البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

الآيات أوحى الله إلى موسى عليه‌السلام أن يخرج بني إسرائيل في الليل ساريا والسري مسير الليل.

ويحتمل أن (أَنْ) تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع و (بِعِبادِي) إضافة تشريف لقوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدما بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده. وقيل : كان الوحي بالضرب حين قارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل ، ويروى أن موسى عليه‌السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان ، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم ، واتصل الخبر فرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى الله إلى موسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل ، ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله ، فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة. قيل : وكان في خيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان. وقيل : أكثر من هذا فضرب موسى عليه‌السلام البحر فانفرق اثنتي عشرة فرقة طرقا واسعة بينها حيطان الماء واقفة ، ويدل عليه فكان كل فرق كالطود العظيم. وقيل : بل هو طريق واحد لقوله (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) انتهى.

وقد يراد بقوله (طَرِيقاً) الجنس فدخل موسى عليه‌السلام بعد أن بعث الله ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل ، ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم إنما انفلق من هيبتي وتقدم غرق فرعون وقومه في سورة يونس. والظاهر أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا البحر بقوّة ، وتحامل على العصا ويوضحه فى آية أخرى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (٢) فالمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقا فتعدى إلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسببا عن الضرب جعل كأنه المضروب.

وقال الزمخشري : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) فاجعل لهم من قولهم : ضرب له في ماله سهما ، وضرب اللبن عمله انتهى. وفي الحديث : «اضربوا لي معكم بسهم». ولما لم يذكر المضروب حقيقة وهو البحر ، ولو كان صرّح بالمضروب حقيقة لكان التركيب طريقا

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٢٩ وسورة ص : ٣٨ / ٧٢.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٦.

٣٦١

فيه ، فكان يعود على البحر المضروب و (يَبَساً) مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرت عليه الصبا فجففته كما روي ، ويقال : يبس يبسا ويبسا كالعدم والعدم ومن كونه مصدرا وصف به المؤنث قالوا : شاة يبس وناقة يبس إذا جف لبنها. وقرأ الحسن يبسا بسكون الباء. قال صاحب اللوامح : قد يكون مصدرا كالعامة وقد يكون بالإسكان المصدر وبالفتح الاسم كالنفض. وقال الزمخشري : لا يخلو اليبس من أن يكون مخففا عن اليبس أو صفة على فعل أو جمع يابس كصاحب وصحب ، وصف به الواحد تأكيدا لقوله ومعا جياعا جعله لفرط جوعه كجماعة جياع انتهى. وقرأ أبو حيوة : يابسا اسم فاعل.

وقرأ الجمهور : لا تخاف وهي جملة في موضع الحال من الضمير (فَاضْرِبْ) وقيل في موضع الصفة للطريق ، وحذف العائد أي لا تخاف فيه. وقرأ الأعمش : وحمزة وابن أبي ليلى لا تخف بالجزم على جواب الأمر أو على نهي مستأنف قاله الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش دركا بسكون الراء والجمهور بفتحها ، والدرك والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك (وَلا تَخْشى) أنت ولا قومك غرقا وعطفه على قراءة الجمهور لا تخاف ظاهر ، وأما على قراءة الجزم فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلة نحو قوله (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (١) وعلى أنه إخبار مستأنف أي وأنت (لا تَخْشى) وعلى أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة قليلة. وقال الشاعر :

إذا العجوز غضبت فطلق

ولا ترضاها ولا تملق

وقرأ الجمهور : (فَأَتْبَعَهُمْ) بسكون التاء ، وأتبع قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد كقوله (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) (٢) وقد يتعدى إلى اثنين كقوله : وأتبعناهم ذرياتهم فتكون التاء زائدة أي جنوده ، أو تكون للحال والمفعول الثاني محذوف أي رؤساؤه وحشمه. وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن فاتّبعهم بتشديد التاء وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآن إلا (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٣) والباء في بجنوده في موضع الحال كما تقول : خرج زيد بسلاحه أو الباء للتعدي لمفعول ثان بحرف جر ، إذ لا يتعدى اتبع بنفسه إلا إلى حرف واحد.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ١٣٣ / ٦٧.

(٢) سورة الأعراف : ٦ / ١٧٥.

(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠.

