البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

سورة المؤمنون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا

٥٤١

نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى

٥٤٢

فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ

٥٤٣

أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)

السلالة : فعالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه. وقال أمية :

خلق البرية من سلالة منتن

وإلى السلالة كلها ستعود

والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه. قال الشاعر :

فجاءت به عصب الأديم غضنفرا

سلالة فرج كان غير حصين

وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والنحاتة. سيناء وسينون : اسمان لبقعة ، وجمهور العرب على فتح سين سيناء فالألف فيه للتأنيث كصحراء فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم ، وكنانة تكسر السين فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم أيضا عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث ، وعند البصريين يمتنع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث ، لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق كعلباء ودرحاء. قيل : وهو جبل فلسطين. وقيل : بين مصر وأيلة. الدهن : عصارة الزيتون واللوز وما أشبههما مما فيه دسم ، والدهن : بفتح الدال مسح الشيء بالدهن. هيهات : اسم فعل يفيد الاستبعاد فمعناها بعد ، وفيها لغات كثيرة ذكرناها في كتاب التكميل لشرح التسهيل ، ويأتي منها ما قرىء به إن شاء الله. الغثاء : الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به قاله أبو عبيد. وقال الأخفش : الغثاء والجفاء واحد ، وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد. وقال الزجاج : البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل خالط زبده انتهى. وتشدد ثاؤه وتخفف ، ويجمع على أغثاء شذوذا ، وروى بيت امرئ القيس : من السيل والغثاء بالتخفيف والتشديد بالجمع. تترى واحدا بعد واحد. قال الأصمعي : وبينهما مهلة. وقال غيره : المواترة التتابع بغير مهلة ، وتاؤه مبدلة من واو على غير قياس ، إذ أصله الوتر كتاء تولج وتيقور الأصل وولج وو يقور لأنه من الولوج والوقار ، وجمهور العرب على عدم تنوينه فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تنونه ، وينبغي أن تكون الألف فيه للإلحاق كهي في علقي المنون ، وكتبه بالياء يدل على ذلك ، ومن زعم أن التنوين فيه كصبرا ونصرا فهو مخطئ لأنه يكون وزنه فعلا ولا يحفظ فيه الإعراب في الراء ، فتقول تتر في الرفع وتتر في الجر لكن ألف الإلحاق في المصدر نادر ، ولا يلزم وجود النظير. وقيل : تترى اسم جمع كأسرى وشتى. المعين : الميم فيه زائدة

٥٤٤

ووزنه مفعول كمخيط ، وهو المشاهد جريه بالعين تقول : عانه أدركه بعينه كقولك : كبده ضرب كبده ، وأدخله الخليل في باب ع ي ن. وقيل : الميم أصلية من باب معن الشيء معانة كثر فوزنه فعيل ، وأجاز الفراء الوجهين. وقال جرير :

إن الذين غدوا بلبك غادروا

وشلا بعينك ما يزال معينا

الغمرة : الجهالة زجل غمر غافل لم يجرب الأمور وأصله الستر ، ومنه الغمر للحقد لأنه يغطي القلب ، والغمر للماء الكثير لأنه يغطي الأرض ، والغمرة الماء الذي يغمر القامة ، والغمرات الشدائد ورجل غامر إذا كان يلقي نفسه في المهالك ، ودخل في غمار الناس أي في زحمتهم. الجؤار : مثل الخوار جأر الثور يجأر صاح ، وجأر الرجل إلى الله تضرع بالدعاء قاله الجوهري. وقال الشاعر : يراوح من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤارا وقيل : الجؤار الصراخ باستغاثة قال : جأر ساعات النيام لربه. السامر : مفرد بمعنى الجمع ، يقال : قوم سامر وسمر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر ، وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر ، والسمير الرفيق بالليل في السهر ويقال له السمار أيضا ، ويقال لا أفعله ما أسمر ابنا سمير ، والسمير الدهر وابناه الليل والنهار. نكب عن الطريق ونكب بالتشديد : إذا عدل عنه. اللجاج في الشيء : التمادي عليه.

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).

هذه السورة مكية بلا خلاف ، وفي الصحيح للحاكم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ قد (أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى عشر آيات. ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

٥٤٥

ارْكَعُوا) (١) الآية وفيها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢) وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إخبارا بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح.

وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) بضم الهمزة وكسر اللام مبنيا للمفعول ، ومعناه ادخلوا في الفلاح فاحتمل أن يكون من فلح لازما أو يكون أفلح يأتي متعديا ولازما. وقرأ طلحة أيضا بفتح الهمزة واللام وضم الحاء. قال عيسى بن عمر : سمعت طلحة بن مصرف يقرأ قد أفلحوا المؤمنون ، فقلت له : أتلحن؟ قال : نعم ، كما لحن أصحابي انتهى. يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي وليس بلحن لأنه على لغة أكلوني البراغيث. وقال الزمخشري : أو على الإبهام والتفسير. وقال ابن عطية : وهي قراءة مردودة ، وفي كتاب ابن خالويه مكتوبا بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل نحو (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) (٣). وقال الزمخشري : وعنه أي عن طلحة (أَفْلَحَ) بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله :

فلو أن الأطباء كان حولي

انتهى. وليس بجيد لأن الواو في (أَفْلَحَ) حذفت لالتقاء الساكنين وهنا حذفت للضرورة فليست مثلها. قال الزمخشري : قد تقتضيه لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه انتهى.

والخشوع لغة الخضوع والتذلل ، وللمفسرين فيه هنا أقوال : قال عمرو بن دينار : هو السكون وحسن الهيئة. وقال مجاهد : غض البصر وخفض الجناح. وقال مسلم بن يسار وقتادة : تنكيس الرأس. وقال الحسن : الخوف. وقال الضحاك : وضع اليمين على الشمال. وعن عليّ : ترك الالتفات في الصلاة. وعن أبي الدرداء : إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده ، ومن الخشوع أن تستعمل الآداب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك والاختصار وتقليب الحصى. وفي

__________________

(١ ـ ٢) سورة الحج : ٢٢ / ٧٧.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٤.

٥٤٦

التحرير : اختلف في الخشوع ، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحله القلب ، وهو أول علم يرفع من الناس قاله عبادة بن الصامت.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت : لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته ، وأما المصلى له فغني متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.

(اللَّغْوِ) ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل ، وما توجب المروءة اطراحه يعني أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف انتهى. وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوي تعديته باللام كالفعل ، وكذلك إذا تأخر لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء (لِلزَّكاةِ) باللام ولو جاء منصوبا لكان عربيا والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل ، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير فيكون على حذف أي لأداء الزكاة (فاعِلُونَ) إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكى أو يضمن فاعلون معنى مؤدون ، وبه شرحه التبريزي. وقيل (لِلزَّكاةِ) للعمل الصالح كقوله (خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) (١) أي عملا صالحا قاله أبو مسلم. وقيل : الزكاة هنا النماء والزيادة ، واللام لام العلة ومعمول (فاعِلُونَ) محذوف التقدير (وَالَّذِينَ هُمْ) لأجل تحصيل النماء والزيادة (فاعِلُونَ) الخير. وقيل : المصروف لا يسمى زكاة حتى يحصل بيد الفقير. وقيل : لا تسمى العين المخرجة زكاة ، فكان التغيير بالفعل عن إخراجه أولى منه بالأداء ، وفيه رد على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله : ألا قال مؤدّون ، قال في التحرير والتحبير : وهذا كما قيل لا عقل ولا نقل ، والكتاب العزيز نزل بأفصح اللغات وأصحها بلا خلاف. وقد قال أمية بن أبي الصلت :

المطعمون الطعام في السنة الأز

مة والفاعلون للزكوات

ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية ، بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون انتهى. وقال الزمخشري : وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة يعني

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٨١.

٥٤٧

على أن الزكاة يراد بها العين وهو على حذف مضاف ، أي لأداء الزكوات ، وعلل ذلك بجمعها يعني أنها إذا أريد بها العين صح جمعها ، وإذا أريد بها التزكية لم تجمع لأن التزكية مصدر ، والمصادر لا تجمع وهذا غير مسلم بل قد جاء منها مجموعا ألفاظ كالعلوم والحلوم والأشغال ، وأما إذا اختلفت فالأكثرون على جواز جمعها وهنا اختلفت بحسب متعلقاتها فإخراج النقد غير إخراج الحيوان وغير إخراج النبات والزكاة في قول أمية مما جاء جمعا من المصادر ، فلا يتعدى حمله على المخرج لجمعه.

