البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

الجديد معروف. نغضت سنه : تحركت قال. ونغضت من هرم أسنانها. تنغض وتنغض نغضا ونغوضا ، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض. قال :

لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال الآخر :

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنه يطلب شيئا أطمعا

وقال الفراء : أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل. وقال أبو الهيثم : إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه. وقال ذو الرمّة :

ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية

بسيف ولم ينغض بهن القناطر

حنك الدابة واحتنكها : جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به ، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها. قال :

نشكو إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وحنفت ، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم : أحنك الشاتين أي آكلهما. استفز الرجل : استخفه ، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع ، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده. وقيل لولد البقرة فز لخفته. قال الشاعر :

كما استغاث بشيء فز غيطلة

خاف العيون فلم ينظرنه الحشك

الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء. وقال أبو عبيدة : جلب وأجلب. وقال الزجاج : أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت : جلب عليه أعان عليه. وقال ابن الأعرابي : أجلب على الرجل إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع. الصوت معروف.

الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء ، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار.

وقال الفرزدق :

مستقبلين شمال الشام نضربهم

بحاصب كنديف القطن منثور

والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة. تارة مرة وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر :

وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجم فيغرق

٦١

القاصف الذي يكسر كل ما يلقى ، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفا كسره. وقال أبو تمام :

إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت

عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

وقيل : القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً).

قال الزمخشري : لما قالوا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) (١) قيل لهم (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) فردّ قوله (كُونُوا) على قولهم (كُنَّا) كأنه قيل (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) ولا تكونوا عظاما فإنه يقدر على إحيائكم. والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعد ما كنتم عظاما يابسة ، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره ، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر ، وهو أن تكونوا (حِجارَةً) يابسة (أَوْ حَدِيداً) مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادرا على أن يردكم إلى حال الحياة (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ) عندكم عن قبول الحياة ، ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه.

وقال ابن عطية : كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم. وقوله (كُونُوا) هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل ، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) (٢) ونحوه. وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا (الَّذِي فَطَرَكُمْ) كذلك هو يعيدكم انتهى. وقال مجاهد : المعنى (كُونُوا) ما شئتم فستعادون. وقال النحاس : هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم ، فلو كنتم (حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى.

(أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته ، ولم

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٤٩ ـ ٩٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٨.

٦٢

يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم وجولانها فيما هو أصلب من الحديد ، فبدأ أولا بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد ، أي افرضوا ذواتكم شيئا من هذه فإنه لا بد لكم من البعث على أي حال كنتم. وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت ، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم. وهذا التفسير لا يتم إلّا إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر ، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضا ولو فرض انقلابه عرضا لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية. وقال مجاهد : الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكنا. قالوا : من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة ، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و (الَّذِي) مبتدأ وخبره محذوف التقدير (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعيدكم فيطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون فاعلا أي يعيدكم الذي فطركم ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي معيدكم الذي فطركم و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ظرف العامل فيه (فَطَرَكُمْ) قاله الحوفي.

(فَسَيُنْغِضُونَ) أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ، ويقولون : متى هو؟

أي متى العود؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود. ولكن حيدة وانتقالا لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه ، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه ، واحتمل أن يكون في (عَسى) إضمار أي (عَسى) هو أي العود ، واحتمل أن يكون مرفوعها (أَنْ يَكُونَ) فتكون تامة. و (قَرِيباً) يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفا بالقرب ، ويحتمل أن يكون ظرفا أي زمانا قريبا وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلا من قريبا.

وقال أبو البقاء : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) ظرف ليكون ، ولا يجوز أن يكون ظرفا لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى. أما كونه ظرفا ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف. وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين ، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمر وقبيح ، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح. والظاهر أن الدعاء حقيقة أي (يَدْعُوكُمْ) بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (١)

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٤١.