٣٦٢

وقرأ الجمهور (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) على وزن فعل مجرد من الزيادة. وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل في القراءة الأولى (ما) وفي الثانية الفاعل الله أي فغشاهم الله. قال الزمخشري : أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقال (ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة ، أي (غَشِيَهُمْ) ما لا يعلم كنهه إلّا الله. وقال ابن عطية : (ما غَشِيَهُمْ) إبهام أهول من النص على قدر ما ، وهو كقوله (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١) والظاهر أن الضمير في (غَشِيَهُمْ) في الموضعين عائد على فرعون وقومه ، وقيل الأول على فرعون وقومه ، والثاني على موسى وقومه. وفي الكلام حذف على هذا القول تقديره فنجا موسى وقومه ، وغرّق فرعون وقومه. وقال الزجّاج : وقرىء وجنوده عطفا على فرعون.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) أي من أول مرة إلى هذه النهاية ويعني الضلال في الدين. وقيل : أضلهم في البحر لأنهم غرقوا فيه ، واحتج به القاضي على مذهبه فقال : لو كان الضلال من خلق الله لما جاز أن يقال : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) بل وجب أن يقال : الله أضلهم لأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يكون خالقا للكفر لأن من ذم غيره بفعل شيء لا بد أن يكون المذموم فاعلا لذلك الفعل وإلّا استحق الذام الذم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال (وَما هَدى) أي ما هداهم إلى الدين ، أو ما نجا من الغرق ، أو ما اهتدى في نفسه لأن (هَدى) قد يأتي بمعنى اهتدى.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) ذكرهم تعالى بأنواع نعمه وبدأ بإزالة ما كانوا فيه من الضرر من الإذلال والخراج والذبح وهي آكد أن تكون مقدمة على المنفعة الدنيوية لأن إزالة الضرر أعظم في النعمة من إيصال تلك المنفعة ، ثم أعقب ذلك بذكر المنفعة الدينية وهو قوله (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) إذ أنزل على نبيهم موسى كتابا فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ، ثم يذكر المنفعة الدنيوية وهو قوله (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) والظاهر أن الخطاب لمن نجا مع موسى بعد إغراق فرعون. وقيل : لمعاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتراضا في أثناء قصة موسى توبيخا لهم إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله فهو على حذف مضاف ، أي أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون. وخاطب الجميع

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ١٦.

٣٦٣

بواعدناكم وإن كان الموعودون هم السبعين الذين اختارهم موسى عليه‌السلام لسماع كلام الله ، لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم إذ تطمئن قلوبهم وتسكن وتقدم الكلام في (جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) في سورة مريم ، وعلى (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) (١) في سورة البقرة. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة : قد أنجيتكم وواعدتكم ما رزقتكم بتاء الضمير ، وباقي السبعة بنون العظمة وحميد نجّيناكم بتشديد الجيم من غير ألف قبلها وبنون العظمة وتقدم خلاف أبي عمرو وفي واعد في البقرة.

والطيبات هنا الحلال اللذيذ لأنه جمع الوصفين. وقرىء (الْأَيْمَنَ) قال الزمخشري بالجر على الجوار نحو جحر ضب خرب انتهى. وهذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرّج القراءة عليه ، والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن وأما لكونه على يمين من يستقبل الجبل ، ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم وهو أن يتعدوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والنعم عن القيام بشكرها ، وأن ينفقوها في المعاصي ويمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيها.

وقرأ زيد بن علي ولا تطغوا فيه بضم الغين. وعن ابن عباس (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه يعني بغير حق. وعن الضحاك ومقاتل : لا تجاوزوا حدّ الإباحة. وعن الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي. وقرأ الجمهور (فَيَحِلَ) بكسر الحاء (وَمَنْ يَحْلِلْ) بكسر اللام أي فيجب ويلحق. وقرأ الكسائي بضم الحاء ولام يحلل أي ينزل وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتيبة في يحلل فضم ، وفي الإقناع لأبي علي الأهوازي ما نصه ابن غزوان عن طلحة لا يحلن عليكم (غَضَبِي) بلام ونون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء أي : لا تتعرضوا للطغيان فيه فيحل عليكم غضبي من باب لا أرينك هنا وفي كتاب اللوامح قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش فيحّل بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال فهو متعد من حل بنفسه ، والفاعل فيه مقدر ترك لشهرته وتقديره فيحل به طغيانكم (غَضَبِي) عليكم ودل على ذلك (وَلا تَطْغَوْا) فيصير (غَضَبِي) في موضع نصب مفعول به. وقد يجوز أن يسند الفعل إلى (غَضَبِي) فيصير في موضع رفع بفعله ، وقد حذف منه المفعول للدليل عليه وهو العذاب أو نحوه انتهى. (فَقَدْ هَوى) كنى به عن الهلاك ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥٧.

