البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

النفش : رعي الماشية بالليل بغير راع ، والهمل بالنهار بلا راع ، الغوص : الدخول تحت الماء لاستخراج ما فيه. قال الشاعر :

أو درة صدفية غواصها بهج

متى يرها يهل ويسجد

النون : الحوت ويجمع على نينان ، وروي : النينان قبله الحمر. الفرج : يطلق على الحر والذكر مقابل الحر وعلى الدبر. قال الشاعر :

وأنت إذا استدبرته شد فرجه

مضاف فويق الأرض ليس بأعزل

الحدب : المسنم من الأرض كالجبل والكدية والقبر ونحوه. النسلان : مقاربة الخطو مع الإسراع قال الشاعر :

عسلان الذئب أمسى قاربا

برد الليل عليه فنسل

الحصب : الحطب بلغة الحبشة إذا رمى به في النار قبل وقبل أن يرمي به لا يسمى حصبا. وقيل : الحصب ما توقد به النار. السجل : الصحيفة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).

لما تقدم الكلام في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بثلاثة عشر نبيا غير مراعي في ذكرهم الترتيب الزماني ، وذكر بعض ما نال كثيرا منهم من الابتلاء كل ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه.

وقرأ الجمهور (رُشْدَهُ) بضم الراء وسكون الشين. وقرأ عيسى الثقفي (رُشْدَهُ) بفتح الراء والشين وأضاف الرشد إلى (إِبْراهِيمَ) بمعنى أنه رشد مثله وهو رشد الأنبياء وله شأن أيّ شأن ، والرشد النبوة والاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا ، أو هما داخلان تحت الرشد أو الصحف والحكمة أو التوفيق للخير صغيرا أقوال خمسة ، والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بنى (قَبْلُ) أي (مِنْ قَبْلُ) موسى وهارون قاله الضحاك

٤٤١

كقوله في الأنعام (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) (١) أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وأبعد من ذهب إلى أن التقدير (مِنْ قَبْلُ) بلوغه أو (مِنْ قَبْلُ) نبوته يعني حين كان في صلب آدم. وأخذ ميثاق الأنبياء ، أو من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل بخلاف (مِنْ قَبْلُ) موسى وهارون لتقدم ذكرهما. وقربه ، والضمير في (بِهِ) الظاهر أنه عائد على إبراهيم. وقيل : على الرشاء وعلمه تعالى أنه علم منه أحوالا عجيبة وأسرارا بديعة فأهله لخلته كقوله : الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه به عليه‌السلام.

ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله ورفض ما عبد من دونه. و (إِذْ) معمولة لآتينا أو (رُشْدَهُ) و (عالِمِينَ) وبمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت ، وبدأ أولا بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال ثم عطف عليه (قَوْمِهِ) كقوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢) وفي قوله (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لها. وفي خطابه لهم بقوله (أَنْتُمْ) استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم ، وعكف يتعدى بعلى كقوله (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) (٣) فقيل (لَها) هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٤) والظاهر أن اللام في (لَها) لام التعليل أي لتعظيمها ، وصلة (عاكِفُونَ) محذوفة أي على عبادتها. وقيل : ضمن (عاكِفُونَ) معنى عابدين فعداه باللام.

وقال الزمخشري : لم ينو للعاكفين محذوفا وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى.

ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت ، وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير ذكر برهان ، وما أقبح هذا التقليد الذي أدى بهم إلى عبادة خشب وحجر ومعدن ولجاجهم في ذلك ونصرة تقليدهم وكان سؤاله إياهم عن عبادة التماثيل وغايته أن يذكروا شبهة في ذلك فيبطلها ، فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه وبدا ضلالهم (قالَ : لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في حيرة واضحة لا التباس فيها ، وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقرا لهم و (أَنْتُمْ) توكيد للضمير الذي هو اسم كان قال الزمخشري :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٧.

٤٤٢

و (أَنْتُمْ) من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (١) انتهى. وليس هذا حكما مجمعا عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل المرفوع ، ولا فصل وتنظيره ذلك : باسكن أنت وزوجك الجنة مخالف لمذهبه في (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) لأنه يزعم أن وزوجك ليس معطوفا على الضمير المستكن في (اسْكُنْ) بل قوله : (وَزَوْجُكَ) مرتفع على إضمار ، وليسكن فهو عنده من عطف الجمل وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه.

