البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

عليه (فَتَرْدى) يجوز أن يكون منصوبا على جواز النهي وأن يكون مرفوعا أي فأنت تردى. وقرأ يحيى فتردى بكسر التاء.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) هو تقرير مضمنه التنبيه ، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عزوجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة ، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة و (ما) استفهام مبتدأ و (تِلْكَ) خبره و (بِيَمِينِكَ) في موضع الحال كقوله (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) (١) والعامل اسم الإشارة. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون (تِلْكَ) اسما موصولا صلته بيمينك ، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهبا للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون ، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولا حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفا كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه‌السلام استئناس عظيم وتشريف كريم.

(قالَ هِيَ عَصايَ). وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم. وقرأ الحسن عصاي بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضا وأبي عمرو معا ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين. وعن أبي إسحاق والجحدري عصاي بسكون الياء. (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أتحامل عليها في المشي والوقوف ، وهذا زيادة في الجواب كما جاء «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج؟ قال : «نعم ولك أجر». وحكمة زيادة موسى عليه‌السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى ، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر :

وأملي عتابا يستطاب فليتني

أطلت ذنوبا كي يطول عتابه

وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع ، وتضمنت هذه الزيادة تفضيلا في قوله (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وإجمالا في قوله (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى). وقيل : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال (هِيَ عَصايَ) قال له تعالى فما تصنع بها؟ قال : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) الآية. وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله (وَما تِلْكَ) وبقوله (بِيَمِينِكَ) عما يملكه ، فأجابه عن (وَما تِلْكَ)؟ بقوله (هِيَ عَصايَ) وعن

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٧٢.

٣٢١

قوله (بِيَمِينِكَ) بقوله (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُ) إلى آخره انتهى. وفي التحقيق ليس قوله (بِيَمِينِكَ) بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله (وَأَهُشُ).

وقرأ الجمهور (وَأَهُشُ) بضم الهاء والشين المعجمة ، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق. قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال ، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما ، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى. وقرأ الحسن وعكرمة : وأهسّ بضم الهاء والسين غير معجمة ، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأهسّ بضم الهمزة من أهس رباعيا وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأهشّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال : ولا أعرف وجهه إلّا أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي. فيكون كتخفيف ظلت ونحوه. وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ (وَأَهُشُ) بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعيا قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال ما هي إلّا عصا لا تنفع إلّا منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عزوجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة. كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى.

وقرأت فرقة (غَنَمِي) بسكون النون وفرقة عليّ غنمي بإيقاع الفعل على الغنم. والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.

٣٢٢

وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب. وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعدوا وهذه العصا أخذها من بيت عصى الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع ، وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى عليه‌السلام وعامل المآرب وإن كان جمعا معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعيا للفواصل وهي جائز في غير الفواصل. وكان أجود وأحسن في الفواصل.

وقرأ الزهري وشيبة : مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق ، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين.

(قالَ أَلْقِها) الظاهر أن القائل هو الله تعالى ، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى (أَلْقِها) اطراحها على الأرض ومنه قول الشاعر :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

وإذا هي التي للمفاجأة ، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) (١) وبين كونها ثعبانا لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعبانا أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها. قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فما وبين لحييها أربعون ذراعا.

وعن ابن عباس : انقلبت ثعبانا تبتلع الصخر والشجر والمحجن عنقا وعيناها تتقدان ، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول. ومعنى (تَسْعى) تنتقل وتمشي بسرعة ، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة ، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبرا ولم يعقب. وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل : لما قال له الله (لا تَخَفْ) بلغ من

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٠ وسورة القصص : ٢٨ / ٣١.

٣٢٣

ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به ، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة ، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل : سير الأولين. وقال الشاعر :

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها

فأول راض سيرة من يسيرها

واختلفوا في إعراب (سِيرَتَهَا) فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (١) يعني إلى (سِيرَتَهَا) قال : ويجوز أن يكون بدلا من مفعول (سَنُعِيدُها). وقال هذا الثاني أبو البقاء قال : بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها. وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب على الظرف أي (سَنُعِيدُها) في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى. و (سِيرَتَهَا) وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلّا بواسطة ، في ولا يجوز الحذف إلّا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولا من عاده بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير :

وعادك أن تلاقيها عداء

فيتعدى إلى مفعولين انتهى. وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي. قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون (سَنُعِيدُها) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا ونصب (سِيرَتَهَا) بفعل مضمر أي تسير (سِيرَتَهَا الْأُولى) يعني (سَنُعِيدُها) سائرة (سِيرَتَهَا الْأُولى) حيث كنت تتوكأ عليها ، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.