٣٦٤

وأصله أن يسقط من جبل فيهلك يقال هوى الرجل أي سقط ، ويشبه الذي يقع في ورطة بعد أن بنجوة منها بالساقط ، أو (هَوى) في جهنم وفي سخط الله وغضب الله عقوباته ، ولذلك وصف بالنزول.

ولما حذر تعالى من الطغيان فيما رزق وحذر من حلول غضبه فتح باب الرجاء للتائبين وأتى بصيغة المبالغة وهي قوله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) قال ابن عباس من الشرك (وَآمَنَ) أي وحد الله (وَعَمِلَ صالِحاً) أدى الفرائض (ثُمَّ اهْتَدى) لزم الهداية وأدامها إلى الموافاة على الإسلام. وقيل : معناه لم يشك في إيمانه. وقيل : ثم استقام. قال ابن عطية : والذي تقوى في معنى (ثُمَّ اهْتَدى) أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء ، فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل. وقال الزمخشري : الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح ، ونحوه : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (١) وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمر ، وأعني أن منزلة الاستقامة على الخبر مباينة لمنزلة الخبر نفسه لأنها أعلى منه وأفضل.

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً).

لما نهض موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل ، رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده مبادرا إلى أمر الله وحرصا على القرب منه وشوقا إلى مناجاته ، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى : تسيرون إلى جانب الطور فلما انتهى موسى عليه‌السلام وناجى ربه ، زاده في الأجل عشرا وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا (وَما) استفهام أي أي شيء عجل بك

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٣٠ ، وسورة الأحقاف : ٤٦ / ١٣.

٣٦٥

عنهم. قال الزمخشري : وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وينجز ما وعد به بناء على اجتهاده ، وظن أن ذلك أقرب إلى رضا الله ، وزال عنه أنه عزوجل ما وقت أفعاله إلا نظرا إلى دواعي الحكمة وعلما بالمصالح المتعلقة بكل وقت ، فالمراد بالقوم النقباء انتهى.

والظاهر أن قوله عزوجل (عَنْ قَوْمِكَ) يريد به جميع بني إسرائيل كما قد بيّنا قبل لا السبعين. وقال الزمخشري : وليس يقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ما يأباه قوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) انتهى. (وَما أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) لأن قوله (وَما أَعْجَلَكَ) تضمن تأخر قومه عنه ، فأجاب مشيرا إليهم لقربهم منه إنهم على أثره جائين للموعد ، وذلك على ما كان عهد إليهم أن يجيئوا للموعد. ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) من طلبه رضا الله تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى (إِلَيْكَ) إلى مكان وعدك و (لِتَرْضى) أي ليدوم رضاك ويستمر ، لأنه تعالى كان عنه راضيا.

وقال الزمخشري : فإن قلت : (ما أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة ، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وينجز موعدك وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) كما ترى غير منطبق عليه. قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين أحدهما إنكار العجلة في نفسها ، والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه ، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد مني إلّا تقدم يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به ، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولقائل أن يقول : حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام انتهى. وفيه سوء أدب على الأنبياء عليهم‌السلام.

وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه أولائي بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية (أُولاءِ) بالقصر. وقرأت فرقة أولاي بياء مفتوحة. وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء. وحكى الكسائي أثري بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى. وقرأ الجمهور (أُولاءِ) بالمد والهمز على (أَثَرِي)

٣٦٦

بفتح الهمز والثاء و (عَلى أَثَرِي) يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر ، أو في موضع نصب على الحال.

قال : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي اختبرناهم بما فعل السامري أو ألقيناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف (مِنْ بَعْدِكَ) أي من بعد فراقك لهم. وقال الزمخشري : أراد بالقوم المفتونين الذين خلفهم مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلّا اثنا عشر ألفا فإن قلت : في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوا أربعين مع أيامها ، وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك ، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ)؟ قلت : قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته ، وافترض السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه. وأخذ في تدبير ذلك فكان بدء الفتنة موجودا انتهى.