ولما جرى هذا السؤال وهذا الجواب تعجبوا من تضليله إياهم إذ كان قد نشأ بينهم وجوزوا أن ما قاله هو على سبيل المزاح لا الجد ، فاستفهموه أهذا جد منه أم لعب والضمير في (قالُوا) عائد على أبيه وقومه و (بِالْحَقِ) متعلق بقولهم (أَجِئْتَنا) ولم يريدوا حقيقة المجيء لأنه لم يكن عنهم غائبا فجاءهم وهو نظير (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٢) والحق هنا ضد الباطل وهو الجد ، ولذلك قابلوه باللعب ، وجاءت الجملة اسمية لكونها أثبت كأنهم حكموا عليه بأنه لاعب هازل في مقالته لهم ولكونها فاصلة.

ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم نبه على الموجب للعبادة وهو منشىء هذا العالم ومخترعه من العدم الصرف. والظاهر أن الضمير في (فَطَرَهُنَ) عائد على السموات والأرض ، ولما لم تكن السموات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة. وقيل في (فَطَرَهُنَ) عائد على التماثيل. قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى. وقال ابن عطية : (فَطَرَهُنَ) عبارة عنها كأنها تعقل ، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل. وقال غير (فَطَرَهُنَ) أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل ، فإن الله أخبر بقوله (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطلت السماء وحق لها أن تئط». انتهى. وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلا أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله (فَلا تَظْلِمُوا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٥.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٠.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

٤٤٣

فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (١) والضمير عائد على الأربعة الحرم ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و (مِنَ) للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون ، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود. و (عَلى ذلِكُمْ) متعلق بمحذوف تقديره (وَأَنَا) شاهد (عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أو على جهة البيان أي أعني (عَلى ذلِكُمْ) أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢) وبادرهم أولا بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول ، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وقرأ الجمهور (وَتَاللهِ) بالتاء. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل. قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين التاء والباء؟ قلت : إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها ، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره ، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصا في زمن نمرود مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن :

إذا الله سنى عقد شيء تيسرا

انتهى. أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلا لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر ، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة ، ولا يقوم على ذلك دليل وقد رد هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصلا لآخر. وأما قوله : إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم.

والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد ، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ). وقيل : قال ذلك سرّا من قومه وسمعه رجل واحد. وقيل : سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٦.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢١.

٤٤٤

خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين. وقيل : اثنين وسبعين. وقرأ الجمهور (تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) مضارع ولّى. وقرأ عيسى بن عمر (تُوَلُّوا) فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين. والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (١) ومتعلق (تُوَلُّوا) محذوف أي إلى عيدكم. وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم ، وقالوا : لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا ، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال : إني سقيم. وقال الكلبي : كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم ، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه : إني أشتكي غدا وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره ، وقال (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَ) إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى.

وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) قال ابن عباس : حطاما. وقال الضحاك : أخذ من كل عضوين عضوا. وقيل : وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان ، فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه. وقيل : علقه في يده. وقرأ الجمهور (جُذاذاً) بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها ، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحطام والرفات قاله أبو حاتم. وقال اليزيدي (جُذاذاً) بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة. وقيل : بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام. وقيل : الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين. وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع. وقرأ يحيى بن وثاب : جذذا بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد. وقرئ جذذا بضم الجيم وفتح الذال مخففا من فعل كسر وفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب ، أو جمع جذة كقبة وقبب.

وأتى بضمير من يعقل في قوله (فَجَعَلَهُمْ) إذ كانت تعبد وقوله (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) استثناء من الضمير في (فَجَعَلَهُمْ) أي فلم يكسره ، والضمير في (لَهُمْ) يحتمل أن يعود

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٩٠.

٤٤٥

على الأصنام وأن يعود على عباده ، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيرا في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل ، والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجيا منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه. قال الزمخشري : وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) (١). وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي. قال الزمخشري : ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات ، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك قال : هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا ، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت : فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضا؟ قلت : إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمر عظيم.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

في الكلام محذوف تقديره : فلما رجعوا من عيدهم إلى آلهتهم ورأوا ما فعل بها استفهموا على سبيل البحث والإنكار فقالوا : (مَنْ فَعَلَ هذا) أي التكسير والتحطيم إنه لظالم في اجترائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير (قالُوا) أي قال الذين سمعوا قوله (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) (٢) (يَذْكُرُهُمْ) أي بسوء. قال الفراء : يقول الرجل للرجل لئن ذكرتني لتندمن أي بسوء. قال الزمخشري : فإن قلت : ما حكم الفعلين بعد (سَمِعْنا فَتًى) وأي فرق بينهما؟ قلت : هما صفتان لفتى إلا أن الأول وهو يذكرهم لا بد منه لسمع لأنك لا تقول : سمعت زيدا وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع ، وأما الثاني فليس كذلك انتهى.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٣.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٥٧.