والجناح حقيقة في الطائر والملك ، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل. وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة ، وسمي جناح الطائر لأنه يجنح به عند الطيران ، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد. والمراد إلى جنبك تحت العضد. ولهذا قال (تَخْرُجْ) فلو لم يكن

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٥.

٣٢٤

دخول لم يكن خروج كما قال في الآية الأخرى (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ) (١) وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) تنضم وأخرجها (تَخْرُجْ) فحذف من الأول وأبقى مقابله ، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو (اضْمُمْ) لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى.

(تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس ، وكان آدم اللون وانتصب (بَيْضاءَ) على الحال والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة ، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه. وقوله (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) متعلق بيضاء كأنه قال ابيضت (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ). وقال الحوفي : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) في موضع النعت لبيضاء ، والعامل فيه الاستقرار انتهى. ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله (بَيْضاءَ) لأوهم أن ذلك من برص أو بهق. وانتصب (آيَةً) على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوبا على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال ، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه ، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون (آيَةً) بدلا من (بَيْضاءَ) وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في (بَيْضاءَ) أي تبيض (آيَةً). وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها (آيَةً) أو آتيناك (آيَةً).

واللام في (لِنُرِيَكَ) قال الحوفي متعلقة باضمم ، ويجوز أن تتعلق بتخرج. وقال أبو البقاء : تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه (آيَةً) أي دللنا بها (لِنُرِيَكَ). وقال الزمخشري : (لِنُرِيَكَ) أي خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض (آياتِنَا الْكُبْرى) أو (لِنُرِيَكَ) بهما (الْكُبْرى) من (آياتِنَا) أو (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) فعلنا ذلك ، ونعني أنه جاز أن يكون مفعول (لِنُرِيَكَ) الثاني (الْكُبْرى) أو يكون (مِنْ آياتِنَا) في موضع المفعول الثاني. وتكون (الْكُبْرى) صفة لآياتنا على حد (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) و (مَآرِبُ أُخْرى)

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٠.

٣٢٥

بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة ، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. والذي نختاره أن يكون (مِنْ آياتِنَا) في موضع المفعول الثاني ، و (الْكُبْرى) صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه (الْكُبْرى). وإذا جعلت (الْكُبْرى) مفعولا لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل ، وأيضا إذا جعلت (الْكُبْرى) مفعولا فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معا لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلا منهما فيها معنى التفضيل. ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) لأنه جعل (الْكُبْرى) مفعولا ثانيا (لِنُرِيَكَ) وجعل ذلك راجعا إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلّا تغيير اللون ، وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مرارا فكانت أعظم من اليد.

ولما أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولا من عنده تعالى وعلل حكمة الذهاب إليه بقوله (إِنَّهُ طَغى) وخص فرعون وإن كان مبعوثا إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدّعي الإلهية وقومه تباعه. قال وهب بن منبه : قال الله لموسى عليه‌السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لو لا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. وقل له قولا لينا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلّا بعلمي في كلام طويل. قال : فسكت موسى عليه‌السلام سبعة أيام. وقيل : أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمرك ربك.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى

٣٢٦

إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).

لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلف أمرا عظيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلّا ذو جأش رابط وصدر فسيح ، فسأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر ، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب ، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط. وقال ابن جريج : معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك. وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك. والقيام بما كلفتنيه من أعبائها ، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة.

