فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

الثالث

هل أنّ أوامر الاحتياط للاستحباب أو للإرشاد؟

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها (١).

وهل الأوامر الشرعيّة للاستحباب ، فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ، أو غيريّ بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمر به إرشاديا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتّبة على الفعل أو الترك ، نظير أوامر الطبيب ، ونظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة لئلاّ يقع التنازع؟ وجهان :

الظاهر كونها للإرشاد

من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب.

ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ؛ فإنّ الظاهر كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط.

والظاهر (٢) أنّ حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط ـ على

__________________

(١) أي : أخبار التوقّف والاحتياط والتثليث.

(٢) في (ص): «وظاهر».

١٠١

تقدير (١) كونه إلزاميّا ـ لمحض الاطمئنان ودفع احتمال العقاب ، وكما أنّه إذا تيقّن بالضرر يكون إلزام. العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقّن ، فكذلك طلبه الغير الإلزاميّ إذا احتمل الضرر.

بل ، وكما أنّ أمر الشارع بالإطاعة في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢) لمحض الإرشاد ؛ لئلاّ يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته ثواب الطاعة ، ولا يترتّب على مخالفته سوى ذلك ، فكذلك أمره بالأخذ بما يأمن معه من الضرر ، و (٣) لا يترتّب على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعيّ على تقدير تحقّقه.

ما يشهد لكونها للإشاد

ويشهد لما ذكرنا : أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلاّ يقع فيها من حيث لا يعلم.

واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا ، ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلاّ للإرشاد ، لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به ـ وهو الاجتناب عن الحرام ـ أو فوتها ، فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتّب على موافقته سوى ما يترتّب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ، بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام (٤).

__________________

(١) في (ت) زيادة : «عدم».

(٢) الأنفال : ٢٠.

(٣) لم ترد «و» في (ر) و (ص).

(٤) في هامش (ت) و (ص) زيادة : «هذا كلّه بالنظر إلى الأمر بالاحتياط ، وأمّا

١٠٢

ترتّب الثواب على اجتناب الشبهة

ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه ؛ من حيث إنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون حينئذ حال الاحتياط والأمر به حال نفس الإطاعة الحقيقيّة والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لو لا الأمر.

ظاهر بعض الأخبار كونها للاستحباب

هذا ، ولكنّ الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة (١) ، مثل قوله عليه‌السلام : «من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات» ، وقوله : «من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك» ، وقوله : «من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» : هو كون الأمر به للاستحباب ، وحكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ولازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط ، مضافا إلى الخاصيّة المترتّبة (٢) على نفسه.

حسن الاحتياط مطلقاً

ثمّ لا فرق فيما ذكرناه ـ من حسن الاحتياط بالترك ـ بين أفراد المسألة حتّى مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناء على أنّ دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة ، وظهور

__________________

نفس الاحتياط ، أعني ترك الشيء لداعي احتمال كونه مبغوضا عند الشارع» مع اختلاف بينهما.

وبناء على ما في هامش (ص) لا بدّ أن يبدّل قوله : «ولا يبعد» ب «فلا يبعد».

(١) راجع الصفحة ٦٨.

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) بدل «الخاصية المترتّبة» : «الثواب المترتّب» ، وفي (ت): «الثواب» ، وفوقها : «الخاصيّة».

١٠٣

الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا.

ولا يتوهّم : أنّه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة بل حسن الاحتياط بتركه ؛ إذ لا ينفكّ ذلك عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما.

لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحقّقه ، ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقّق موضوع التشريع ؛ ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات أو في الثوبين المشتبهين وغيرهما ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.

١٠٤

الرابع

المذاهب الأربعة المنسوبة إلى الأخباريين فيما لا نصّ فيه

نسب الوحيد البهبهاني قدس‌سره إلى الأخباريّين مذاهب أربعة في ما لا نصّ فيه : التوقّف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة (١).

فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد ، وكون اختلافها في التعبير لأجل اختلاف ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة. فبعضهم ركن إلى أخبار التوقّف ، وآخر إلى أخبار الاحتياط ، وثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنّب المحرّمات ، كحديث التثليث ، ورابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث إنّها مشتبهات ؛ فإنّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعيّ الحرمة.

التوقّف أعمّ من الاحتياط بحسب المورد

والأظهر : أنّ التوقّف أعمّ بحسب المورد من الاحتياط ؛ لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس ممّا يجب فيها الصلح أو القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقّف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ.

والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم

والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٢٤٠ ، والرسائل الاصوليّة : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

١٠٥

الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة أو وجوب الجزاء المردّد بين نصف الصيد وكلّه.

الفرق بين الحرمة الظاهريّة والواقعيّة

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة ، فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالاولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعيّ ، فالحرمة ظاهريّة. والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة. أو بملاحظة أنّه إذا منع الشارع المكلّف ـ من حيث إنّه جاهل بالحكم ـ من الفعل ، فلا يعقل إباحته له واقعا ؛ لأنّ معنى الإباحة الإذن والترخيص ، فتأمّل.

احتمال آخر في الفرق

ويحتمل الفرق : بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الإباحة ، إلاّ أنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرّمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء ، من باب قبح التصرّف في ما يختصّ بالغير بغير إذنه.

احتمال ثالثُ في الفرق

ويحتمل الفرق : بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع ، والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول : بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا ، فإن كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلاّ فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا ، بل معناه أنّه ليس فيه إلاّ الحرمة الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فإنّ هذا أحد الأقوال للأخباريّين في المسألة على ما ذكره العلاّمة الوحيد ـ المتقدّم (١) ـ

__________________

(١) أي : الوحيد البهبهاني.

١٠٦

في موضع آخر ، حيث قال ـ بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم (١) : بأنّه لا يدلّ على الحظر أو وجوب التوقّف ، بل مقتضاه أنّ من ارتكب الشبهة واتّفق كونها (٢) حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ـ : ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريّين من يقول بهذا المعنى (٣) ، انتهى.

أوامر الاحتياط إرشاديّة

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا (٤) : من أنّ الأمر العقليّ والنقليّ بالاحتياط للإرشاد ، من قبيل أوامر الطبيب لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتّب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر. نعم ، الإرشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ـ كما في بعض أوامر الطبيب ـ لا للأولويّة كما اختاره القائلون بالبراءة. وأمّا ما يترتّب على نفس الاحتياط فليس إلاّ التخلّص عن الهلاك المحتمل في الفعل.

نعم ، فاعله يستحقّ المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوع من الانقياد ، ويستحقّ عليه المدح والثواب. وأمّا تركه فليس فيه إلاّ التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه. بل عرفت في مسألة حجّية العلم (٥) : المناقشة

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٨٢.

(٢) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «كونه».

(٣) انظر الفوائد الحائريّة : ٢٤٢ ، ولكن ليست هذه العبارة «ويخطر بخاطري ...» في نسختنا من الفوائد.

(٤) راجع الصفحة ٦٩.

(٥) راجع مبحث القطع ١ : ٤٥.

١٠٧

في حرمة التجرّي بما هو أعظم من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب ، ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط ، استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالإقدام (١) على ما يحتمل. كونه مبغوضا. وسيأتي تتمّة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في (ت) و (ه): «في الإقدام».

١٠٨

الخامس

أصل الإباحة إنّما هو مع عدم أصل موضوعيّ حاكم عليه

أنّ أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعيّ حاكم عليها ، فلو شكّ في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة ؛ لأصالة عدم التذكية : لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ ، وهي مشكوكة ، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة.

ما يظهر من المحقّق والشهيد الثانيين في حيوان متولّد من طاهر ونجس والمناقشة في ذلك

ويظهر من المحقّق والشهيد الثانيين (١) قدس سرهما فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل : أنّ الأصل فيه الطهارة والحرمة.

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ، فإنّما يحسن مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كلّ حيوان إلاّ ما خرج ، كما ادّعاه بعض (٢).

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ١ : ١٦٦ ، الروضة البهيّة ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، وتمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٢) ادّعاه السيّد المرتضى في الناصريّات : ٩٩ ، وانظر مفاتيح الشرائع ١ : ٦٩ ـ ٧٠ ، ومفاتيح الاصول : ٥٣٤.

١٠٩

وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل (١) لحمه قبل التذكية ، ففيه : أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة ، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر. ولو شكّ في قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق ، وكيف كان : فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والإباحة.

ما ذكره شارح الروضة في المسألة والمناقشة فيه

نعم ، ذكر شارح الروضة ـ هنا (٢) ـ وجها آخر ، ونقله بعض محشّيها (٣) عن الشهيد في تمهيد القواعد (٤). قال شارح الروضة : إنّ كلاّ من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر (٥) ، انتهى.