٤٤٦

وأما قوله : هما صفتان فلا يتعين ذلك لما أذكره إما سمع فإما أن يدخل على مسموع أو غيره إن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو : سمعت كلام زيد ومقالة خالد ، وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها. فقيل : إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي ، ويكون الثاني مما يدل على صوت فلا يقال سمعت زيدا يركب ، ومذهب غيره أن سمع يتعدى إلى واحد والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة ، وكلا المذهبين يستدل لهما في علم النحو فعلى هذا المذهب الآخر يتمشى قول الزمخشري أنه صفة لفتى ، وأما على مذهب أبي عليّ فلا يكون إلّا في موضع المفعول الثاني لسمع.

وأما (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) فيحتمل أن يكون جوابا لسؤال مقدر لما قالوا (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) وأتوا به منكرا قيل : من يقال له فقيل له إبراهيم ، وارتفع (إِبْراهِيمُ) على أنه مقدر بجملة تحكى بقال ، إما على النداء أي (يُقالُ لَهُ) حين يدعى يا (إِبْراهِيمُ) وإما على خبر مبتدأ محذوف أي هو (إِبْراهِيمُ) أو على أنه مفرد مفعول لما لم يسم فاعله ، ويكون من الإسناد للفظ لا لمدلوله ، أي يطلق عليه هذا اللفظ وهذا الآخر هو اختيار الزمخشري وابن عطية ، وهو مختلف في إجازته فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى تجويز نصب القول للمفرد مما لا يكون مقتطعا من جملة نحو قوله :

إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

ولا مفردا معناه معنى الجملة نحو قلت : خطبة ولا مصدرا نحو قلت قولا ، ولا صفة له نحو : قلت حقا بل لمجرد اللفظ نحو قلت زيدا. ومن النحويين من منع ذلك وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال : فلان زيدا ولا قال ضرب ولا قال ليت ، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل وذهب الأعلم إلى أن (إِبْراهِيمُ) ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه ، إذ القول لا يؤثر إلّا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم : واحد واثنان إذا عدّوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير ، وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض ، والكلام على مذهب الأعلم وإبطاله مذكور في النحو.

(قالُوا فَأْتُوا) أي أحضروه (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي معاينا بمرأى منهم فعلى أعين الناس في موضع الحال و (عَلى) معناها الاستعلاء المجازي كأنه لتحديقهم إليه وارتفاع

٤٤٧

أبصارهم لرؤيته مستعل على أبصارهم (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما سمع منه أو بما صدر منه من تكسير أصنامهم ، أو يشهدون ما يحل به من عذابنا أو غلبنا له المؤدي إلى عذابه. وقيل : (النَّاسِ) هنا خواص الملك وأولياؤه وفي الكلام حذف تقديره (فَأْتُوا بِهِ) على تلك الحالة من نظر الناس إليه.

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) أي الكسر والتهشيم (بِآلِهَتِنا) وارتفاع (أَنْتَ) المختار أنه بفعل محذوف يفسره (فَعَلْتَ) ولما حذف انفصل الضمير ، ويجوز أن يكون مبتدأ وإذا تقدم الاسم في نحو هذا التركيب على الفعل كان الفعل صادرا واستفهم عن فاعله وهو المشكوك فيه ، وإذا تقدم الفعل كان الفعل مشكوكا فيه فاستفهم عنه أوقع أو لم يقع ، والظاهر أن (بَلْ) للإضراب عن جملة محذوفة أي قال لم أفعله إنما الفاعل حقيقة هو الله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وأسند الفعل إلى (كَبِيرُهُمْ) على جهة المجاز لما كان سببا في كسر هذه الأصنام هو تعظيمهم وعبادتهم له ولما دونه من الأصنام كان ذلك حاملا على تحطيمها وكسرها فأسند الفعل إلى الكبير إذ كان تعظيمهم له أكثر من تعظيمهم ما دونه ، وقال قريبا من هذا الزمخشري. ويحتمل أن يكون فعل الكبير متقيدا بالشرط فيكون قد علق على ممتنع أي فلم يكن وقع أي إن كان هؤلاء الأصنام (يَنْطِقُونَ) ويخبرون من الذي صنع بهم ذلك فالكبير هو الذي صنع ذلك وأشار إلى نحو من هذا ابن قتيبة.

