، والله العالم.

__________________

(١) في (ت): «الخمريّة».

١٣٦

الثالث

الاحتياط التامّ موجب لاختلال النظام

أنّه لا شكّ في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا ، حتّى فيما كان هناك أمارة على الحلّ مغنية عن أصالة الإباحة ، إلاّ أنّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام كما ذكره المحدّث المتقدّم ذكره (١) ، بل يلزم أزيد ممّا ذكره ، فلا يجوز الأمر به من الحكيم ؛ لمنافاته للغرض.

التبعيض بحسب الاحتمالات

والتبعيض بحسب الموارد ، واستحباب الاحتياط حتّى يلزم الاختلال ـ أيضا ـ مشكل ؛ لأنّ تحديده في غاية العسر ، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأمّا المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام ، ويدلّ على هذا : العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا واستلزام كلّيته الاختلال.

التبعيض بحسب المحتملات

ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس

__________________

(١) أي الشيخ الحرّ العاملي ، راجع الصفحة ١٣٤.

١٣٧

بالنسبة إلى حقوق الله تعالى ، يحتاط فيه ، وإلاّ فلا (١).

ويدلّ على هذا : جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح ، وأنّه شديد ، وأنّه يكون. منه الولد (٢) ، منها : ما تقدّم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لا تجامعوا على النكاح بالشبهة» ، قال عليه‌السلام : «فإذا بلغك أنّ امرأة أرضعتك» ـ إلى أن قال ـ : «إنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٣).

وقد تعارض هذه بما دلّ على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه (٤) ، وعدم قبول قول من يدّعي حرمة المعقودة مطلقا (٥) أو بشرط عدم كونه ثقة (٦) ، وغير ذلك (٧).

وفيه : أنّ مساقها التسهيل وعدم وجوب الاحتياط ، فلا ينافي الاستحباب.

التبعيض بين مورد الأمارة على الإباحة وبين غيره

ويحتمل التبعيض بين مورد الأمارة على الإباحة وموارد لا يوجد

__________________

(١) لم ترد عبارة «يحتاط ـ إلى ـ فلا» في (ظ) و (ه).

(٢) الوسائل ١٤ : ١٩٣ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، الحديث ١ و ٣.

(٣) الوسائل ١٤ : ١٩٣ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، الحديث ٢ ، وقد تقدّم في الصفحة ٧٢.

(٤) الوسائل ١٤ : ٢٢٧ ، الباب ٢٥ من أبواب عقد النكاح.

(٥) الوسائل ١٤ : ٢٢٦ ، الباب ٢٣ من أبواب عقد النكاح ، الحديث الأوّل والثالث.

(٦) نفس المصدر ، الحديث الثاني.

(٧) انظر الوسائل ١٤ : ٤٥٧ ، الباب ١٠ من أبواب المتعة.

١٣٨

فيها (١) إلاّ أصالة الإباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأوّل ؛ لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعيّة على الإباحة ؛ فإنّ الأمارات في الموضوعات بمنزلة الأدلّة في الأحكام مزيلة للشبهة ، خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحيّر في حكمه ولا بيان من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة إليه ، دون مطلق ما فيه الاحتمال ، وهذا بخلاف أصالة الإباحة ؛ فإنّها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها.

هذا ، ولكن أدلّة الاحتياط لا تنحصر في ما ذكر فيه لفظ «الشبهة» ، بل العقل مستقلّ بحسن الاحتياط مطلقا.

فالأولى : الحكم برجحان الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام (٢). وما ذكر من أنّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فهو إنّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه.

__________________

(١) «فيها» من (ت).

(٢) في (ص): «الحرج».

١٣٩

الرابع

عدم اختصاص الإباحة بالعاجز عن الاستعلام

إباحة ما يحتمل الحرمة غير مختصّة بالعاجز عن الاستعلام ، بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع ؛ لعموم أدلّته من العقل والنقل ، وقوله عليه‌السلام في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره أو تقوم به البيّنة» (١) ؛ فإنّ ظاهره حصول الاستبانة وقيام البيّنة لا التحصيل ، وقوله : «هو لك حلال حتّى يجيئك شاهدان» (٢).

لكن هذا وأشباهه ـ مثل قوله عليه‌السلام في اللحم المشترى من السوق : «كل ولا تسأل» (٣) ، وقوله عليه‌السلام : «ليس عليكم المسألة ؛ إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم» (٤) ، وقوله عليه‌السلام في حكاية المنقطعة التي تبيّن لها زوج : «لم سألت» (٥) ـ واردة في موارد وجود الأمارة الشرعيّة على الحلّية ، فلا تشمل ما نحن فيه.

إلاّ أنّ المسألة غير خلافيّة ، مع كفاية الإطلاقات.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢.

(٣) الاستبصار ٤ : ٧٥ ، الباب ٤٨ من كتاب العتق ، الحديث الأوّل.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٧١ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٣.

(٥) الوسائل ١٤ : ٤٥٧ ، الباب ١٠ من أبواب المتعة ، الحديث ٣ و ٤ ، مع تفاوت.

١٤٠