البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

فسادهم ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم : (قَوْلاً مَيْسُوراً) يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية.

وقال الزمخشري : وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ولا تتركهم غير مجابين إذا سألوك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء ، ويجوز أن يكون معنى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة ، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير ، قال : وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم ، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله ، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار. وأجاز الزمخشري أن يكون (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ، وقدم عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك ، أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى. وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالدا أن تقول : إن يقم خالدا فاضرب ، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالدا فمذهب سيبويه والكسائي الجواز ، فتقول : إن يقم خالدا نضرب ، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعا نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعا بيفعل ، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعا بفعل يفسره يفعل كأنك قلت : إن تفعل يفعل زيد يفعل ، ومنع ذلك الكسائي والفراء. وقال ابن جبير : الضمير في (عَنْهُمُ) عائد على المشركين ، والمعنى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم ، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازما ومتعدّيا فميسور من المتعدّي تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته. قال الزمخشري : يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله :

ليكن لديك لسائل فرج

إن لم يكن فليحسن الردّ

٤١

وقال آخر

إن لم يكن ورق يوما أجود به

للسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي

إما نوالي وإما حسن مردودي

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الآية. قيل : نزلت في إعطائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عريانا. وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وعيينة مثل ذلك ، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت ، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول ، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد ، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء ، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها ، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام. فقال في المعتصم :

تعوّد بسط الكف حتى لوانّه

ثناها لقبض لم تجبه أنامله

وقال الزمخشري : هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والإقتار انتهى. والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلّا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يدّخر شيئا لغد ، وكذلك من كان واثقا بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله. وقال ابن جريج وغيره : المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق (وَلا تَبْسُطْها) فيما نهيتك عنه وروي عن قالون : كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين ، فالملوم راجع لقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ). كما قال الشاعر :

إن البخيل ملوم حيث كان

ولكن الجواد على علّانه هرم

والمحسور راجع لنوله (وَلا تَبْسُطْها) وكأنه قيل فتلام وتحسر ، ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ، ولكن لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده ، أو يكون المعنى القبض والبسط من مشيئة الله ، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله (خَبِيراً) وهو العلم بخفيات الأمور (بَصِيراً) أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم.

٤٢

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً).

لما بيّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد ، وتقدم تفسير نظير هذه الآية ، والفرق بين (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ومن إملاق وبين قوله : (نَرْزُقُهُمْ) ونرزقكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب (وَلا تَقْتُلُوا) بالتضعيف. وقرىء (خَشْيَةَ) بكسر الخاء ، وقرأ الجمهور (خِطْأً) بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما. وقال النحاس : لا أعرف لهذه القراءة وجها ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. وقال الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر :

تخاطأت النبل أخشاه

وأخر يومي فلم يعجل

وقول الآخر في كمأة

تخاطأه القناص حتى وجدته

وخرطومه في منقع الماء راسب

فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل. وقرأ ابن ذكوان (خِطْأً) على وزن نبأ. وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جنّي. وقال أبو حاتم : هي غلط غير جائز ولا يعرف هذا في اللغة ، وعنه أيضا خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفا وذهبت لالتقائهما. وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلّا أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىء في الدين وأخطأ في الرأي ، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر (خِطْأً) بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر.

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) : لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة ، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا ، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة ، هكذا نقل اللغويون. ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق :

٤٣

أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

ويروى أبا خالد. وقال آخر :

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزناء فريضة الرجم

وكان المعنى لم يزل أي لم يزل (فاحِشَةً) أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح (وَساءَ سَبِيلاً) أي وبئس طريقا طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار. وقال ابن عطية : و (سَبِيلاً) نصب على التمييز التقدير ، وساء سبيله انتهى. وإذا كان (سَبِيلاً) نصبا على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في (ساءَ) ، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده ، والمخصوص بالذم محذوف ، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلا لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميرا يراد به الجنس مفسرا بالتمييز ، ويبقى التقدير أيضا عاريا عن المخصوص بالذم ، وتقدّم تفسير قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (١) في أواخر الأنعام قال الضحاك : هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى.

ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام ، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله : (وَقَضى رَبُّكَ) كاندراج (أَلَّا تَعْبُدُوا) (٢) وانتصب (مَظْلُوماً) على الحال من الضمير المستكن في (قُتِلَ) والمعنى أنه قتل بغير حق ، (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) وهو الطالب بدمه شرعا ، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم ، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا. وقال مالك : ليس للنساء شيء من القصاص ، وإنما القصاص للرجال. وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم : ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة : السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية. وقال ابن عباس : البيّنة في طلب القود. وقال الحسن القود. وقال مجاهد الحجة. وقال ابن زيد : الوالي أي واليا ينصفه في حقه ، والظاهر عود الضمير في (فَلا يُسْرِفْ) على الولي ، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥١.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٣.

٤٤

القاتل قاله ابن عباس والحسن ، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير ، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد ، أو يمثل قاله قتادة ، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج.

وقال أبو عبد الله الرازي : السلطنة مجملة يفسرها (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) (١) الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه‌السلام يوم الفتح : «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية». فمعنى (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) لا يقدم على استيفاء القتل ، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفا بسبب إقدامه على القتل ، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢) انتهى ملخصا. ولو سلم أن (فِي) بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى ، لأن من قتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقا بقتله ، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد ، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله. وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤ بشسع نعل كليب.

وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في (فَلا يُسْرِفْ) ليس عائدا على الولي ، وإنما يعود على العامل الدال عليه ، ومن قتل أي لا يسرف في القتل تعديا وظلما فيقتل من ليس له قتله. وقرأ الجمهور (فَلا يُسْرِفْ) بياء الغيبة. وقرأ الإخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة ، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له. وقال الطبري : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى. قال ابن عطية : وقرأ أبو مسلم السّراج صاحب الدعوة العباسية. وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة. وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة : (فَلا يُسْرِفْ) بضم الفاء على الخبر ، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر. وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا انتهى. رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد ، ولأن المستفيض عنه (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) كقراءة الجماعة والضمير في (إِنَّهُ) عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق. وقيل :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٧.

٤٥

يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا ، ونصره بالثواب في الآخرة. قال ابن عطية : وهو أرجح لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه‌السلام : «ونصر المظلوم وإبرار القسم» وكقوله : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» إلى كثير من الأمثلة. وقيل : على القتل. وقال أبو عبيد : على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد القصد. وقال الزمخشري : وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى. وهذا بعيد جدا.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال : «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم».

لما كان اليتيم ضعيفا عن أن يدفع عن ماله لصغره نص على النهي عن قربان ماله ، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) عام فيما عقده الإنساب بينه وبين ربه ، أو بينه وبين ربه ، أو بينه وبين آدمي في طاعة (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) ظاهره أن العهد هو المسئول من المعاهد أن يفي به ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل ، كأنه يقال للعهد : لم نكثت ، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه ، كما جاء (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (١) فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب. وقيل : هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولا عنه إن لم يف به.

ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم ، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال. وفي قوله (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري. وقال الحسن : (بِالْقِسْطاسِ) القبان وهو القلسطون ويقال القرسطون. وقال مجاهد : (بِالْقِسْطاسِ) العدل لا أنه آلة. وقرأ الإخوان وحفص بكسر القاف ، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان. وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صادا. قال ابن عطية : واللفظية للمبالغة من القسط انتهى. ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط ، وذلك مادته ق س ط س إلّا إن اعتقد زيادة السين آخرا كسين قدموس وضغيوس وعرفاس ، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله : (إِذا

__________________

(١) سورة التكوير : ٨١ / ٨.

٤٦

كِلْتُمْ) أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد ، وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل به بنقصان ما ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل.