وقال الزمخشري : هذا من تعاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلّا أذهان الراضة من علماء المعاني ، والقول فيه إن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ، وهذا كما قال لك صاحبك وقد كتبت إليه كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّي لا يحسن الخط أو لا يقدر إلّا على خرمشة فاسدة؟ فقلت له : بل كتبته أنت كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك ولا إثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء وإثبات للقادر ، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على هذا وأشد منه.

ويحكى أنه قال (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) هذا غضب أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها انتهى. ومن جعل الفاعل بفعله ضميرا يعود على قوله فتى أو على ابراهيم أو قال آخر بغير

٤٤٨

المطابق لمصلحة دينية ، واستدل بما روي في الحديث أو وقف على (بَلْ فَعَلَهُ) أي فعله من فعله وجعل (كَبِيرُهُمْ هذا) مبتدأ وخبرا وهو الكسائي أو أصله (فَعَلَهُ) بمعنى لعله وخفف اللام وهو الفراء مستدلا بقراءة ابن السميفع (فَعَلَهُ) بمعنى لعله مشدد اللام فهم بعداء عن طريق الفصاحة (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي إلى عقولهم حين ظهر لهم ما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أن الأصنام التي أهّلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر قبل ، ويحتمل أن يكون (فَرَجَعُوا) أي رجع بعضهم إلى بعض (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) في سؤالكم إبراهيم حين سألتموه ولم تسألوها ذكره ابن جرير ، أو حين عبدتم ما لا ينطق قاله ابن عباس ، أو حين لم تحفظوا آلهتكم قاله وهب ، أو في عبادة الأصاغر مع هذا الكبير قاله وهب أيضا ، أو حين أبهتهم إبراهيم والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق أو (الظَّالِمُونَ) حقيقة حيث نسيتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم إنه على الظالمين إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي ارتكبوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم وهي استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس على رأسه وهي أقبح هيئة للإنسان ، فكان عقله منكوس أي مقلوب لانقلاب شكله ، وجعل أعلاه أسفله فرجوعهم إلى أنفسهم كناية عن استقامة فكرهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم. ويحتمل أن يكون (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) كناية عن تطأطئ رؤوسهم وتنكيسها إلى الأرض على سبيل الخجل والانكسار مما بهتهم به إبراهيم من قول الحق ودمغهم به فلم يطيقوا جوابا.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ) جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال أي قائلين (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تقول لنا (فَسْئَلُوهُمْ) إنما قصدت بذلك توبيخا ويحتمل أن يكون النكس للفكرة فيما يجيبون به. وقال مجاهد (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي ردّت السفلة على الرؤساء و (عَلِمْتَ) هنا معلقة ، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف (نُكِسُوا) وقرأ رضوان بن المعبود (نُكِسُوا) بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم.

ولما ظهرت الحجة عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعباده تماثيل ما لا ينفع ولا يضر ،

٤٤٩

ثم أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في قراءة (أُفٍ) واللغات فيها واللام في (لَكُمْ) لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم ، هذا التأفف ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء وهو العقل فقال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار.

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ).

ولما نبههم على قبيح مرتكبهم وغلبهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والغضب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض والإتلاف بالكلية وكذا كل من أقيمت عليه الحجة وكانت له قدرة يعدل إلى المناصبة والإذاية كما كانت قريش تفعل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دمغهم بالحجة وعجزوا عن معارضة ما آتاهم به عدلوا إلى الانتقام وإيثار الاغتيال ، فعصمه الله والظاهر أن قول (قالُوا حَرِّقُوهُ) أي قال بعضهم لبعض. وقيل : أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : رجل من أعراب العجم. قال الزمخشري : يريد الأكراد. وقال ابن عطية : روي أنه رجل من الأكراد من أعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وذكروا لهذا القائل اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة لكونه ليس مضبوطا بالشكل والنقط ، وهكذا تقع أسماء كثيرة أعجمية في التفاسير لا يمكن الوقوف منها على حقيقة لفظ لعدم الشكل والنقط فينبغي اطراح نقلها.

٤٥٠

وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها ، ومدة جمع الحطب ، ومدة الإيقاد ، ومدة سنة إذ ذاك ، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافا متعارضا تركنا ذكره واتخذوا منجنيقا. قيل : بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطا ووضع في كفة المنجنيق ورمى به فوقع في النار. وروي أن جبريل عليه‌السلام جاءه وهو في الهواء فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك. وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل. قيل : وأطل نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة. وكف عن ابراهيم ، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة ، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه (بَرْداً وَسَلاماً) وخرج منها سالما فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل (قُلْنا يا نارُ) هو الله تعالى. وقيل : جبريل عليه‌السلام بأمر الله تعالى. وعن ابن عباس : لو لم يقل : (وَسَلاماً) لهلك إبراهيم من البرد ، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت انتهى. ومعنى (وَسَلاماً) سلامة ، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من النصب. والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام ، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر.