وقرأ الجمهور : (وَأَضَلَّهُمُ) فعلا ماضيا. وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضلهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره وكان أشدهم ضلالا لأنه ضال في نفسه مصل غيره. وفي القراءة الشهري أسند الضلال إلى السامري لأنه كان السبب في ضلالهم ، وأسند الفتنة إليه تعالى لأنه هو الذي خلقها في قلوبهم. و (السَّامِرِيُ) قيل اسمه موسى بن ظفر. وقيل : منجا وهو ابن خالة موسى أو ابن عمه أو عظيم من بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة ، أو علج من كرمان ، أو من باجرما أو من اليهود أو من القبط آمن بموسى وخرج معه ، وكان جاره أو من عبّاد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر أقوال. وتقدم في الأعراف كيفية اتخاذ العجل وقبل ذلك في البقرة فأغنى عن إعادته هنا.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) وذلك بعد ما استوفى الأربعين وانتصب (غَضْبانَ أَسِفاً) على الحال ، والأسف أشد الغضب. وقيل : الحزن وغضبه من حيث له قدرة على تغيير منكرهم ، وأسفه وهو حزنه من حيث علم أنه موضع عقوبة لا يد له بدفعها ولا بد منها. قال ابن عطية : والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب ، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن ، وتأمل ذلك فهو مطرد ، ثم أخذ موسى عليه‌السلام يوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله أهل طاعته. وقال الزمخشري : وعدهم الله بعد ما استوفى الأربعين أن يعطيهم التوراة التي فيها

٣٦٧

هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل. وقال الحسن : الوعد الحسن الجنة. وقيل : أن يسمعهم كلامه والعهد الزمان ، يريد مفارقته لهم يقال طال عهدي بكذا أي طال زماني بسبب مفارقتك ، وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل انتهى.

وانتصب (وَعْداً) على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أو أطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني وفي قوله (أَفَطالَ) إلى آخره توقيف على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهو طول العهد حتى يتبين لهم خلف في الموعد وإرادة حلول غضب الله ، وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدبر. وسمّي العذاب غضبا من حيث هو ناشىء عن الغضب فإن جعل بمعنى الإرادة فصفة ذات أو عن ظهور النقمة والعذاب فصفة فعل. و (مَوْعِدِي) مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ما وعدتكم من قول العرب : فلان أخلف وعد فلان إذا وجده وقع فيه الخلف قاله المفضل ، وأن يضاف إلى المفعول وكانوا وعدوه أن يتمسكوا بدين الله وسنة موسى عليه‌السلام ولا يخالفوا أمر الله أبدا فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل.

وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بملكنا بضم الميم. وقرأ زيد بن عليّ ونافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة وابن سعدان بفتحها وباقي السبعة بكسرها. وقرأ عمر رضي‌الله‌عنه بملكنا بفتح الميم واللام وحقيقته بسلطاننا ، فالملك والملك بمنزلة النقض والنقض. والظاهر أنها لغات والمعنى واحد وفرق أبو عليّ وغيره بين معانيها فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدّى إليه ما فعل السامري ، فليس المعنى أن لهم ملكا وإنما هذا كقول ذي الرّمة :

لا يشتكي سقط منها وقد رقصت

بها المفاوز حتى ظهرها حدب

أي لا يكون منها سقطة فتشتكي ، وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له ، بل غلبتنا أنفسنا وكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي (بِمَلْكِنا) الصواب. وقال الزمخشري ؛ أي (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ) بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده.

٣٦٨

وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن بفتح الحاء والميم وأبو رجاء بضم الحاء وكسر الميم. وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد ويعقوب غير روح كذلك إلا أنهم شدّدوا الميم ، والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعاروا من لقيط برسم التزين أوزارا لثقلها ، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزارا لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها. والقوم هنا القبط. وقيل : أمرهم بالاستعارة موسى. وقيل : أمر الله موسى بذلك. وقيل : هو ما ألقاه البحر مما كان على الذين غرقوا. وقيل : الأوزار التي هي الآثام من جهة أنهم لم يردوها إلى أصحابها ، ومعنى أنهم حملوا الآثام وقذفوها على ظهورهم كما جاؤهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وقيل معنى (فَقَذَفْناها) أي الحليّ على أنفسنا وأولادنا. وقيل (فَقَذَفْناها) في النار أي ذلك الحليّ ، وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار. وقذف السامري ما معه. ومعنى (فَكَذلِكَ) أي مثل قذفنا إياها (أَلْقَى السَّامِرِيُ) ما كان معه. وظاهر هذه الألفاظ أن العجل لم يصنعه السامري.