(ذلِكَ خَيْرٌ) أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي عاقبة ، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهو من المآل وهو المرجع كما قال : خير مردا ، خير عقبا ، خير أملا وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف ، فعوّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء ، الإيفاء بالعهد ، والإيفاء بالكيل ، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه : (وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وَلا تَجْعَلْ). ومعنى (وَلا تَقْفُ) لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم ، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته. وقال ابن عباس : معناه لا ترم أحدا بما لا تعلم. وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه. وقال محمد بن الحنيفة : لا تشهد بالزور. وقال ابن عطية : ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى. وفي الحديث : «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتي بالمخرج». وقال في الحديث أيضا : «نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا». ومنه قول النابغة الجعدي :

ومثل الدمى شم العرانين ساكن

بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا

وقال الكميت

فلا أرمي البريء بغير ذنب

ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوما ، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع. فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع. قال الزمخشري : وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم ، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر

٤٧

بالعمل به انتهى. وقرأ الجمهور : (وَلا تَقْفُ) بحذف الواو للجزم مضارع قفا. وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو. كما قال الشاعر :

هجوت زبان ثم جئت معتذرا

من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم. وقرأ معاذ القارئ : (وَلا تَقْفُ) مثل تقل ، من قاف يقوف تقول العرب : قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب ، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها ، وليس قاف مقلوبا من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح. وقرأ الجرّاح العقيلي : (وَالْفُؤادَ) بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في (الْفُؤادَ) وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه. قال الحوفي : يتعلق بما تعلق به (لَكَ) وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول ، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ، ثم يليه البصر ، ثم يليه الفؤاد. و (أُولئِكَ) إشارة إلى (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره. وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل. فقال : وعبر عن (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل ، ولذلك عبر عنها بأولئك. وقد قال سيبويه رحمه‌الله في قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١) إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل.

وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري :

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى. وليس ما تخيله صحيحا ، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلّا ما روي ، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافا فيه ، و (كُلُ) مبتدأ والجملة خبره ، واسم (كانَ) عائد على (كُلُ) وكذا الضمير في (مَسْؤُلاً). والضمير في (عَنْهُ) عائد على ما من قوله (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فيكون المعنى أن كل واحد من (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤.

٤٨

لا علم له به. وهذا الظاهر. وقال الزجاج : يستشهد بها كما قال (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) (١). وقال القرطبي في أحكامه : يسأل الفؤاد عما اعتقده ، والسمع عما سمع ، والبصر عما رأى. وقال ابن عطية : إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي. وقيل : الضمير في (كانَ) و (مَسْؤُلاً) عائدان على القائف ما ليس له به علم ، والضمير في (عَنْهُ) عائد على (كُلُ) فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولا.

وقال الزمخشري : و (عَنْهُ) في موضع الرفع بالفاعلية ، أي كل واحد منها كان مسؤولا عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (٢) يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من أن (عَنْهُ) في موضع الرفع بالفاعلية ، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل ، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه ، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت. وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه ، فليس (عَنْهُ مَسْؤُلاً) كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في (عَنْهُ مَسْؤُلاً) وتأخيره في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وقول الزمخشري : ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى ، وهو لا يجوز إلّا إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى.

وانتصب (مَرَحاً) على الحال أي (مَرَحاً) كما تقول : جاء زيد ركضا أي راكضا أو على حذف مضاف أي ذا مرح ، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولا من أجله أي (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) للمرح ولا يظهر ذلك ، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ، ولذلك بقوله

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢٤.

(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٧.

٤٩

علل (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ). وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب : (مَرَحاً) بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبرا مختالا. قال مجاهد : لن تخرق بمشيك على عقبيك كبرا وتنعما ، (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ) بالمشي على صدور قدميك تفاخرا و (طُولاً) والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال. وقال الزجاج : (لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) مختالا فخورا ، ونظيره : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (١) و (اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢). وقال الزمخشري : (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها وشدّة وطئك ، (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) بتطاولك وهو تهكّم بالمختال. وقرأ الجراح الأعرابي : (لَنْ تَخْرِقَ) بضم الراء. قال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة. وقيل : أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر. وقال الشاعر :

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع

والأجود انتصاب قوله (طُولاً) على التمييز ، أي لن يبلغ طولك الجبال. وقال الحوفي : (طُولاً) نصب على الحال ، والعامل في الحال (تَبْلُغَ) ويجوز أن يكون العامل تخرق ، و (طُولاً) بمعنى متطاول انتهى. وقال أبو البقاء : (طُولاً) مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، ويجوز أن يكون تمييزا ومفعولا له ومصدرا من معنى تبلغ انتهى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث. وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق سيئة بضم الهمزة مضافا لهاء المذكر الغائب. وقرأ عبد الله سيئاته بالجمع مضافا للهاء ، وعنه أيضا سيئات بغيرها ، وعنه أيضا كان خبيثه. فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين ، وهما قفو ما ليس له به علم ، والمشي في الأرض مرحا. وقيل : إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة ، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروها فذكر. قال الزمخشري : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب ، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئا ، ألا تراك تقول : الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى. وهو تخريج حسن.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧ / ٦٣.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ١٩.