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف بردت النار وهي نار؟ قلت : نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال ، كما كانت والله على كل شيء قدير ، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم ، ويدل عليه قوله (عَلى إِبْراهِيمَ) انتهى.

وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق وأرادوا به كيدا. قيل : هو إلقاؤه في النار (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكّتهم وأظهر لهم وأقر عقولهم ، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله. وقيل : سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم ، وسلط الله على نمروذ بعوضة واختلف في كيفية إذايتها له وفي مدة إقامتها تؤذيه إلى أن مات منها.

٤٥١

والضمير في (وَنَجَّيْناهُ) عائد على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض ولذلك تعدى (نَجَّيْناهُ) بإلى ويحتمل أن يكون (إِلَى) متعلقا بمحذوف أي منتهيا (إِلَى الْأَرْضِ) فيكون في موضع الحال ، ولا تضمين في (وَنَجَّيْناهُ) على هذا و (الْأَرْضِ) التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي صار إليها هي أرض الشام وبركتها ما فيها من الخصب والأشجار والأنهار وبعث أكثر الأنبياء منها. وقيل : مكة قاله ابن عباس ، كما قال (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) (١) الآية. وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زروعها وعمارة مواضعها.

وروي أن ابراهيم خرج مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه ، فآمنت به سارة وهي ابنة عمه فأخرجها معه فارّا بدينه ، وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث زمانا بها. وقيل : سارة ابنة ملك حرّان تزوجها إبراهيم وشرط عليه أبوها أن لا يغيرها ، والصحيح أنها ابنة عمه هاران الأكبر ، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبيا. والنافلة العطية قاله مجاهد وعطاء أو الزيادة كالمتطوع به إذا كان إسحاق ثمرة دعائه رب هب لي من الصالحين ، وكان (يَعْقُوبَ) زيادة من غير دعاء. وقيل : النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدرا كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ (وَهَبْنا) بل من معناه ، وعلى الآخرين يراد به (يَعْقُوبَ) فينتصب على الحال ، و (كُلًّا) يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.

(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) يرشدون الناس إلى الدين. و (أَئِمَّةً) قدوة لغيرهم. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ) أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة. قال الزمخشري : (فِعْلَ الْخَيْراتِ) أصله أن يفعل (فِعْلَ الْخَيْراتِ) ثم فعلا الخيرات وكذلك (إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) انتهى. وكان الزمخشري لما رأى أن (فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) ليس من الأحكام المختصة بالموحى إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون ، بني الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافا من حيث المعنى إلى ضمير الموحى ، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع المصدر محذوف ، ويجوز أن يكون مضافا من حيث

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٦.

٤٥٢

المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم ، أي فعل المكلفين الخيرات ، ويجوز أن يكون ذلك مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه ، فليس ما اختاره الزمخشري مختارا.

وقال ابن عطية : والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى. وأي نظر في هذا وقد نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة ، وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن ذلك هنا أنه قابل (وَإِيتاءَ) وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) وقال الزجّاج : فحذفت الهاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها انتهى. وهذا قول الفراء زعم أن تاء التأنيث قد تحذف للإضافة وهو مذهب مرجوح.

ولما ذكر تعالى ما أنعم به على إبراهيم ذكر ما أنعم به على من هاجر معه فارّا بدينه وهو لوط ابن أخيه وانتصب (وَلُوطاً) على الاشتغال والحكم الذي أوتيه النبوة. وقيل : حسن الفصل بين الخصوم في القضاء. وقيل : حفظ صحف إبراهيم ، ولما ذكر الحكم ذكر ما يكون به وهو العلم و (الْقَرْيَةِ) سدوم وكانت قراهم سبعا وعبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ، وكانت من كورة فلسطين إلى حد السراة إلى حد نجد بالحجاز ، قلب منها تعالى ستا وأبقى منها زغر لأنها كانت محل لوط وأهله ومن آمن به أي (وَنَجَّيْناهُ مِنَ) أهل (الْقَرْيَةِ) أي خلصناه منهم أو من العذاب الذي حل بهم ، ونسب عمل (الْخَبائِثَ) إلى القرية مجازا وهو لأهلها وانتصب (الْخَبائِثَ) على معنى (تَعْمَلُ) الأعمال أو الفعلات الخبيثة وهي ما ذكره تعالى في غير هذه السورة مضافا إلى كفرهم بالله وتكذيبهم نبيه ، وقوله (إِنَّهُمْ) يدل على أن التقدير من أهل القرية (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي في أهل رحمتنا أو في الجنة ، سماها رحمة إذ كانت أثر الرحمة.

ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث ، وانتصب (نُوحاً) على إضمار اذكر أي واذكر (نُوحاً) أي قصته (إِذْ نادى) ومعنى نادى دعا مجملا بقوله (أَنِّي مَغْلُوبٌ) (١) فانتصر مفصلا بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢) والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس ، وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ١٠.

(٢) سورة نوح : ٧١ / ٢٦.

٤٥٣

الغريق ، وغرقت في بحر النيل ووصلت إلى قرار الأرض ولحقني من الغم والكرب ما أدركت أن نفسي صارت أصغر من البعوضة ، وهو أول أحوال مجيء الموت.

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) عداه بمن لتضمنه معنى (فَنَجَّيْناهُ) بنصرنا (مِنَ الْقَوْمِ) أو عصمناه ومنعناه أي من مكروه القوم لقوله (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) (١) وقال الزمخشري : هو نصر الذي مطاوعه انتصر ، وسمعت هذليا يدعو على سارق : اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه ، وهذا معنى في نصر غير المتبادر إلى الذهن. وقال أبو عبيدة (مِنَ) بمعنى على أي (وَنَصَرْناهُ) على (الْقَوْمِ فَأَغْرَقْناهُمْ) أي أهلكناهم بالغرق. و (أَجْمَعِينَ) تأكيد للضمير المنصوب. وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن ، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل ، وأن الكثير استعماله تابعا لكلهم.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) عطف على (وَنُوحاً). قال الزمخشري : و (إِذْ) بدل منهما انتهى. والأجود أن يكون التقدير واذكر (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي قصتهما وحالهما (إِذْ يَحْكُمانِ) وجعل ابن عطية (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) معطوفين على قوله (وَنُوحاً وَنُوحاً) معطوفا على قوله (وَلُوطاً) فيكون ذلك مشتركا في العامل الذي هو (آتَيْنا) المقدرة الناصبة للوط المفسرة بآتينا فالتقدير وآتينا نوحا وداود وسليمان أي آتيناهم (حُكْماً وَعِلْماً) ولا يبعد ذلك وتقدير اذكر قاله جماعة. وكان داود ملكا نبيا يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة ، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر ، فتخاصم إليه رجل له زرع وقيل كرم و (الْحَرْثِ) يقال فيهما وهو في الزرع أكثر ، وأبعد عن الاستعارة دخلت حرثه غنم رجل فأفسدت عليه ، فرأى داود دفعها إلى صاحب الحرث فعلى أنه كرم رأى أن الغنم تقاوم ما أفسدت من الغلة وعلى أنه زرع رأى أنها تقاوم الحرث والغلة ، فخرجا على سليمان فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال : يا نبيّ الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع ، أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل ، فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه فقال داود : وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك. والظاهر أن كلّا

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٢٩.

٤٥٤

من داود وسليمان حكم بما ظهر له وهو متوجه عنده فحكمهما باجتهاد وهو قول الجمهور ، واستدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد.

وقيل : حكم كل واحد منهما بوحي من الله ونسخ حكم داود بحكم سليمان ، وإن معنى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله أن يستقر في النازلة. وقرأ عكرمة فأفهمناها عدّي بالهمزة كما عدّي في قراءة الجمهور بالتضعيف والضمير في (فَفَهَّمْناها) للحكومة أو الفتوى. والضمير في (لِحُكْمِهِمْ) عائد على الحاكمين والمحكوم لهما وعليهما ، وليس المصدر هنا مضافا إلى فاعل ولا مفعول ، ولا هو عامل في التقدير فلا ينحل بحرف مصدري. والفعل به هو مثل له ذكاء ذكاء الحكماء وذهن ذهن الأذكياء وكان المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية (شاهِدِينَ) فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة. وقرأ لحكمهما ابن عباس فالضمير لداود وسليمان. ومعنى (شاهِدِينَ) لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت : أمّا وجه حكومة داود فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك أو يفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث ، ووجه حكومة سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان.

فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيه ضمانا بالليل والنهار إلّا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، والشافعي يوجب الضمان انتهى.