وحفظ لا يتعدى بعلى. فقيل : على بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) (١) أي على القوم قاله الفراء ، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن (حافِظُونَ) معنى ممسكون أو قاصرون ، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) (٢) وتكلف الزمخشري هنا وجوها. فقال (عَلى أَزْواجِهِمْ) في موضع الحال أي الأوّالين على أزواجهم أو قوّامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلانا ، ونظيره كان زياد على البصرة أي واليا عليها. ومنه قولهم : فلان تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشا أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين ، كأنه قيل : يلامون (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي يلامون على كل مباشر إلّا على ما أطلق لهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) عليه أو يجعله صلة لحافظين من قولك احفظ عليّ عنان فرسي على تضمينه معنى النفي ، كما ضمن قولهم : نشدتك الله إلّا فعلت بمعنى ما طلبت منك إلّا فعلك انتهى. يعني أن يكون حافظون صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى ، أي والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم ، فيكون استثناء مفرغا متعلقا فيه على بما قبله كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت ، ومعناه النفي أي ما طلبت منك. وهذه التي ذكرها وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة.

وقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ) أريد بما النوع كقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) (٣) وقال الزمخشري : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث انتهى. وقوله وهم الإناث ليس بجيد لأن لفظ هم مختص بالذكور ، فكان ينبغي أن يقول وهو الإناث على لفظ ما أوهن الإناث على معنى ما ، وهذا الاستثناء حد يجب الوقوف عنده ، والتسرّي خاص بالرجال ولا يجوز للنساء بإجماع ، فلو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٧.

(٢) سورة الأحزاب : ١٣٣ / ٣٧.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٣.

٥٤٨

الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يبقيان على نكاحهما وفي قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) دلالة على تعميم وطء ما ملك باليمين وهو مختص بالإناث بإجماع ، فكأنه قيل (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من النساء. وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف ، ويخص أيضا في الآية بتحريم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر ، ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والاستمناء ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء ، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى أي خلاف ذلك. وقيل : لا يكون وراء هنا إلّا على حذف تقديره ما وراء ذلك.

والجمهور على تحريم الاستمناء ويسمى الخضخضة وجلد عميرة يكنون عن الذكر بعميرة ، وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة ، وسأل حرملة بن عبد العزيز مالكا عن ذلك فتلا هذه الآية وكان جرى في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بما استدل مالك من قوله (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) (١) فقلت له : إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر بذلك في أشعارها ، وكان ذلك كثيرا فيها بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ، ولم يكونوا ينكرون ذلك. وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيها ولا ذكره أحد منهم في أشعارهم فيما علمناه فليس بمندرج في قوله (وَراءَ ذلِكَ) ألا ترى أن محل ما أبيح وهو نساؤهم بنكاح أو تسرّ فالذي وراء ذلك هو من جنس ما أحل لهم وهو النساء ، فلا يحل لهم شيء منهن إلّا بنكاح أو تسر ، والظاهر أن نكاح المتعة لا يندرج تحت قوله (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) لأنها ينطلق عليها اسم زوج. وسأل الزهري القاسم بن محمد عن المتعة فقال : هي محرمة في كتاب الله وتلا (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الآية ولا يظهر التحريم في هذه الآية.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية لأمانتهم بالإفراد وباقي السبعة بالجمع ، والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد ، فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل ، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس. والأمانة : هي الشيء المؤتمن عليه ومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى ، والأمانة أيضا المصدر وقال تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٢)

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٧ ، وسورة المعارج ٧٠ / ٣١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٨.

٥٤٩

والمؤدى هو العين المؤتمن عليه أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر. وقرأ الإخوان على صلاتهم بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع. والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولا بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية ، وثنى بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت. قال الزمخشري : ووحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت ، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على إعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل.

(أُولئِكَ) أي الجامعون لهذه الأوصاف (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء أن يسموا ورّاثا دون من عداهم ، ثم ترجم الوارثين بقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر ، ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم انتهى. وتقدم الكلام في (الْفِرْدَوْسَ) في آخر الكهف.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) الآية لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة. وقال ابن عطية : هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة ، وإن تباينت في المعاني انتهى. وقد بيّنا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات. و (الْإِنْسانَ) هنا. قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين (ثُمَّ جَعَلْناهُ) عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلّا له ونظيره (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١) أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله. وعن ابن عباس أيضا أن (الْإِنْسانَ) ابن آدم و (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس ، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين. وقال الزمخشري : خلق جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى. فجعل الإنسان جنسا باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و (مِنْ) الأولى لابتداء الغاية و (مِنْ) الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله (مِنَ الْأَوْثانِ) (٢) انتهى. ولا تكون للبيان إلّا على تقدير

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٣٢.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.