٦٣

الآية ويقال : إن إسرافيل عليه‌السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. وروي في الحديث أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فأحسنوا أسماءكم». ومعنى (فَتَسْتَجِيبُونَ) توافقون الداعي فيما دعاكم إليه. وقال الزمخشري : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى. والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و (بِحَمْدِهِ) حال منهم. قال الزمخشري : وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر ، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه. وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك انتهى. وذلك لما ظهر لهم من قدرته.

وقيل : معنى (بِحَمْدِهِ) أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالا منهم فكأنه قال : عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم : قد أخطأت بحمد الله فبحمد الله ليس حالا من فاعل أخطأت ، بل المعنى أخطأت والحمد لله. وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان (بِحَمْدِهِ) يكون اعتراضا إذ معناه والحمد لله. ونظيره قول الشاعر :

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنع

أي فإني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها ، كما أن (بِحَمْدِهِ) اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله : عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز ، لا تقول عسى أن زيدا قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد ، وعلى أن يكون (بِحَمْدِهِ) حالا من ضمير (فَتَسْتَجِيبُونَ). قال المفسرون : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة : معناه بمعرفته وطاعته (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً). قال ابن عباس : بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت ، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى (لَبِثْتُمْ) فيما بين النفختين. وقال الحسن : تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا. وقال الزمخشري : (وَتَظُنُّونَ) وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوما أو بعض يوم ، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة

٦٤

انتهى. وقيل : استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة. وقيل : تم الكلام عند قوله (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

و (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله (بِحَمْدِهِ) يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلّا بهم. وقيل : يحمده المؤمن اختيارا والكافر اضطرارا ، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير ، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلّا في زمن قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين ، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم. والظاهر أن (وَتَظُنُّونَ) معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء : أي وأنتم (تَظُنُّونَ) والجملة حال انتهى. وأن هنا نافية ، (وَتَظُنُّونَ) معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب ، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية ، ويظهر أن انتصاب قليلا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلّا زمن قليلا. كقوله (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (١) ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية.

(قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

قيل : سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد ، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه ، وإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبته إلى أنه مسحور ، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٣.

٦٥

بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم ، بمثل أفعالهم وأقوالهم ، فعلى هذا يكون المعنى (قُلْ لِعِبادِي) المؤمنين (يَقُولُوا) للمشركين الكلم (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وقيل : المعنى (يَقُولُوا) أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضا ويعظمه ، ولا يصدر منه إلّا الكلام الطيب والقول الجميل ، فيكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضا بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري.

وقيل : عبادي هنا المشركون إذا المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام ، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سببا إلى قبول الدين فكأنه قيل : قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان ووسوسته وتحسينه. وقيل : عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) (١) (فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَيْناً) (٢) (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (٣).

و (قُلْ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أمر ، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وانجزم (يَقُولُوا) على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش ، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف ، أي إن يقل لهم (يَقُولُوا) فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي (يَقُولُوا) جوابه. وقال المبرد : انجزم جوابا للأمر الذي هو معمول (قُلْ) أي قولوا (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا). وقيل معمول (قُلْ) مذكور لا محذوف وهو (يَقُولُوا) على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزّجاج. وقيل : (يَقُولُوا) مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني ، والمعنى (قُلْ لِعِبادِي) قولوا قاله المازني ، وهذه الأقوال جرت في قوله (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) (٤) وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ١٧.

(٢) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٩.

(٣) سورة الإنسان : ٧٦ / ٦.

(٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣١.

٦٦

و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلّا الله. قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن يكون قوله (لِعِبادِي) يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلّا الله. ويجيء قوله بعد ذلك (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) غير مناسب للمعنى إلّا على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال. وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك ، وعنه أيضا الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي. وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله. وقال الجمهور : وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى. وقال الزمخشري : فسر (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة.

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١) (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢) وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله ، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها ، ثم نبه على هذا الطريق بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) جامعا للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى. وقرأ طلحة (يَنْزَغُ) بكسر الزاي. قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح. وقال صاحب اللوامح : هي لغة. وقال الزمخشري : هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى. ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) (٣) الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له. والخطاب بقوله (رَبُّكُمْ) إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم.