المناقشة فيما ذكره شارح الروضة

ويمكن منع حصر المحلّلات ، بل المحرّمات محصورة ، والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ؛ ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

ولو قيل : إنّ الحلّ إنّما علّق بالطيّبات (٦) في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(٧) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ، فكلّ ما

__________________

(١) لم ترد «أكل» في (ر) و (ظ).

(٢) لم ترد «هنا» في (ر) و (ظ).

(٣) لعلّه الشيخ علي ، انظر الروضة البهيّة بخطّ عبد الرحيم ، طبعة المكتبة العلمية الإسلامية ، الصفحة ٢١.

(٤) تمهيد القواعد : ٢٧٠ ، ولكن ليست فيه «كون المحلّلات محصورة».

(٥) المناهج السويّة (مخطوط) : الورقة ٨٤.

(٦) كذا في (ه) ، وفي (ت): «في الطيّبات» ، ولم ترد «بالطيّبات» في (ر) ، (ص) و (ظ).

(٧) المائدة : ٤.

١١٠

شكّ في كونه طيّبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.

قلنا : إنّ التحريم محمول في القرآن على «الخبائث» و «الفواحش» ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة ، وعموم قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ)(١) ، وقوله عليه‌السلام : «ليس الحرام إلاّ ما حرّم الله» (٢).

مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا.

بل الطيّب ما لا يستقذر ، فهو أمر عدميّ يمكن إحرازه بالأصل عند الشكّ ، فتدبّر.

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣ ، الباب ١ من أبواب الأطعمة والأشربة ، الحديث ٤.

١١١

السادس

اعتراض بعض الأخباريّين على الاصوليّين ومناقشته

حكي عن بعض الأخباريين (١) كلام لا يخلو إيراده عن فائدة ، وهو :

أنّه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد الله تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما يثبت من المعلوم ، فإن اشتبه عليّ شيء عملت بالاحتياط ، أفيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ، ويقابل بالإهانة والإحباط ، فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار؟ هيهات هيهات! أن يكون أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنّة خالدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين (٢) ، انتهى كلامه.

المناقشة فيما أفادة بعض الأخباريين

أقول : لا يخفى على العوامّ فضلا عن غيرهم : أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة.

وأمّا الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط ؛ لاحتمال حرمته ، فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين

__________________

(١) قيل : هو المحدّث الجزائري.

(٢) حكاه الوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : ٣٧٧.

١١٢

الوجوب والحرمة (١) ، وإلاّ فالاحتياط في ترك الفتوى ، وحينئذ : فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه ، كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كلّ تقدير : فلا ينفع قول الأخباريّين له : إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصوليّ له : إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه.

وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط. والافتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقّن من الأمرين في البين ، ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقلّ من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لا يخفى. فما ذكره هذا الأخباريّ من الإنكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، والله العالم وهو الحاكم.

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «التحريم».

١١٣

المسألة الثانية

الشبهة التحريميّة من جهة إجمال النصّ

ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب

من جهة إجمال النصّ

إمّا بأن يكون اللفظ الدالّ على الحكم مجملا ، كالنهي المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة.

وإمّا بأن يكون الدالّ على متعلّق الحكم كذلك ، سواء كان الإجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا بإجماله ، فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة ، أم كان الإجمال في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به.

والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الاولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

وربما يتوهّم (١) : أنّ الإجمال إذا كان في متعلّق الحكم ـ كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ـ كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم. وهو فاسد.

__________________

(١) المتوهّم هو المحدّث الحرّ العاملي في الفوائد الطوسيّة : ٥١٨ ، وسيأتي نقل كلامه في الصفحة ١٣٠ ـ ١٣٥.

١١٤

المسألة الثالثة

الشبهة التحريميّة من جهة تعارض النصّين

أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب

من جهة تعارض النصّين وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما

والأقوى عدم وجوب الاحتياط

والأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط ؛ لعدم الدليل عليه عدا ما تقدّم : من الوجوه المذكورة (١) التي عرفت حالها (٢) ، وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين ، مثل ما في عوالي اللآلي : من مرفوعة العلاّمة رحمه‌الله إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام :

طاهر مرفوعة زرارة وجوب الاحتياط

«قال : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟

فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر.

فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.

فقال عليه‌السلام : خذ بما يقوله أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي.

__________________

(١) لم ترد «المذكورة» في (ر) و (ظ).

(٢) راجع الصفحة ٦٢ ـ ٩٦.

١١٥

فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ؛ فإنّ الحقّ فيما خالفهم.

قلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف نصنع؟

قال : فخذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان ، فكيف أصنع؟

الجواب عن المرفوعة

قال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر ... الحديث» (١).