وقال الزمخشري : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أراهم أنه يلقي حليا في يده مثل ما ألقوا وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حيزوم فرس جبريل عليه‌السلام ، أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلي التي سبكتها النار تخور كخور العجاجيل. والمراد بقوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) هو خلق العجل للامتحان أي امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال وأوقعهم فيه حين قال لهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) انتهى.

وقيل : معنى (جَسَداً) شخصا. وقيل : لا يتغذى ، وتقدم الكلام على قوله (لَهُ خُوارٌ) في الأعراف. والضمير في (فَقالُوا) لبني إسرائيل أي ضلوا حين قال كبارهم لصغارهم و (هذا) إشارة إلى العجل. وقيل : الضمير في (فَقالُوا) عائد على السامري أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيما لجرمه. وقيل : عليه وعلى تابعيه. وقرأ الأعمش فنسي بسكون الياء ، والظاهر أن الضمير في (فَنَسِيَ) عائد على السامري أي (فَنَسِيَ) إسلامه وإيمانه قاله ابن عباس ، أو فترك ما كان عليه من الدين قاله مكحول ، وهو كقول ابن عباس أو (فَنَسِيَ) أن العجل (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) و (فَنَسِيَ) الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء وعلى هذه الأقوال يكون (فَنَسِيَ) إخبارا من الله عن السامري. وقيل : الضمير عائد على موسى عليه

٣٦٩

السلام أي (فَنَسِيَ) موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم أو (فَنَسِيَ) الطريق إلى ربه ، وكلا هذين القولين عن ابن عباس. أو (فَنَسِيَ) موسى إلهه عندكم وخالفه في طريق آخر قاله قتادة ، وعلى هذه الأقوال يكون من كلام السامري.

ثم بيّن تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لا تصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وهذا كقول إبراهيم لأبيه (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) (١) والرؤية هنا بمعنى العلم ، ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) (٢) بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور. وقرأ أبو حيوة (أَلَّا يَرْجِعُ) بنصب العين قاله ابن خالويه. وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب (وَلا يَمْلِكُ) الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار.

وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ

٣٧٠

يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٤٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٨.

٣٧١

نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)

اللحية معروفة وتجمع على لحى بكسر اللام وضمها. نسف ينسف : بكسر سين المضارع وضمها نسفا فرّق وذرى. وقال ابن الأعرابي : قلع من الأصل. الزرقة : لون معروف ، يقال : زرقت عينه وازرقّت وازراقت ، القاع قال ابن الأعرابي : الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وقال الجوهري : المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب :

ليكونن بالبطاح قريش

فقعة القاع في أكف الإماء

والجمع أقوع وأقواع وقيعان. وحكى مكي أن القاع في اللغة المكان المنكشف. وقال بعض أهل اللغة : القاع مستنقع الماء. الصفصف : المستوي الأملس. وقيل : الذي لا نبات فيه ، وهو مضاعف كالسبسب. الأمت : التل. والعوج : التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي. الهمس : الصوت الخفي قاله أبو عبيدة. وقيل : وطء الأقدام. قال الشاعر :

وهن يمشين بنا هميسا

٣٧٢

ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه ، ويقال همس الطعام مضغه. عنا يعنو : ذل وخضع ، وأعناه غيره أذله. وقال أمية بن أبي الصلت :

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

الهضم : النقص تقول العرب : هضمت لك حقي أي حططت منه ، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح : رجل هضيم ومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه. وقال المتوكل الليثي :

إن الأذلة واللئام لمعشر

مولاهم المتهضم المظلوم

عرى يعرّى لم يكن على جلده شيء يقيه. قال الشاعر :

وإن يعرين إن كسى الجواري

فتنبو العين عن كرم عجاف

ضحى يضحي : برز للشمس. قال عمرو بن أبي ربيعة :

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت

فيضحي وأما بالعشي فيحضر

الضنك : الضيق والشدّة ، ضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكا ، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به. زهرة : بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور ، وسراج زاهر له بريق ، والأنجم الزهر المضيئة ، وأزهر الشجر بدا زهره وهو النور.