(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ) أي على الكفار حافظا وكفيلا فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى الله. وقيل : (يَرْحَمْكُمْ) بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة ، وإن شاء

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٢٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٦.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٧.

٦٧

عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر. وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (١) فقال الله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيكشف القحط عنكم (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) فيتركه عليكم. وقال ابن عطية : هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ، وذلك أن قوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوّفهم ، ومعنى (يَرْحَمْكُمْ) بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى. وتقدم من قول الزمخشري أن قوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وقال ابن الأنباري : (أَوْ) دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يرد عنهما ، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر. وقال الكرماني : (أَوْ) للإضراب ولهذا كرر (إِنْ) ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطبا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض ، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم ، و (بِمَنْ) متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به كقولك : زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم. وقال أبو عليّ : الباء تتعلق بفعل تقديره علم (بِمَنْ) قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم ، وأيضا فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو. ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلّا عن حكمته. وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأنبياء وخص (داوُدَ) بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ١٢.

٦٨

الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم. وقال تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١) وهم محمد وأمته ، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيرا فيما يخبرون به مما في كتبهم ، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا : لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه ، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به. وتقدم تفسير (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها.

وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرف في (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل ، وأن يريد (وَآتَيْنا داوُدَ) بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الزبور ، فسميّ ذلك (زَبُوراً) لأنه بعض الزبور كما سمي بعض القرآن قرآنا.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً).

قال ابن مسعود : نزلت في عبدة الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم. وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه ، وعنه أيضا وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى. ويكون (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) عاما غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل ، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم. الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلى واحد إلى آخر أو يبدلوه. وقرأ الجمهور : (يَدْعُونَ) بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب ، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنيا للمفعول ، والمعنى

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٥.

٦٩

يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله (قُلِ ادْعُوا) أي ادعوهم لكشف الضر.

وفي قوله : (زَعَمْتُمْ) ضمير محذوف عائد على (الَّذِينَ) وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله ، و (أُولئِكَ) مبتدأ و (الَّذِينَ) صفته ، والخبر (يَبْتَغُونَ). و (الْوَسِيلَةَ) القرب إلى الله تعالى ، والظاهر أن (أُولئِكَ) إشارة إلى المعبودين والواو في (يَدْعُونَ) للعابدين ، والعائد على (الَّذِينَ) منصوب محذوف أي يدعونهم.

وقال ابن فورك : الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم ، والضمير المرفوع في (يَدْعُونَ) و (يَبْتَغُونَ) عائد عليهم ، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله ، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلّا الله ولا يبتغون الوسيلة إلّا إليه ، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله.

وقرأ الجمهور : (إِلى رَبِّهِمُ) بضمير الجمع الغائب. وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطابا للرسول ، واختلفوا في إعراب (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) وتقديره. فقال الحوفي : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ابتداء وخبر ، والمعنى ينظرون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) فيتوسلون به ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدلا من الواو في (يَبْتَغُونَ) انتهى. ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق ، و (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي ، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى ، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) (١) وفي إضمار الفعل المعلق نظر ، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال : وتكون أي موصولة ، أي يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى. فعلى الوجه يكون (أَقْرَبُ) خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل (أَيُّهُمْ) أن يكون معربا وهو الوجه ، وأن يكون مبنيا لوجود مسوغ البناء. قال الزمخشري : أو ضمن (يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ) معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، فيكون قد ضمن (يَبْتَغُونَ) معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق ،

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٩.

٧٠

وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى ، كقوله (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) (١).

وقال ابن عطية : و (أَيُّهُمْ) ابتدأ و (أَقْرَبُ) خبره ، والتقدير نظرهم وددكهم (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها ، أي يتبارون في طلب القرب. فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر ، وإن جعلت (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) وإن جعلت التقدير نظرهم في (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائنا وحاصلا ليس مما تعلق.