وهذه الرواية وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير ، إلاّ أنّها ضعيفة السند ، وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب العوالي وصاحبه ، فقال :

إنّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي ، مع ما هي عليها من الإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور : من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (٢) ، انتهى.

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه ، أو كون الحكم الوقف ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر أو دائما ، وجوه ليس هنا محلّ

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولكن ليست للحديث تتمّة. انظر عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩ ، والمستدرك ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٢) الحدائق ١ : ٩٩.

١١٦

ذكرها ؛ فإنّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، والله العالم.

تعارض «المقرّر والناقل» ، و «المبيح والحاظر»

بقي هنا شيء ، وهو :

أنّ الاصوليّين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف (١) ، ونسب تقديم المخالف ـ وهو المسمّى بالناقل ـ إلى أكثر الاصوليّين (٢) بل إلى جمهورهم (٣) ، منهم العلاّمة قدس‌سره (٤). وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدالّ على الإباحة على (٥) الدالّ على الحظر والخلاف فيه (٦) ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور (٧) ، بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك (٨). والخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق في الثانية.

كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد : من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتّى العلاّمة ،

__________________

(١) انظر المعارج : ١٥٦ ، والمعالم : ٢٥٣ ، والفصول : ٤٤٥ ، ومفاتيح الاصول : ٧٠٥.

(٢) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٨.

(٣) انظر غاية البادئ (مخطوط) : ٢٨٩.

(٤) انظر مبادئ الوصول : ٢٣٧ ، وتهذيب الوصول : ٩٩.

(٥) في (ص) زيادة : «الخبر».

(٦) انظر المعارج : ١٥٧ ، ومفاتيح الاصول : ٧٠٨.

(٧) كما في غاية المأمول (مخطوط) : الورقة ٢٢٠.

(٨) لعلّ المقصود ما حكاه السيّد المجاهد عن غاية المأمول ، انظر مفاتيح الاصول : ٧٠٨.

١١٧

مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير (١).

الفرق بين المسألتين

ويمكن أن يقال : إنّ مرادهم من الأصل في مسألة الناقل والمقرّر أصالة البراءة من الوجوب لا أصالة الإباحة ، فيفارق (٢) مسألة تعارض المبيح والحاظر.

و (٣) إنّ حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الأخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما ، فيفارق المسألتين.

لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلّتهم ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) انظر مفاتيح الاصول : ٧٠٥ و ٧٠٨.

(٢) في (ت) و (ص) ومحتمل (ه): «فتفارق».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ظ): «أو».

١١٨

المسألة الرابعة

دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب ، مع كون الشكّ

في الواقعة الجزئيّة لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة

الشبهة التحريميّة من جهة اشتباه الموضوع

كما إذا شكّ في حرمة شرب مائع و (١) إباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ، وفي حرمة لحم للتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب.

عدم الخلاف في الإباحة

والظاهر : عدم الخلاف في أنّ مقتضى الأصل فيه الإباحة ؛ للأخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» (٢) ، و «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (٣).

__________________

(١) كذا في (ص) و (ظ) ومحتمل (ه) ، وفي غيرها : «أو».

(٢) هي رواية مسعدة بن صدقة الآتية بعد سطور ، ولم نعثر على غير ذلك في المجاميع الحديثيّة. نعم ، ورد ما يقرب منه في الوسائل ١٦ : ٤٠٣ ، الباب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث ٢.

(٣) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

١١٩

واستدلّ العلاّمة رحمه‌الله في التذكرة (١) على ذلك برواية مسعدة بن صدقة :

استدلال العلاّمة برواية مسعدة

«كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» (٢).

وتبعه عليه جماعة من المتأخّرين (٣).

الإشكال في الأمثلة المذكورة في الرواية

ولا إشكال في ظهور صدرها في المدّعى ، إلاّ أنّ الأمثلة المذكورة فيها ليس الحلّ فيها مستندا إلى أصالة الحلّيّة ؛ فإنّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحلّ التصرّف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرّف ؛ لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرّيّة في الانسان المشكوك في رقّيّته ، وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقّق النسب و (٤) الرضاع فالحلّيّة مستندة إليه ، وإن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها ؛ فيحرم وطؤها.

__________________

(١) التذكرة (الطبعة الحجريّة) ١ : ٥٨٨.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٣) منهم الوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : ٣٩٩ ، والفاضل النراقي في المناهج : ٢١١ و ٢١٦.

(٤) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أو».

١٢٠