وقال مجاهد : كانت من الجمرة التي أدخلها فاه وكانت آسية قد ألقى الله محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه ، فبينا هي ترقصه يوما أخذه فرعون في حجره فأخذ خصلة من لحيته. وقيل : لطمه. وقيل : ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعا بالسياف فقالت : إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر. فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه‌السلام يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى. وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة. وعن ابن عباس كانت في لسانه رتة. وقيل : حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحدا بعدها. وقال قطرب : كانت فيه مسكة عن الكلام. وقال ابن عيسى : العقدة كالتمتمة والفأفأة. وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله ، قيل : وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين. وقيل : زالت لقوله (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) وهو قول الحسن ، قيل : وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال (عُقْدَةً) فإذا حل عقدة فقد آتاه الله سؤله. وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة ، وإنما قال ذلك فرعون تمويها وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته؟.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لي في قوله (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ما جدواه والكلام بدون مستتب؟ قلت : قد أبهم الكلام أولا فقال (اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي)

٣٢٧

فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره ، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل. وقال أيضا : وفي تنكير العقدة وإن لم يقل (وَاحْلُلْ عُقْدَةً لِسانِي) أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا ولم يطلب الفصاحة الكاملة ، و (مِنْ لِسانِي) صفة للعقدة كأنه قيل (عُقْدَةً مِنْ) عقد (لِسانِي) انتهى. ويظهر أن (مِنْ لِسانِي) متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي. وأجاز أبو البقاء الوجهين والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه. وقيل : من الوزر وهو الملجأ يلتجىء إليه الإنسان. وقال الشاعر :

من السباع الضواري دونه وزر

والناس شرهم ما دونه وزر

كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع

وما نرى بشرا لم يؤذهم بشر

فالملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره. وقال الأصمعي : هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة ، والقياس أزير وكذا قال الزمخشري : قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلا جاء في معنى مفاعل مجيئا صالحا كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم ، فلما قلب في أخيه قلبت فيه ، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز. ونظرا إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلى ادعاء قلب الهمزة واوا لأن لنا اشتقاقا واضحا وهو الوزر ، وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهو أيضا إبدال غير لازم ، وجوزوا أن يكون (لِي وَزِيراً) مفعولين لا جعل و (هارُونَ) بدل أو عطف بيان ، وأن يكون (وَزِيراً) و (هارُونَ) مفعولية ، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و (أَخِي) بدل من (هارُونَ) في هذين الوجهين.

قال الزمخشري : وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى. ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة ، والأمر هنا بالعكس. وجوزوا أن يكون (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) هما المفعولان و (لِي) مثل قوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١) يعنون أنه به يتم المعنى. و (هارُونَ) على ما تقدم. وجوزوا أن ينتصب (هارُونَ) بفعل محذوف أي اضمم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف.

__________________

(١) سورة الإخلاص : ١١٢ / ٤.

٣٢٨

وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وابن عامر (اشْدُدْ) بفتح الهمزة (وَأَشْرِكْهُ) بضمها فعلا مضارعا مجزوما على جواب الأمر وعطف عليه (وَأَشْرِكْهُ). وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدّد به مضارع شدّد للتكثير ، والتكرير أي كلما حزنني أمر شددت (بِهِ أَزْرِي). وقرأ الجمهور (اشْدُدْ وَأَشْرِكْهُ) على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة ، وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك في النبوة أحدا. وفي مصحف عبد الله أخي وأشدد.

وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل (أَخِي) مرفوعا على الابتداء و (اشْدُدْ بِهِ) خبره ويوقف على (هارُونَ) انتهى. وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة ، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام ، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سببا تلزم منه العبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير.

(كَيْ نُسَبِّحَكَ) ننزهك عما لا يليق بك (وَنَذْكُرَكَ) بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص ، ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على الله بصفات الكمال ومحله اللسان ، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان. و (كَثِيراً) نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال ، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا. والسؤل فعل بمعنى المسئول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول ، والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة ، وجعل أخيك وزيرا وذلك من المنة عليه.

ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و (مَرَّةً) معناه منة و (أُخْرى) تأنيث آخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة ، وليست (أُخْرى) هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيل ذلك بعضهم فقال : سماها (أُخْرى) وهي أولى لأنها (أُخْرى) في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره ، فهذه يلحظ فيها معنى التأخر. والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهّلتك للرسالة. وفي قوله (مَرَّةً أُخْرى) إجمال يفسره قوله (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ). قال الجمهور : هي وحي إلهام كقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (١). وقيل : وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام ، وإما ببعث ملك إليها

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٦٨.