وقال أبو البقاء : (أَيُّهُمْ) مبتدأ و (أَقْرَبُ) خبره ، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون ، ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ) بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في (يَدْعُونَ) والتقدير الذي هو أقرب انتهى. ففي الوجه الأولى علق (يَدْعُونَ) وهو ليس فعلا قلبيا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية ، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم آلهة (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) يحذره كل أحد.

و (إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِنْ) نافية و (مِنْ) زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس ، والجملة بعد (إِلَّا) خبر المبتدأ. وقيل : المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة. وقال ابن عطية : ومن لبيان الجنس انتهى. والتي لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي (مِنْ) لبيان ما أريد بذلك الذي فيه إبهام ما. كقوله (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) (٢) وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بيانا له ، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك. وقيل : المراد الخصوص انتهى.

والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها ، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئا فشيئا أو تعذب والمعنى أهلها بالقتل وأنواع العذاب. وقيل : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة. وقال مقاتل : وجدت في كتب

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٣٧.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

٧١

الضحاك بن مزاحم في تفسيرها : أما مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق. والرواجف ، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلدا بلدا ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوبا أسطارا (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ) بالآيات عن ابن عباس : أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون ، اقترحوا ذلك على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأوحى الله إليه إن شئت أن افعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال : «بل تستأني بهم يا رب». فنزلت ، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلّا لتكذيب الأولين بها ، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش ، فالمعنى إلّا ابتاعهم طريقة تكذيب الأولين بها ، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم.

وقال الزمخشري : فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلّا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها ، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى.

وقرأ الجمهور (ثَمُودَ) ممنوع الصرف. وقال هارون : أهل الكوفة ينونون (ثَمُودَ) في كل وجه. وقال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن (ثَمُودَ) في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤها بغير ألف انتهى. وانتصب (مُبْصِرَةً) على الحال وهي قراءة الجمهور. وقرأ زيد بن عليّ (مُبْصِرَةً) بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة ، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس ، والتقدير آية مبصرة. وقرأ قوم : بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها. وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله :

والكفر مخبثة لنفس النعم

٧٢

أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة ، وقالوا : الولد مبخلة مجبنة (فَظَلَمُوا بِها) أي بعقرها بعد قوله (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) (١) الآية. وقيل : المعنى أنهم جحدوا كونها من عند الله. وقيل : جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله ، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى ، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة. وقال الحسن : والموت الذريع ، وفي حديث الكسوف : «فافزعوا إلى الصلاة». قال ابن عطية : وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيث ما وضعت نظرك وجدت آية. وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهما لما سلف منه انتهى. وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة.

وقال الزمخشري : إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها (إِلَّا تَخْوِيفاً) من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى (وَما نُرْسِلُ) ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها (إِلَّا تَخْوِيفاً) وإنذارا بعذاب الآخرة. وقيل : الآيات التي جعلها الله تخويفا لعباده سماوية كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والرجوم وما يجري مجرى ذلك. وأرضية زلازل ، وخسف ، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد ، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين ، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً).

لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه ، وقالوا : لو كان رسولا حقا لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه (أَحاطَ بِالنَّاسِ). فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه. وقيل : بقدرته فقدرته غالبة كل شيء. وقيل : الإحاطة هنا الإهلاك كقوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) (٢) والظاهر أن الناس عام.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٣.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٤٢.

٧٣

وقيل : أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم ، و (أَحاطَ) بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة ، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم. قيل يوم بدر. وقال العسكري : هذا خبر غيب قدمه قبل وقته ، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثأرهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقيل : يوم بدر ويوم الفتح. وقيل : الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم. وقال الطبري : (أَحاطَ بِالنَّاسِ) في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم ، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحدا من المخلوقين. قال ابن عطية : وهذا تأويل بين جار مع اللفظ. وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلّا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسبا لما بعده توطئة له.