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة ، وبيّن أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأمورا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن

٣٧٣

أخيه موسى عليه‌السلام (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (١) الآية ولا يمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه. وروي أن الله أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفا فقال : يا رب فما بال الأخيار؟ قال : إنهم لم تغضبوا لغضبي ، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبل أن يقول لهم السامري ما قال ، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبل أن ينطق السامري بادر هارون عليه‌السلام بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ).

وقال ابن عطية : أخبر عزوجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري ، وإنما ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع (فَاتَّبِعُونِي) إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فيما ذكرته لكم انتهى. والضمير في (بِهِ) عائد على العجل ، زجرهم أولا هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيها على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيرا لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل ، ثم أمرهم باتباعه تنبيها على أنه نبيّ يجب أن يتبع ويطاع أمره.

وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها ، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر (إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) فهو من عطف جملة على جملة ، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن. وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقا.

ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ) على عبادته مقيمين ملازمين له ، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن (لَنْ) لا تقتضي التأبيد خلافا للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية.

وقبل قوله (قالَ يا هارُونُ) كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل (قالَ يا هارُونُ) وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوما وعبدوه وجاءهم

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٢.

٣٧٤

موسى بعد استكمال الأربعين ، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا ولا زائدة كهي في قوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١). وقال عليّ بن عيسى دخلت لا هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني ، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يريد قوله (اخْلُفْنِي) (٢) الآية. وقال الزمخشري : ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي ، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن وما لك لم تباشر الأمر كما كنت باشره أنا لو كنت شاهدا ، أو ما لك لم تلحقني. وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إذ كان لا يتبعه إلّا المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد ، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقا بينهم وإنما لا ينت جهدي.

وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بلحيتي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز. وكان موسى عليه‌السلام شديد الغضب لله ولدينه ، ولما رأى قومه عبدوا عجلا من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضا على شعر رأسه ، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فانتظرتك لتكون المتدارك لهم ، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها. وتقدّم الكلام على (ابْنَ أُمَ) قراءة وإعرابا وغير ذلك. وقرأ أبو جعفر ولم ترقب بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب.

ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف. وقال ابن عطية (فَما خَطْبُكَ) كما تقول ما شأنك وما أمرك ، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال : ما نحسك وما شؤمك ، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى. وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣) وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهارا ولا شيئا مما ذكر. وقال الزمخشري : خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٢.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٥٧.

٣٧٥

فإذا قيل لمن يفعل شيئا ما خطبك ، فمعناه ما طلبك له انتهى. ومنه خطبة النكاح وهو طلبه. وقيل : هو مشتق من الخطاب كأنه قال له : ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت (قالَ : بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ). قال أبو عبيدة : علمت ما لم يعلموا. وقال الزجاج : بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر. وقيل : بصر به وأبصره بمعنى واحد. وقرأ الأعمش وأبو السماك : بصرت بكسر الصاد بما لم تبصروا بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد بصرت بضم الباء وضم الصاد بما لم تبصروا بضم التاء وفتح الصاد مبنيا للمفعول فيهما. وقرأ الجمهور (بَصُرْتُ) بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة (يَبْصُرُوا) بياء الغيبة.

وقرأ الجمهور (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً) بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع. وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما ، وهو الأخذ بأطراف الأصابع. وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة ، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء. وقال المفسرون (الرَّسُولِ) هنا جبريل عليه‌السلام ، وتقديره من (أَثَرِ) فرس (الرَّسُولِ) وكذا قرأ عبد الله ، والأثر التراب الذي تحت حافره (فَنَبَذْتُها) أي ألقيتها على الحليّ الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت. وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر ، وعن عليّ رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم سماه (الرَّسُولِ) دون جبريل وروح القدس؟ قلت : حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامري فقال : إن لهذا لشأنا فقبض القبضة من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ، ولعله لم يعرف أنه جبريل انتهى. وهو قول عليّ مع زيادة.