٣٢٩

لا على جهة النبوّة كما بعث إلى مريم وهذا هو الظاهر لظاهر قوله (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) ولظاهر آية القصص (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١) ويبعد ما صدر به الزمخشري قوله : من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) (٢) لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون ، وكان في زمن الحواريين زكريا ويحيى. وفي قوله (ما يُوحى) إبهام وإجمال كقوله (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (٣) (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٤) وفيه تهويل وقد فسر هنا بقوله (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ).

قال الزمخشري : و (أَنِ) هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول. وقال ابن عطية : و (أَنِ) في قوله (أَنِ اقْذِفِيهِ) بدل من ما يعني أنّ أن مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب. والوجهان سائغان والظاهر أن (التَّابُوتِ) كان من خشب. وقيل : من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعا. وقيل : قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في (الْيَمِ) وهو اسم للبحر العذب. وقيل : اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) (٥) ولم يغرقوا في النيل.

والظاهر أن الضمير في (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) عائد على موسى ، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا (التَّابُوتِ) إنما ذكر (التَّابُوتِ) على سبيل الوعاء والفضلة. وقال ابن عطية : والضمير الأول في (اقْذِفِيهِ) عائد على موسى وفي الثاني عائد على (التَّابُوتِ) ويجوز أن يعود على موسى. وقال الزمخشري : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى.

ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا ، وقد نص النحويون على هذا فعوده على (التَّابُوتِ) في قوله (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ) راجح ، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١١.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ١٦.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ٧٨.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٦.

٣٣٠

والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (١) عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير.

و (فَلْيُلْقِهِ) أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا فلأصل لكم». أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله (يَأْخُذْهُ). وقال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطىء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) انتهى. وقال الترمذي : إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به ، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر. وقال الفراء : (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم ، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه. وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابنا فأباح لها ذلك. وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء. فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعدو الذي لله ولموسى هو فرعون ، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته (قُصِّيهِ) (٢) وهي لا تدري أين استقر.

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). قيل : محبة آسية وفرعون ، وكان فرعون قد أحبه حبا شديدا حتى لا يتمالك أن يصبر عنه. قال ابن عباس : أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال عطية : جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة : كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلّا أحبه. وقال ابن عطية : وأقوى الأقوال أنه القبول. وقال الزمخشري : (مِنِّي) لا يخلو أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٤٥.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١١.

٣٣١

وقرأ الجمهور (وَلِتُصْنَعَ) بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتربّي ويحسن إليك. وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به. قال قريبا منه قتادة. وقال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك (وَلِتُصْنَعَ) أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك. وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء. قال ثعلب : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني. وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر ، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى ، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره ، فبصرت به في طوافها فقالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١) فتعلقوا بها وقالوا : أنت تعرفين هذا الصبيّ؟ فقالت : لا ، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها : كوني معي في القصر ، فقالت : ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت : نعم ، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب ، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه ، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة.

والعامل في (إِذْ) قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ. وقال الزمخشري العامل في (إِذْ تَمْشِي أَلْقَيْتُ) أو تصنع ، ويجوز أن يكون بدلا من (إِذْ أَوْحَيْنا) فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلانا سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى. وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعا لوقوع

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٤٠.

٣٣٢

الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملا على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة. وقال الحوفي : (إِذْ) متعلقة بتصنع ، ولك أن تنصب (إِذْ) بفعل مضمر تقديره واذكر.

وقرأ الجمهور (كَيْ تَقَرَّ) بفتح التاء والقاف. وقرأت فرقة بكسر القاف ، وتقدم أنهما لغتان في قوله (وَقَرِّي عَيْناً) (١). وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنيا للمفعول. و (قَتَلْتَ نَفْساً) هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، واغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون ، فغفر الله له باستغفاره حين قال (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٢) ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود ، والغمّ بلغة قريش القتل ، وقيل : من غم التابوت. وقيل : من غم البحر ، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين. والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي (فَتَنَّاكَ) ضروبا من الفتن ، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان. وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطيا وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى. وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين. وقال وهب : ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) فخرجت خائفا إلى (أَهْلِ مَدْيَنَ) فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاما وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ، ثم ثمانية عشر عاما بعد بنائه بامرأته بنت شعيب ، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.