٥٥٠

أن تكون السلالة هي الطين ، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية. والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم. والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه ، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة.

وقرأ الجمهور عظاما و (الْعِظامَ) الجمع فيهما. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن عليّ بالإفراد فيهما. وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني. وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس. وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى. وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلّا في الضرورة وأنشدوا :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد ، هو نفخ الروح فيه. وقال ابن عباس أيضا : خروجه إلى الدنيا. وقالت فرقة : نبات شعره. وقال مجاهد : كمال شبابه. وقال ابن عباس أيضا تصرفه في أمور الدنيا. قال ابن عطية : وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك ، وأول رتبه من كونه آخر نفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى. ملخصا وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس ، ويدل عليه قوله بعد ذلك (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ).

وقال الزمخشري ما ملخصه : (خَلْقاً آخَرَ) مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا ناطقا سميعا بصيرا ، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، وقد احتج أبو حنيفة بقوله (خَلْقاً آخَرَ) على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ. وقال (أَنْشَأْناهُ) جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاء له. قيل : وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط ، وقد بيّن تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم ، وتبارك فعل ماض لا يتصرف. ومعناه تعالى وتقدس و (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أفعل

٥٥١

التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب (أَحْسَنُ) صفة ، ومن قال غير محضة أعربه بدلا. وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين ، ومعنى (الْخالِقِينَ) المقدرين وهو وصف يطلق على غير الله تعالى كما قال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

قال الأعلم : هذا مثل ضربه يعني زهيرا ، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع. والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه. وقال ابن عطية : معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا خلقه وأنشد بيت زهير. قال : ولا تنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع. وقال ابن جريج : قال (الْخالِقِينَ) لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه ، أي (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) خلقا أي المقدرين تقديرا. وروي أن عمر لما سمع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إلى آخره قال (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فنزلت. وروي أن قائل ذلك معاذ. وقيل : عبد الله بن أبي سرح ، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحسن إسلامه.

وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة ، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات. قال الفراء : إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك ، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع ، يعني أنه لا يقال لمن مات مائت. وقال الزمخشري : والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة ، وأما المائت فيدل على الحدوث ، تقول : زيد مائت الآن ومائت غدا كقولك : يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) (١) انتهى. والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء (خَلْقاً آخَرَ) أي وانقضاء مدّة حياتكم.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولا ، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد ، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى (تُبْعَثُونَ)

__________________

(١) سورة هود : ١٢ / ١١.

٥٥٢

للجزاء فإن قلت : الموت مقطوع به عند كل أحد ، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعا به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب : أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيها للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه ، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى ، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي ، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكدا مبالغا فيه ليقصر ، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء ، ولم تؤكد جملة البعث إلّا بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارا وإنه حتم لا بد من كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان ، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله (لَمَيِّتُونَ) ولم تدخل في (تُبْعَثُونَ) فأجبت : بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالبا فلا تجامع يوم القيامة ، لأن أعمال (تُبْعَثُونَ) في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال ، وإنما قلت غالبا لأنه قد جاءت قليلا مع الظرف المستقبل كقوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ).

لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و (سَبْعَ طَرائِقَ) السموات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض ، طارق النعل جعله على نعل ، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجّاج كقوله (طِباقاً) (٢). وقيل : لأنها طرائق الملائكة في العروج. وقيل : لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها. وقيل : لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى. قال ابن عطية : ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء.

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٤ / ١٦.

(٢) سورة الملك : ٧ / ٣ ، وسورة نوح : ٧١ / ١٥.

٥٥٣

(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم ، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء (بِقَدَرٍ) بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا مقره في الأرض. وعن ابن عباس : أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل. وفي قوله (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض ، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه. قال الزمخشري : (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى. و (ذَهابٍ) مصدر ذهب ، والباء في (بِهِ) للتعدية مرادفة للهمزة كقوله (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) (١) أي لأذهب سمعهم. وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم ، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٢) وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلّا وهو من السماء. قال ابن عطية : ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلّا فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض ، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى. وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر ، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقيا على حاله ما انتفع به من ملوحته.

ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ، ووصف النخل والعنب بقوله (لَكُمْ فِيها) إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وعنبا وتمرا وزبيبا ، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا ، ويحتمل أن يكون قوله (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يغتلها ، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه. كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري. وقال الطبري : وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠١.