٥٠

وقيل : ذكر (مَكْرُوهاً) على لفظ (كُلُ) وجوزوا في (مَكْرُوهاً) أن يكون خبرا ثانيا لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان ، وأن يكون بدلا من سيئة والبدل بالمشتق ضعيف ، وأن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة. قيل : ويجوز أن يكون نعتا لسيئة لما كان تأنيثها مجازيا جاز أن توصف بمذكر ، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم ، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح ، تقول : أبقل الأرض إبقالها فصيحا والأرض أبقل قبيح ، وأما من قرأ (سَيِّئُهُ) بالتذكير والإضافة فسيئة اسم (كانَ) و (مَكْرُوهاً) الخبر ، ولما تقدم من الخصال ما هو سيىء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه ، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات. وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله :

فإن الحوادث أودى بها

لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضا كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ـ إلى قوله ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) (١) وهي أربعة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله (لا تَجْعَلْ). واختتم الآيات بقوله (وَلا تَجْعَلْ) وقال : مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذ أوحى إليه بتكاليف أخر ، و (مِمَّا أَوْحى) خبر عن ذلك ، و (مِنَ الْحِكْمَةِ) يجوز أن يكون متعلقا بأوحى وأن يكون بدلا من ما ، وأن يكون حالا من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ.

وعن ابن عباس : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه‌السلام ، أولها (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) وكرر تعالى النهي عن الشرك ، ففي النهي الأول. (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٣) وفي الثاني (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموما أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر ، وكونه ملوما أن يقال له بعد

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٥.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ١٨.

٥١

الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفدت منه إلّا إلحاق الضرر بنفسك ، فأول الأمر الذم وآخره اللوم ، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه ، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به ، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهانا. وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ، ولذلك جاء (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ) والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول. وقال الزمخشري : ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

لما نبه تعالى على فساد من أثبت لله شريكا ونظيرا أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولدا ، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى (أَفَأَصْفاكُمْ) آثركم وخصكم وهذا كما قال : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (١) وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات. ومعنى (عَظِيماً) مبالغا في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون ، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة. ومعنى (صَرَّفْنا) نوّعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال ، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين. وقرأ الجمهور (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) بتشديد الراء. فقال : لم نجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ، ومحكما ومتشابها ، وأمرا ونهيا ، وناسخا ومنسوخا ، وأخبارا وأمثالا مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال ، ومفعول (صَرَّفْنا) على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي : صرّفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام.

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٢١.

٥٢

وقيل : المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوما ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي (صَرَّفْنا) جبريل.

وقيل : (فِي) زائدة أي (صَرَّفْنا هذَا الْقُرْآنِ) كما قال (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) (١) وهذا ضعيف لأن في لا تزاد. وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات لأنه مما صرفه وكرر ذكره ، والمعنى ولقد (صَرَّفْنا) القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير ، ويجوز أن يشير بهذا (الْقُرْآنِ) إلى التنزيل ، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل ، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى. فجعل التصريف خاصا بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول (صَرَّفْنا) أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهو الضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عامّا في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره. وقرأ الحسن بتخفيف الراء. فقال صاحب اللوامح : هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور ، قال : لأن فعل وفعل ربما تعاقبا على معنى واحد. وقال ابن عطية : على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله.

وقرأ الجمهور (لِيَذَّكَّرُوا) أي ليتذكروا من التذكير ، أدغمت التاء في الذال. وقرأ الإخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف من الذكر أو الذكر ، أي ليعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه (وَما يَزِيدُهُمْ) أي التصريف (إِلَّا نُفُوراً) أي بعدا وفرارا عن الحق كما قال : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٢) وقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (٣) والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس ، ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم في ذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة وردّ عليهم.