والظاهر أن كلّا من الحكمين صواب لقولهه (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً). والظهر أن (يُسَبِّحْنَ) جملة حالية من (الْجِبالَ) أي مسبحات. وقيل : استئناف كأن قائلا قال : كيف سخرهن؟ فقال : (يُسَبِّحْنَ) قيل : كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل : كانت تسير معه حيث سار ، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع الناس ذلك ، وكان داود وحده يسمعه قاله يحيى بن سلام. وقيل : كل واحد. قال قتادة : (يُسَبِّحْنَ) يصلين. وقيل : يسرن من السباحة. وقال

٤٥٥

الزمخشري : كما خلقه يعني الكلام في الشجرة حين كلم موسى انتهى. وهو قول المعتزلة ينفون صفة الكلام حقيقة عن الله تعالى. وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لما كانت تسير بتسيير الله حملت من رآها على التسبيح فأسند إليها ، والأكثرون على تسبيحهن هو قول سبحان الله. وانتصب (وَالطَّيْرَ) عطفا على (الْجِبالَ) ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح. وقيل : هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير. وقرىء (وَالطَّيْرَ) مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه ، أو على الضمير المرفوع في (يُسَبِّحْنَ) على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شادة.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدمت (الْجِبالَ) على (الطَّيْرَ)؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق انتهى. وقوله : ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنسانا ، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوّت أي له صوت ، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها.

وقوله (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهنّ والطير لمن نخصه بكرامتنا (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب ، وهو الدرع هنا. واللبوس ما يلبس. قال الشاعر :

عليها أسود ضاريات لبوسهم

سوابغ بيض لا يخرّقها النبل

قال قتادة : كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين. وقيل : اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك ، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد. قيل : نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر : نعم الرجل إلّا أنه يأكل من بيت المال ، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكما وعلما وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس ، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى.

ثم امتن علينا بها بقوله (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوّكم. وقرىء (لَبُوسٍ) بضم اللام والجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور : ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتا إذ جاء بعد ضمير متكلم في (وَعَلَّمْناهُ) ويدل

٤٥٦

عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقري كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود ، واللبوس قيل أو التعليم. وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي بالتاء أي (لِتُحْصِنَكُمْ) الصنعة أو اللبوس علي معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد ، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في (لَكُمْ) يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه ، أي لأجلكم وتكون (لِتُحْصِنَكُمْ) في موضع بدل أعيد معه لام الجر إذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدّر بمصدر أي (لَكُمْ) لإحصانكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) ويجوز أن تكون (لَكُمْ) صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم ، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلا للتعليم فيتعلق بعلمناه ، وأن يكون تعليلا للكون المحذوف المتعلق به (لَكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١) أي انتهوا عما حرم الله.

ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود عليه‌السلام ذكر ما خص به ابنه سليمان عليه‌السلام ، فقال (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام ، وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) وكذا جاء (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (٢) وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره ، وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاصطحاب ، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره. وقرأ الجمهور (الرِّيحَ) مفردا بالنصب. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفردا. وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع والنصب. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا ، والرفع على الابتداء و (عاصِفَةً) حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب (الرِّيحَ) وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع ويقال : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة ، ولغة أسد أعصفت فهي معصف ومعصفة ، ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء والعصف الشدة في السير والرخاء اللين. فقيل : كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين فلم

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩١.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ١٠٠.

٤٥٧

يتحد الزمان. وقيل : الجمع بين الوصفين كونها رخاء في نفسها طيبة كالنسيم عاصفة في عملها تبعد في مدة يسيرة كما قال تعالى (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (١). وقيل : الرخاء في البداءة والعصف بعد ذلك في التقول على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن ، وهذا القول راجع إلى اختلاف الزمان وجريها بأمره طاعتها له على حسب ما يريد ، ويأمر.

و (الْأَرْضِ) أرض الشام وكانت مسكنه ومقر ملكه. وقيل : أرض فلسطين. وقيل : بيت المقدس. قال الكلبي كان يركب عليها من إصطخر إلى الشام. قيل : ويحتمل أن تكون (الْأَرْضِ) التي يسير إليها سليمان كائنة ما كانت ووصفت بالبركة لأنه إذا حل أرضا أصلحها بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ، ولا بركة أعظم من هذا. والظاهر : أن (الَّتِي بارَكْنا) صفة للأرض. وقال منذر بن سعيد : الكلام تام عند قوله (إِلى الْأَرْضِ) و (الَّتِي بارَكْنا فِيها) صفة للريح ففي الآية تقديم وتأخير ، يعني أن أصل التركيب ولسليمان الريح (الَّتِي بارَكْنا فِيها) عاصفة تجري بأمره (إِلى الْأَرْضِ). وعن وهب : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان لا يقعد عن الغزو فيأمر بخشب فيمد والناس عليه والدواب وآلة الحرب ، ثم يأمر العاصف فيقله ثم يأمر الرخاء فتمر به شهرا في رواحة وشهرا في غدوه. وعن مقاتل : نسجت له الشياطين بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ ، ووضعت له في وسطه منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء ، وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء ، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، والطير تظله من الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح ، وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان ولا ينبغي أن يعتمد إلّا على ما قصه الله في كتابه وفي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما كانت هذه الاختصاصات في غاية الغرابة من المعهود ، أخبر تعالى أن علمه محيط بالأشياء يجريها على ما سبق به علمه ، ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل وهي لا تدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له ، وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضا سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) (٢) (وَمِنَ) في موضع نصب أي وسخرنا (مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٢.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٣٩.