(ثُمَّ جِئْتَ) إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك. (عَلى قَدَرٍ) أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه. وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون. وقال الشاعر :

نال الخلافة أو جاءت على قدر

كما أتى ربه موسى على قدر

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢٦.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٦.

٣٣٣

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان ، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال : اصطنع فلان فلانا اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان. وقال الزمخشري : هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلا لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلا فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى. ومعنى (لِنَفْسِي) أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي ، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك.

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا

٣٣٤

عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)

الونى : الفتور ، يقال : ونى يني وهو فعل لازم ، وإذا عديّ فبعن وبفي وزعم بعض البغداديين أنه يأتي فعلا ناقصا من أخوات ما زال وبمعناها ، واختاره ابن مالك وأنشد :

لا يني الخب شيمة الحب

ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء

وقالوا : امرأة أناة أي فاترة عن النهوض ، أبدلوا من واوها همزة على غير قياس. قال الشاعر :

فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر

شت الأمر شتا وشتاتا تفرّق ، وأمر شتّ متفرّق ؛ وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى ، ومعناه متفرقة ، وشتان اسم فاعل سحت : لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم ، وأصله استقصاء الحلق للشعر. وقال الفرزدق وهو تميمي :

وعض زمان يا ابن مروان لم يك

من المال إلا مسحت أو محلق

ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب. الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب. الصف : موضع المجمع قاله أبو عبيدة ، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى ، وقد يكون مصدرا ويقال جاؤوا صفا أي مصطفين. التخييل : إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر :

ألا يا لقومي للخيال المشوق

وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ

٣٣٥

كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى).

أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر الله أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه ، فأمره هنا وأخاه بالذهاب و (أَخُوكَ) معطوف على الضمير المستكن في (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) (١) في سورة المائدة وقول بعض النحاة ، أن (وَرَبُّكَ) مرفوع على إضمار فعل ، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا. وروي أن الله أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل : سمع بمقدمه. وقيل : ألهم ذلك وظاهر (بِآياتِي) الجمع. فقيل : هي العصا ، واليد ، وعقدة لسانه. وقيل : اليد ، والعصا. وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال : فائت بآية ألقى العصا ونزع اليد ، وقال : فذانك برهانان. وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيوانا ، ثم في أول الأمر كانت صغيرة ثم عظمت حتى صارت ثعبانا ، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضرّه. وقيل : ما أعطي من معجزة ووحي.

(وَلا تَنِيا) أي لا تضعفا ولا تقصرا. وقيل : تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما ، ويجوز أن يراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها ، فكان جديرا أن يطلق عليه اسم الذكر. وقرأ ابن وثاب : ولا تنيا بكسر التاء اتّباعا لحركة النون. وفي مصحف عبد الله ولا تهنا أي ولا تلنا من قولهم هين لين ، ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني. فقيل : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولا إلى الناس وثانيا إلى فرعون ، فكرر الأمر بالذهاب لاختلاف المتعلق ، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله (إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز الحد في الفساد ودعواه الربوبية والإلهية من دون الله. والقول اللين هو مثل ما في النازعات (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (٢) وهذا من لطيف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوز العظيم. وقيل : عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل : لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى. وقيل : كنياه وهو ذو الكنى الأربع أبو مرة ، وأبو

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ١٨.

٣٣٦

مصعب ، وأبو الوليد ، وأبو العباس. وقيل : القول اللين لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولينها خفتها على اللسان. وقال الحسن : هو قولهما إن لك ربّا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا فآمن بالله يدخلك الجنة يقك عذاب النار. وقيل : أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر :

أقدم بالوعد قبل الوعيد

لينهى القبائل جهالها

وقيل : حين عرض عليه موسى وهارون عليهما‌السلام ما عرضا شاور آسية فقالت : ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمرا دون رأيه ، فقال له : كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكا فتصير مملوكا وربا فتصير مربوبا فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى ، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه ، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجة عليه وإزالة المعذرة كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) (١) الآية.