وقال أبو مسلم الأصبهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه‌السلام ، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت

٣٧٦

قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من دينك (فَنَبَذْتُها) أي طرحتها. فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير ، وتسميته رسولا مع جحده وكفره ، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١) فإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل : وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلّا أن فيه مخالفة المفسرين. قيل : ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهودا باسم رسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر ، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل ، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جدا ، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحما ودما؟ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه؟ فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات ، فيصير ذلك قادحا فيما أتوا به من الخوارق انتهى. ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني.

(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي سولا وإربا حتى فعلته ، وكان موسى عليه‌السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ، وجعل له أن يقول مدة حياته (لا مِساسَ) أي لا مماسّة ولا إذاية. وقال الزمخشري : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا ، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح (لا مِساسَ) ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى. وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ، ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية ، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى ، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحدا

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٦.

٣٧٧

يقول (لا مِساسَ) أي لا تمسني ولا أمسك. وقيل : ابتلي بعذاب قيل له (لا مِساسَ) بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله :

فأصبح ذلك كالسامري

إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة :

حتى تقول الأزد لا مساسا

وقيل : أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخا. قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه‌السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم. وقرأ الجمهور (لا مِساسَ) بفتح السين والميم المكسورة و (مِساسَ) مصدر ماس كقتال من قاتل ، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس ، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. فقال صاحب اللوامح : هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر ، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها لا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك ، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس ، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى. وظاهر هذا أن مساس اسم فعل. وقال الزمخشري (لا مِساسَ) بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء :

إن وردن الماء فلا عباب

وإن فقدنه فلا إباب

وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب. وقال ابن عطية (لا مِساسَ) هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه ، والشبه صحح من حيث هي معدولات ، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر. ومن هذا قول الشاعر :

تميم كرهط السامري وقوله

ألا لا يريد السامري مساس

انتهى. فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة ، كفجار معدولا عن الفجرة (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) أي في يوم القيامة. وقرأ الجمهور (لَنْ تُخْلَفَهُ) بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعد ما عاقبك في الدنيا. وقال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى :

٣٧٨

أثوى وقصر ليله ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب. وقرأ أبو نهيك : لن تخلفه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه. وفي اللوامح أبو نهيك لن يخلفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد (لا مِساسَ) بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة. وقال سهل : يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهبا انتهى. وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئا. وقال ابن جني لن يصادفه مخلفا. وقال الزمخشري : لن يخلفه الله. حكى قوله عزوجل كما مر في (لِأَهَبَ لَكِ) (١) انتهى.

ثم وبخ موسى عليه‌السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلها من الاستطالة عليه بتغيير هيئته ، فواجهه بقوله (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) وأقسم (لَنُحَرِّقَنَّهُ) وهو أعظم فساد الصورة (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِ) حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع ، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه السامري من الحليّ الذي كان أصله للقبط. وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم. وألقي في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه.

وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر (ظَلْتَ) بظاء مفتوحة ولام ساكنة. وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء ، وعن ابن يعمر ضمها وعن أبيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل ، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست ، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلّا إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أصله ظللت. وذكر

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٩.

٣٧٩

بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل. وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا ، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديرا ثم حذف اللام ، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما ، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر.

وقرأ الجمهور (لَنُحَرِّقَنَّهُ) مشددا مضارع حرّق مشددا. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففا من أحرق رباعيا. وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء ، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار. وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها. وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد. وفي مصحف أبيّ وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحما ودما ذا روح ، ويترتب الإحراق بالنار على هذا ، وأما إذا كان جمادا مصوغا من الحليّ فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته.

وقال السدّي : أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ثم أحرق ونسف رماده. وقيل : بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها. وقرأ الجمهور (لَنَنْسِفَنَّهُ) بكسر السين. وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم : لننسّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين. والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل ، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجاة ، فكان لموسى عليه‌السلام نهضتان. وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل ، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل ، فحينئذ أعلمهم موسى انتهى. ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) وقرأ الجمهور (وَسِعَ) فانتصب علما على التمييز المنقول من الفاعل ، وتقدم نظيره في الأنعام. وقرأ مجاهد وقتادة وسّع بفتح السين مشددة. قال الزمخشري : وجهه أن (وَسِعَ) متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء. وأما (عِلْماً) فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل ، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معا على المفعولية ، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول : خاف زيد

٣٨٠