وقرأ ابن كثير وحفص (كَما يَقُولُونَ) بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء. ومعنى (لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو عليّ الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره ، وعلى هذا تكون الآية بيانا للتمانع كما في قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٤) ويأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى. وقال قتادة ما معناه : لابتغوا

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٥.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٥.

(٣) سورة المدثر : ٧٤ / ٤٩.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.

٥٣

إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه ، وكانوا يقولون : إن الأصنام تقربهم إلى الله فإذا علموا أنها تحتاج إلى الله فقد بطل كونها آلهة ، ويكون كقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (١) أيهم أقرب ، والكاف من (كَما) في موضع نصب. وقال الحوفي : متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و (مَعَهُ) خبر كان. وقال أبو البقاء : كونا لقولكم.

وقال الزمخشري : و (إِذاً) دالة على أن ما بعدها وهو (لَابْتَغَوْا) جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو انتهى. وعطف (وَتَعالى) على قوله (سُبْحانَهُ) لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو في معنى الفعل ، أي براءة الله وقدر تنزه وتعالى يتعلق به عن على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن كما في قوله (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢) والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان. وقرأ الإخوان : عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء. وانتصب (عُلُوًّا) على أنه مصدر على غير الصدر أي تعاليا ووصف تكبيرا مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة ، ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة ، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقا وهذا هو ظاهر اللفظ ، ولذلك جاء (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وقال بعضهم : ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة ، وبه قال عكرمة قال : الشجرة تسبّح والأسطوانة لا تسبّح.

وسئل الحسن عن الخوان أيسبّح؟ فقال : قد كان تسبّح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرة كان يسبّح ، وحين صار خوانا مدهونا صار جمادا لا يسبّح. وقيل : التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبّح بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله ، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه الله عما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها. ويكون قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) خطابا للمشركين ، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه الله لكنهم لما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه ، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السموات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدرا مشتركا بين الجميع ، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٥٧.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٨٠.

٥٤

يحمل نسبته إلى السموات والأرض على المجاز ، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعا بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد.

وقال ابن عطية ثم أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى. ويعني بالضمير في قوله (وَمَنْ فِيهِنَ) وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلّا لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقا. وقرأ النحويان وحزة وحفص : تسبّح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء ، وفي بعض المصاحف سبّحت له السموات بلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد الله والأعمش وطلحة بن مصرف. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم (غَفُوراً) إن رجعتم ووحدتم الله تعالى.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً).

نزلت (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب ، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن ، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي : وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب ، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده ، فقالت : هجاني صاحبك ، قال : ما هو بشاعر ، قالت : قال (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (١) وما يدريه ما في جيدي؟ فقال لأبي بكر : «سلها هل ترى غيرك فإن ملكا لم يزل يسترني عنها» فسألها فقالت : أتهزأ بي ما أرى غيرك؟ فانصرفت ولم تر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نزلت في قوم من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة ، فحال الله بينهم وبين أذاه.

ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد ، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق

__________________

(١) سورة المسد : ١١ / ٥.

٥٥

عليه الاسم ، فإنك تقول لمن يقرأ شيئا من القرآن هذا يقرأ القرآن ، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه. وقيل : ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ) ـ إلى ـ (الْغافِلُونَ) (١) وفي الكهف (فَمَنْ أَظْلَمُ) ـ إلى ـ (إِذاً أَبَداً) (٢) وفي الجاثية (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ـ إلى ـ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣) وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات ، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت ، وعن بعضهم أنه أسر زمانا ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه. قال القرطبي : ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٤) ففي السيرة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس ، ولم يبق أحد منهم إلّا وضع على رأسه ترابا. والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول.