(٢) سورة الملك : ٦٧ / ٣٠.

٥٥٤

بالطائف والمدينة وغيرهما ، والضمير في (لَكُمْ فِيها) عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات ، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب.

وعطف (وَشَجَرَةً) على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام. وقال الجمهور (سَيْناءَ) اسم الجبل كما تقول : جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص. وقال مجاهد : معنى (سَيْناءَ) مبارك. وقال قتادة : معناه الحسن والقولان عن ابن عباس. وقيل الحسن بالحبشة. وقيل : بالنبطية. وقال معمر عن فرقة : معناه ذو شجر. وقيل : (سَيْناءَ) اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده قاله مجاهد أيضا. وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين وهي لغة لبني كنانة. وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح وهي لغة سائر العرب. وقرأ سيني مقصورا وبفتح السين والأصح أن (سَيْناءَ) اسم بقعة وأنه ليس مشتقا من السناء لاختلاف المادتين على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء.

وقرأ الجمهور (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الباء والباء في (بِالدُّهْنِ) على هذا باء الحال أي (تَنْبُتُ) مصحوبة (بِالدُّهْنِ) أي ومعها الدهن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء ، فقيل (بِالدُّهْنِ) مفعول والباء زائدة التقدير تنبت الدهن. وقيل : المفعول محذوف أي (تَنْبُتُ) جناها و (بِالدُّهْنِ) في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل : أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال ، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير :

قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

بلفظ أنبت. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنيا للمفعول و (بِالدُّهْنِ) حال. وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن بالنصب. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف ، وما رووا من قراءة عبد الله يخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ، ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور والصبغ الغمس والائتدام.

وقال مقاتل : الصبغ الزيتون والدهن الزيت جعل تعالى في هذه الشجرة تأدما ودهنا. وقال الكرماني : القياس أن يكون الصبغ غير الدهن لأن المعطوف غير المعطوف عليه. وقرأ الأعمش وصبغا بالنصب. وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف ، فالنصب عطف على

٥٥٥

موضع (بِالدُّهْنِ) كان في موضع الحال أو في موضع المفعول ، والصباغ كالدبغ والدباغ وفي كتاب ابن عطية. وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا (لِلْآكِلِينَ) كأنه يريد تفسير الصبغ.

ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه‌السلام ، ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) (١) قيل : وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل ، وأدرج باقي المنافع في قوله (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن (الْفُلْكِ) سفائن البحر. قال ذو الرمة :

سفينة بر تحت خدي زمامها

يريد صيدح ناقته.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).

لما ذكر أولا بدء الإنسان وتطوّره في تلك الأطوار ، وما امتن به عليه مما جعله تعالى سببا لحياتهم ، وإدراك مقاصدهم ، ذكر أمثالا لكفار قريش من الأمم السابقة المنكرة لإرسال الله رسلا المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله ، فابتدأ قصة نوح لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولا آدم في قوله (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٢) ولقصته أيضا مناسبة بما قبلها إذ قبلها (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٣) فذكر قصة من صنع الفلك أولا وأنه كان سبب نجاة من

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٢.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٢.

٥٥٦

آمن وهلك من لم يكن فيه الفلك من نعمة الله ، كل هذه القصص يحذر بها قريشا نقم الله ويذكرهم نعمه.

(ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفردا بالإلهية فكأنها تعليل لقوله (اعْبُدُوا اللهَ ... أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره (فَقالَ الْمَلَأُ) أي كبراء الناس وعظماؤهم ، وهم الذين هم أعصى الناس وأبعدهم لقبول الخير. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي مساويكم في البشرية. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) له (١) اختصاص بالرسالة.

(يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) (٢) (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر ، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه‌السلام ، وأن تكون إلى ما كلمهم به من الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم ، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر ، وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر. وقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا) الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلّا فنبوّة إدريس وآدم لم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه ، ولهذا قالوا (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) أي انتظروا حاله حتى يجلى أمره وعاقبة خبره.

فدعا ربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه. وقال الزمخشري : يدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه ، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣) انتهى.

وقرأ أبو جعفر وابن محيصن (قالَ رَبِ) بضم الباء ، وتقدم توجيهه في قوله (قالَ رَبِّ احْكُمْ) (٤) بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذه الآية في سورة هود ، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق ، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٥ / ٦.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٧٨.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٩.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ١١٢.

٥٥٧

الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم. قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلّا ملك أو نبي انتهى.