٤٥٨

يَغُوصُونَ) أو في موضع رفع على الابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله. والظاهر أن (مِنَ) موصولة. وقال أبو البقاء : هي نكرة موصوفة ، وجمع الضمير في (يَغُوصُونَ) حملا على معنى (مِنَ) وحسن ذلك تقدم جمع قبله كما قال الشاعر :

وإن من النسوان من هي روضة

يهيج الرياض قبلها وتصوح

لما تقدم لفظ النسوان حمل على معنى من فأنث ، ولم يقل من هو روضة والمعنى (يَغُوصُونَ) له في البحار لاستخراج اللآلئ ، ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستخراجه وهو الجوهر ، فلذلك لم يذكر أو قال له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره ، فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور كما قال (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) (١) الآية. وقيل : الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم.

(وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدّلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه. وقيل : (حافِظِينَ) أن يهيجوا أحدا في زمان سليمان. وقيل (حافِظِينَ) حتى لا يهربوا. قيل : سخر الكفار دون المؤمنين ، ويدل عليه إطلاق لفظ (الشَّياطِينِ) وقوله (حافِظِينَ) والمؤمن إذا سخر في أمر لا يحتاج إلى حفظ لأنه لا يفسد ما عمل ، وتسخير أكثف الأجسام لداود وهو الحجر إذ أنطقه بالتسبيح والحديد إذ جعل في أصابعه قوة النار حتى لان له الحديد ، وعمل منه الزرد ، وتسخير ألطف الأجسام لسليمان وهو الريح والشياطين وهم من نار. وكانوا يغوصون في الماء والماء يطفىء النار فلا يضرهم ، دليل واضح على باهر قدرته وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم ، وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر به الصادق وجب قبوله واعتقاد وجوده انتهى.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِ

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

٤٥٩

لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ).

طوّل الأخباريون في قصة أيوب ، وكان أيوب روميا من ولد إسحاق بن يعقوب ، استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله ، وكان له سبع بنين وسبع بنات ، وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ، فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثمان عشرة سنة. وقيل دون ذلك فقالت له امرأته يوما لو دعوت الله فقال لها : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة ، فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي ، فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروي أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا وذكروا كيفية في ذهاب ماله وأهله وتسليط إبليس عليه في ذلك الله أعلم بصحتها.

وقرأ الجمهور (أَنِّي) بفتح الهمزة وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول أي قائلا (أَنِّي) وإما على إجراء (نادى) مجرى قال وكسر إني بعدها وهذا الثاني مذهب الكوفيين ، والأول مذهب البصريين و (الضُّرُّ) بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال فرق بين البناءين لافتراق المعنيين ، وقد ألطف أيوب في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ولم يعين الضر الذي مسه.

واختلف المفسرون في ذلك على سبعة عشر قولا أمثلها أنه نهض ليصلي فلم يقدر على النهوض ، فقال (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إخبارا عن حالة لا شكوى لبلائه رواه أنس مرفوعا ، والألف واللام في (الضُّرُّ) للجنس تعم (الضُّرُّ) في البدن والأهل والمال. وإيتاء أهله ظاهره أن ما كان له من أهل رده عليه وأحياهم له بأعيانهم ، وآتاه مثل أهله مع أهله من الأولاد والأتباع ، وذكر أنه جعل له مثلهم عدة في الآخرة. وانتصب (رَحْمَةً) على أنه مفعول من أجله أي لرحمتا إياه (وَذِكْرى) منا بالإحسان لمن عندنا أو (رَحْمَةً) منا لأيوب (وَذِكْرى) أي موعظة لغيره من العابدين ، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب.

وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : كان ذو الكفل عبدا صالحا ولم يكن نبيا. وقال

٤٦٠