وقال قتادة والزّجاج وجماعة ما معناه : (جَعَلْنا بَيْنَكَ) فهم ما تقرأ وبينهم (حِجاباً) فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث ، فالمعنى قريب من الآية بعدها ، والظاهر إقرار (مَسْتُوراً) على موضوعه من كونه اسم مفعول أي (مَسْتُوراً) عن أعين الكفار فلا يرونه ، أو (مَسْتُوراً) به الرسول عن رؤيتهم. ونسب الستر إليه لما كان مستورا به قاله المبرد ، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقالوا : رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته ، ومكان مهول أي ذو هول ، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية. وقال الأخفش وجماعة (مَسْتُوراً) ساترا واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويأمن. وقيل : مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) تقدم تفسيره في أوائل الأنعام (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ). قيل : دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال : «يا معشر قريش قولوا لا إله إلّا الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم» فولوا وانفروا فنزلت هذه الآية. والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله ، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكارا له واستبشاعا لرفض آلهتهم واطّراحها.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٠٨.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥٧.

(٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٣.

(٤) سورة يس : ٣٦ / ٩.

٥٦

وقال الزمخشري : وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة و (وَحْدَهُ) من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال ، أصله يحد وحده بمعنى واحدا انتهى. وما ذهب إليه من أن (وَحْدَهُ) مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و (وَحْدَهُ) عند سيبويه ليس مصدرا بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد ، وإيحاد موضوع موضع موحد. وذهب يونس إلى أن (وَحْدَهُ) منصوب على الظرف ، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له ، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة ، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو. وإذا ذكرت (وَحْدَهُ) بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيدا فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي موحدا له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالا من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ) موحدا له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحدا بالذكر.

و (نُفُوراً) حال جمع نافر كقاعد وقعود ، أو مصدر على غير الصدر لأن معنى (وَلَّوْا) نفروا ، والظاهر عود الضمير في (وَلَّوْا) على الكفار المتقدم ذكرهم. وقالت فرقة : هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر. وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله : ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلّا الله ثم تلا (وَإِذا ذَكَرْتَ) الآية. وقال علي بن الحسين : هو البسملة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو ، كان إذا قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وبما متعلق بأعلم ، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعديا لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب ، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول : ما أعلم زيدا بكذا وما أجهله بكذا ، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه ، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام ، تقول : ما أضرب زيدا لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر. وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول : يستمعون بالهزء أي هازئين و (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون ، إذ هم ذوو نجوى (إِذْ يَقُولُ) بدل من (إِذْ هُمْ) انتهى.

٥٧

وقال الحوفي : لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط ، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور ، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى. وقال أبو البقاء : يستمعون به. قيل : الباء بمعنى اللام ، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى ، والنجوى مصدر ، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى ، وإذ بدل من (إِذْ) الأولى. وقيل : التقدير اذكر إذ تقول. وقال ابن عطية : الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي ، والمراد الاستخفاف والإعراض فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم والعامل في (إِذْ) الأولى وفي المعطوف (يَسْتَمِعُونَ) الأولى انتهى. تناجوا فقال النضر : ما أفهم ما تقول ، وقال أبو سفيان : أرى بعضه حقا ، وقال أبو جهل : مجنون ، وقال أبو لهب : كاهن ، وقال حويطب : شاعر ، وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وبعضهم إنما يعلمه بشر ، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. فتناجوا يقولون ساحر مجنون ، والظاهر أن (مَسْحُوراً) من السحر أي خبل عقله السحر. وقال مجاهد : مخدوعا نحو (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (١) أي تخدعون. وقال أبو عبيدة : (مَسْحُوراً) معناه أن له سحرا أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور. قال :

أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطعام والشراب

أي نغذى ونعلل ونسحر. قال لبيد :

فإن تسألينا فيم نحن فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحر

قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية : الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٨٩.

٥٨

السحر بكسر السين لأن (٢) في قولهم ضرب مثل ، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له ، و (الْأَمْثالَ) تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقر بها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، أو سبيلا إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك.

وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه (وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا) هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه ، واستبعدوا أنه بعد ما يصير الإنسان رفاتا يحييه الله ويعيده ، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا ، ومن قرأ من القراء إذا وإنّا معا أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقا بالبعث والنشأة الآخرة ، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى. وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا ترابا وعظاما نبعث أو نعاد ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه ، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقا حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقا.

قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ

__________________

(٢) هكذا بياض بجميع النسخ.

٥٩

النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)

٦٠