فأقول : اختلف الناس في (الرُّؤْيَا). فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار : إن هذا لعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي في إضلالهم وهدايتهم ، وإن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤيا إذ هما مصدران من رأى. وقال النقاش : جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم : هو قصة الإسراء والمعراج عيانا آمن به الموفقون وكفر به المخذولون ، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام. وعن ابن عباس أيضا هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنته الحديبية ورد فافتتن الناس ، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت. وعن سهل بن سعد : هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس. ويجيء قوله (أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي بأقداره وإن كان ما قدّره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك.

وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : وإن أدري لعله فتنة لكم

٧٤

ومتاع إلى حين. وقالت عائشة : (الرُّؤْيَا) رؤيا منام. قال ابن عطية : وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى. ولبس كما قال ابن عطية : فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك. وقال صاحب التحرير : سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال : ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية ، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدرا أراه جبريل عليه‌السلام مصارع القوم فأراها الناس ، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) هنا هي أبو جهل انتهى.

وقال الزمخشري : ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يومىء إلى الأرض ويقول : «هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان». فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر بدر وما أري في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء. وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى. والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها. فقال ابن عباس : هي الكشوث المذكورة في قوله (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (١) وعنه أيضا : هي (الشَّجَرَةَ) التي تلتوي على الشجرة فتفسدها. قال : والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن. وقال الجمهور : هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها. قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلّا التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه : «تزقموا» فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء.

قال الزمخشري : وما أنكروا أن يجعل الله (الشَّجَرَةَ) من جنس لا تأكله النار ، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار ، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٦.

٧٥

تخويفا للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلّا فتنة لهم حيث اتخذوه سخريا وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي بمخاوف الدنيا والآخرة (فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى. وقوله بعد الوحي إليك هو قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (١) وقوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) (٢) والظاهر إسناد اللعنة إلى (الشَّجَرَةَ) واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون.

قال الزمخشري : وسألت بعضهم فقال نعم الطعام الملعون القشب الممحون. وقال ابن عباس : (الْمَلْعُونَةَ) يريد آكلها ، ونمقه الزمخشري فقال : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى. وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين ، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها. وقال قوم (الشَّجَرَةَ) هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل. وقيل هو الشيطان. وقيل مجاز عن جماعة وهم اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثة الرسول عليه‌السلام ، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام. وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلّا بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام ، ولعنها في القرآن (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٣) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة.

وقرأ الجمهور : (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) عطفا على (الرُّؤْيَا) فهي مندرجة في الحصر ، أي (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) في القرآن (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). وقرأ زيد بن عليّ برفع (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة ، والضمير في (وَنُخَوِّفُهُمْ) لكفار مكة. وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٥.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٢.

(٣) سورة هود : ١١ / ١٨.

٧٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكا عضوضا» والأول أصوب. وقرأ الأعمش : ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين. أحدهما أنه لما نازعوا الرسول عليه‌السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة ، فناسب ذكر قصة آدم عليه‌السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود. والثاني أنه لما قال (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) (١) بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) وانتصب (طِيناً) على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي ، فقال : من الهاء في خلقته المحذوفة ، والعامل (خَلَقْتَ) والزمخشري فقال (طِيناً) أما من الموصول والعامل فيه (أَأَسْجُدُ) على آسجد له وهو طين أي أصله طين ، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه (طِيناً) انتهى. وهذا تفسير معنى. وقال أبو البقاء : والعامل فيه (خَلَقْتَ) يعني إذا كان حالا من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصبا على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) وأجاز الزجّاج أيضا وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزا ولا يظهر كونه تمييزا وقوله (أَأَسْجُدُ) استفهام إنكار وتعجب. وبين قوله (أَأَسْجُدُ) وما قبله كلام محذوف ، وكأن تقديره قال : لم لم تسجد لأدم قال : (أَأَسْجُدُ) وبين قوله (أَرَأَيْتَكَ) وقال آسجد جمل قد ذكرت حيث طولت قصته ، والكاف في (أَرَأَيْتَكَ) للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلّا إذا كانت بمعنى أخبرني ، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج.