وقيل : القول اللين ما حكاه الله هنا وهو (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ـ إلى قوله ـ (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) وقال أبو معاذ : (قَوْلاً لَيِّناً) وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرك ، أي كي تأخذ أجرك. وقيل : لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى ، والصحيح أنها على بابها من الترجّي وذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) دلالة على أنه لم يكن شاكا في الله. وقيل : (يَتَذَكَّرُ) حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخرّ ساجدا لله راغبا أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فرجا أن يتذكر حلم الله وكرمه وأن يحذر من عذاب الله. وقال الزمخشري : أي (يَتَذَكَّرُ) ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق (أَوْ يَخْشى) أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.

فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى. وقال الشاعر :

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تقدم فارط الوراد

وفي الحديث : «أنا فرطكم على الحوض». أي متقدمكم وسابقكم ، والمعنى إننا

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٣٤.

٣٣٧

نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته (أَنْ يَفْرُطَ) مبنيا للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها ، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان ، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية ، أو من حبه الرياسة ، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين قال الله فيهم (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) (١) (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) (٢).

وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن (يَفْرُطَ) بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية (أَوْ أَنْ يَطْغى) في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه ، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة.

والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما. وقال ابن عباس (أَسْمَعُ) جوابه لكما و (أَرى) ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم (فَأْتِياهُ) كرر الأمر بالإتيان (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وخاطباه بقولهما (رَبِّكَ) تحقيرا له وإعلاما أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدّعي الربوبية. وأمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء. وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعا إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل.

ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وتكرر أيضا قولهما (مِنْ رَبِّكَ) على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور ، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما. وقال الزمخشري : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) جارية من الجملة الأولى وهي (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) مجرى البيان والتفسير ، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية ، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٣) (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٤)

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٩ و ١٢٧.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٣٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٥.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٥٤.

٣٣٨

(أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (١) انتهى. وقيل : الآية اليد. وقيل : العصا ، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك. والظاهر أن قوله (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) فصل للكلام ، فالسلام بمعنى التحية رغبا به عنه وجريا على العادة في التسليم عند الفراغ من القول ، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له. وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم. وقيل : هو مدرج متصل بقوله (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) فيكون إذ ذاك خبرا بسلامة المهتدين من العذاب. وقيل (عَلى) بمعنى اللام أي والسلامة ل (مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى).

وقال الزمخشري : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين ، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين انتهى. وهو تفسير غريب.

وقد يقال : السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وبنى (أُوحِيَ) لما لم يسم فاعله ، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به ، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان. وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب. وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) خاطبهما معا وأفرد بالنداء موسى. قال ابن عطية : إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات. وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه ، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى ، ويدل عليه قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٢) انتهى.

واستبد موسى عليه‌السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معا ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معا ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز. قال الزمخشري : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق انتهى. والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٠.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٥٢.

٣٣٩

وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر :

وله في كل شيء خلقة

وكذلك الله ما شاء فعل

وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك (خَلْقَهُ) من المنفعة المنوطة به المطابقة له (ثُمَّ هَدى) أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه ، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. قال القشيري : والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء ، وعلى هذا مفعول (أَعْطى) الأول (كُلَّ شَيْءٍ) والثاني (خَلْقَهُ) وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدّي وهو أن المعنى (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة. فلم يزاوج منهما غير جنسه ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة. وقال الحسن وقتادة (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) صلاحه وهداه لما يصلحه.

وقيل (كُلَّ شَيْءٍ) هو المفعول الثاني لأعطى و (خَلْقَهُ) المفعول الأول أي (أَعْطى) خليقته (كُلَّ شَيْءٍ) يحتاجون إليه ويرتفقون به. وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خلقه بفتح اللام فعلا ماضيا في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء ، ومفعول (أَعْطى) الثاني حذف اقتصارا أي (كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) لم يخله من عطائه وإنعامه (ثُمَّ هَدى) أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه. وقيل : حذف اختصارا لدلالة المعنى عليه ، أي (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته.

(قالَ : فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لما أجابه موسى بجواب مسكت ، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون ، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به ، والحيدة والمغالطة. قيل : سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصّاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، ولم يكن عنده عليه‌السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال

٣٤٠