ثم أمره أن يدعوه بأنه ينزله (مُنْزَلاً مُبارَكاً) قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة. وقيل : عند الخروج منها. وقرأ الجمهور (مُنْزَلاً) بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدرا ومكانا أي إنزالا أو موضع إنزال. وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان : بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول (إِنَّ فِي ذلِكَ) خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أي إن في ما جرى على هذه أمّة نوح لدلائل وعبرا (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١).

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح ، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه‌السلام وهو قول الأكثرين. وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري : هم ثمود ، والرسول صالح عليه‌السلام هلكوا بالصيحة. وفي آخر القصة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف ، وفي هود ، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح. وقال تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (٢) والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كإخوانه وجه ، وأنفذ وبعث وهنا عدّي بفي ، جعلت الأمة موضعا للإرسال كما قال رؤبة :

أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ١٥.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٦٩.

٥٥٨

وجاء بعث كذلك في قوله (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ) (١) (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٢) و (أَنِ) في (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا (وَقالَ الْمَلَأُ) بالواو. وفي الأعراف وسورة هود في قصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله ، أي اجتمع قوله الذي هو حق ، وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر ، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت (بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها (وَأَتْرَفْناهُمْ) أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم ، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين ، وكان العطف مشعرا بغلبة التكذيب والكفر ، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم ، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم ، وأن تكون جملة حالية أي وقد (أَتْرَفْناهُمْ) أي (كَذَّبُوا) في هذه الحال ، ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي (كَذَّبُوا) في حال الإحسان إليهم ، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي.

وقوله (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم ، وأن لا مزية له عليهم ، والظاهر أن ما موصولة في قوله (مِمَّا تَشْرَبُونَ) وأن العائد محذوف تقديره (مِمَّا تَشْرَبُونَ) منه لوجود شرائط الحذف ، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله : مررت بالذي مررت ، وحسن هذا الحذف ورجحه كون (تَشْرَبُونَ) فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله (مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) على حذف أي (مِمَّا تَشْرَبُونَ) منه ، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة لأن ما إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى. يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه ، فيكون المحذوف ضميرا متصلا وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلّا أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال (مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) فعداه بمن التبعيضية ، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير (مِمَّا تَشْرَبُونَ) منه ، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح.

وقال الزمخشري : حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨٤.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٥١.

٥٥٩

عليه انتهى. فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم.

وقال الزمخشري (إِذاً) واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى. وليس (إِذاً) واقعا في جزاء الشرط بل واقعا بين (إِنَّكُمْ) والخبر و (إِنَّكُمْ) والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة ، ولو كانت (إِنَّكُمْ) والخبر جوابا للشرط للزمت الفاء في (إِنَّكُمْ) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلّا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ. واختلف المعربون في تخريج (أَنَّكُمْ) الثانية ، والمنقول عن سيبويه أن (أَنَّكُمْ) بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد ، وخبر (أَنَّكُمْ) الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره إنكم تبعثون (إِذا مِتُّمْ) وهذا الخبر المحذوف هو العامل في (إِذا) وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن (أَنَّكُمْ) الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار ، وعلى هذا يكون (مُخْرَجُونَ) خبر (أَنَّكُمْ) الأولى ، والعامل في (إِذا) هو هذا الخبر ، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى. وذهب الأخفش إلى أن (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره : يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبرا لأنكم ، ويكون جواب (إِذا) ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر (أَنَّكُمْ) ويكون عاملا في (إِذا).

وذكر الزمخشري قول المبرد بادئا به فقال : ثنى (أَنَّكُمْ) للتوكيد ، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و (مُخْرَجُونَ) خبر عن الأول وهذا قول المبرد. قال الزمخشري : أو جعل (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ و (إِذا مِتُّمْ) خبرا على معنى إخراجكم إذا متم ، ثم أخبر بالجملة عن (أَنَّكُمْ) انتهى. وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه. قال : أو رفع (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) بفعل هو جزاء الشرط كأنه قيل (إِذا مِتُّمْ) وقع إخراجكم انتهى. وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبرا عن (أَنَّكُمْ) ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه ، وأن يكون خبر (أَنَّكُمْ) ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في (إِذا) وفى قراءة عبد الله أيعدكم إذا متم بإسقاط (أَنَّكُمْ) الأولى.

وقرأ الجمهور (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) بفتح التاءين وهي لغة الحجاز. وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. وقرأ أبو حيوة بضمهما من

٥٦٠