قال الحوفي : و (أَرَأَيْتَكَ) بمعنى عرفني وأخبرني ، وهذا منصوب بأرأيتك ، والمعنى

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٦٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٢.

٧٧

أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه. وقال الزمخشري : الكاف للخطاب و (هذَا) مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه ، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ). وقال ابن عطية : والكاف في (أَرَأَيْتَكَ) حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة ، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد. وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله (أَرَأَيْتَكَ) زيدا أيؤمن هو. وقاله الزجاج ولم يمثل ، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه‌الله انتهى. وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في (أَرَأَيْتَكَ) هنا هو الصحيح ، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر ، وصار مثل : زيد أيؤمن هو دخلت عليه (أَرَأَيْتَكَ) فعملت في الأول ، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاما ، فإن صرح به فذلك واضح وإلّا قدر. وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل.

وقال الفراء : هنا للكاف محل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال : وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك. فإني صانع فيه كذا ، ثم ابتدأ (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) انتهى. والرد عليه مذكور في علم النحو ، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله : (أَرَأَيْتَكَ) بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول (أَرَأَيْتَكَ) لذهب مذهبا حسنا ، إذ لا يكون في الكلام إضمار ، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف ، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية ، ومعنى (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) أي أخرت مماتي وأبقيتني حيا.

وقال ابن عباس : (لَأَحْتَنِكَنَ) لأستولين عليهم وقاله الفراء. وقال ابن زيد لأضلنهم. وقال الطبري : لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر ، وظهر ذلك في قوله (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه ، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه

٧٨

من الملائكة ، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (١) أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه ، ورأى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء ، وقال الحسن : ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عز ما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة ، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢) والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته ، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم ، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال : (جَزاؤُكُمْ) ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله :

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ولازم تقول وفر المال يفر وفورا ، وانتصب (جَزاءً) على المصدر والعامل فيه (جَزاؤُكُمْ) أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة. وقيل : تمييز ولا يتعقل (وَاسْتَفْزِزْ) معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٣) ومن في (مَنِ اسْتَطَعْتَ) موصولة مفعولة باستفزز. وقال أبو البقاء : (مَنِ اسْتَطَعْتَ) من استفهام في موضع نصب باستطعت ، وهذا ليس بظاهر لأن (اسْتَفْزِزْ) ومفعول (اسْتَطَعْتَ) محذوف تقديره (مَنِ اسْتَطَعْتَ) أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله. وقال مجاهد : الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك : صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله. وفيهم بنات حسان ، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا. وقيل : الصوت هنا الوسوسة.

وقرأ الحسن (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا ، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة ، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازا وهم الفرسان ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، والباء في (بِخَيْلِكَ) قيل زائدة. وقيل : من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٤٠.

٧٩

وقال ابن عطية : وقوله (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). وقيل : هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى. وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى. وقرأ الجمهور : (وَرَجِلِكَ) بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحده راجل كركب وراكب ، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم. قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال. وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رجلا أي غير راكب ومنه قول الشاعر :

رجلا إلّا بأصحاب

وقال الزمخشري : وقرىء (وَرَجِلِكَ) على أن فعلا بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضا فيكون مثل حدث وحدث وندس وندس وأخوات لهما انتهى. وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك. وقرىء : ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال. قال الضحاك : ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة. وقيل : ما أصيب من مال وحرام. وقيل : ما جعلوه من أموالهم لغير الله. وقيل : ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد. قال ابن عباس : تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث ، وعنه أيضا ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية. وعنه أيضا إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة. ما مجسّوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام. وقال مجاهد : عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه. وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش ، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح ، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس.

وقال الزمخشري : (وَعِدْهُمْ) المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميما ، وإيثار العاجل على

٨٠